تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : حكاية ولد اسمه ورد - رواية في فصول



عماد هلالى
05-08-2018, 11:15 PM
حكاية ولد اسمه ورد

بداية

الإحساس بالنجاح , مع التكريم والحفاوة , لا يعادله إحساس آخر , وهذا التكريم بالذات يختلف عن كل ما سبقه وأهم من كل ما حصل عليه من جوائز وشهادات , على الأقل بالنسبة له . في قاعة السينما , المكان الذي تقام فيه أهم الإحتفالات في هذه البلدية العميقة في جنوب الوطن , أقيمت حفلة تتويج الفنانين وتقديم بطاقة الفنان للبعض منهم , بحضور أهم الشخصيات الثقافية والفنية مع مسؤولين محليين وممثلين عن جمعيات ونشطاء , وبقدوم وفد رفيع المستوى من وزارة الثقافة جلسوا أمام طاولة مستطيلة على المنصة , نادوا على اسمه فتقدّم رشيق الخطوات أنيق الهيئة , على كتفه حقيبة جلدية خفيفة متناسقة مع زيّه , صافح المسؤول الكبير الذّي يقدّم البطاقات والشهادات , وهو شخصيّة وطنيّة معروفة عنده العديد من المؤلفات الهامة حول التعريف بالفنانين المغنيين والموسيقيين الرّواد , ويتم استدعاؤه عادة في التلفزيون الوطني خاصة في البرامج التي تتحدّث عن هؤلاء الفنانين والتّعريف بهم , سلّم له بطاقة الفنان وشهادة من وزارة الثقافة , وقف معه والتقطت لهما العديد من الصور , وأخذ لنفسه صورة طبعا لينشرها في الفيسبوك مع بعض الأسطر التي يتفنن عادة في كتابتها .

في الحفلة كانت تعطى بعض الكلمات لأشخاص يطلبونها , تردّد كثيرا في البوح بشيء آلمه منذ فترة ورأى أنّ الظّرف مناسبا لطرح الموضوع أمام هذه الهيئة الحكومية وهذا الحشد الهام من النخبة , طلب الكلمة وجاء دوره , حمل الميكرفون , وبدأ بمقدّمة بسيطة في تعريف الفن , قال جملة من تأليفه وهي " الفن لغة الجمال " , ثم ذكر تعريفا للفن أعجبه كثيرا حين قرأه في كتاب لمؤلّف من بلدته وهو فنان تشكيلي وكاتب معروف , و أستاذه في التربية الفنية في دراسته الثانوية , وكان حاضرا في الحفل , ذكر اسمه واسم الكتاب وأشاد به , التعريف ملخّص في جملة بليغة عميقة المعنى : الفن ليس نقلا للأشياء الجميلة بل هو نقل جميل للأشياء . ثم أشار إلى مدينته التي تتميّز بالتراث والعراقة , وقال : هي في الحقيقة معرض فني مفتوح , أعجبه أنّ هذه الجملة اقتبسها فيما بعد المسؤول الثقافي الكبير الذي قدّم له البطاقة في كلمته في الحفلة . رغم أنّ هذا الأخير كان يهز رأسه إعجابا بما يقوله ويظهر من حركة يده وملامح وجهه الإهتمام بالكلام , لكن قاطعه طالبا منه الإختصار لأنّ هناك مداخلات أخرى والوقت لا يتّسع للجميع , هنا تحتّم عليه قول كلمته التي أرادها , اختار عمدا عبارة صادمة وقال : لقد تعرّضت لتمييز عنصري , طلب منه المسؤول الإفصاح أكثر , قال : استدعيت للمشاركة في مهرجان دولي خارج الوطن وعطّلوا اخراج جواز السّفر عن قصد لأنّي أنتمي إلى فئة معيّنة في هذا البلد , هزّ المسؤول رأسه ايذانا منه بأنّه فهم الموضوع .

في طريق عودته إلى البيت وكعادته عندما يسرح بخياله من نافذة مركبة النقل , وتصبح المناظر المتتابعة في الطريق وكأنّها ذكريات صور حياته , تتابعت أمام عينيه . لماذا فرح كثيرا بحصوله على بطاقة الفنان ؟ لأنّه لم يعرف عن نفسه منذ عرف الدنيا وعرفته إلاّ أنّه فنانا , ولأنّه تعب كثيرا وعاش في التهميش وحتّى الإحتقار والظلم . هذه البطاقة عنت له كثيرا , أعطاها قيمتها في نفسه بأنّها اعترافا رسميّا به , وأحسّ بكل عمق أنّه يُعتبر الآن فنانا جزائريا , وعرف قيمة هذا اللقب , بكل ما يحمله من ميزة ومن مسؤولية , وعرضت عليه صفحات الذكريات في سجل أيام حياته , صفحة صفحة , أربعون سنة هذه التي عاشها في الحياة , وكأنّه عاش ثلاثة أعمار أو أكثر , كتاب حافل , مهرجان كبير من الصور الملوّنة , منها الفاتح الضاحك , ومنها الداكن الباكي , منها ما عاشه بكل حواسه , ومنها ما حكي له أو حتى تخيّله في أمور كلّها تعنيه , وأجمل ما في الحياة بداية .. بداية .

أحمد العكيدي
07-08-2018, 11:09 AM
جميل ما كتبت أخي عماد في هذه البداية، واصل عملك الروائي ...
تقبل مروري.
مع التقدير

عماد هلالى
07-08-2018, 04:27 PM
جميل ما كتبت أخي عماد في هذه البداية، واصل عملك الروائي ...
تقبل مروري.
مع التقدير
شكرا جزيلا لك الأستاذ العزيز أحمد العكيدي , يشجّعني تعليقك الكريم على المواصلة , ويشرّفني ويسعدني قبله حضوركم بارك الله فيك , وأرجو أن تتابع معي العمل إلى النهاية , مع خالص مودتي وتقديري

عماد هلالى
07-08-2018, 11:18 PM
ورد

09 أكتوبر 1973 , الثاني عشر من رمضان , التاسعة صباحا , صرخ الطفل صرخة استقبال الدنيا , وابتسمت الرّاهبة المسيحية التي قامت بالتوليد , وقد كانت هذه إحدى المهام الكثيرة التي تقوم بها الأخوات البيض , وقالت بكلمات فرنسية مفهومة وصوت خافت رزين : يا إلاهي كم هو جميل , ثم وضعت يدها على رأس المولود الصّغير ونظرت إلى الأم وقالت لها بنبرة جادّة : سيكون هذا المولود ذكيّا جدا . الأم ( خاتم ) عندها الآن ستة وثلاثون سنة , امرأة اجتماعية محبوبة , تخيط فساتين العرائس وتغني في الأعراس , يعرفها الناس ويحترمونها , هذا ابنها العاشر , بين كل ولادة سنتان , ثلاث بنات ثم ثلاثة أولاد , ثم ثلاث بنات , ثم هذا الطفل الجميل , الذي يترقّب ولادته الجميع وقد خطف الأبصار وأسر القلوب منذ لحظة ولادته .

في تسميته قالت الأخت تحت الكبيرة ( أميمة ) أنّها رأت رؤيا , وعادة ما تتحقّق رؤاها , رأت شيخا كبيرا بلباس أبيض ولحية بيضاء , وقف أمامها وقال لها : سيولد عندكم مولود سمّوه فتح الله أو رزق الله . لكن رأت هي والأختين الكبيرتين أنّ الإسمين تقليديين , وكنّ يبحثن عن إسم جميل ومميّز , وكانت قبل أيام قد سمعت إسما في برنامج إذاعي عربي أعجبها كثيرا وهو : ورد . قالت الكبرى ( فاطمة ) نسمّيه فريد , والأصغر منها ( بركة ) نسمّيه سمير , ولجأن إلى القرعة . كتبن الأسماء الثلاثة في قصاصات ورقية صغيرة , خلطنها بعد طيّهن جيدا , حملت واحدة ورقة فجاءت باسم ورد , ثمّ كرّرن العملية ثلاث مرات , وكانت في كل مرة تأتي الورقة باسم ورد .

أعجبهم الإسم جميعا ولم يعترض أحد في العائلة , لا الأم ولا الأب ( الخير ) , الذي كان كهلا تقليديّا في زيّه وأسلوب حياته , وهو يعمل جزارا في سوق شعبي في هذه المدينة الجنوبية الصحراوية الشهيرة بالتقاليد والتراث , ويسكن مع زوجته وأولاده في بيت في أحد أعرق وأقدم الأحياء الشعبية في المنطقة , لكنّه كان محبّا للفن والجمال في داخله وطبيعته ومتقبّلا لكل جديد . سجّلوا الطفل باسم ورد , هذا الإسم الذي كان جديدا وغريبا في هذا المكان وفي هذا الزمان تحديدا , لم يتقبّله عموم الناس من معارف وجيران , منهم من أساء نطقه , منهم من قال ساخرا : وردة , وكثير منهم تكلّم بخبث وقالوا أنّه اسم بنت . مثلما كان الأب فنانا كانت الأم وأكثر , فنانة في إحساسها وتفكيرها , ومقبلة على الحياة , أحبّت مولودها كثيرا , وكذلك أحبّه النّاس رغم استغرابهم لإسمه في البداية , لكن أعجبوا به كثيرا وأحبّوه فيما بعد , وهكذا الجديد يتطلّب دائما جرأة .. ورد .

عماد هلالى
11-08-2018, 09:42 PM
عامان

بعد عامين وُلِد أخ أصغر , أسمَوه سمير , الإسم الثالث في قرعة الأوراق , يُحكى أنّه كان جميل الطلعة , كثير الحركة وبارز الذّكاء , كان يقلّد حركات الممثلين الكوميديين في المسلسلات المصرية التي كانت تعرضها التلفزة على الساعة السابعة مساءا , أخذوه ذات ليلة شتوية إلى عرس في الحي , دخلت به إحدى أخواته الكبار على النّسوة تحمله , وقد كان أبيض البشرة ويرتدي قلنسوة حمراء تحيط بوجهه الوضيء , وقد كان هذا لون لباس الطفل عندما يُصاب بالحصبة أو البوحمرون كما يُطلق عليها , فخطف الأبصار وشهقت أفواه النسوة لجماله وطلعته البهيّة , قيل أنّه أصابته ساعتها عين قاتلة , إذ مرض فور عودته إلى البيت بحمى شديدة ومات .

ورد لا يذكر أخاه هذا إلاّ ما يسمعه من حكاياتهم عنه , ورغم مدة حياته القصيرة جدا الاّ أنّ ذكراه بقيت خالدة وحُرقة موته لا تزال باقية في قلبه وقلب كل أفراد الأسرة , وما كان يُصبّر ويؤنس الوالدين هو ما يعرفانه من حديث النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الأطفال الذين يموتون صغارا يسحبون بأيدي والديهم يوم القيامة ليأخذوهم إلى الجنة .

ورد في هذه الفترة كان محبوبا جدا , تتلقّفه الأيدي وتحمله , وكان يأتي أحد أصدقاء الإخوة الكبار , يسكن في نفس الحي لكن بيته بعيد بعض الشيء , كل مساء يأخذه إلى طريق السيارات حيث توجد دكاكين المواد الغذائية , يشتري له الحلوى وقطع الشوكلاطة , ولا زالت عالقة في الذهن تلك الحركة التي يُلاعبون بها الأطفال عادة , حين يرميه في الأعلى فيتعلّق فترة في الهواء ثم تتلقّفه يداه من جديد .

وبعد عامين من ميلاد سمير الذي مات طفلا رحمه الله , وُلِد الأخ الأصغر وآخر العنقود , وأسمَوه على إسمه : سمير , .. ومضت عامان .

عماد هلالى
14-08-2018, 12:10 AM
موهوب

ورد موهوب في صغره إلى درجة كبيرة ومُلفِتة , تماما كمن يُطلقون عليهم صفة ( الطِّفل المعجزة ) , تحرّكت أنامله بالكتابة والرّسم مُبكِّرا جدا , أمسك القلم أوّل ما تعلّمت يده مَسك الأشياء , وبدأ الرسم والتأليف قبل أن يدخل المدرسة بزمن بعيد , كان يجلس وحده في البيت كثيرا ولا يخرج إلاّ نادرا حين يريد قضاء مصلحة معيّنة , وتكون عادة شراء بعض أغراض البيت اليوميّة من محل قريب . وبدأ يكتشف متعته الحقيقيّة في الرسم والكتابة , يرسم بقلم الرّصاص وأقلام اللّباد الملوّنة كثيرا , إذ ما إن تنتهي علبة منها حتى يشتري أخرى .


تأثّر كثيرا أوّل ما شاهد فيلم الرّسالة بمشهد مقتل حمزة بن عبد المطلّب رضي الله عنه , وكتب شعرا على شكل قصيدة عموديّة , وإن كان لا يعرف بحور الشعر ولا يقف عند تفعيلاتها وأوزانها فقد اهتمّ بالقافية وكتب في مطلعها : لماذا قتلتم حمزة ومتم .... قتل المسلمين لاينفعكم . وهكذا حتّى وصل إلى قرابة العشرة أبيات .


الطّفل الخجول كان يعدّ الأرقام بالإنجليزية بطلاقة لسان وبسرعة حتّى يصل إلى مائة وأكثر , واشتهر بها فكانوا يستوقفونه الكبار في الشارع ليعدّ لهم , حتّى أسمَوه في الحي : ( وان , تو , ثري ) . وعندما كان في سفر مع أخيه الكبير في إحدى مدن الشمال الساحلية اكتشفوا أصحاب هذه المدينة الطفل المعجزة فصاروا يستوقفونه في الشراع ليعدّ لهم الأرقام بالإنجليزية ويتجمّعون حوله مُتعجّبين .. وكان كل من يراه أو يسمع عنه لا يسعه الاّ أن يقول : هذا طفل موهوب .

عماد هلالى
14-08-2018, 10:46 PM
مدرسة

مدرسة الإبتدائية يدخلها الطفل حين يبلغ الستة أعوام , وغالبا ما يدخلونها في سن أقل عندما يكون الفارق بالشهور , لكن ورد لم يدخل حتى أتم السن المشروط , وجاء وقت التسجيل المدرسي , لبست أمه ( القمبوز ) وهو رداء أبيض يلفّها بالكامل ولا يكشِف منها الاّ عينا واحدة تُبصر بها , أخذته من يده , وذهبت به إلى مدرسة الحي القريبة ( باب السعادة ) وقد تغيّر اسمها فيما بعد كما تتغيّر أسماء الكثير من المرافق والأحياء , والمحطات في هذه البلدة العتيقة بدافع العنصرية المقيتة .

لم يكن عنده أي تصوّر مُسبق عن المدرسة ولا يعرف عنها شيئا , ربما تخيّل التلاميذ يجلسون على كراسي مثل التي يراها في البيت أو على كنبة مثلا والمعلّمون يطوفون بهم يُكلّمون هذا ويُلاعبون أو ينهرون ذاك , ربما تكون عبارة عن غرف أو صالة كبيرة , لم يكن يخافها أو يُحبّها لكن كانت تعني له شيئا واحدا وهو الإلتزام , وأنّ حرّيّته جاء من يُقيّدها أخيرا , وهو رغم هدوئه ووحدته , ومكوثه في البيت غالب أوقاته , رغم كل هذا لا يُحب شيئا مثل الحرية .

الطريق إلى المدرسة وساحة المدرسة كلها تراب , الساحة بدت في عيون ورد كبيرة جدا , وقف التلاميذ الجدد في طوابير مع أولياء أمورهم , ووقف ورد في طابور طويل تمسكه أمه من يده , وهي عادة ما تقوم بهذه المهام التي تكون قريبة من البيت , فالأب يكون مشغولا في قصّابة السوق الشعبي . وما إن سمع اسمه حتّى أفلت من يدها وانطلق مُسرعا نحو مصدر الصّوت , ضحكت الأم كثيرا لتصرّفه هذا وحكت لهم في البيت عندما عادت مُعجبة به , وهكذا كانت تحكي عنه بإعجاب , تُعزِّز فيه ثقته بنفسه وتزرع في سلوكه المبادرة والإيجابية .. والأم مدرسة .

عماد هلالى
15-08-2018, 11:57 PM
مدح

مدح المعلّمون سلوكه وذكاءه , ونبوغه الدراسي , معلمه ( الحاج عبد العالي ) وجارهم , وهو رجل فاضل من روّاد التربية والتعليم في المنطقة ويحظى باحترام الناس وتقديرهم , طلب أن يتم انتقال ورد من السنة الأولى إلى السنة الثالثة مباشرة , لأنّه تأكّد أن لا فائدة سيجنيها الولد ان درّسوه السنة الثانية , فقط سيُضيّعون عاما من عمره سدى , لكن بعض المعلّمين الحاقدين وقفوا دون تحقيق ذلك , واستماتوا كي لا يتم هذا الأمر , وفعلا لم يحصل , كانوا ربما يغيرون من العائلة وهم يقطنون معها في نفس الحي , أو حرّكتهم نعرة العروش والقبائل , وكثيرا ما يتحرّك سكان هذه البلدة البائسة بدافع هذه النعرات . ( الحاج عبد العالي ) اهتم بورد وقرّبه اليه , أجلسه في الطاولة الأولى مقابل مكتبه , كان يأتي بطبق من مطعم المدرسة في الصّباح قبل موعد الغذاء , يكون غالبا صحن حساء فاصلوياء ساخن تنبعث رائحته الزكيّة , وينادي ورد ليأكل معه , وبعد أول امتحانات السنة الأولى كان ورد الأول في قسمه بعلامات كاملة , ناداه إلى مكتبه وخيّره في الجائزة التي يقدّمها له بين شيئين : علبة أقلام ملونة كبيرة أو كتاب قصة للأطفال بحجم كبير وغلاف جميل بصور ملوّنه , اختار ورد الكتاب وعاد به إلى البيت يحتضنه ويجري في الشارع الكبير كمشهد من مسلسل رسوم متحركة يكون قد شاهده أو مر في خياله .

