ثناء صالح
21-04-2018, 02:32 PM
اليَمَنُ ـ المَوْتُ وَالبَعْث
[FONT="][FONT="]وَدَدْتُ أكْتُبُ ، لَكِنْ ..لم أجِدْ وَرَقَةْ=لَمْ يَبْقَ شيءٌ هُنَا فَالأرضُ مُحْتَرِقَةْ
إلا الدُّمُوْعُ التي تَجْرِيْ أسَىً بِدَمَيْ=تُغْنِيْ عَنِ الحِبْرِ ، والقرطاسُ بِالْحَدَقَةْ
وَهَــذِهِ بَعْضُ أشْـــــلائيْ مُمَزَّقَةً=فِيْهَا اليَرَاعُ ، وَمِنْهَا الشَّوْكَةُ الذَّلِقَةْ
قَصِيْدَةُ اليومِ ــ للتَّـــــارِيْخِ أكْتُبُهَا=لا أبْتَغِيْ الشُّكْرَ والتَّقْدِيْرَ وَالصَّفَقَةْ
يَا هُدْهُدِيْ أخْبِر الأجْيَالَ عَنْ سَبَأٍ=إنِّيْ وَجَـدْتُكُ أذْكَى مُخْبِرٍ ، وَثِقَةْ
أمْسَتْ عَلى العَرْشِ في ظِلِّ تُدَاعِبُهَا=كَفُّ الثُّرَيَّا ، إلى الجَـوْزَاءِ مُنْطَلِقَـةْ
وَأصْبَحَتْ ــ تَحْتها لا شيء بَاحِثَــةً=عَنْ لُقْمَةِ العَيْشِ في الإمْلاقِ مُنْزَلِقَةْ
نَهْبٌ وَسَلْبٌ وَتَشْرِيْدٌ وَسَفْكُ دِمٍ=وَبِالْمَنَازِلِ عَيْنُ المَوْتِ مُلْتَصِقَةْ
وَجَاءَ مَنْ يَدَّعِيْ حِفْظَ الحُقُوْقِ على=حِصَانِ طَرْوَادَةٍ مُسْتَكْثِرًا قَلَقَـهْ
مَا أشْبَهَ اليَوم في صَنْعَا وفي عَدَنٍ=بِالأمْسِ قُبْحًا، ومَا أشْقَى مَنِ اخْتَلَقَهْ
سِبْتَمْبرِيُّوْنَ ـ في ما قَبْلِ مَوْلِدِهِ=أكْتُوْبَرِيُّ ْنَ ـ في العَهْدِ الذي سَبَقَه
شَعْبٌ تَخَلَّصَ مِنْ قَهْرِ الطُّغَاةِ ، أبى=وَبعد سِتِّيْنَ عامًا عَادَ فَاعْتَنَقَهْ
وَذَاقَ مِنْ كأسِهِ المَسْمُوْمِ ثَانِيَـةً=وَقَـدْ تَقَيَّأ سُـمَّ الكَأسِ، أوْ بَصَقَهْ
إنَّ الرَّبِيْعَ الذي أمسى يُدَغْدِغُهُ=أضْحَى خَرِيْفًا تَمَنَّى الجَذْرَ لَوْ نَتَقَهْ
جَهْلٌ ، وَفَقْرٌ ، وَإرْهَابٌ ، وَأوْبِئةٌ=وَفَوْقَ هَذَا حِصَــارٌ شَامِلٌ خَنَقَـهْ
والشَّعْبُ مازال حيًا ــ خَدَّرَتْهُ على=أسِرَّةِ الصَّمْتِ حَاجَاتٌ إلى النَّفَقَةْ
كَانَتْ بُنُوْكُهُ كَفَّ البَذْلِ بَاسِطَةً=وَاليَوْمَ تَبْسُطُ كَفَّ الشَّحْذِ لِلصَّدَقَةْ
فَهَلْ يُرَدِّدُ صَدْرَ البَيْتِ تَعْزِيَةً=أمْ يُشْعِلُ العَجْزَ نَارًا كُلَّمَا نَطَقَهْ ؟
أرَىَ وَمِيْضًا لِنَارٍ لا يَنَامُ على=شيءٍ سوى غَضْبَـةٍ لا تَعْرِفُ الشَّفَقَةْ
وَأصْدَقُ البَعْثِ بَعْثٌ هَبَّ مِنْ رَمَقٍ=أوْثَوْرَةٌ عَنْ أنِيْنِ الجُوْعِ مُنْبَثِقَةْ
لا يَتْبَعُ اللَّيْلَ إلا الصُّبْحُ يَطْمِسُهُ=نَشْتَمُّ رِيْحَهُ ، أوْشَكنَا نَرَى شَفَقَهْ
مَنْ يَسْتَمِدُّ مِنَ الجَبَّارِ قُوَّتَهُ=لا يَنْحَنِيْ أبَدًا ، إلا لِمَنْ خَلَقَهْ