مثل هذه البلدة طبعا لا تخلو من المتنمّرين , سلوكه المؤدّب أثار اشمئزاز أطفال المدرسة والحي الذين كانت حياتهم ويومياتهم موحلة بالجهل والتّخلّف , كانت تتم معاكسته كثيرا في الشارع الطويل في طريق المدرسة ويسخرون منه , ويتكلّمون بالنميمة أيضا على معلمه ( الحاج عبد العالي ) قالوا أنّه صديق والده وأنّه يُحابيه . تعرّض له طفل من الحي يدرس معه يُسمّى مختار ويُنادونه ( أنبوبة ) مع مجموعة من رفاقه الأشقياء حين وجدوه يمشي وحيدا في الشارع ذاهبا إلى المدرسة , أرادوا استفزازه ليضربوه لكن هدوءه ورد فعله المسالم حال دون ذلك , ومرّ الموقف بسلام , ولم يكن ورد يخبر أسرته بأي شيء من ذلك , وحين عودته من المدرسة بعد فترة الصّبيحة , جاءه مختار مع شلّته الشقية إلى البيت وناداه بأعلى صوته , خرج وخرجت تتبعه أخته التي تكبره مباشرة ( مريم ) وقد ارتابت منهم , وقفت بالباب تتابع ما يجري , طلب منه أن يأتي له بكراسه , بحجة أن درس اليوم فاته ويريد أن ينقله منه , دخل ورد مسرعا وقدّم له الكراس , خطفه مختار ( أنبوبة ) من يده بقوة ومشى بعيدا عن البيت , ثم فتحه وبصق فيه بكل قوة , حتى تشوّهت كتابة الحبر على أوراقه .

في السنة الثالثة درّسته ( لبنى ) وكانوا يُطلقون عليها ( لبنى المصرية ) , وهي سيدة مصرية متزوجة من رجل من الشرق الجزائري يعمل في التدريس معها في نفس المدرسة الإبتدائية ( باب السعادة ) ويسكنون في مساكن المعلمين الملتصقة بالمدرسة , سيدة أنيقة غير محجّبة , محترمة في طريقة لبسها وتسريحة شعرها , نشطة واجتماعية يعرفها ويحبها سكان الحي وتدخل بيوتهم , كانت في شكلها ورقّتها نموذج وايقونة المرأة المصرية العصرية القادمة من عمق الحضارة , وكانت لديها بنت في نفس سن ورد اسمها ( رنا ) تدرس في ابتدائية البنات في نفس الحي , كانت مع صغرها تبدو جميلة ورشيقة , وملفتة بخفتها وحيويتها , كثيرا ما كانت تهمس ( لبنى المصرية ) إلى ( خالتي خاتم ) كما كانوا يُنادون أم ورد : رنا لورد , عندما يكبران نزوّجهما لبعض . وكتب ورد قصيدة شعر في ( لبنى المصرية ) قال في مطلعها : أهلا سيدة السيدات .... دخلتِ الباب وعلى شفتيك البسمات
يامن علّمتنا المباديء .... والأخلاق الفاضلات . وكانت أول وآخر مرة يكتب فيها قصيدة مدح .

عماد هلالى
16-08-2018, 10:38 PM
دهشة

دهشة وإعجاب شديد انتاب المعلمة ( لبنى المصرية ) عندما أعطاها ورد القصيدة التي ألّفها يمتدحها فيها , قالت له اقرأها , ثم قرأها على المنصة أمام زملائه , بعذوبة ورقّة , ثم أخذته إلى زوجها الذي يُدرّس في قسم آخر , وأعاد قراءتها على منصّة هذا القسم أيضا . في المساء جاء صديقه وزميله عز الدين بقصيدة معروفة لشاعر عربي كبير نقلها من إحدى الكتب المدرسيّة , كتبها في ورقة وأعطاها للمعلمة على أساس أنّها قصيدة من تأليفه .

طلبت منهم المعلمة ( لبنى المصرية ) في حصة التعبير الكتابي , وهي الحصة المفضّلة لديه مع حصة التربية الفنية , أن يكتبوا نصّا عن الشجرة وفوائدها , كتب ورد نصّا نثريّا في غاية البراعة والإبداع , بدأه بسؤال يخاطب به الإنسان عن أهمية الشجرة , ثم عدّد فوائدها , من ثمار و خشب , جلب غمام المطر , إلى الظل . اندهشت المعلمة بهذا النّص البديع وطلبت منه كالمرّة السّابقة أن يقرأه على المنصّة , وأخذته أيضا لزوجها كي يقرأه من جديد على منصّة قسمه .

في السنة الخامسة بلغ ورد أوجّه في التّفوّق الدّراسي وتعدّد المواهب الفنية والأدبية خاصة , حقّق أعلى معدل نقاط يُمكن أن يُحقّقه تلميذ في صفّه , كانت علامته عشرة على عشرة في كل المواد , فقط مادة السيرة كان أقصى ما يُعطيه المعلم للتلميذ هي علامة تسعة على عشرة , فكان مجموع نقاطه في هذا العام تسعة وتسعون على مائة وهي أعلى علامة , أعطيت له جائزة أحسن تلميذ في المدرسة , وجائزة حسن السلوك , وجائزة ثالثة على قصيدة عيد العلم التي ألّفها بعنوان : ذكرى العلم , وقال فيها : غني يا عصافير وزقزقي --- اخضرّي يا أشجار وأورقي
وفي جمال تنسّقي --- وسيري يا مياه تدفّقي
وافتحي يا مدارس أبوابكِ --- باسم العلم انطقي
اصعد ياجيل ابن باديس --- ويارايات العلم اخفقي
فاليوم ذكرى علم --- ذكرى علم شيّق

اشتهر بنبوغه ومواهبه , كان يطلب منه المعلمون أن يرسم لهم رسوماتا في أوراق كبيرة يُعلّقونها على السبورة يشرحون بها الدروس في القسم , وكانت تأتيه طلباتهم هذه إلى البيت , مرة طلب منه ابن خاله الكبير وهو معلم ابتدائي في مدرسة أخرى , أن يرسم له حفلة عرس في ورقة كبيرة يستعملها في درس عن الموضوع , قام ورد بإنجاز رسم كبير فيه مجموعة من النسوة يحتفلن , وفي الوسط راقصة ( رقّاصة ) كما يراها في الأفلام المصرية , بزي الرّقص الشرقي , تجلس على ركبتيها مائلة برأسها وشعرها الطويل منسدل على الأرض ويديها إلى السّماء , وأثارت اللوحة موجة ضحك عارمة لدى أخواته الثلاث اللاتي يكبرنه , وهنّ على الترتيب : مريم , سعاد , ورشيدة , وبقين يذكرنها لأعوام طويلة , وكلّما تذكّرنها ضحكن من جديد .

ألّف مسرحية بعنوان : هجرة عصفور , أبطالها عصافير تتكلّم , درّب عليها زملاءه وقدّموها في حفلة المدرسة , على منصّة كبيرة في الساحة , بلا ميكروفونات أو مكبّرات صوت
ورد عرفه الناس في الحي و البلدة واشتهر , وتوقّعوا له مستقبلا زاهرا وأن سيكون له شأن كبير في المستقبل , وكان إحساس الناس به بين إعجاب وحب , ودهشة .

أحمد العكيدي
17-08-2018, 01:06 PM
الأحداث تتدفق تباعا في قالب جميل. واصل.
مع التحية

عماد هلالى
17-08-2018, 01:33 PM
الأحداث تتدفق تباعا في قالب جميل. واصل.
مع التحية
خالص تحياتي وتقديري أستاذ أحمد العكيدي , وجزيل شكري على حضوركم الذي يشرفني ويسعدني وكرم المتابعة

عماد هلالى
17-08-2018, 10:21 PM
شاي

شاي الضحى ضروري ومميز في البيت , يُحضّر معه شيئا خفيفا للأكل , طماطم وبصل على الزيت ( شكشوكة ) أو سلطة خضراء وبيض مثلا , وحتى فول سوداني ( كوكاو ) أحيانا , وجلسة الشاي لها طقوسها , يجب أن تجلس أولا مع الصينية وكل اللوازم وبقربك أنبوبة الغاز , لأن الجلسة تكون وسط الدار أو في الصالة وليست في المطبخ , يلتقي فيها الأقارب والجيران ويتبادلون أطراف الحديث , هذه عادة أصيلة في عرش العائلة القادم من الجنوب الشرقي , وزيارة الأم إلى ابنتها الكبيرة ( فاطمة ) التي تتفنّن في شاي الضحى , زيارة مفعمة بالمتعة خصوصا وأنّ فاطمة بيتها قريب من وسط المدينة , حيث هناك التحضّر أكثر والجديد دائما , سمع ورد في الليل أنّ الأم تنوي زيارة ابنتها صباحا , فتشوّق لهذه الرحلة والجلسة الصباحية الجميلة , ثم تظاهر في الصباح بأنّه مريض كي لا يذهب إلى المدرسة ويرافق أمه , وقد كان يمرض كثيرا بالزكام , يصل مرضه إلى درجة أنّك تتخيّل أنّه سيموت بعد يوم أو يومين , وكانت تأخذه أمه إلى طبيبة توجد عيادتها في ساحة تفصل الحي العتيق عن السوق الشعبي , مرّة كانت تمشي معه إلى الطبيبة , وهو متكيء عليها في حالة شبه غيبوبة من تعب المرض والحمى الشديدة , رأته إمرأة لا تعرفها كانت قادمة تمشي في الطريق فقالت لها : إنّ ابنك ميّت يا امرأة .

عند فاطمة , في جلسة الشاي التي كانت في صالة الدهليز ( مكان أسفل المنزل ) , وهي صالة ديكورها كله زرابي , الفراش والجدران , مع أثاث عصري وبعض التحف الصّغيرة التي يجلبونها من رحلاتهم السياحية إلى فرنسا , تكلّمت الأم مازحة وقالت أنّ ورد تظاهر بالمرض كي لا يذهب إلى المدرسة ويأتي معها , هنا انتفض زوج الأخت فاطمة , وهو لاعب كرة قدم مشهور في المنطقة , متعجّبا كيف تسمح له بفعل كهذا . وكانت تحكي لهم أيضا أنّه يُصلّي ,و تعجّب كيف له أن يعرف الصّلاة وسأله عن كيفيتها وأجابه ورد بدقّة , ثم طلب منه أن يُصلّي أمامه , صلّى في الرّواق خارج الصّالة , ثم فزع من رأس كبير شاهده حين كان مستغرقا في الصلاة , وقد كان زوج أخته يطل عليه من نافذة الصّالة , والتفت اليه ورد , ضحك زوج الأخت بأعلى صوته وقال له ساخرا ومستهزئا به : وهل المصلّون يلتفتون في صلاتهم ؟ كان ورد يُصلّي قبل أن يبلغ السادسة ويدخل المدرسة , وكان يذكر الله كثيرا , ولا يبدأ فعل أي شيء الاّ بذكر بعض الأذكار والأدعية , حتى لاحظت والدته أنّه يُتمتم كثيرا على مائدة الأكل وعندما يكون وحده , ومرّت عليه أيام بقي مع نفسه كثيرا , ظهر عليه فيها الحزن والوحدة , وظنّت الأم أنّ ابنها مصابا بوسواس ما , وذهبت به ذات عشيّة قبل المغرب , إلى شيخ صالح من معارف العائلة يُعالج بالأذكار وبعض الأعشاب , ولم تكن الرقية معروفة حينها , حدّثه الشيخ واطمأن لحالته ودعى له وأعطاه بعض الأعشاب , شرب كأسا منها وجلبت الأم بعضها لتعطيها له في البيت , وحين عادوا انتعش فعلا ورد وأحسّ بالطاقة والفرح , وبدأ في الليل يرقص ويغني كعادته , وسُرّت الأم كثيرا لمنظره هذا .

جلسة الشاي عند ( أبي موسى ) مختلفة تماما ,هكذا كان يُناديه ورد واخوته وهو العم الأكبر بمثابة الجد الذي لم يحضر حياته , وأهم اختلاف فيها أنّها لا تقتصر على فترة الضحى , بل هي في كل الأوقات , تتجدّد مع قدوم كل زائر ووافد . شيخ كبير صحيح البنية يجلس متربّعا قرب فراشه في صالة واسعة في بيته الكبير الذي يُقال أنّه أول بيت بُني في المنطقة , يطبخ الشاي بنفسه أمامك , ويغضب ان لم تشرب , ويجب عليك أن تُكمل إلى الكأس الثالث , فهو يتم على ثلاث مراحل , وياله من شاي .

عماد هلالى
19-08-2018, 03:01 PM
حنان

حنان ( أبي موسى ) كان ممزوجا بالقوّة والشجاعة , والكرم , يفرح كثيرا عندما يأتيه ورد مع أمه بعد نهاية كل موسم دراسي وتخبره عن نتائجه المُشرّفة , وعن مواهبه وإنجازاته , يحثّه على المزيد ويُقدّم له ورقة نقديّة مُحترمة , يستطيع أن يقتني بها شيئا ثمينا . ( أبي موسى ) يعيش مع زوجته وابنه الوحيد في البيت الكبير مع أخوين لم يتزوّجا , يشتغلون في بيع التمور التي تأتيهم من بلدهم الأصلي في الجنوب حيث يمتلك أبوهم ( جد ورد ) واحات شاسعة من النخيل , وأب ورد ( الخير ) انفصل واستقل بذاته , اشترى أرضا في نفس الحي بنى عليها بيته , وفتح قصّابة في السوق الشعبي للمدينة , أحد الأعمام لا يذكره ورد الاّ خيالا عندما كان يأتيهم البيت في المساء يتحدّث ويمزح وقد كان معروفا بخفّة دمه , وتحضّر له الأم فنجان القهوة وكبد غنم مشوي فقد كان تقليدا في البيت , والعم الآخر كان يزوره وهو ممدّدا في الفراش , طيّب جدّا وتعيش معه مجموعة كبيرة من القطط , وكثيرا ما سمعهم يتحدّثون عن شجاعته ومروءته , وهكذا كلهم , وهم في الأصل قادة أبا عن جد من أشرف القبائل العربية التي وفدت من مصر إلى الجزائر , واستوطنت خاصّة في الشرق , لكن ما يعرفه الناس أنّ قبيلتهم من الجنوب الشرقي فقط .

والأم ( خاتم ) شريفة النّسب , لها أخ وحيد مرض وفقد بصره يزوره ورد ويستمتع بحديثه , وهو على قدر عال من الثقافة , كان يشتغل في دباغة الجلد , أبوها ( جد ورد من الأم ) ولي صالح , يتحدّثون عن كراماته , وآخرها أنّه قبل أن يتوفّاه الله ودّع كل جيرانه ورفاقه في المسجد , وأمها ( جدة ورد ) الجدّة مريم تعيش بين بيت ابنها وابنتها , حيث المنزلين قريبين , وكانت محبوبة جدا وحنونة , تحب أولاد وبنات بنتها وتأنس بالصّغار منهم , ورد كان يداعبها كثيرا , وعندما تغادرهم في المساء يرافقها إلى باب البيت يغني لها ( حنة لحنينة روحي وارواحي ) بمعني جدّتي الحنونة اذهبي وعودي , وهي ترقص , حتى تصرخ فيه أمّه أن يتوقّف مخافة أن تستمر في رقصها في الشارع فيقول النّاس أنّها بدأت تُخرِّف . الجدة مريم حنونة جدا , تحب الأطفال وتحب إسعادهم , تقدّم لهم الحلوى وتغضب أشد الغضب لو رأت أحدا يُعنّف أو ينهر طفلا , ورغم كل هدوءها اذ لا تكاد تسمع لها صوتا , فقد تصرخ في وجه من يفعل ذلك أمامها وتعاتبه بشدّة , وكانت تنصح ورد واخوته في وجبة الغذاء أن يُكملوا القصعة ولا يتركوا حبّات الكسكس المتبقيّة , فحسب زعمها أنّ هاته الحبّات تشكوهم إلى الله عزّ وجل وتقول : يالطيف أخذوا القوي وتركوا الضّعيف .

حنان الأب فاح شذاه في البيت , وفرشه وغطّاه بسكينة وراحة , كان ورد يأتيه كل يوم إلى محل القصابة في السوق , يفرح لمقدمه ويعطيه قطعة نقديّة عشرة دنانير يشتري بها كتاب حكايات , وقد كانت تستهويه كتب القصص الجميلة المطبوعة خاصّة في بيروت , وجمع الكثير منها , استطاع أن يملأ بها علبة كبيرة من الكارتون , كان يطلب شراء أي شيء من أدوات الرسم ولا يرفض له طلبا , فلم تكن تنتهي علبة ألوان الّا اشترى أخرى , خاصة أقلام اللباد التي كان وجودها في البيت من اللوازم اليومية كالسكر والزيت , وكان يأتي له بالهدايا والمفاجآت بلا أي مناسبة , فكثيرا ما يحدث أن يدخل ورد إلى البيت عندما يعود من المدرسة في المساء فيجد علبة كبيرة وسط الدار فيها دراجة ايطالية أحدث طراز . والأم ( خاتم ) فاقت كل حنان .

عماد هلالى
20-08-2018, 01:08 AM
رؤيا

رؤيا حيّرته عندما كان طفلا وظلّت تشغله طيلة حياته , أفاق في الصّباح يسأل أخته رشيدة ببراءة : خمّني ماذا رأيت البارحة ؟ قالت باستخفاف : ماذا رأيت ؟ قال لها : رأيت النبي . انتفضت أخته وأمسكته بكلتا يديها تسأله أن يُؤكّد لها صحّة ما يقول ويقصّ عليها رؤيته بالتفصيل , تعجّب ورد لهذا الإهتمام الكبير من الأخت وراح يروي ما رآه : رأيت النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يسوق سيّارة ( عرف فيما بعد أنّها كانت تسير في اتّجاه القبلة ) وكان على رأسه رداء أبيض يغطي وجهه بالكامل لكنني عرفت بأنّه النّبي , وكنت أنا واقفا على الطّريق ( في مكان في الحي يعرفه قرب بيته ) وأردت أن أرى وجه النبي , فصرت أدقق بصري في نافذة السيّارة , وعندما مرّت السيّارة بجانبي بقيت أتبعها , فالتفت الي النبي ( والرداء الأبيض لا زال يغطي وجهه الشريف ) من نافذة السيارة الخلفي انتهرني بشدّة وظهر لي غاضبا جدا مني . رغم أنّ الأخت فرحت كثيرا بهذه الرؤيا المباركة وهنّأته عليها لكنّه بقي إلى أن كبر منشغلا بها , ومهموما من غضب النبي عليه , فسّرها في نفسه أنّ الغضب منه كان بسبب فضوله الزّائد عن حدّه , ثم كبر هذا الهم وأصبح وسواسا , وصار يلوم نفسه على سعة خياله وأنّه يخوض بتفكيره في مجالات لا يجوز له الدخول اليها , قصّ رؤيته هذه مرة ( بعد أعوام عديدة ) على ابن اخته ( يصغره بعامين ) وصديقه , كانوا في منزل أخته الكبيرة فاطمة , فكذّبه هذا الصديق وسخر منه , وقال له : النبي لا أحد يراه هكذا يسوق سيارة . وبقيت الرؤيا تشغله إلى ما بعد تخرّجه من الجامعة حين قرأ كتابا مهما في الصلاة على النبي وعرف أنّ مجرد رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي منحة الاهية كبيرة ومطلب كل مؤمن, وبشرى خير , ليس لمن رآها فقط بل في كل المكان الذي شوهدت فيه الرؤيا, وفي كل البلد .

ورد الذي كان يأتوا به نائما إلى البيت , في أعوام طفولته الأولى , حيث يجدونه قرب البيت وقد غلبه النعاس وهو يلعب إلى أن نام في الشارع , يغرق في خياله ويغوص في عوالمه الخاصّة , لا يلعب مع أقرانه كعادة الأطفال , ومرّة وحيدة ناداه طفل من الحي لكي يلعب معه بالكرة , وكان أخوه الكبير ( اسماعيل ) وهو الأوسط بين الإخوة الثلاثة الكبار , يجلس على العتبة الطويلة خارج البيت , وغمزه هذا الطفل مشيرا اليه أن يذهب إلى أخيه الكبير هذا ويطلب منه أن يكون حكما عليهما في اللعب كحكام مباريات كرة القدم , ذهب ورد منفّذا خطّة صاحبه لكنّه قوبل برفض قاطع من أخيه , ولم يكن يعرف حينها أنّه قد ارتكب جرما كبيرا , الاّ عندما كلّمته أخته رشيدة بعد أيام قليلة , وكانت مريضة , وحدّثته وهي نائمة على الفراش بنبرة خافتة حزينة وكأنّها تُودّع الحياة وأرادت أن توصيه الوصيّة الأخيرة : لقد سمعت اسماعيل يُكلّم أمي البارحة وقال لها بأنّ ورد أصبح شقيّا مشاغبا يلعب في الشارع مع الأطفال الأشقياء المتشرّدين , يجب أن تعود إلى دينك وصلاتك , وتعود طفلا مهذّبا كما كنت . لقد أثّر هذا المشهد الدرامي الخطير في نفسيّة الطفل أيّما تأثير , ومن حينها لم يلعب في الشارع , ولم يلعب مع أقرانه كبقية أطفال العالم . وكانت هذه من بدايات ظهور قسوة الكبار وتأثيرهم على مجريات حياته فيما بعد , تكون عادة بحجّة الخوف عليه لكنّها في حقيقة الأمر تكون بدافع خفي تُحرّكه الغيرة والحسد , بسيطة وغير متعمّدة ربما في البداية , لكنّها مقصودة ومُخطّط لها فيما بعد , بهدف ورؤيا .

عماد هلالى
20-08-2018, 11:27 PM
خيال

خيال ورد لم يكن ذنبا يجب أن يتوب منه , وكانت رؤياه مباركة , فالمكان الذي وقف فيه عندما مرّ بجانبه النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية ازدهر بعد أعوام , وأصحابه صاروا من الأغنياء المعروفين في الحي , وبخياله الخصب اللا محدود تفتّقت مواهبه الفنية والإعلامية ونمت , عندما كانوا ينامون في السّطح في ليالي الصّيف الحالمة مع أبناء أخواته وأغلبهم متقاربين في السن , يُقدّم لهم برامج إذاعية بصوته فقط , يستمعون إليه بشغف كبير , فأفكار برامجه جذّابة ويقدّمها بطريقة تشويقيّة , كبرنامج يتحدّث فيه عن الأشياء الغريبة التي حصلت لبعض أفراد العائلة , وتصيبهم الدّهشة من غرابتها لكنّها حقيقية وحدثت فعلا في الواقع , و في إحدى غرف البيت سبورة مهملة , يرسم عليها بالطبشور شخصيّاتا من خياله ويحكي قصصا لها من تأليفه , يمحي ويرسم , يعرض أفلامه وجمهوره أخواته اللاتي يكبرنه , قصصه طريفة ومضحكة يستمتعن كثيرا بمتابعتها . وبيت جيرانهم فيه شرفة في السّطح تظهر من ساحة الفناء , يجمع الأطفال الصغار , يجلسون في الساحة ويُقدّم لهم من فوق عرائس يُحرّكها بيديه ويختفي هو تحت حائط الشرفة , تتكلّم العرائس بصوته وتتحرّك شخصيّاته في حكايات مختلفة . وعندما لم يعد لبئر المنزل أي جدوى وقرّرت الأسرة ملأه بالحجارة وغلقه , توفّرت في البيت حجارة كثيرة مسطّحة بأشكال مختلفة , فيتخيّل كل حجارة على شكل حيوان ما , ويرسم بأقلام اللباد الملوّنة مكمّلا شكل الحيوان الذي تخيّله ومحافظا على شكله الخارجي الّذي تخيّله .

يُشاهد ورد التلفاز كثيرا , ويُتابع كل ما يبثّه , حتى تلك البرامج الحوارية وخاصة الفنيّة منها , ويُتابع المسلسلات المصريّة التي كانت تبثها التلفزة على الساعة السابعة مساءا , يحب شارة بداية المسلسلات ويحفظ أسماء الممثلين , تستهويه أحيانا أن يأخذ ورقة ويكتب فيها أسماء الممثلين والممثلات , ويكتب العشرات منهم , وعنوانين المسلسلات والأفلام , إلى درجة أنّه أصيب باكتئاب شديد يوما , وسببه أنّه فكّر في أنّ أسباب الموت كثيرة وأنّ الإنسان مهما عاش ستنتهي به الحياة إلى الموت , فلماذا يعيش أصلا إذا كان سيموت في الأخير ؟ ثم تذكّر أنّ في الحياة أشياء جميلة مثل شارة بداية المسلسلات ( الجنريك ) . و يقرأ الجرائد والمجلات العربية الشهيرة التي تأتي من المشرق والخليج , ويصنع الرسوم المتحرّكة بنفسه بطريقة الرسم على هوامش الكتب والكراريس الكبيرة , بتحريك سريع للأوراق تظهر الرسومات كأنّها تتحرّك , ويُعطي لها أصواتا ويعرضها أحيانا على أخته فتتابعها بشغف , يستعمل كتب وكرّاسات إخوته القديمة , ولم يترك كتابا أو كراسا قديما في البيت الاّ حوّله إلى رسومات متحرّكة .

كابوس يتكرّر كثيرا في طفولته , وبقي يُطارده إلى أن كبر , كان يراه في منامه كثيرا ويقوم مفزوعا منه في قلب الليل , يرى مجموعة من الأشخاص المجهولين يمشون مع حمار في اتّجاه بيته , ويُنادونه : ورد .. ورد بصوت متواصل ومُخيف كأنّهم يُريدون به شرّا . وحتّى عندما أخذه الأخ الكبير مع أخيه الصّغير سمير إلى جولة كبيرة في مدن الغرب السّاحلية , كان عندما ينام في الشاطيء ليلا يتخيّل أنّ وحشا كبيرا في شكل يُشبه الديناصور أو التّنين يمشي باتّجاههم يريد أن يلتهم كل من في الشاطيء , كان ورد طفلا مُسافرا وزاده خيال .

عماد هلالى
21-08-2018, 11:33 PM
ليلة

ليلة عرس الأخ الأكبر أحمد رقص فيها ورد مع أخيه الصغير سمير وصوّرتهما الكاميرا يرقصان , سهرة لفرقة موسيقية في وسط الدار , وكان تصوير الفيديو جديدا تماما في الأعراس , وأغلب الحاضرين تعجّبوا من وجود الكاميرا , هي أول مرّة يرقص فيها أمام الناس حرّك جسمه فقط بحركات رشيقة وبسيطة تشبه الرقص الغربي , عكس أخيه سمير الذي يسخر من كل من يلقي بكلمة تعليق , وأشار إلى أحدهم بحركات يديه رامزا له بأنّه سمين وكان فعلا كذلك , فصنع مشهدا مضحكا في فيلم العرس . تزوّج الأخ الأكبر بسجيّة , فتاة من حي مجاور أمها لها بعض الأصول من العاصمة , زميلة الأخت رشيدة في الثانوية , دخولها إلى البيت قلبه رأسا على عقب , ولم يكن واضحا ذلك في البداية , رغم أنّ بعض النّسوة النمّامات والخبيرات بخبايا الأمور همست للأم ( خاتم ) أنّها تميمة نحس وستجلب لهم الشّر , ولم تعبأ الأم لهذا الكلام , بالعكس قرّبتها وعاملتها أفضل من بناتها , وأدخلتها في حياتها الإجتماعية وعلّمتها كل شيء , فهي سعيدة بزواج أول أبنائها وتريد أن تُسعده مثلما كانت تُدلله دائما , وأثبتت الأيام صدق قولهن , فالتي تربّت في البخل والشر عندما تعيش في ديار العز والخير ستجلب شرّها معها , لم يكن شيئا واضحا في البداية غير تصرّفات الكِبر التي كانت غريبة على ورد , وبدأ يشعر بالإنقباض النفسي في أوقات كان يعيشها بأريحية مطلقة , كوقت تجمّعهم عند وجبة العشاء , رغم أنّه عندما انتابه في ظهيرة يوم إحساس بوحدة قاتلة وشعر بحزن شديد بلا أي سبب , أخذه في المساء أخوه أحمد إلى وسط المدينة في نزهة , وأدخله محل حلويات , محاولا التّخفيف عنه , فهم حينها أنّ هذه الحركة الجميلة كانت بإيعاز من زوجته سجيّة , لأنّها رأته ممدّدا حزينا , لكن لم تشفع هذه الحركة الطّيّبة مع ما فعلته بعدها وطيلة هذا العمر , وربما كانت مجرّد حركة من عروس جديدة أرادت اثبات مكانتها في البيت الكبير .

ليلة اجتياز امتحان شهادة الإبتدائي نام ورد فيها مبكّرا في السّطح , ولم يكد يغفو حتّى سمع صوت استغاثة من مكبّر صوت المسجد يقطع سكون الليل , وكانت إشارة بداية الفتنة بين الفريقين في البلد , يختلفان في أصول النّسب فقط وفي المذهب الفقهي , كان خلافا بسيطا حينها حول قطعة أرض , ثم احتدم وأثار معركة كبرى أشعلت وأحرقت البلد , في ثلاثة أيام فقط تحوّلت المدينة إلى خراب ودمار , معارك بالحجارة بين الأحياء , سرقة وحرق المحلّات والمصانع . ورد في صباح إمتحان الشهادة أخذهم جارهم , هو وبعض رفاقه , أوصلهم إلى المدرسة , لكنّهم لم يجروا الإمتحان ورجعوا إلى بيوتهم . وفي تلك الأيام العصيبة مرض ورد , وعرف أنّه من النوع الذي يمرض في الحروب والنزاعات , ينام فقط مكتئبا صامتا , ولا يستطيع أن يتحرّك ولا أن يفعل أي شيء , وهكذا هو الورد يذبل في العواصف . كان الصّغار وحتّى الكبار من الجيران يسرقون الأواني وكل ما يجدونه في المحلّات والمصانع , وحرّمت عليهم الأم وحلفت يمينا قاطعا أن لا يدخل شيء من هذا إلى البيت , وكانت تؤكّد لهم فقط لأنّه لا أحد يفعل ذلك . وحين كانت الأسرة نائمة في فترة الظهيرة , وتكون الدنيا في قيلولة في صيف هذه المدن الصحراوية , جاءت الشرطة ودخلت كل ديار الحي الّا بيت ورد , وقال لهم مسؤول الشرطة أنّ هذا بيت شريف لا تفتّشوه , فلم يطرقوا الباب ولم يعرف أصحاب البيت بما كان يجري في الخارج حتى المساء عندما قصّوا عليهم الجيران بأنّ الدنيا كانت مقلوبة في الحي وأنّهم فتّشوا البيوت وأخذوا الكثير من الرجال والشباب . هدأت العاصفة وعادت البلاد إلى طبيعتها , وفي نهاية الصّيف أعادوا اجتياز شهادة التعليم الإبتدائي , ومع أنّه واثق من نجاحه لكن ليلة سماعه بفوزه بأعلى معدّل في الولاية كانت أجمل ليلة .

عماد هلالى
22-08-2018, 09:46 PM
أساسي

أساسي , هي تسمية التعليم الذي يفصل بين الإبتدائي والثانوي في تلك الفترة , حيث يتواصل ترتيب السنوات , من السابعة حتى التاسعة , يوم الدخول المدرسي ارتدى ورد سروالا قصيرا إلى الركبة بلون أحمر رمّاني داكن , ومئزرا أزرقا , وحمل محفظة جلدية كبيرة سوداء . في أول حصّة ناداه الأستاذ الذي كان يُعرّفهم بهذه المرحلة التعليمية التي انتقلوا اليها , ويعطيهم بعض التوجيهات والإرشادات , أوقفه بجانبه وقال لهم : هذا تلميذ نظيف . نقلوهم قبل أن تبدأ الدراسة ووزّعوهم على بعض المدارس لأنّه كان هناك بعض الاكتظاظ في الأقسام والمدارس . ورد تم نقله إلى ملحق في مدرسة إبتدائية معروفة في وسط المدينة , وبدأ تجربة أن يكون الطريق إلى المدرسة طويلا , ويمر بأهم المرافق في الطريق الأساسي المؤدي إلى وسط المدينة , كالسوق والمحلات الكبيرة . ورد لم يكن يستوقفه أي شيء في الطريق مثل واجهات المكتبات , عندما يكون يمشي ويمر على واجهة مكتبة يجب أن يتوقّف طويلا أمام الواجهة , ويقرأ كل عناوين الكتب المعروضة أمامه .

وبدأت تستهويه المجلات المشرقية الكبيرة , يترقّب وقت صدورها ويشتريها في طريقه , ومجلات الأطفال الفرنسية , مجلات الشريط المرسوم التي كان كل عدد منها يحتوي على هدية مميزة , ومجلة تونسية من هذا النوع يتابعها باستمرار . وصار يتابع أيضا بعض الجرائد الأسبوعية , وهي عادة تكون فنية ترفيهية , وهو يحب هذا النوع من المواضيع , يذهب ليشتريها من مكتبة صغيرة في أطراف الحي عند طريق السيارات الكبير . لون بشرته المائل إلى السمرة الشرقية وملامحه الوسيمة ربما دفعت فتاة تكبره سنا لمعاكسته , لاحظ أنّها تراقبه باستمرار , وهي فتاة من بلد أخرى تسكن في الحي , وهذا الحي الشعبي وكل المدينة يسكنها الناس الذين وفدوا تقريبا من كل ولايات الوطن , ويعيشون منذ زمن في ألفة , حيث تكاد لا تُفرّقهم عن السكّان الأصليين . في يوم كانت مع صديقتها في المكتبة التي يشتري منها الجرائد , وكان يلبس لباسا صيفيا خفيفا , اقتربت منه كثيرا حتى احتك ذراعها بذراعه , وهي أيضا تلبس فستانا مكشوف الذراعين , ارتبك وأحسّ بحرج شديد , وتصبّب جبينه عرقا , وخرج مسرعا , لحقته حتى عندما انعطف به الشارع كلّمته مباشرة بلهجتها العامية وقالت له : ( تشبك معايا ؟ ) أجابها مباشرة بدون أن يُدقّق في كلماتها : أنا لا أتكلّم مع البنات . وانصرف مسرعا إلى البيت , ولم يفهم أبدا معنى كلامها .