غَدًا نُجَرِّعُ مَنْ كَادُوا لَنَا كَدَرًا=في كُلِّ حَلْقٍ سَنُرْوِيْ بِالدِّما عَلَقَةْ
سَنَسْتَعِيْدُ مِنَ الأمْجَادِ ما سرِقَتْ=وَنَقْطَعُ الكَفَّ كَفَّ السُّحْتِ وَالسَّرِقَةْ
إنَّا نَمُوْتُ لِكَيْ نَحْيَـا ، نَمُدُّ يَدًا=نَحْوَ البِنَاءِ ، وَأُخْرَى تَزْرَعُ الحَبَقَةْ
عَهْدًا بِأنَّا سَنَبْنِيْ بِالدِّمَا يَمَنًا=وَنَسْكُبُ الوَرْدَ عِطْرًا فَوْقَهَا ــ طَبَقَةْ
:os:
********
محمد الحميري
2 / 4 / 2018 م
قصيدة مميزة جدا للأستاذ الشاعر محمد حمود الحميري ، تصور الأحداث المؤلمة في الحرب التي تجري على أرض اليمن الحبيب. ويستهل الشاعر قصيدته استهلال تهكميا ملفتا يجذب القارئ منذ المطلع لمتابعة القراءة بشغف ماثل .
وَدَدْتُ أكْتُبُ ، لَكِنْ ..لم أجِدْ وَرَقَةْ=لَمْ يَبْقَ شيءٌ هُنَا فَالأرضُ مُحْتَرِقَةْ
يريد الشاعر أن يكتب ويسجِّل ما يشهده بأم عينه من أحداث الحرب ونتائجها في اليمن ، ولكنه – للأسف – لا يجد ورقة يكتب عليها . إذ لم يعد ثمة أوراق للكتابة أو أي شيء آخر على هذه الأرض المحترقة بنار الحرب .
ومسألة افتقاد ورقة للكتابة ، تصلح معنويا كتورية عميقة ، لفكرة أنه ليس ثمة مجال للشاعر للكتابة، أو التدوين أو إيصال رأيه أو كلمته ، بسبب عدم اكتراث المسؤولين عن احتراق هذه الأرض، أو عن الوضع برمته.
ثم إنه لم يبق شيء هنا . فمن الطبيعي أن لا يجد الشاعر ورقة يكتب عليها . بعد أن احترقت الأرض بما عليها . وبالتالي فإن حالة الافتقار إلى أبسط مستلزمات الإنسان تمثل نتيجة الحرب ومعاناة البشر هنا.
وإن الأسلوب التهكمي يكمن في عدم إيجاد الورقة بعد البحث عنها من قِبَل الشاعر ، ما يسبب الشعور بالخيبة عند القارئ لضياع فرصة الكتابة على الشاعر. ولكن ها هو الشاعر يكتب قصيدته .إذن فهل وجد ورقة يكتب عليها ؟ أم تلك هي الورقة الضائعة التي ستبقى ضائعة ،على الرغم من أن الشاعر سيستغني ويستمر في الكتابة ؟ ويأتي جواب الشاعر موضِّحا ما لديه من بدائل وخيارات
إلا الدُّمُوْعُ التي تَجْرِيْ أسَىً بِدَمَيْ=تُغْنِيْ عَنِ الحِبْرِ ، والقرطاسُ بِالْحَدَقَةْ
فالشاعر الشاهد على الحرب والذي تجري دموعه في دمائه حزنا على واقع الحال ،يستغني عن الحبر في تسجيل وكتابة ما يحدث .
ونرى تقنية و فنية الصورة الشعرية التي استخدمها الشاعر في البيت، بإجرائه مقارنة أو مطابقة بين بدائله العاطفية الحسية، والمستلزمات التي تتطلبها عملية التسجيل أو التدوين .
فالدموع التي تجري أسىً تغني عن الحبر . إذن فهو يكتب ويسجل بدموعه . ونلاحظ وجه الشبه بين الدمع والحبر وهو( السيلان) .