قبل وبعد الأساسي نشط مع أقرانه في الحي في جمعية ثقافية اجتماعية , جمعية عريقة نشطة , وتقيم الحفلات الكبيرة التي تشارك فيها كل العائلات والبيوت , تقام دوريا حفلة في ساحة الحي , يبدأ التحضير لها مبكّرا بتنظيف الساحة ورشّها بالمياه , ووضع الكراسي , يجلس الرجال في جهة والنساء في جهة , وتوضع منصة كبيرة حيث تُعرض المسرحيات والأناشيد , وتلقى الكلمات . كثيرا ما تكون هذه الحفلات مناسبة لختان جماعي للأطفال وتتزامن مع المناسبات الدينية خاصة . شارك ورد في المجموعة الصوتية للصغار , أشرف على تدريبهم أستاذ ومنشد كبير , صنعوا لهم لباسا خاصا , اختارو له تصميما تقليديا جميلا , وشاركو في حفلة المولد في حي مجاور . والجمعية تُصدر مجلة يكتب فيها الأساتذة وطلبة الجامعة , بمحتوى علمي قيّم , وفامت بدور ريادي في تثقيف وتنمية المجتمع , وأساسي .

ناديه محمد الجابي
22-08-2018, 10:16 PM
بداية مشوقة لقصة جميلة..
بلغة راقية وحكائية شائقة ، وقوة في التعبير والتصوير ، وأداء قصي طيب
قدمت لنا بداية لقصة نتمى أن نتابعها بكل الإهتمام..
لك أجمل التهاني بعيد الأضحى المبارك
ولك تحياتي وتقديري.
:010::001::010:

عماد هلالى
23-08-2018, 09:34 PM
شكرا جزيلا الأستاذة الفاضلة نادية محمد الجابي , كلماتك شهادة أعتز بها , ومتابعتك الكريمة وتعليقك المشجّع يدفعاني إلى المواصلة والإبداع , خالص تحياتي وتقديري , عيدكم سعيد مبارك كل عام وأنتم بخير , بصحة وسلام , كل أساتذة وزوار رابطة الواحة الثقافية , وكل الأمة العربية والإسلامية

عماد هلالى
23-08-2018, 09:36 PM
أول

أول ما دخل ورد المرحلة الثانية من التعليم الأساسي , راقه تغيّر طريقة التعليم , سيقوم بتدرسيهم مجموعة من الأساتذة , ويدرسون مجموعة من المواد , وتتغيّر علامة التنقيط , ستصبح العلامة على عشرين بعدما كانت عشرة , ويُحسب المعدل العام على عشرين بعدما كان على مائة , ويُسجّلون النتيجة على كشف نقاط فيه ملاحظات الأساتذة ويُرسلونه إلى عنوان البيت بعدما كان يُسجّل ذلك في الدفتر المدرسي ويمضيه ولي أمره , هذه التغييرات أعجبت ورد جدا وتحمّس كثيرا لهذا التعليم . ظهر تفوّقه العظيم مع بداية الدّراسة ولفت انتباه الأساتذة , ليس في مدرسته فقط التي كانت عبارة عن ملحق لإكمالية كبيرة في وسط البلد , بل في هذه الإكمالية التي تصلها معدّلاته ويُدرّسون فيها أساتذته , فقد كانوا يحكون عنه بتعجّب شديد , وانتشرت الحكايات عن تفوّقه الدراسي المبهر في البلد واشتهر . نتيجته في أول فصل كانت قريبة من تسعة عشر على عشرين , ثمانية عشر وفواصل قريبة من الواحد , حصد أعلى معدل في الولاية , وقدّموا له شهادة تهنئة , وحصل عليها في كل معدّلات العام .

كبقية أقرانه تابع ورد في تلك الفترة مسلسلات الرسوم المتحرّكة التي كان يعرضها التلفزيون , وقت بث حلقاتها تقريبا الخامسة والنصف في المساء , يعني وقت خروجهم من المدرسة ووصولهم إلى البيت , لذلك كانوا يقطعون المسافة جريا , لكي لا يفوتهم أي شيئ . لم تكن كمسلسلات الكارتون الآن تافهة وخالية من كل مضمون , بالعكس كانت عبارة عن قصص مشوقة بمواضيع إنسانية كمسلسلات الدراما , منها ما اقتبست قصّته من رواية عالمية كتوم سوير لمارك توين , حتى عندما تكون الشخصيات عبارة عن حيوانات فإنّها كانت مؤثرة لا تخلو من العِبر وتُقدّم رسالة مثل محبّة الأم في مسلسل النحلة ( بشار ) الذي خلت الشوارع ساعة بث حلقته الأخيرة وتابعها حتى الكبار وبكوا تأثّرا . الدّبلجة العربية كانت راقية وجميلة بلغة سليمة يتعلّم منها الأطفال حين يشاهدونها وتزيد ملكتهم اللغوية , والرسومات والألوان جميلة تنمّي وتشبع الحس الذوقي والجمالي .

قسمه الدّراسي في الطابق الأول يصعدون إليه بسلالم في جانب الساحة , وورد لفت انتباه أساتذته أيضا بخلقه الرّفيع وأدبه الجم , أثنوا عليه وعلى حسن تربيته , يشارك في الدروس بمداخلات ذكية وخاصة في حصّة الأدب العربي . في عشيّة يوم دخل عليهم أستاذ جديد في المدرسة لا يُدرّسهم ولم يروه من قبل , وقف على المنصّة أمام السّبورة , رأى وردا وناداه مباشرة : تعالى يا ولد . نهض من على مقعده الذي كان في الأمام , عندما وصل إليه واقترب منه , صفعه بكفّه على خدّه صفعة قويّة , بلا أي سبب . تمّ ذلك تقريبا وقت خروجهم . قطع ورد طريقه إلى البيت باكيا ورفاقه معه يُحرّضونه أن يشكي هذا الأستاذ ويُخبر عائلته بما فعله به , ورد لم يفعل أو يقل أي شيء وكتم حسرته في قلبه . بعد أيام دخل عليهم هذا الأستاذ في فترة الصّبيحة عندما كانوا يتأهّبون للخروج , ذهب إلى ورد وطلب منه الصّفح بكلمات لطيفة وخرج معه مربّتا على كتفه . هبط معه السلالم أمام تلاميذ المدرسة في فترة الإستراحة , محاولا التّكفير عن فعلته وإصلاح ما سبّبه له من إساءة وإهانة . الأستاذ تم تعيينه جديدا وأراد أن يقوم بحركة يفرض بها سيطرته , حيث يدخل إلى قسم وأول تلميذ مهذّب صامت تقع عليه عيناه يضربه , ويبدو أنّهم أخبروه بأنّه ضرب أفضل تلميذ في المنطقة كلها , وأول .

عماد هلالى
25-08-2018, 12:09 AM
تعبير

تعبير ورد بدأ يرتقي أسلوبه أكثر ويتطوّر , في الرسم اهتدى إلى طريقة الحبر الصيني , يرسم بقلم الحبر الإحترافي الذي يستعمله المهندس المعماري , وتختلف الأقلام حسب الدرجة والرقم . رسومات تعبيرية , يستعملها خاصّة بجانب أشعاره التي يكتبها , وتعبيره في الشعر أيضا تغيّر أسلوبه , ومال إلى شعر التفعيلة أو الشعر الحر . كتب قصائد رقيقة التعابير , بعنوان " دموع في مهب الريح " , " تحت أسوار المدينة " , و " كلام " ومواضيعها كلها حول الجرح الفلسطيني وصمت العرب , كتب قصة قصيرة بعنوان " لحظة ضياع ابنتين " , وألّف بعض الروايات , كتب الرواية في كراس رسم بخط يده ووضع لها رسوماتا مصاحبة لها بالألوان , فصارت مثل الكتاب الحقيقي الذي يشتريه من المكتبات . صنع واحدة بعنوان " ابن الأقدار " عرضها يوما على أستاذه في اللغة العربية فلم يُصدّق أنّه هو من صنعها , وآلم ورد ردة فعل الأستاذ في تكذيبه ولامبالاته . وروايتين لم يتمهما " دارت الأيام " , " وهدأت العاصفة " . كان ورد قد انتقل إلى الإكمالية الكبيرة مع انتقاله إلى السنة الثامنة , وفرح بأن صار للرسم حصة خاصة , ودرّسه أستاذ رسم وخط عربي تعلّم منه كثيرا وأثّر فيه , أعطاه مرّة لوحة رسمها ليراها , قال له الأستاذ : لماذا أمضيتها بالفرنسية ؟ لماذا لا تخط إمضاءك بالعربية ؟ ومنذ ذلك الحين صار يمضي بالعربية .

يقضي ورد أوقاتا كبيرة في رسوماته وإبداعاته , يجلس بجانبه أبناء وبنات أخواته , تعلّموا وحرّك فيهم الحس الفني والجمالي الذي أثّر في حياتهم كلها , لكنّهم أنكروا عندما كبروا وجحدوا . ومع كل مرحلة يدخل يومياته أصدقاء جدد , رفيقان يقضي معهما أسعد الأوقات ( شوقي ) تراهن معه يوما على أنّ من يخسر يأتي بعشرين خبزة لصاحبه , وخسر شوقي وأخذ الكمية كاملة العدد من الخبز إلى بيت ورد , الذي لم يكن هناك وخرجت أخته مريم وتعجّبت من كل هذا الخبز , وظلّت تذكرها لأعوام عديدة , و ( سليمان ) وهو من الفريق الآخر في البلدة المختلفين في العرق والمذهب الفقهي , أمه من بلدان الشمال , كان يأتيه بالهدايا غالية الثمن من فرنسا , ويجلس معه أوقاتا طويلة في بيت ورد يحكي له عن مأساته من المشاكل اليومية بين أمه وأبيه ويبكي , ويبكي ورد معه . و ( زكريا ) زميله في القسم الذي نافسه في التفوق الدراسي , يقضيان أوقاتا يتناقشان ويغوصان في مواضيع عميقة , وينسيان الزمن والدنيا التي حولهما . وبدأ في هذه الفترة يكتب مذكّراته في سجل , ويمنح أصدقاءه بعض الصفحات يُعبّروا فيها .

نشط ورد في المسرح المدرسي منذ مدرسة الإبتدائية , حيث مثل في مسرحيّتين في قاعة سينما البلدية , وفي المتوسّطة قام على تدريبهم أستاذ مؤطر مكلّف بالنشاط , أعطاه دور الشخصية الإسلامية الكبيرة " ابن تيمية " رحمه الله , في مسرحية كبيرة , دوره فقط ملأ كراسا كاملا , فيه حوارات كثيرة وخطب طويلة , والمسرحية كلها بالعربية الفصحى . أعطاهم فرصة أيام العطلة ليتدربوا عليها , ورغم أنّ ورد كان في بيت أعمامه حينها مع كامل أسرته , لأشغال كانوا يقومون بها في منزلهم , وقد تغيّرت عليه ظروف السكن , الاّ أنّه حفظ دوره كاملا , ومثّله ببراعة , هو ومن مثّل دور أخ ( ابن تيمية ) وبكى في مشهد احتضاره مع أخيه , كان مشهدا مؤثّرا إلى درجة أنّ أستاذة كانت تشاهد المسرحية بكت كثيرا , اذ قام بأدائها بفصاحة وشجاعة أدبية , مع صدق تعبير .

ناديه محمد الجابي
25-08-2018, 08:11 PM
سيرة ذاتية هى إن لم تكن لك فهى لشخصية قريبة جدا منك
طفل ذكي وموهوب ، وفنان متعدد المواهب ـ وقد عشت كل تفاصيلها الواقعية
وعبرت عنها بمنتهى التمكن.
يسعدني إنك أثناء قصك تعرفنا على بعض عادات بلادك وتقاليدها لأجد أن الكثير منها تتماثل
والعادات الليبية .. مثلا .. ذلك الرداء الأبيض ( القمبوز) ـ هو نفس ما كانت المراة الليبية ترتديه
ويسمى ( الجرد) ـ والجدة هنا تدعى( حنة) أيضا .
أما صينية الشاي أو ( عدالة الشاهي ) كما يسمونها هنا فلها شأن كبير في حياة الليبين
ولكن لا تقتصر على فترة الضحى فقط ، بل هى في كل الوقات.
ويسمى الفول السوداني عندكم (كوكاو) وفي ليبيا ( كاكاوية).
مستمتعة أنا بقصك وسردك حتى وإن كان ينحى في بعض المقاطع إلى السرد الخبري المباشر
ولكن في النهاية تبقى قصتك جميلة وسردك شائق .
ومازلت متابعة معك بكل اهتمام.
:sb::sb::sb:

عماد هلالى
25-08-2018, 10:07 PM
شكرا جزيلا الأستاذة الفاضلة نادية محمد الجابي , تسعدني وتشرّفني متابعتك الكريمة وتدفعني إلى الأمام , وملاحظاتك أهتم بها جدا , ظهر بعض السرد الخبري ربما لأنّني أكتب عن أحداث حقيقية وأريد نقلها كما وقعت , والأحداث كثيرة , حاولت أن أعطيها القالب الفني , لكن بعد ملاحظتك القيّمة سأهتم أكثر بهذا الجانب . تعجبني قراءتك الذكيّة وهي فعلا سيرة ذاتية لي , حقيقية بكل تفاصيلها الصغيرة , غيّرت فقط في الأسماء حفاظا على خصوصية الأشخاص , وفعلا العادات والتقاليد الليبية الجميلة قريبة جدّا من عاداتنا في الجنوب الجزائري , وتحيّة لليبيا الجميلة وأهلها الفرسان الطيبين وان شاء الله نراهم في أحسن الأحوال ونلتقي بهم في أسعد الأوقات , شكرا جزيلا بارك الله فيك

عماد هلالى
25-08-2018, 10:10 PM
مسرحية

مسرحية أخرى قدّمها ورد بعد مسرحية " ابن تيمية " , مع زملائه في مدرستهم الإكمالية , برعاية نفس الأستاذ المؤطّر , في حفلة آخر السنة , وهذه المرة المسرحية كوميدية , ومثّل فيها الدور الرئيسي , وهو شخص محترم خلوق يحيط به مجموعة من المشاغبين يحاول أن ينصحهم . المسرحية طويلة و حضرها جمهور كبير حتى من خارج المدرسة , ضحكوا كثيرا وأعجبهم دور ورد . وكتب قصيدة تأثّرا بشهيدة فلسطينية اهتم بها الإعلام حينها " سناء محيدلي " بعنوان " الحرية تزور سناء محيدلي " . يكتب قصائده في سجل خاص به مع رسومات تعبيرية مناسبة , ولم يكن ينشر بعد , يشارك فقط برسوماته في المعارض التي تقيمها الجمعية النشطة في الحي . تأثرا أيضا بالصمت العربي المخزي تجاه ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلّة كتب بنفس الطريقة قصيدة بعنوان " مشهد من مسرحية " .

في السنة التاسعة أساسي , لاحظ ورد التغيرات الفيسيولوجية التي بدأت تظهر في جسمه , وهي علامات البلوغ الطبيعية , الرائحة المنبعثة من تحت الإبط شمّها حين كان في القسم , ونبتت شعرات الشنب . وفي ليلة بينما كانت كل الأسرة مجتمعة على مشاهدة مسرحية في التلفزيون , تسلّل إلى صالة الحمّام دون أن يلاحظه أحد . شاهد نفسه في المرآة جيّدا وقرّر أن يحلق هذه الشعرات التي نبتت في الشارب , فتّش المكان ولم يجد الّا شفرات حلاقة موضوعة على الرّف تحت المرآة , ولم يكن يعرف أنّ هناك آلة خاصة بحلاقة شعر الوجه . أخذ شفرة الحلاقة وأخذ يمرّرها مباشرة بين أنفه وفمه , وامتلأ هذا الجزء من وجهه بالجروح وسالت دماء غزيرة . أتمّ عمليّته ونشّف وجهه , أحسّ بحرج شديد أن يخرج هكذا ولحسن حظّه أنّ جميع من في الدّار قد أطفؤوا النور وتسمّروا حول التلفاز يشاهدون المسرحية , وخرج مسرعا في الظلام ولم يلاحظه أحد . لكن في الصّباح صار حديث تلاميذ المدرسة وسخريتهم , وتحوّل ما فعله بنفسه إلى مسرحية .

مساء كل إثنين تقام مسابقة بين الأقسام , قسم ورد تأهّل إلى النهائي , وتمّ تكليفه بالإجابة على الأسئلة , أجاب إجاباتا صحيحة في كل المواد وحصلوا على علامات كاملة . في فقرة النشاط كان قد حضّر مسرحية إسلامية تاريخية بعنوان " المحروم " لكن رفاقه لم يحفظوا أدوارهم , وبعد أن أتم القسم المنافس نشاطه , وكان عبارة عن رقصة الإنسان الآلي أدّاها صديقه شوقي , حيث ضجّت القاعة بالتّصفيق والهتاف , جاء دورهم ولم يعرفوا ماذا سيقدّمون . فكّر ورد قليلا ثم اتّجه إلى أستاذ اللغة العربية الذي كان يُنشّط الحفل قال له هامسا : عندي قصيدة من تأليفي ألقيها . ذهب الأستاذ إلى لجنة التحكيم أخبرهم , قال أحدهم : ماشاء الله . قرأ ورد قصيدته : دموع في مهب الريح . صفّقوا كثيرا له وطلبوا منه إعادتها , حين خرج حيّاه أستاذ التاريخ وشكره , وسمع التلاميذ يتهامسون بأنّ ورد لم يؤلّف القصيدة وأنّ أستاذ اللغة العربية هو من أعطاها له ليقرأها , وآلم ورد هذا كثيرا . في طريقه إلى بيته رافقه ابن خاله الذي يكبره ( طالب ) وحدّثه عن معرض سنوي تقيمه جمعية ذات نشاط إسلامي كبير في المجتمع , كانت رائدة في فترة ظهور ما أسموه الصحوة الإسلامية , اقترح عليه أن يشارك فيه برسوماته , وحدّثه عن جريدة يوميّة أعجبته ( المساء ) فبدأ ورد يتابع هذه الجريدة وترك جريدته المفضّلة الأسبوعية الفنية ( أضواء ) , التي كان يسعد بمتابعة الأخبار الفنية فيها , وجديد أغنية أو فيلم , أو مسرحية .