والقرطاس بالحدقة . ووجه الشبه بينهما أن في كل منهما مساحة لارتسام ما يُرى . والحدقة تتفوق على نفسها عندما تكزن بديلا للقرطاس، لأنها تكتسب خاصية حفظ وتسجيل ما كان يمكن للقرطاس أن يحفظه، حال الكتابة عليه.
وَهَــذِهِ بَعْضُ أشْـــــلائيْ مُمَزَّقَةً=فِيْهَا اليَرَاعُ ، وَمِنْهَا الشَّوْكَةُ الذَّلِقَةْ
بعض الأشلاء الممزقة قد تمزقت بتأثير القصف . وإلا فما الذي مزقها ؟ ومن ضِمْنها يراع الشاعر ، وهو أداة أخرى مطلوبة لتسجيل الأحداث . ومنها الشوكة الذلقة أي الشوكة الحادة . ولا أعرف عن أي شوكة يتحدث الشاعر ، فهل هي شوكة الطعام مثلا ؟ أم هي أداة تستخدم لغرض آخر عندكم في اليمن ؟ إلا أنها في النهاية شوكة وحسب. ووظيفة الشوكة أن تشوِّك وتجرح وتؤذي . وذكرها مع ذكر اليراع ضمن الأشلاء الممزقة، قد يشير إلى الوظيفة الحادة لليراع/ القلم الذي يؤدي دور الشوكة في التجريح، ولا بد وأن يكون التجريح هادفا طالما ارتبط باليراع وهو ما نتوقعه.
قَصِيْدَةُ اليومِ ــ للتَّـــــارِيْخِ أكْتُبُهَا=لا أبْتَغِيْ الشُّكْرَ والتَّقْدِيْرَ وَالصَّفَقَةْ
يكتب الشاعر القصائد دائما ، لكن قصيدة اليوم أمرها مختلف . فهو يكتبها للتاريخ فقط . أي أنه يريدها شاهدا ودليلا على ما يجري . ولا يطمع من ورائها لا بالشكر ولا بالتقدير ولا بالتصفيق. وأرى تحريك الفاء بالفتح في لفظة (صفَقة ) ليستقيم الوزن ، وهو ما تبيحه الضرورة الشعرية، يستحضر المعنى الآخر الدارج للفظة ( صفَقة ) وهو عملية الشراء أو البيع ، وهو قد يمت بصلة إلى معنى (المزايدة) عندما يتحدث المرء عن وطنيته، ما يعني أن الشاعر ينفي طمعه بالكسب المادي أو المالي من وراء القصيدة .
فإن لم يكن هذا قصد الشاعر فعلاً، فإن معاني الشكر والتقدير والتصفيق كلها تصبُّ في مصبّ واحد هو الثناء . وأرى أن تعدد الألفاظ لم يضف جديدا للمعنى ، بل أفاد تأكيده فقط ، وهو غير محتاج إلى الكثير من التأكيد .
يَا هُدْهُدِيْ أخْبِر الأجْيَالَ عَنْ سَبَأٍ=إنِّيْ وَجَـدْتُكُ أذْكَى مُخْبِرٍ ، وَثِقَة
التوجه بالنداء والخطاب إلى الهدهد الذي نسبه الشاعر إليه ( يا هدهدي ) ليقوم بمهمة إخبار الأجيال إخبار تاريخيا عن سبأ ، يعني العزوف عن وسائل الإعلام الحديثة في نشر الأخبار . وإثبات الشاعر للهدهد أنه أذكى مخبر يعني أن الشاعر يعترض على قراءة المحللين السياسيين للحدث . فالهدهد هو الأذكى . إذن فهم ينقصهم بعض الذكاء في قراءاتهم . وكذلك إثبات الشاعر للهدهد أنه " ثقة " يعني نفيه هذه الثقة عن وسائل الإعلام أيضا، فيما تخبر به الناس . وهو اتهام غير مباشر للأنظمة الحاكمة في أدلجة الإعلام وتسييسه، ولو على حساب الأمانة التاريخية في تدوين أحداث التاريخ .
والبيت في الحقيقة بليغ جداً في إيصال فكرته .
ونستشف من تأويل نسبة الشاعر الهدهد إليه ( يا هدهدي ) أن هذا الهدهد الناطق يمثل الشاعر نفسه فيما سيقوله ويخبر به الأجيال .
وكم نقرأ عند الشعراء من توظيفات شعرية لهدهد سليمان عليه السلام في الشعر ، وأرى هذا التوظيف عند شاعرنا من أجملها .