عماد هلالى
26-08-2018, 11:04 PM
أيام

أيام الصّيف التي سبقت مرحلة الدّراسة الثانوية , جاءت خصبة بالإبداع , صنع ورد قصّة بالشريط المرسوم بالألوان " أبناء الحجارة " , وأخرى " وداعا أبنائي " ألّفها ورسمها , وابتكر شخصيّاتها , موضوعها عن الأم , في قالب اجتماعي شبيهة بالدراما المصريّة التي يتابعها كثيرا . رسمها وخطّها بيده بقلم الحبر الصيني , في كتاب متقن كأنّه قد تم إنجازه في مطابع محترفة . دخل ورد الثانوية , أحبّ الإعلام الآلي الذي ظهر وهو بطبيعته محبّا للجديد , وهذا المجال يجد فيه نفسه لأنّ مساحة الخيال والتجريد فيه كبيرة , لكن وجّهوه لشعبة العلوم , وكان صديقه وزميله في الإكمالية زكريا قد تأثّر باختياره هذا فذهب إلى الإعلام الآلي فقط لكي يبقى معه , ولم يحصل ذلك . افترق ايضا عن صديقه شوقي , وسليمان في نفس الثانوية لكن في قسم آخر , وتكوّنت صداقة جديدة مع زملاء جدد , ولأول مرّة درست معه البنات . أحسّ بضعف طفيف في البصر بسبب كثرة الكتابة والرسم الدّقيق , لم تعد كتابة الأستاذ في السبورة واضحة لديه , فجلس في المقعد الأمامي وأغلب من حوله بنات , تعرّفن على مواهبه وعرض عليهن كتابه الذي صنعه " وداعا أبنائي " , وبدأ يقرأ الروايات ويتبادل مع بعض البنات كتب " نجيب محفوظ " , ورافقته رواية " السمان والخريف " في أجمل أيام .

يدرس في أقدم ثانوية في المنطقة , يذهب جريا دائما , يتأخّر في الخروج من البيت , يقطع الوادي الشهير في المدينة . ورد الذي كان يبكي في الصباح عندما لا يعجبه لباسه ولا يريد أن يذهب به إلى المدرسة في الإبتدائي , في الثانوي اهتمامه بزيّه بلغ ذروته . عادة في المدارس الثانوية يظهر البعض ممن ينتمون إلى العائلات الغنية يلفتون انتباه الجميع بمظهرهم ولباسهم المساير للمودة , كل يوم تراهم في زي لا تراهم فيه مرة أخرى , ورد كان من هؤلاء , يختلف عنهم فقط في أنّهم تميّزوا بالزي فقط , وهو امتلك المظهر والجوهر . ظهرت مودة حمّالات السروال , والمودة تذهب وتعود , فذهب إلى عمه ( أبي موسى ) طلب منه مبلغا معتبرا , ولم يسبق أن طلب منه حيث كان يعطيه من تلقاء نفسه في كل زيارة , سأله : ماذا تفعل به ؟ قال له بأنّه شيئا للّباس , فحسبه بدلة أو ما شابه , لكنّه اشترى به فقط حمّالة سروال مستوردة من فرنسا , سوداء عليها كتابات بالياباني بيضاء , تزيّن بها في أيام .

في صيف العام الأول في الثانوي , وجد في الجريدة التي يقتنيها باستمرار اعلانا عن مسابقة وطنية لقصص الأطفال , ينظمها مركز ثقافي في مدينة شرق الوطن , حدّدوا موضوعها عن حلم يحلم به الطفل , كتب قصة في الموضوع وأرسلها , بعد مدّة وجد في الجريدة اسمه ضمن قائمة الناجحين العشرة , بالرتبة السادسة , وجاءته رسالة ليستلم جائزته بالبريد . ذهب رفقة أخيه الكبير أحمد إلى مركز البريد القريب من السوق واستلما طردا كبيرا , فتحه أخوه في البيت , فيه مذياع كبير , ومجموعة كتب قيّمة وقصص أطفال , وبعض منشورات المركز الثقافي , مثل منشور قيّم عن تاريخ السينما الجزائرية . بعدها في أول جوان طلبت منه الجمعية النشطة في الحي أن يشارك في حفلها السنوي وفيه ختان جماعي للأطفال , ألّف قصيدة بالمناسبة في نفس اليوم وألقاها أمام جمهور كبير من الرجال والنساء , بصوت جميل وإلقاء جيد , صوّرتها الجمعية في شريط فيديو احتفظت به وأصبح من أفلام الفيديو النادرة . ومع بداية الدّراسة الثانوية بدأ يكتب مذكّراته , بشكل جميل في سجل كبير حوّله إلى معرض مُبهر لإبداعاته ونجاحاته أسماه " أيام " .

عماد هلالى
27-08-2018, 11:30 PM
نشر

نشر الإبداعات الأدبية والفنية في سجل الذكريات " أيام " أعطاه دافعا أكبر للكتابة والرسم , أدرك ورد منذ البداية أنّ المبدع يجب أن يُخرج أعماله إلى النور , ويراها الناس , كي يستمر ويتطوّر , وأنّ الأفكار لو بقيت في ذهن صاحبها ستموت , وتموت معها روح الإبداع . جعل من سجل " أيام " وسيلة إعلامية فريدة , ليست بمجلة ولا تلفزة أو معرض , هي عالم جميل تدخله بسلاسة , وتجد نفسك تتجوّل في أروقته وأنت تتصفّح الأوراق الجميلة التي تفنّن فيها بأساليب الرّسم واللصق . كتب ورسم إبداعاته وترك المجال لأصدقائه وزملائه كي يبدعوا ويعبّروا عن مشاعرهم , يُعطي في كل مرة أحد أصدقائه ورقتين له , يكتب ويرسم ويُلصق ما يشاء , مع عمود على جانب الورقة أسماه " البطاقة المُقيَّدَة " فيها معلومات شخصية وأسئلة متنوعة مثل لونك المفضّل , أحسن فيلم شاهدته , أكتب بيت شعري أعجبك لأحد الشعراء , وغيرها من الأسئلة الطّريفة المتنوّعة , فكانت أجمل وسيلة إبداع ونشر .

ورد عندما كان صغيرا يدرس في الإبتدائي شاهد مسلسلا مصريّا في التّلفزة حاز على شعبيّة كبيرة وتابعه النّاس باهتمام كبير , ونهاية الحلقة الأخيرة لم تُعجبه , رأى أنّ فيها ظلما كبيرا وأنّ العدالة لم تأخذ مجراها , فكتب رسالة شديدة اللهجة موجّهة إلى مخرج المسلسل ينتقده فيها , لكنّه حين كتبها احتار ولم يعرف العنوان الذي سيرسل رسالته إليه . هذا الحس الثّوري النّاقد بقي معه وأخذ قنواته الطبيعية عندما كبر قليلا , ففي صيف عامه الأول الثانوي عرض التلفزيون برنامجا فنيّا هزليّا أثار سخطا كبيرا عند الجمهور , واغتاظ منه ورد فكتب رسالة مفتوحة ينتقد فيها البرنامج بأسلوب لاذع وجميل , أرسلها إلى جريدته التي كان يتابعها ( المساء ) ونشرتها في صفحة القراء , وظهر اسمه في الجريدة مع اسم بلدته , بعد أيام انتقده أحد القراء ونشرت نقده هذا الجريدة في نفس الصفحة , أثار موضوعه ضجّة , لم يعرفوا سن كاتبه وحسبوه أستاذا كبيرا . بعدها نشرت له الجريدة قصيدة " يوميات صلاح " في صفحة " إبداعات " , ثم نشرت له رسما كاريكاتوريّا كتبوا فوقه بريشة القرّاء , سخر منه بشكل شعار ( لوغو ) جديد اعتمده التلفزيون شبّهه برأس مهرّج , وهكذا تنوّعت ونمت مواهبه بين كتابة ورسم , ونشر .

المسابقة الوطنية لقصص الأطفال التي فاز فيها بالرتبة السادسة , في العام الثاني نشرت إعلانها لموسم جديد , واختارو هذا المرّة مجال الخيال العلمي , والموضوع هو اختراع كبير يساهم في إعادة مجد الأمة العربية , كتب ورد قصة قصيرة بعنوان " كوكب العرب " عن عالِم عربي يخترع جهازا يطلق غازا يصعد إلى مسافة مُحدّدة , يلتف حول كوكب معيّن ويُغلّفه , فتصير الحياة ممكنة في هذا الكوكب , جرّبه العالم في أحد كواكب المجموعة الشمسية , نجح الإختراع لكن العالم مات بسبب إنفجار الجهاز , وكان يعرف أنّه سينفجر ويودي بحياة من يُشعِله وهذا عيب اختراعه الوحيد , وليس له من سبيل غيره , فأوصى ابنته التي تعمل معه في بحوثه العلمية أن يسكن العرب هذا الكوكب تكريما لإسهاماتهم في النّهضة العلمية . بعد مدّة ابتهج ورد وسًرّ كثيرا عندما وجد اسمه على رأس قائمة الفائزين العشرة , فقد حصل على المرتبة الأولى في هذه المسابقة التي شارك فيها أكثر من ألف طفل من مختلف ولايات الوطن , نُشِر الخبر وظهر اسمه مرافقا لاسم بلدته في أهم الصحف الوطنية , وبثّت التلفزة حفل توزيع جوائز المسابقة في نشرة الثامنة , ولم يذهب لاستيلام جائزته التي من المفترض أنّها كبيرة هذه المرّة , لأنّه لم يجد من إخوته الكبار من يهتم ويرافقه , ولم يكن بإمكانه السّفر منفردا لبعد المسافة مع صغر سنّه , واكتفى بفرحة فوز ونشر .

عماد هلالى
29-08-2018, 12:14 AM
رحلة

رحلة الإبداع والنشر تواصلت في سنوات الدراسة الثانوية , وبعد مشاركته في مسابقات الأطفال جرّب الدخول إلى مسابقات الكبار . شارك في مسابقتين وطنيتين , واحدة في الفن التشكيلي , وأخرى في القصة القصيرة . الأولى ردّوا عليه برسالة أثنوا فيها على مشاركته , وأبدَو إعجابهم بتعبيره , فقد كان الموضوع عن الوحدة العربية , ثم وجّهوا له دعوة للمشاركة في لقاء تأسيسي لمنظمّة تدعو إلى الوحدة العربية , واكتشف أنّ المسابقة تم تنظيمها فقط من أجل تأسيس هذه المنظمة , ولم يُجبهم . الثانية ردّوا عليه برسالة لتأكيد أنّ قصّته " ليلة صابر الأخيرة " قد وصلت وأنّها بين أيدي لجنة التحكيم , لكن لم يصله خبر نتيجة المسابقة . ونشرت له مجلة شبابية وطنية مشاركة له في صفحة فكاهة وتسلية " الفهامة " أهداها إلى كل من كتب في سجل " أيام " , والإبداع الأدبي والفني هو أجمل رحلة .

في صباح يوم , سمع أصدقاءه في القسم يسخرون من زميل لهم أخبرهم أنّه رأى صحنا طائرا . ورد صدّقه وسأله منفردا أن يحكي له بالتفصيل ما رأى , لأنّ مساحة الخيال عنده كبيرة ولأنّ صديقهم هذا خلوق ولا يعرف الكذب . قال له بأنّه كان جالسا خارج البيت وقت المغرب , شاهد صحنا فضائيا لمع ثم اختفى , ووصفه له , مثلث الشكل بضوء في كل زاوية . بعد أيام قرأ ورد صدفة خبرا في جريدة عن أشخاص في جنوب بلجيكا شاهدوا أطباقا طائرة , والعجيب أنّها كانت بنفس المواصفات , أخذ الجريدة إلى صديقه وألصق قصاصة هذا الخبر في سجل ذكرياته " أيام " . ذهب في رحلتين نظّمتهما الثانوية للتلاميذ النجباء , واحدة إلى بلاد القبائل , جلب منها هدايا مجوهرات فضيّة تقليدية إلى أمّه التي فرحت بها كثيرا وسلّات من السّعف إلى البيت , لكن أخذتها كلها الأخوات الكبار كعادتهن في أخذ كل شيء جديد يلمحنه في البيت , فهذا يرونه من حقهن , بينما لا تستطيع أنت الإقتراب من أتفه الأشياء التي يمتلكونها في بيوتهن , وذهب إلى تلمسان في ثاني رحلة .

شهادة البكالوريا لم يُحضّر لها ورد شيئا , كلّما صعد إلى غرفة في السّطح آخذا معه كراريسه وكتبه , كي يجلس في هدوء ويدرس , يسأم وينتابه الشعور بالملل , فيضع أوراقه جانبا ويشعل التلفزيون ويتابع المسلسل المصري . أجرى إمتحانات البكالوريا بسهولة وكانت اللغة العربية آخر مادة , بقي يكتب على ورقة الإجابة حتى انتهى الوقت , فقد أعجبه التعبير الكتابي , إلى أن جاءه الأستاذ المراقب الذي بقي وحيدا يطلب منه أن يُسلِّمه الورقة ويتركه يغادر . خرج فوجد المدرسة فارغة , وكان آخر من خرج منها , سمع خبر فوزه وجاءتهم في الليل الأخت الكبيرة ( فاطمة ) مع زوجها الذي أخذ يناقشه في التخصّصات التي يختارها في الجامعة , فهو مع جهله يحشر نفسه في كل صغيرة وكبيرة , ويتدخّل في حياته , ولطالما عقّد نفسيته عندما كان صغيرا وسخر منه ومن نجاحه . في الصّيف ذهب إلى رحلة إلى البحرتُسميِّها الجمعية الّتي تُنظّمها مخيما إسلاميا , حشرت كل سكّان البلدة في الشاطئ مقسّمين حسب أحيائهم الشعبية . عاش أجواءا غريبة لم يسبق له معرفتها , وكان يخلو في المخيم يكتب سيناريو لمسلسل تلفزيوني كأول تجربة له . في مساء آخر يوم قبل الحفل الختامي جاءه خبر اختياره كأحسن متخلّق في المخيّم , وهذا تقليد في هذه المخيّمات , وتُمنح للفائز جائزة كبيرة , لكن في الحفل غيّروه وأعطوها لشخص آخر لاعتبارات لم يفهمها , في تنظيم حاول أن يختزل الإسلام في رحلة .

عماد هلالى
29-08-2018, 10:59 PM
قطار

قطار هذا الزمن , يسير بلا دخان . هكذا قالوا , لكنّه بالنسبة لورد يسير بدخان كثيف . أخذ البكالوريا شعبة علوم , كان يحلم بالدخول إلى مدرسة الفنون الجميلة , لكن العائلة تعتبرها دراسة تافهة بالنسبة لمستواه وما يأملونه فيه . التوجيه الجامعي يمر بمراحل تبدأ باستمارة الاختيارات التي ملأها بأهم التخصصات العلمية , وتنتهي برسالة التوجيه التي تأتي بعد الفرز , الذي لا أحد يعرف كيفيّة ومعايير اجرائه . جاءته رسالة التوجيه بتخصص غريب حيّره , وهو تقني في السكك الحديدية . قرّر التحويل إلى تخصّص آخر , ذهب مع أخيه الكبير ( اسماعيل ) إلى العاصمة لاجراءات التحويل , كانت البلاد تشهد تحوّلا سياسيا كبيرا في بداية التسعينيات مع الإنفتاح وظهور الأحزاب . ظلّ الأخ الكبير يملي عليه كيف يمشي , وكيف يسير , ويوصيه بالحذر , لدرجة تفقد ثقته في نفسه , وهكذا يفعل اخوته الكبار عندما تحين لهم الفرصة وينفردون به , بعقلية الأبوية المتسلّطة وتنفيسا عن غيرتهم وحقدهم من معاملة أبويه الجيّدة له وثقتهم فيه , وعاد به من العاصمة بلا أي نتيجة , وبقي يسكنه هاجس أن يمضي حياته تقني في قطار .

فتحت الجامعة في البلد الأقرب شمالا تخصصا جديدا , العلوم الإقتصادية , اغتنم هذه الفرصة وسجّل فيها . تناسبه العلوم الإنسانية عموما , لم يجد صعوبة في الدّراسة رغم أنّ التخصّص يختلف عن دراسته الثانوية , حافظ على تقدّمه الدّراسي , وحاز على علامات قريبة من العشرين . سكن معه في الحي الجامعي صديقه في الإكمالية ( زكريا ) ودرست معه في الجامعة في نفس المدرّج والتخصّص ( رنا ) ابنة ( لبنى المصرية ) , كانت ملفتة بمظهرها وأزيائها , ولم تكن محجّبة . أعدّ مع زملائه مجلة ورقيّة دوريّة " العلوم الاقتصادية " تكفّل بإخراجها الفني ووضع الرسومات والخطوط , نشط في نقابة طلابية , كرئيس لجنة الإعلام , رسم الكاريكاتور , والمجلات الحائطية , ونشط في المنتديات والمعارض . نشرت له الجرائد العديد من الأشعار برسوماته بالحبر الصيني , كاريكاتور آخر في جريدة ( المساء ) , قصة قصيرة في جريدة أسبوعية متنوّعة ( الشروق العربي ) , أجرت معه جريدة أسبوعية وطنية حوارا مطولا عنه وعن مواهبه المتعدّدة , وكتب عن مأساته في توجيهه الجامعي قصة قصيرة بعنوان " قطار " .