يتبع بإذن الله
[FONT="][FONT="]وَدَدْتُ أكْتُبُ ، لَكِنْ ..لم أجِدْ وَرَقَةْ=لَمْ يَبْقَ شيءٌ هُنَا فَالأرضُ مُحْتَرِقَةْ
إلا الدُّمُوْعُ التي تَجْرِيْ أسَىً بِدَمَيْ=تُغْنِيْ عَنِ الحِبْرِ ، والقرطاسُ بِالْحَدَقَةْ
وَهَــذِهِ بَعْضُ أشْـــــلائيْ مُمَزَّقَةً=فِيْهَا اليَرَاعُ ، وَمِنْهَا الشَّوْكَةُ الذَّلِقَةْ
قَصِيْدَةُ اليومِ ــ للتَّـــــارِيْخِ أكْتُبُهَا=لا أبْتَغِيْ الشُّكْرَ والتَّقْدِيْرَ وَالصَّفَقَةْ
يَا هُدْهُدِيْ أخْبِر الأجْيَالَ عَنْ سَبَأٍ=إنِّيْ وَجَـدْتُكُ أذْكَى مُخْبِرٍ ، وَثِقَةْ
أمْسَتْ عَلى العَرْشِ في ظِلِّ تُدَاعِبُهَا=كَفُّ الثُّرَيَّا ، إلى الجَـوْزَاءِ مُنْطَلِقَـةْ
وَأصْبَحَتْ ــ تَحْتها لا شيء بَاحِثَــةً=عَنْ لُقْمَةِ العَيْشِ في الإمْلاقِ مُنْزَلِقَةْ
نَهْبٌ وَسَلْبٌ وَتَشْرِيْدٌ وَسَفْكُ دِمٍ=وَبِالْمَنَازِلِ عَيْنُ المَوْتِ مُلْتَصِقَةْ
وَجَاءَ مَنْ يَدَّعِيْ حِفْظَ الحُقُوْقِ على=حِصَانِ طَرْوَادَةٍ مُسْتَكْثِرًا قَلَقَـهْ
مَا أشْبَهَ اليَوم في صَنْعَا وفي عَدَنٍ=بِالأمْسِ قُبْحًا، ومَا أشْقَى مَنِ اخْتَلَقَهْ
سِبْتَمْبرِيُّوْنَ ـ في ما قَبْلِ مَوْلِدِهِ=أكْتُوْبَرِيُّ ْنَ ـ في العَهْدِ الذي سَبَقَه
شَعْبٌ تَخَلَّصَ مِنْ قَهْرِ الطُّغَاةِ ، أبى=وَبعد سِتِّيْنَ عامًا عَادَ فَاعْتَنَقَهْ
وَذَاقَ مِنْ كأسِهِ المَسْمُوْمِ ثَانِيَـةً=وَقَـدْ تَقَيَّأ سُـمَّ الكَأسِ، أوْ بَصَقَهْ
إنَّ الرَّبِيْعَ الذي أمسى يُدَغْدِغُهُ=أضْحَى خَرِيْفًا تَمَنَّى الجَذْرَ لَوْ نَتَقَهْ
جَهْلٌ ، وَفَقْرٌ ، وَإرْهَابٌ ، وَأوْبِئةٌ=وَفَوْقَ هَذَا حِصَــارٌ شَامِلٌ خَنَقَـهْ
والشَّعْبُ مازال حيًا ــ خَدَّرَتْهُ على=أسِرَّةِ الصَّمْتِ حَاجَاتٌ إلى النَّفَقَةْ
كَانَتْ بُنُوْكُهُ كَفَّ البَذْلِ بَاسِطَةً=وَاليَوْمَ تَبْسُطُ كَفَّ الشَّحْذِ لِلصَّدَقَةْ
فَهَلْ يُرَدِّدُ صَدْرَ البَيْتِ تَعْزِيَةً=أمْ يُشْعِلُ العَجْزَ نَارًا كُلَّمَا نَطَقَهْ ؟
أرَىَ وَمِيْضًا لِنَارٍ لا يَنَامُ على=شيءٍ سوى غَضْبَـةٍ لا تَعْرِفُ الشَّفَقَةْ
وَأصْدَقُ البَعْثِ بَعْثٌ هَبَّ مِنْ رَمَقٍ=أوْثَوْرَةٌ عَنْ أنِيْنِ الجُوْعِ مُنْبَثِقَةْ
لا يَتْبَعُ اللَّيْلَ إلا الصُّبْحُ يَطْمِسُهُ=نَشْتَمُّ رِيْحَهُ ، أوْشَكنَا نَرَى شَفَقَهْ
مَنْ يَسْتَمِدُّ مِنَ الجَبَّارِ قُوَّتَهُ=لا يَنْحَنِيْ أبَدًا ، إلا لِمَنْ خَلَقَهْ
غَدًا نُجَرِّعُ مَنْ كَادُوا لَنَا كَدَرًا=في كُلِّ حَلْقٍ سَنُرْوِيْ بِالدِّما عَلَقَةْ
سَنَسْتَعِيْدُ مِنَ الأمْجَادِ ما سرِقَتْ=وَنَقْطَعُ الكَفَّ كَفَّ السُّحْتِ وَالسَّرِقَةْ
إنَّا نَمُوْتُ لِكَيْ نَحْيَـا ، نَمُدُّ يَدًا=نَحْوَ البِنَاءِ ، وَأُخْرَى تَزْرَعُ الحَبَقَةْ
عَهْدًا بِأنَّا سَنَبْنِيْ بِالدِّمَا يَمَنًا=وَنَسْكُبُ الوَرْدَ عِطْرًا فَوْقَهَا ــ طَبَقَةْ
:os:
********
محمد الحميري
2 / 4 / 2018 م
قصيدة مميزة جدا للأستاذ الشاعر محمد حمود الحميري ، تصور الأحداث المؤلمة في الحرب التي تجري على أرض اليمن الحبيب. ويستهل الشاعر قصيدته استهلال تهكميا ملفتا يجذب القارئ منذ المطلع لمتابعة القراءة بشغف ماثل .
وَدَدْتُ أكْتُبُ ، لَكِنْ ..لم أجِدْ وَرَقَةْ=لَمْ يَبْقَ شيءٌ هُنَا فَالأرضُ مُحْتَرِقَةْ
يريد الشاعر أن يكتب ويسجِّل ما يشهده بأم عينه من أحداث الحرب ونتائجها في اليمن ، ولكنه – للأسف – لا يجد ورقة يكتب عليها . إذ لم يعد ثمة أوراق للكتابة أو أي شيء آخر على هذه الأرض المحترقة بنار الحرب .
ومسألة افتقاد ورقة للكتابة ، تصلح معنويا كتورية عميقة ، لفكرة أنه ليس ثمة مجال للشاعر للكتابة، أو التدوين أو إيصال رأيه أو كلمته ، بسبب عدم اكتراث المسؤولين عن احتراق هذه الأرض، أو عن الوضع برمته.
ثم إنه لم يبق شيء هنا . فمن الطبيعي أن لا يجد الشاعر ورقة يكتب عليها . بعد أن احترقت الأرض بما عليها . وبالتالي فإن حالة الافتقار إلى أبسط مستلزمات الإنسان تمثل نتيجة الحرب ومعاناة البشر هنا.
وإن الأسلوب التهكمي يكمن في عدم إيجاد الورقة بعد البحث عنها من قِبَل الشاعر ، ما يسبب الشعور بالخيبة عند القارئ لضياع فرصة الكتابة على الشاعر. ولكن ها هو الشاعر يكتب قصيدته .إذن فهل وجد ورقة يكتب عليها ؟ أم تلك هي الورقة الضائعة التي ستبقى ضائعة ،على الرغم من أن الشاعر سيستغني ويستمر في الكتابة ؟ ويأتي جواب الشاعر موضِّحا ما لديه من بدائل وخيارات
إلا الدُّمُوْعُ التي تَجْرِيْ أسَىً بِدَمَيْ=تُغْنِيْ عَنِ الحِبْرِ ، والقرطاسُ بِالْحَدَقَةْ
فالشاعر الشاهد على الحرب والذي تجري دموعه في دمائه حزنا على واقع الحال ،يستغني عن الحبر في تسجيل وكتابة ما يحدث .
ونرى تقنية و فنية الصورة الشعرية التي استخدمها الشاعر في البيت، بإجرائه مقارنة أو مطابقة بين بدائله العاطفية الحسية، والمستلزمات التي تتطلبها عملية التسجيل أو التدوين .
فالدموع التي تجري أسىً تغني عن الحبر . إذن فهو يكتب ويسجل بدموعه . ونلاحظ وجه الشبه بين الدمع والحبر وهو( السيلان) .