شارك بقصتة القصيرة " قطار " في مسابقة وطنيّة نظّمتها جريدة حزبية تنتمي لما يُعرف بالإسلام السياسي الوسطي , وفاز بالجائزة الثانية , نشرت الجريدة خبر فوزه , لكنّه لم يحصل منها على أي جائزة . تكلّم في قصّته بجرأة عن سوء التّوجيه الجامعي , وسخر من مهازل الإدارة التي تعبث بمصائر الناس بكلمات وعبارات صادمة , فقال أنّ الكل يلعب في حلبة سيرك , بدأ قصّته بعبارة ( لم أكن أبدأ أعرف أنّ مستقبلي سيكون قطارا ) وأنهاها بقوله ( الحياة مجرّد قطار ) .

ناديه محمد الجابي
30-08-2018, 07:10 PM
أتابع محطات قطار حياتك بكل الإهتمام والاستمتاع..
السرد سلس والأسلوب مشوق فتابع...
تحياتي وودي.
:sb::sb::sb:

عماد هلالى
30-08-2018, 11:03 PM
أتابع محطات قطار حياتك بكل الإهتمام والاستمتاع..
السرد سلس والأسلوب مشوق فتابع...
تحياتي وودي.
:sb::sb::sb:


شكرا جزيلا الأستاذة الأديبة نادية محمد الجابي , هذا يسعدني ويشرّفني بارك الله فيك , خالص تحياتي وتقديري

عماد هلالى
30-08-2018, 11:06 PM
تغيير

تغيير السكن العائلي كان في أول أعوام الجامعة , الأم ( خاتم ) تحب دائما السكن في منطقة أكثر حضرية , وطالما طالبت الأب ( الخير ) بشراء أراضي وبناء المساكن الأوسع , وفي أماكن أفضل , وكان الأب ميسور الحال وقادر على ذلك , لكنّه من النّوع الذي لا يميل إلى التغيير في نمط يوميّاته التي يبرمجها على حركات متكرّرة وفي أوقات دقيقة . لكن ضاق السّكن بالعائلة وكبر الأبناء , وأصبح اقتراح الأم أكثر ضرورة . انتقلت العائلة إلى بيت أكبر في حي حضري , قريب من وسط المدينة . ورد وسمير أعجبهما المكان , والحياة صارت أكثر سهولة ومتعة , أصبح لهما الكثير من الأصدقاء , الأم أيضا أعجبها الوضع الجديد , والأب الذي كان قد توقّف عن الشغل بالقصابة عندما أحس بتعب كبير وبوادر مرض ( الباركنسون ) , في السكن الجديد أحس براحة أكبر , حيث المسجد قريب , يذهب إليه في كل الصلوات , ويلتقي مع شيوخ يتبادلون أطراف الحديث , حتى أطفال الحي كانوا مؤدّبين ويصافحونه يُسلّمون عليه في الطريق , ويخرج صباحا يجلس في وسط البلد قرب السوق الذي اشتغل فيه طيلة عمره . فقط الإخوة الثلاثة الكبار بدؤوا يتذمّرون , ألفوا بيتهم في الحي الشعبي والرفاق الكثيرين الذين كانوا يجمعونهم , يقضون معهم أوقات السّمر والسّهر , وتهامسوا بخبث على أمّهم , قالوا أنّها جاءت بهم إلى هذا المسكن فقط لتكون قريبة من أكبر بناتها ( فاطمة ) , وهم مع سوء ظنّهم الدائم بأمّهم يرفضون كل شيء يأتي من جهتها , وكل تغيير .

ورد الذي كان دائم التأسّف على أنّه لم يحفظ القرآن الكريم في المسجد حين كان طفلا صغيرا , كبقيّة أقرانه , وجد في وضعه الجديد فرصة كبيرة , ففي أول عطلة جامعية في الصّيف , دخل المدرسة القرآنية التابعة للمسجد , ودرّسه شيخ كبير , عالم فقيه له مكانته الكبيرة بين الناس , لاحظ الشيخ ذكاء ورد ومستواه العلمي فاهتم به , وأعطاه برنامجا خاصا به , فحفظ سريعا , وصل إلى ستّة أحزاب خلال فترة شهرين . نشط ورد مع بعض الرّفاق في الحي , الّذين كانوا يهدفون إلى إرشاد وتوعية الشباب , أقاموا الرّحلات الصّغيرة في المناطق السياحية القريبة , وساعدهم ورد كثيرا بمواهبه وذكائه , وهذا يفيد أي إصلاح وتغيير .

بعد عامين جذع مشترك انتقل إلى دراسة التّخصص الجامعي في العاصمة , بمحض ارادته , وجد معه ثلاثة زملاء من جامعته الأولى , وسمع أنّ ( رنا ) تأسّفت كثيرا لمغادرته , وصاحت مرّة متذمّرة أنّ الجامعة لم يبق فيها شيء وورد قد غادرها , رغم أنّهما لم يلتقيا خارج قاعات الدّراسة ولم يعرفا بعض جيّدا . لم يرها بعد تلك الفترة , وقيل له أنّها رحلت بعد تخرّجها إلى مصر مع أمّها ( لبنى ) وأنّهما يعيشان هناك . في العاصمة تفتّقت مواهبه وازدهرت , وتألّق كثيرا , أصبح عضوا في اللجنة الوطنية للإعلام في النّقابة الطلابية التي ينشط فيها , رسم وخط الإعلانات والكاريكاتور التي طُبعت ووزّعت في كل جامعات الوطن , تحرّك كثيرا ونشط واشتهر , ورسم الجداريات الضّخمة , واحدة لمنصّة حفل كبير في ذكرى الثورة التحريرية , حضره عدد كبير من الوزراء , وبثّته التلفزة الوطنية في نشرة الثامنة الرئيسية . ظهرت جداريته البديعة , وظهر جليّا كل الوزراء الجالسين في الصف الأول مشرئبّة أعناقهم اليها , شغلتهم عن رؤية ما يُقدّم على منصة الحفل , لاحظ الناس ذلك وتكلّموا عنه . كانت الجزائر تعيش مرحلة حاسمة في تاريخها المعاصر وكان ورد في مقدّمة من يصنعون الأحداث , بإبداع هاديء يلطّف حدّة الصراعات القائمة , وربّ سلم يأتي به فن يترافق مع تغيير .

عماد هلالى
31-08-2018, 11:57 PM
صباح

صباح الخير .. تحية صباحية رقيقة اعتاد ورد أن يسمعها من زميلة جميلة كلّما دخل مدرّج الجامعة صباحا . فتاة بيضاء البشرة مستديرة الوجه , لون شعرها يميل إلى البرتقالي كالنساء السوريّات والتركيّات . يرد التحيّة ويحضر الدّرس ولم يُعرها اهتماما لائقا . لكن ظلّت الفتاة ملتزمة بالتحية الصّباحية طيلة أيّام دراسته في العاصمة . وبعد عامين حين اقتربت نهاية الدّراسة , جاءته حين كان جالسا ينتظر حافلة النقل الجامعي . جلست قريبا جدا منه , تكاد تلتصق به , وتكلّمت معه بخجل , لم يتجاوز موضوع حديثها أن عبّرت عن قلقها وخوفها من مذكّرة التّخرّج وقالت أنّها باتت تراها كالجبل على كاهلها . ابتسم وتبادل معها الحديث الخفيف , ولم تكن الّا رغبة دفينة في الاقتراب منه والتّحدّث معه قبل أن يكمل دراسته , فيذهب ولا تراه في أي صباح .

فترة الجامعة في العاصمة جاءت في عز ما أسموه لاحقا العشريّة السوداء . سكن الحي الجامعي الذي اعتبروه بؤرة التيّار المتطرّف الذي يغذّي الإرهاب , قاوم بفنّه وهزّ عرش هذا التيّار الذي سيطر على الحي منذ زمن , ساهم برسوماته الكاريكاتورية بفوز النقابة الطلابية في انتخابات لجنة الحي , يُلصق رسوماته وأحدهم ينزعها خلفه قائلا له بوقاحة شديدة : ديموقراطيتك أنّك تُعلّق وديموقراطيتي أنّني أنزع . كان الطلاب يتجمهرون حول رسوماته التي كان يعلّقها في الحملة الانتخابية , وتداول الطّلبة أفكاره السّاخرة فيما بينهم . زار نجما كوميديا شهيرا في بيته في تلك الفترة الصّعبة ودعاه إلى حضور حفلة فوزهم في الانتخابات , واشتهر في الحي أنّهم سيزورهم هذا الفنان الشهير المحبوب . نشط ورد في فترة كان يقٌتل فيها كل من يتحرّك ويمارس حقّه الطبيعي في الحياة , ولم يكن أحد يعرف من يقتل من . قتلوا أحد رفاقه في النقابة وهو ابن بلدته , أطلقو عليه النار في مطاردة بوليسية بالسيارات , وكم تأثّر لرؤية الورد في الطريق يضعونه في الأماكن التي وقعت فيها عمليّات تفجير وسقطت فيها أرواح أعزّاء أبرياء , ينام على صوت التّفجيرات , ويصحو ليذهب إلى دراسته كأنّ شيئا لم يكن , كل صباح .

عاد بشهادة الليسانس في العلوم الاقتصادية , وكانت العائلة قد انتقلت من جديد إلى بيت آخر , فلم يهنأ بال الإخوة الثلاثة حتى غيّروا المسكن إلى حي قريب من حيّهم الشعبي . اختاروه بحجّة أنّه أوسع , فقد اقتطعوا منه أجزاء بنوا فيها بيوتا مستقلّة وتركوا نصف بيت للعائلة . لكن سبب اختيار هذا البيت كان استراتيجيا دقيقا ويحقق عدّة أهداف . الأخ الأوسط ( اسماعيل ) يُبعدهم عن مراقبته , لأنّه يذهب إلى بيت سيء السمعة في الحي الذي كانوا قد انتقلوا فيه , يمكث مع امرأة ساقطة تعيش مع أمّها , والأخ الأكبر ( أحمد ) يقترب من بيت أصهاره , وتقترب زوجته ( سجيّة ) من أمّها السّاحرة الكبيرة , وهي مع هوايتها في تخريب البيوت الفاضلة لا تقدر على فراق بيتها المخروب أصلا . والهدف الأكبر هو الإنتقام من الأم التي أبعدتهم عن حيّهم ورفاقهم حسب زعمهم , وإبعادها عن أكبر بناتها ( فاطمة ) وعزلها عن الدنيا والناس , فالمسكن الجديد متواجد في حي بعيد , في منطقة منزوية عن المدينة , يلفّها الصّمت القاتل مساء صباح .

عماد هلالى
01-09-2018, 11:37 PM
جمال

جمال ورد الظاهري والباطني , اعتبره أحد موقوّماته الأساسية في النّجاح . بعد أيّام فقط من تخرّجه ومكوثه في البيت , عرض عليه الأخ الأكبر ( أحمد ) العمل عند صديقه ( جمال ) الذي فتح مكتبا للإعلام الآلي مع مطبعة صغيرة , في حيّهم الشعبي القديم . قال له أنّه كلّمه , ووافق أن تعمل معه . جمال استغل شهرة ورد في الحي وسمعته الطيّبة عند الناس , وذكاءه ومواهبه , مع ذلك وظّفه بأجر زهيد جدّا . كان بخيلا وماكرا , من عائلة معروفة بهذه الأخلاق الوضيعة . يذهب ورد نشطا متأنّقا صباحا وفي فترة الظهيرة , مظهره الجميل ورشاقته , وحسن لباقته لفت اليه الأنظار , وجذب الزبائن . صمّم ورسم , وأنجز المطبوعات . حمل أعباء العمل كلّها على عاتقه , وتعب كثيرا , ومرّت قرابة الثلاثة أشهر ولم يقبض دينارا ولا درهما . ضاق عليه الحال وكلّمه مرّة بخجل عند مغادرته في المساء , وقد طلب مرّة منه أن يعطيه مبلغا بسيطا فقط ليسافر كي يمتحن في شهادة الماجستير ولا يُضيّع الفرصة , لكن رفض أن يعطيه حسدا وغيرة . وبعد أن ضاعت الفرصة ومرّت الأيام جاءه بأوراق نقديّة معدودة , وحين سلّمها له تناثرت وتبعثرت على الأرض , رفض ورد أن يجمعها وغادر المحل المقيت هذا بغير رجعة , وتذكّر قول عمّه ( أبي موسى ) حين أخبره أنّه بدأ يشتغل عنده , كيف انتفض من مكانه وهبّ فيه غاضبا : كيف تعمل عند جمال ؟؟

بعدها سمع عن أستاذة ثانوية في متقن ليس بعيدا عن مسكنه قد خرجت في عطلة أمومة , ذهب لكي يعمل بدلها خلال فترة عطلتها كمتعاقد . درّس العلوم الإقتصادية والمحاسبة وهو تخصّصه , ووجد أنّ تلاميذه مثله في السن , لا يكبرهم الّا بشهور . أعجبوا التلاميذ بحسن صورة أستاذهم , وهم في فترة عمريّة يهتمّون فيها بجمال المظهر والملبس . وأعجبهم أدبه وحديثه اللبق , وأثنوا أيضا على جمال صوته , وتنافست الفتيات على المقاعد الأمامية التي تقابله , وحمل دفاتره وأقلامه الجميلة . في العام المقبل استدعته الثانوية بسبب شغور منصب حتى بعد عودة الأستاذة . درّس قرابة العامين , اجتهد ونجح , وأثّر في شباب كانوا غير مهتمّين , ويشتهرون بشغبهم . عندما حضّر لهم امتحانات البكالوريا البيضاء جاء بكل الحوليات السّابقة , وفكّر بذكائه الفطري فخرج لهم بامتحانات تكاد تكون مطابقة لما جاءهم لاحقا في شهادة البكالوريا , وطبّق ونجح فعلا في نظريّة التعليم بجمال .

عمله أثار غيرة الإخوة الكبار الذين فرضوا جوّا بائسا في البيت , وكانوا قد بدؤوا يُطبّقون خطّتهم الإنتقامية على أمّهم التي تحمّلت المسؤولية بعد مرض وتقاعد الأب . عمل ورد أعاد لها الحياة من جديد , وهي دائما تنشط وتستقوي به , وهذا ما يثير غيرتهم وحقدهم . قبل قبض أول أجرة شهريّة جلس معها على كنبة وسط الدار , أخذ ورقة وقلما وقال لها أن تعدّ له كل احتياجاتها في البيت , وكم عظّمت هذه الحركة وفرحت بها , وحكتها بالهاتف لبناتها الكبار , كعادتها في الافتخار به , وهذا ما يثير غيرتهن أيضا ويقارّنه بأبنائهن . ومرّة جاءته وهو متّكيء يشاهد برنامجا في التلفزيون بقلادة ذهبية كبيرة أعجبتها ليراها فقط , وقد عرضتها عليها قريبة لهم تبيع المصوغات في البيوت , فقال لها بكم تبيعها ؟ خذيها . وعندما ربح الأخ الاصغر سمير شهادة البكالوريا أقام له وليمة وذبح شاة , استدعى كل الأقارب والأحباب , حتى الأخت ( أميمة ) السّاكنة في المدينة المجاورة شمالا . كانت البلاد تعيش أحلك فترات الإرهاب وقد خيّم الحزن وندرت الأفراح , لكن إرهاب الإخوة الكبار كان أشد , فقد أشعلو البيت شجارا ليفسدوا الحفل , منع ( أحمد ) صحاب الكاميرا الذي استدعوه , من التّصوير , وبصوت غاضب وسباب دين ورب ( تقدّست أسماؤه ) نادى زوجته وابنه الكبير ليخرجوا من البيت . وكان ورد قد حضّر كل شيء لفرحة هذا الحفل حتّى الديكور والشموع , واشترى قميصا خاصّا باللون الأزرق الجذّاب , لسمير اختاره له بكل ذوق وجمال .

عماد هلالى
02-09-2018, 11:30 PM
توقّف

توقّف ورد عن مهنة التدريس الثانوي لم يكن بإرادته , لقد استحسنته المؤسسة وأعطاه المدير العلامة الكاملة في تقييم الكفاءة , كما أنّ المهنة أعجبته , واعتبرها ولا يزال من أجمل فترات حياته . لكنّه وجيله واجه أصعب الفترات ومرّت عليهم أسوء الإجراءات الإدارية والقوانين المُحبطة , عندما جاء موعد ترسيمه صدر القانون الذي يشترط الخدمة الوطنية . وكانت الخدمة الوطنيّة هاجسه الذي يخاف منه , مع ميله إلى حياة الحريّة ورفضه القيود ورتابة الرّوتين منذ صغره , كان يشعر بارتخاء وكسل في جسمه , وزاد من تأزّم الأمر أنّه ربط شعوره بالخمول مع إحساسه بضعف غريزته الجنسيّة حسب اعتقاده , رأى أنّه لا يهتم بالجنس , وهذا الخلط مع وحدته وعدم الإفصاح عن أفكاره ومشاعره , عقّد نفسيته . رأى أنّ الخدمة الوطنية مستحيلة بالنسبة له , كبرت هذه الوساوس بعد خروجه من وظيفة التّدريس , أحسّ بفراغ وكان أصعب توقّف .