والقرطاس بالحدقة . ووجه الشبه بينهما أن في كل منهما مساحة لارتسام ما يُرى . والحدقة تتفوق على نفسها عندما تكزن بديلا للقرطاس، لأنها تكتسب خاصية حفظ وتسجيل ما كان يمكن للقرطاس أن يحفظه، حال الكتابة عليه.
وَهَــذِهِ بَعْضُ أشْـــــلائيْ مُمَزَّقَةً=فِيْهَا اليَرَاعُ ، وَمِنْهَا الشَّوْكَةُ الذَّلِقَةْ
بعض الأشلاء الممزقة قد تمزقت بتأثير القصف . وإلا فما الذي مزقها ؟ ومن ضِمْنها يراع الشاعر ، وهو أداة أخرى مطلوبة لتسجيل الأحداث . ومنها الشوكة الذلقة أي الشوكة الحادة . ولا أعرف عن أي شوكة يتحدث الشاعر ، فهل هي شوكة الطعام مثلا ؟ أم هي أداة تستخدم لغرض آخر عندكم في اليمن ؟ إلا أنها في النهاية شوكة وحسب. ووظيفة الشوكة أن تشوِّك وتجرح وتؤذي . وذكرها مع ذكر اليراع ضمن الأشلاء الممزقة، قد يشير إلى الوظيفة الحادة لليراع/ القلم الذي يؤدي دور الشوكة في التجريح، ولا بد وأن يكون التجريح هادفا طالما ارتبط باليراع وهو ما نتوقعه.
قَصِيْدَةُ اليومِ ــ للتَّـــــارِيْخِ أكْتُبُهَا=لا أبْتَغِيْ الشُّكْرَ والتَّقْدِيْرَ وَالصَّفَقَةْ
يكتب الشاعر القصائد دائما ، لكن قصيدة اليوم أمرها مختلف . فهو يكتبها للتاريخ فقط . أي أنه يريدها شاهدا ودليلا على ما يجري . ولا يطمع من ورائها لا بالشكر ولا بالتقدير ولا بالتصفيق. وأرى تحريك الفاء بالفتح في لفظة (صفَقة ) ليستقيم الوزن ، وهو ما تبيحه الضرورة الشعرية، يستحضر المعنى الآخر الدارج للفظة ( صفَقة ) وهو عملية الشراء أو البيع ، وهو قد يمت بصلة إلى معنى (المزايدة) عندما يتحدث المرء عن وطنيته، ما يعني أن الشاعر ينفي طمعه بالكسب المادي أو المالي من وراء القصيدة .
فإن لم يكن هذا قصد الشاعر فعلاً، فإن معاني الشكر والتقدير والتصفيق كلها تصبُّ في مصبّ واحد هو الثناء . وأرى أن تعدد الألفاظ لم يضف جديدا للمعنى ، بل أفاد تأكيده فقط ، وهو غير محتاج إلى الكثير من التأكيد .
يَا هُدْهُدِيْ أخْبِر الأجْيَالَ عَنْ سَبَأٍ=إنِّيْ وَجَـدْتُكُ أذْكَى مُخْبِرٍ ، وَثِقَة
التوجه بالنداء والخطاب إلى الهدهد الذي نسبه الشاعر إليه ( يا هدهدي ) ليقوم بمهمة إخبار الأجيال إخبار تاريخيا عن سبأ ، يعني العزوف عن وسائل الإعلام الحديثة في نشر الأخبار . وإثبات الشاعر للهدهد أنه أذكى مخبر يعني أن الشاعر يعترض على قراءة المحللين السياسيين للحدث . فالهدهد هو الأذكى . إذن فهم ينقصهم بعض الذكاء في قراءاتهم . وكذلك إثبات الشاعر للهدهد أنه " ثقة " يعني نفيه هذه الثقة عن وسائل الإعلام أيضا، فيما تخبر به الناس . وهو اتهام غير مباشر للأنظمة الحاكمة في أدلجة الإعلام وتسييسه، ولو على حساب الأمانة التاريخية في تدوين أحداث التاريخ .
والبيت في الحقيقة بليغ جداً في إيصال فكرته .
ونستشف من تأويل نسبة الشاعر الهدهد إليه ( يا هدهدي ) أن هذا الهدهد الناطق يمثل الشاعر نفسه فيما سيقوله ويخبر به الأجيال .
وكم نقرأ عند الشعراء من توظيفات شعرية لهدهد سليمان عليه السلام في الشعر ، وأرى هذا التوظيف عند شاعرنا من أجملها .
يتبع بإذن الله