بعد فترة , سجّل في مسابقة توظيف نظّمتها شركة الكهرباء والغاز , ذهب متأنّقا موقنا أنّ المظهر يفيده في مثل هذه المسابقات . أجرى الإمتحانات الكتابية , عبارة عن ألعاب رياضية في دفتر كبير تقيس درجة الذّكاء , أعجبته كثيرا وحلّها كلّها حتّى اندهش منه الأستاذ المشرف عن الإمتحان وسأله ان كان أصله من هذه المنطقة , ربّما اعتقد أنّ المستوى يكون متواضعا في مدن الجنوب , أكّد له ورد أنّ أصله من هنا . فاز في هذه المسابقة مع مرشّحين اثنين , كانت على منصب مرموق في الشركة ووظيفة سامية تؤهّله إلى أن يكون مديرا في أحد مراكزها . أدخلوهم الثلاثة الفائزين في منصب إطار مكلّف بالدّراسات , وأعطوهم فترة عام يلفّون فيه على كل مهام الشركة ووظائفها , ووحداتها , على أن يُقدّموا تقريرا في نهاية الدّورة . وبدأ عمله الذي توقّع أن يستقر فيه ويتحسّن وضعه . في أول يوم دخل عليه أخوه ( اسماعيل ) غرفته , وقف وقال له : بدأت العمل في شركة الكهرباء والغاز ؟ ثم انصرف . فرحت الأم بعمله وقد كانت مهمومة من حالة اليأس والملل التي عاشها بعد توقّفه عن التدريس في الثانوية . تعد له الفطور في الصّباح , تجلس تفطر معه , تتحدّث وتسلّي نفسها , فقد قاطعها الأبناء الكبار وفرضوا حصارا في البيت . كم أمّلت في وظيفته الجديدة أن تعيد إليها حياتها ونشاطها , وخاب أملها , لأنّه بعد شهور معدودة تكرّرت مأساته في خروج من عمل , وتوقّف .

كان يذهب كارها العمل كل صباح , يحس بآلام في بطنه , ينزل كثيرا من حافلة النقل قبل وصوله مقر العمل , ويتقيّأ . انزوى عن العالم الخارجي , عاش كالحاضر الغائب , يكلّمونه في الشغل ولا يسمعهم , يطيل الصّمت ولا يتكلّم أبدا . بدأ العمّال يتغامزون عليه , شعر بالضّيق والإحراج , وأكثر من تعذّره بالعطل المرضيّة . في البيت يمكث ممدّدا منعزلا عن كل شيء , إلى أن كتب استقالته وقدّمها بنفسه إلى مدير الشركة الذي استغرب جدا من هذا التّصرّف . عرف بعد سنوات عديدة أكلت نصف عمره , عند أحد الرّقاة , حين كانت أخته سعاد مغمّضة العينين تصف له ما تُشاهد ولم تكن تعرف شيئا , أنّ خروجه من شركة الكهرباء والغاز سببه سحر دبّره شخصان يعملان في المكتب الذي زاره في دورته الإستطلاعية , أحدهما من أصحاب الصّف الأول في المسجد . خافا على منصبيهما لأنّهما كانا يقومان بسرقات ممنهجة , واتفقا مع متربّصة تعمل معهما في المكتب وضعت سحرا في قطعة حلويّات , قدّمتها له في العمل وأكلها . أمّا اخفاقاته المتكرّرة في العمل والوظائف , والشعور الذي كان موسوسا به بخصوص صحّته الجنسية , سببه سحر وربط عن الزوّاج قامت به سجيّة زوجة الأخ الأكبر أحمد , منذ بلغ سن الثامنة عشر أو قبلها قليلا , ولا زالت في سحرها ومكرها بلا توقّف .

عماد هلالى
03-09-2018, 10:49 PM
انتحار

انتحار ورد صار وشيكا , والله لطف , وما أعظم وأكثر ألطافه سبحانه وتعالى . الأزمة التي عاشها في وظيفته الجديدة ودفعته إلى تقديم استقالته , والوساوس التي صاحبتها , جعلته يُقدم على زيارة طبيب نفسي , في جلسة أو جلستين لا أكثر , أعطاه بعض الأدوية المهدّئة . وتزامن هذا مع ضغط كبير يعيشه في البيت , حيث فرض الإخوة الكبار جوّا من الحزن والبؤس في البيت . لم يعد يُكلّم أحدا , يقضي وقته وحيدا في غرفته . في ليلة شتويّة بلغ اليأس فيها أوجّه , لم يُفكّر في شيء , أفرغ كل علب الأدوية في كأس ماء , شربه ونام . دخل في غيبوبة ثلاثة أيام في العناية المركّزة , حين أفاق أحس بأصغر اخوته الكبار ( نذير ) يهمس في أذنه : اسمحلي . ووجد أمه جالسة على كرسي بجانبه لم تقم منه منذ دخل المستشفى , قضت الليالي الطوال ساهرة تنتظر استفاقته . جاءته طبيبة تضحك تقول له : ورد انهض لا تتعب وتحيِّر أمك أكثر , والتفتت للأم تقول لها : ابنك جميل واسمه جميل . عندما عاد إلى البيت كلّمه أخوه اسماعيل , طلب منه أن لا يهتم بموضوع العمل , قال له لا تشتغل ان كان هذا يجعلك تفعل هكذا بنفسك , وكان كثيرا ما يحاول أن يقنعه أنّ العمل ليس مهمّا وليس أمرا جيّدا أن يعمل , وظل يعيد عليه هذه العبارات حتى أدخلها ذهنه , وفعلا عاش بعدها ورد لسنوات يجنح إلى البطالة ولا يهمّه أمر الشغل . لم تمر هذه الحادثة في صمت رغم تكتّم العائلة الشّديد , وشاع في البلد وتكلّم الناس أنّ ورد قد أقدم على محاولة انتحار .

أقنعت الأم كل من سألها بفضول أنّ ورد شرب دواء الضرس , وكان فعلا يستعمله في تلك الأيام , ومعروف أنّ هذا الدواء يسبّب حالات الإغماء . بدأ يعيش ورد في تيه وغربة , لم تعد أيّامه مليئة بالبهجة والأصحاب . يخرج صباحا يمشي في طرقات البلد وحيدا بلا مقصد ولا غاية , والدنيا تعج بالحركة , الطلاب في مدارسهم والعمال في أشغالهم , وضاعت أهدافه وطموحاته في محيط الفراغ . كان في بداية انتقالهم إلى المسكن الجديد , اعتكف على إنجاز قصة للأطفال بالشريط المرسوم , أسماها " زهرة الحياة " وقصد هذا العنوان في وقت كان الإرهاب يصنع الموت في يوميّات النّاس . القصة بديعة الرسم والألوان , فكّر في طباعتها , لف بها مطابع البلد ولم يجد تشجيعا ولا تجاوبا , المطابع تمتلكها طائفة عنصرية , تعجبهم قصته لكن يخشون من نجاحه ويُعجِزونه بطلب مبالغ ضخمة . لم يتوقّف وأنجز قصّة أخرى بعنوان " سلّة الفرولة " , بنفس الشخصيات , وأرادها أن تكون سلسلة , لكنه توقّف عندما واجهته صعوبة الطبع والنشر , ولم يكمل ما كان يحلم به ويطمح اليه . ماتت فيه تلك الحماسة والنشاط , واستسلم للتيه والفراغ , وهذا بالنسبة للمبدع بعض انتحار .

عرض القصتين في قاعة عرض كبيرة في وسط المدينة , في مناسبة وطنية استدعوه إلى المشاركة فيها , زارها وفد من السلطات المحلية رفيع المستوى . تقدّم اليه رجل ببدلة رسمية , سأله عن القصتين وقد انبهر بهما , ثم سأله ماذا يفعل الآن بالنسبة للشغل أو الدراسة , أجابه : لا شيء . عرض عليه أن يأتي يشتغل عنده في الإدارة المحليّة التي يرأس أحد مكاتبها , شغل فقط في الشبكة الإجتماعية , النظام الذي يساعد البطالين بتشغيلهم في الإدارات العمومية ومنحهم مبلغا رمزيا , مع مساعدته في طبع قصّته . لم يكن أمام ورد أي اختيار , ودخل يشتغل في مكتبه , في هذه الإدارة . علّق هذا المسؤول أوراق قصّة على باب مكتبه الخارجي يراها كل من يدخل ويخرج , منبهرا ومفتونا بجمال الرسومات والألوان , وأخذ القصّة الأخرى , قال أنّه أرسلها إلى العاصمة ليطبعها . لم يكن يشتغل ورد شيئا الّا أنّه يجلس على كرسي في المكتب , ويأتيه المسؤول كل مرة يطلب منه أن يرسم له شيئا لمصلحة معيّنة , كأن يرسم ( كاريكاتور ) عن النظافة , يعلّقها كي يراها العمال والموظفون فيلتزمون بنظافة مكاتبهم , ويمن عليه دائما أنّ عليه أن يحمد الله أنّ مسؤوله فنانا , وهو مجرد صعلوك جاء من إحدى مدن الشرق , يسهر مع أصحابه بآلات الموسيقى , مع خمر وحشيش , وقد خرج من السجن بعد تورّطه في فساد وسرقات , فجاء هاربا إلى الجنوب يختبيء فيه . في كل مرّة يسأله فيها ورد عن قصّته ومصيرها يجيبه بأجوبة لا قيمة ولا معنى لها , حتّى أحسّ أنّ هناك تماطلا مقصودا في الأمر , فذهب اليه مرة يسأله بحزم أن يخبره عن أخبار قصّته أو يرجعها له , فقابله بغضب وطرده من مكتبه , وانتحر مشروعه في مهده , ابداعاته ورسوماته الملوّنة آلت بدورها إلى انتحار .

عماد هلالى
04-09-2018, 11:24 PM
واحة

واحة الأم ( خاتم ) .. ورد , تستظل في أفياء فنّه وخياله , بعدما قست عليها الحياة , وحوّلها الأبناء الكبار إلى صحراء قاحلة . تجلس بجانبه حين يكون منهمكا في رسم أو كتابة , تؤنسه وتحدّثه , وتبقى معه إلى آخر ساعة في الليل . لم تتذمّر من بطالته التي طال أمدها واخفاقاته المتكرّرة في ميادين الشغل والوظيفة , لكنّها خافت عليه وعلى مستقبله , أحبّته كثيرا , وصرّحت في أكثر من مرّة أنّه أحب الأبناء اليها , وهو أيضا شديد التّعلّق بها , وحتى دون أن تصرّح كل القريبين منها يدركون ذلك . تحكي لصديقاتها في الأعراس عنه وتضحكهن من مغامراته ومواقفه الطّريفة . يميل ورد إلى الهوايات الفنيّة ويتطلّع إلى ماهو جديد , يُبدع ويملأ فراغ وقته , قرأ مرّة في مجلّة نسويّة جزائريّة حوارا مطوّلا مع مصمّمة أزياء تستعمل الرّسم على الحرير , أعجبه هذا الفن وأراد أن يعرفه أكثر . أخذ عنوان هذه المصمّمة من المجلّة , رسمها بقلم الرّصاص وأهداها هذا البورتريه مع الرّسالة التي سألها فيها أن تعرّفه بهذه التقنية وضمّنها رقم هاتف البيت , وأرسلها بالبريد . ردّت السّيّدة على رسالته , كتبت له المواد التي يستعملها وأرشدته إلى الطّريقة , ثم كلّمته بالهاتف , هي من العاصمة وكانت أيّام كارثة فيضان وزلزال باب الواد , فكانت تضحك في الهاتف فرحا ودهشة , كونها نجت وكردّة فعل عن صدمتها . رسم ورد بهذه التقنية , الكثير من فساتين الأعراس التي تخيطها الأم , ورسم مخدّات الأرائك واللوحات الفنية للديكور , شارك في عرض المهرجان الرّبيعي للحرف والصّناعات التقليدية , انبهر النّاس بهذا الفن الجديد , والسوّاح من مدن الشمال , الذين يجدون ما يعرفونه في الساحل وأكثر , في واحة .

" واحة " جريدة محليّة , هي الرّائدة في الجنوب , ذهب اليها ورد , قابل رئيسها عارضا عليه ابداعاته الأدبية والفنيّة , وما نشرته له الصحف الوطنية . أعجِب به و طلب منه أن يعمل في الجريدة , مشرفا على الصفحة الأدبية . اشتغل ورد بدوام , يأتي في الفترة الصّباحية والمسائية . أشرف على عمله , يقرأ الرّسائل الواردة , يختار منها المواضيع الأدبية الصّالحة للنشر , ويرد على الرسائل الأخرى في ركن بريد القراء , يعبّر برسومات ترافق الأشعار أو الخواطر المنشورة , ويكتب عمودا لتشجيع المواهب أسماه " نقطة البداية " , عمود مختصر ومركّز بتعابير أدبية جميلة مع كم من المعلومات , ويختمه كل مرّة بعبارة نقطة بداية . أبدع في تصميم الصّفحة ومحتواها أيّما إبداع , ولاقت نجاحا كبيرا , قيل له كثيرا أنّنا نشتري الجريدة من أجل صفحتك , ومرة كان في مخيّم صيفي جاء بعض المتخيّمين في الجوار يسألون عن ورد صاحب الصفحة الأدبية , عرف أنّ له جمهورا ومتابعين . صاحب الجريدة يكتب عموده نقلا ( نسخ ولصق ) من أعمدة المجلات التي تصله من المشرق والخليج , ينزع فقط اسم صاحبها ويكتب اسمه . بدأ يكلّفه بكل الأشغال , يصّور ويغطّي الأحداث ويسافر , ويحرّر . صوّر مرّة وزيرة السياحة الفرنسية كانت في زيارة للواحة , لمّا رأته يريد تصويرها وقفت في وضعيّة جيّدة وابتسمت مازحة معه , وتعجّب حينها من بساطتهم وسهولة التعامل , فلو طلب تصوير رئيس بلديّته أو رئيس لجنة حيّه لردّه ورفض تصويره . اكتشف مرّة أنّه كتب وحده أكثر من تسعين في المائة من هذا العدد , اشتغل هكذا لعدّة سنوات ولم يقبض منه دينارا واحدا , رغم التّلميحات الجارحة التي يسمعها من إخوته الكبار في البيت , خاصّة من ( نذير ) الذي يندفع دائما في كلامه وحركاته , فهويجمع بين الغباء والتّهوّر . تعلّم كثيرا من هذه التّجربة , أخذ خبرة جيّدة وتعرّف عليه النّاس , وهذا ما استفاده من جريدة " واحة " .

ناديه محمد الجابي
05-09-2018, 10:05 PM
( سبع صنايع والبخت ضايع)
هذا المثل ينطبق على ورد بكل المعايير
الغيرة والحسد والمكر شكلا علامة مميزة في حياته والمؤسف إنه
من أقرب الناس إليه .. ليعيد للإذهان قصة أخوة يوسف عليه السلام
وترسم القصة خطا موازيا في تسجيل الأحداث السياسية المؤلمة التي مرت بها الجزائر
لتعرفنا عليها بصورة عرضية من خلال أحداث القصة
مستمتعة بما أقرأ ـ وبكل الاهتمام متابعة معك
تحياتي وتقديري.
:sb::sb::sb:

عماد هلالى
05-09-2018, 11:09 PM
شكرا جزيلا الأستاذة نادية محمد الجابي , متابعتك واهتمامك شرف كبير لي , وتعليقك يهمني جدا ويوجّهني بارك الله فيك , خالص تحياتي وتقديري

عماد هلالى
05-09-2018, 11:11 PM
أسماء

أسماء المواليد الجدد عند الإخوة والأخوات توكل مسؤوليّتها إلى ورد , عنده ذوق خاص بالأسماء , واستمرّت العادة حتى بالنّسبة لمواليد أبنائهم , وستبقى إلى أبناء أبنائهم وهكذا , وليتهم قدّروا أو وفّوا . يأتونه يختار لهم اسما وكأنّهم هم من يُقدّمون له خدمة , وخدمة كبيرة أيضا . هم في الأساس يريدنه هكذا , يتبرّكون به , وليس له الحق في تكوين أسرة وتسمية أبنائه . مع مسيرة ورد في حياته تسمّى باسمه الكثير من المواليد , من المعارف , وممّن التقى بهم مرّة واحدة فقط , أعجبهم اسمه وشخصيّته , عدّهم مرّة وجدهم فوق العشرين شخصا . مع انطلاق بث الإذاعة المحليّة , تقدّم ورد إليها , وجد مدير الإنتاج يعرفه من خلال كتاباته في جريدة " واحة " وقد كان قارئا معجبا ووفيّا . فكّر ورد في برنامج يقدّمه في الإذاعة . وصل إلى فكرة طريفة , وهي برنامج أسبوعي ثقافي ترفيهي يتعلّق بعالم الأسماء الجميل , اختار له عنوان " عاشت الأسامي " . فسحة اذاعية فيها الكثير من الفقرات المتنوّعة , الإسم في تراثنا , أحاديث نبويّة عن الأسماء , وما أكثرها , واهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم باختيار الأسماء الحسنة , طرائف الأسماء , أسماء أشخاص , أماكن , أشياء , ومعانيها , وفي آخر الحلقة يختار أغنية تُذكر فيها كلمة اسم , أو أسماء .

تسجيل أول حلقة من البرنامج في الإذاعة , ممتع للغاية . صوت جميل , يتكلّم بعذوبة وفصاحة , انتقل بين الفقرات والموسيقى كأنّه محترف ذو خبرة وتجربة . أول حلقة بثّتها الإذاعة لاقت استحسان الناس وإعجابهم . وصلته رسائل عديدة تشكره وتحيّيه , رسالة مطوّله لفتت انتباهه مكتوبة بخط جميل وتعبير جيّد , قال صاحبها أنّه استمع إلى كثير من البرامج قديما وحديثا , في الوطن وخارجه , ولم يجد برنامجا أروع من هذا , في فكرته وتقديمه , ومضمونه الثري بالمعلومات , وأسلوبه الفني الجميل . في الإحتفال السنوي بذكرى تأسيس الإذاعة علّقوا لوحة كبيرة , كُتبت فيها كل البرامج التي تبثّها الإذاعة مرتّبة حسب عدد الرّسائل التي تصلها من الجمهور , وهذا لقياس درجة تفاعل سكان المنطقة مع إذاعتهم الجديدة , وحاز برنامج " عاشت الأسامي " المرتبة الأولى , سبقه فقط برنامج التحيّات والإهداءات اليومي . ككل فكرة تبدأ بسيطة ثم تتطوّر وتكبر , أصبحت فسحة ورد الإذاعية فيها كل أنواع الإعلام , يستضيف شخصيّة يحاورها , يسأل الناس في الشارع , ويرد على المكالمات على المباشر . تعب كثيرا , الحلقة التي لا تتجاوز أربعين دقيقة عادة ما يُحضّرها في أسبوع كامل , ولم يقبض أجرا رغم عمله الرّسمي كمنتج ومتعاون , الّا مرّة واحدة جمعوا له الكثير من الحلقات . بقي صامدا بضع سنوات ولم يستطع الإستمرار , رغم اعجاب الناس , واعجاب ادارة الإذاعة الذين أثنوا عليه كثيرا حتى في غيبته , على انضباطه ونشاطه في الشغل , ورغم اعجابه هو بعمله في الإذاعة , حيث يخرج بعد تسجيل كل حلقة طائرا محلّقا بجناحي السّعادة . لكن التّعب الكبير بلا مقابل , لا تشفع له جاذبية اذاعة , ولا جمال أسماء .

عماد هلالى
07-09-2018, 12:17 AM
فراغ

فراغ الوقت من شغل وظيفة معيّنة , عند شاب متعدّد المواهب والاهتمامات , يفتح المجال واسعا لكل شيء . اهتم ورد منذ صغره ببعض الهوايات الجميلة , كجمع الطوابع البريدية والعملات القديمة , وجمع الكثير . دخل أيضا مجال التعارف والمراسلة , حين بدأ يتابع بعض المجلات الشبابية , وتبادل الرّسائل مع شباب عرب . تعرّف على شاب سوري رئيس نادي المراسلة , توطّدت العلاقة بينهما أكثر حين صار يتكلّم معه بالهاتف , قبل الحرب , وانقطع الاتصال بينهما ثم التقيا في لقاء عجيب على شبكات التواصل الإجتماعي . تزوّج أصغر الإخوة الكبار ( نذير ) من ( الزهرة ) صديقة الأخت ( مريم ) وسكن في الجزء الذي اقتطعه من بيت العائلة . صوّر ورد العرس بالفيديو , وتفنّن في تصويره ومونتاجه , حتّى قالوا ( الحمد لله أنّ الكاميرا بيد ورد ) . وفي ليلة تتويج العريس ربط الكاميرا بالتلفزيون لتشاهد النساء وقائع التتويج على المباشر , وكم أعجبتهن هذه الحركة . وصوّر فيديو خاص لأول مولود لابنة اخته الكبيرة ( بركة ) , بدأه في غرفتها في المستشفى , حتى وصولها إلى البيت , وصوّر أخواتها يحضّرن الحلويات في المطبخ , صوّر حتى الإهداء الذي أرسله إلى الإذاعة , حين بثّته الإذاعة وهم يستمعون إليه في وسط الدار . ابنة الأخت التي أهداها في عرسها الكثير من الهدايا الثمينة التي اختارها بذوق وفن , وأختها التي كان يقدّم لها الهدايا وهي طفلة صغيرة , وأسعدهن عندما كبرن , حيث يحدّثهن في الثقافة والحياة ويفتح مخيّلتهن إلى كل ما هو جديد و جميل . لم يكن يعلم أنّ ما قدّمه من ورد سيحصده أشواكا , وسيندم على كل ما بذله من جهد بلا جدوى , وما ملأه من فراغ .

كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إذا كان الشغل مجهدة فإنّ الفراغ مفسدة " , تمر أحلى أيام العمر وتتناثر الأوراق الخضراء من الدّوحة المعطاء , التي قدرها أنّها موجودة وقت الخريف وفي الصّحراء . التقى بصديقه ( زكريا ) من جديد , وصار يقضي معه أغلب أوقاته . أول ما فتحت مقاهي الأنترنت سكنها مع صديقه صباح مساء , يعود منها حتى ساعات الصباح الأولى . بدأ بالدردشات ثم المنتديات . سجّل في منتدى أدبي كبير , وتعلّم كتابة الشعر الموزون , بتفعيلاته السليمة والبحور , وشارك في منتدى عالمي أسّسه بعض الشباب العربي , أبدع بمشاركاته الفنيّة وكتاباته , حتى عيّنوه مسؤول الركن الفني فيه . في البيت لم يستطع أن يُقدّم شيئا للأم التي أثقلت كاهلها المسؤوليات , والأب أتعبه مرض ( الباركنسون ) , لزم الفراش , ولا يتحرّك الّا بمساعدة . تفرّغت الأم للإعتناء به , ويقاطعها أبناؤها الكبار بلا رحمة . في الوقت الذي تتناول فيه العجائن في وجبة الغذاء يوميّا , تبعث أم ( العالية ) صاحبة ( اسماعيل ) رسائل على الهاتف تطلب منه أن يأتيها بنوع معيّن من الشوكلاطة والتفاح الأصفر . يتكلّم معها ( عالية ) بالهاتف بصوت مرتفع , وينام البيت على صوته وهما يتحدّثان إلى وقت متأخّر من الليل , كلام فاحش وأحيانا خصومات وسباب , يسمعه ورد في غرفته مع سمير , تسمعه الأم , ويسمعه الأب . هؤلاء الابناء الذين تربّوا مدلّلين , أعطوهم الحرية الكاملة وأعطوهم كل شيء , هذا ما يفعلوه الآن , ولا شيء يأتي من فراغ .

عماد هلالى
07-09-2018, 09:29 PM
حيرة

حيرة الأم على ابنها ورد , وسوء الطّالع الّذي يلاحقه , مع كثرة الحاح بعض النّسوة , وجدها يوما معهن مرغمة عند عرّافة , سحبنها اليها سحبا , ولم تكن أبدا تقصدها أو تعرفها ولا غيرها , ولا تذهب إلى ما تعرف أنّه محرّم . سألتها عن ورد , قالت العرّافة : جميل واسمه جميل , ومحبوب من النّاس , سيعمل في بلد بعيد , ويقبض مبلغا ماليا كبيرا دون تعب , سيتزوّج مرّتان , أو قالت امرأتان ( لم يتذكّر ما قالته الأم حينها أو لم تتذكّر الأم ما قيل لها جيّدا ) وسيصبح غنيّا جدّا . عادت الأم طريقها كاملا مستغفرة . لم تهتم , ولم يهتم ورد كثيرا لما سمعه عن لوحة مستقبله التي سترسمها الأقدار , ولم يعجبه الّا وصف العرّافة له , وتكهّنها أنّه سيصير غنيّا جدّا . تحقّق جزء العمل في بلاد بعيدة , حين ذهب مع اخته ( سعاد ) إلى مدينة تبعد ثلاث مائة كيلومتر عن بلدتهم , في الجنوب الغربي , رغم كونها تابعة لنفس الولاية ( المقاطعة ) . عمل مع أخته في مركز التكوين المهني , هي في السكرتاريا وهو أحيانا في التّدريس , وأحيانا في الإدارة , وسكنا في مساكن الموظفين التابعة للمركز . يعمل في إطار عقود التشغيل فقط بأجرة ضعيفة , على أمل أن يتم تعيينه في منصب المقتصد الذي كان شاغرا , لكن لم يتم ذلك فعاد مع أخته بعد عام . عاش وحيدا شارد الذهن , يخرج مساءا يلف البلد ويعود , يزور معالمها , كالقصر القديم الأثري , متحف الإنسان البدائي , البحيرة . البلدة هادئة وأهلها طيبين , أعجبته رغم أنّه يعيش في عالم خاص من الصّمت والفراغ , لم يألف في البداية وصار يأتي إلى البيت نهاية كل أسبوع , ولم تحب الأم تعبه هذا في الأسفار بلا فائدة . مع بُعد المكان , يأتي في حيرة , ويعود في حيرة .

مرافقته صديقه ( زكريا ) الشّريف النّسب من الوالدين , دفعته إلى دخول عوالم التّصوّف . بدأ في قراءة الكتب والمجلّدات القديمة الشّهيرة في تزكية النفس , وعرف مع رفيقه أنّ كثرة الصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم توصل إلى الشيخ صاحب الوقت , حين يندر الشيوخ المربّين في آخر الزّمان . التزم بالصّلاة على النّبي وأكثر منها , حصل على مجلّد كبير يُصنّف أنّه أفضل وأهم ما تمّ تأليف في باب الصّلاة على النّبي , وهو لشيخ عالم من علماء السّلف الكبار , جمع فيه كل صيغ الصّلاة على النّبي , وفيه بعض الصّلوات الطّويلة يسهر في قراءتها مباشرة من الكتاب . كثيرا ما تدخل عليه أمّه تجده منكبّا على القراءة في الظّلام وقد اكتفى بضوء خافت . تشفق عليه , تشعل مصباح الغرفة وتقول له بصوت هاديء : ارحم نفسك , ونم قليلا . ليالي الشتاء الطّويلة التي يبيتها ساهرا يُصلّي على نبي الرّحمة , طلع فجرها , ورؤية النّبي التي شغلته منذ طفولته آن أوان تفسيرها , تعرّف مع رفيق دربه ( زكريّا ) على الشيخ صاحب الوقت . وصلا إليه , وأخذا منه ورد الذّكر , وبدأ يرتاد حلقة الذّكر ويلتزم بمواعيد زاوية الطّريقة الصّوفيّة . رأته مرّة أخته الكبيرة ( أميمة ) يرمي حفنة نقود وقطع ذهبيّة في حجر الأم ويقول لها : هذه من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , تتحقّق الرؤية بعد سنين عديدة , حين وفاة الأم قرؤوا لها في الزّاوية ورد الرّحمة . بين أوراد الصّوفية ومنتديات الأدب والفن في الأنترنت مضت الأوقات , تعرّف على شاب جزائري يعمل في الإعلام في الخليج , كان معجبا جدا بكتاباته , ينسخها ويطبعها . يكلّمه كثيرا بالهاتف في البيت , وعرض عليه العمل معه في الخليج , في قطاع الإعلام والفن . عرّفه بالإجراءات التي يتخذّها والملف الذي يُحضّره , مع إلحاحه وكثرة طلبه لم يكن ورد الّا محتارا ومتردّدا , لا يقدر على فعل خطوة جريئة أو اتّخاذ قرارا هاما في مستقبله . رأى في أول زيارة للشيخ صاحب الوقت عجبا , ورؤيت له الكثير من الرؤى المبشّرة , سكنت نفسه مع الأذكار , وتلاشى شروده وانتهت حيرته , وعند نبي الرّحمة صلى الله عليه وآله وسلّم يتلاشى كل شرود وتنتهي كل حيرة .

عماد هلالى
08-09-2018, 11:36 PM
غيرة

غيرة الناس تنشأ عادة ممّن تجمعك بهم نفس الظروف وحظوظ الحياة , مع ورد الوضع مختلف والغيرة جاءته من القريب والبعيد , الصّغير والكبير , الإخوة والأخوات , أبناؤهم , الجيران , الزّملاء , الذين لا يعرفهم أصلا ولم يلتقهم أبدا , اشتركوا جميعا في الغيرة والحسد , والحقد . ربما لتميّزه الشّديد وتفوّقه في مختلف الميادين عن أقرانه وبالنّسبة لمحيطه وبيئته , والنّجاح الّذي ناله مبكّرا , وأهم سبب هو الملكة والقبول التي منحها الله عز وجل له , تدفع الآخرين إلى الغيرة منه وحسده , والحقد عليه . عندما جاء من العاصمة بشهادة الليسانس , حملها مسرعا إلى إخوته الكبار يريها إياهم منتظرا فرحتهم به وتهنئته . قال له نذير : إسماعيل أيضا عنده شهادة تقني سامي . جاءهم مرّة ابن أخته الكبيرة ( فاطمة ) في بداية الليل , يودّعهم قبل أن يذهب إلى خدمة الجيش , فتح له ورد الباب مبتسما مهلّلا بقدومه , لم يُسلّم عليه ودخل إلى أخواله الكبار وجدّته وجدّه سلّم عليهم وودّعهم , تألّم ورد وكتمها في نفسه . حين ذهب إلى خدمة الجيش سأله القائد الّذي يشرف عليه عن اسمه واسم بلده , مجرّد أن ذكر اسم البلد قال له : هل تعرف ورد ؟ قال : نعم , خالي . فسلّم عليه ورحّب به , وقال له : إنّ ورد مثل أخي وأكثر , أخبرني ان احتجت إلى أيّ شيء . فقد كان زميله في الجامعة ورفيقه في النّقابة الطّلابيّة . عندما أخبر أبويه بالهاتف وكانا في حالة من القلق عليه , فهو أول ابن لهما يذهب إلى الجيش والبلد تعيش أحلك سنوات الإرهاب , فرح أبوه كثيرا وجاء في الليل إلى منزل العائلة يحكي لهم القصّة , فجاء نذير مسرعا قال له : أحمد وإسماعيل أيضا لهما معارفا كثيرة في الجيش . الغيرة عدسة تكبّر الأشياء الصّغيرة , هكذا يطاردونه ويقفون أمامه في كل شيء , مهما كان بسيطا , وما أحقرها من غيرة .

تزوّج إسماعيل من العالية بعدما أكلت النّسوة وجه أمّه , ولم تجد ما تقوله لهن حين يسألنها باستمرار عن وضعيّة ابنها اسماعيل , ويلمّحون إلى علاقته المشبوهة بالمرأة السّاقطة وأمها سيّئة السّمعة , وكان قد استأجر لهما بيتا يرتاده خلسة وينفق عليهما , ويعيش في بيت العائلة يمارس مكره مع أخويه على أمّهم . تم عقد الزواج دون عرس , في حضور بعض أفراد العائلتين , وصوّرهم ورد بالفيديو في فيلم أبدع فيه , أخذوه إلى أقارب العروس في فرنسا , وأخبروه أنّ الفيلم أعجب كل من شاهده هناك . ورد حصل على اعفاء خدمة الجيش بالرخصة التي منحها رئيس الجمهورية لكبار السن , ويقول له دائما اسماعيل أنّ من لم يدخل الجيش لا يعرف شيئا في حياته . يعاملونه على أنّه صغير وساذج لا يكبر أبدا , ولا يمكنه أن يتحمّل أي مسؤوليّة , كذلك بالنّسبة للأخ الأصغر سمير , فقد اغتاظوا عندما توجّه إلى دراسة الطب , إلى درجة أنّ إسماعيل دفع زوجته العالية إلى إجراء إمتحان شهادة البكالوريا وكانت قد انقطعت عن الدّراسة منذ زمن طويل , لم تنجح , ولم تكن هذه الحركة وما سبقها , وماسيلحقها , الّا بدافع من حسد وغيرة .

عماد هلالى
09-09-2018, 11:50 PM
حياة

حياة الفن اكتسبها ورد من الأب والأم . الأب يتذوّق كل ما هو جميل , في أسلوب حياته , لباسه الأنيق , نظامه في الأكل وترتيبه لأغراضه في البيت وعمله . يعزف الناي وحده في السطح في المساء , يستمع إلى الراديو باستمرار , وتعجبه بعض الشخصيات في الأفلام والممثلين المصريّين , تجده يُطلق عليهم أسماءا خاصة به , ويتعجّب من الرسوم المتحرّكة , كثيرا ما يقول : لا شيء يُدهشني مثل الرسوم المتحرّكة , ومعجب ببعض الفنانين العرب الكبار , كفنان تونسي كبير يستمع إليه باستمرار . من يتقن فن العيش مع نفسه لا يعرف البؤس . الأم فنانة وصانعة للجمال والحياة , تغنّي في الأفراح , تؤلّف أغانيها , تنظم الشعر الملحون جيّدا ( باللهجة العامية ) خاصّة الشعر الغنائي , تعبّر عن مشاعرها ومواقفها من الكثير من الأمور التي تعترض حياتها , تخيط فساتين الأعراس , وتتفنّن في تفصيلها وترصيعها . قديما قبل ميلاد ورد نسجت الزرابي , ثم اشتغلت بفنون الخياطة , وكل المهارات اليدوية , تحيك ملابس الصوف بيديها , وقد حاكت عدّة قمصان لورد في كبره وهو شاب , وتحب اسعاد من حولها , فعندما تسمع أنّ امرأة تنتظر مولودا جديدا , تحيك له ملابسا وأفرشة , تهديها لها عند وضع المولود . بعد موتها رأتها امرأة صالحة كأنّها في الجنة وحولها أسلكة قد نُشرت عليها القمصان الصغيرة بكثرة , قالت لها : هذه التي صنعتها وجدتها كلها هنا . تتابع الجديد في التلفزيون والمجلات , تعرف الفرنسية جيّدا سماعا وقراءة , كلّما شاهدت شيئا جديدا في الطبخ أو صناعة يدوية تجرّبها , وقد كان عندها كتابا كبيرا في الطّبخ تقرأ منه وتعد كل وصفاته , في لباسها وأسلوب حياتها أيضا فن تحكي النساء عنه وتتعلّم منه حتى الشابات المقبلات على الدنيا , الفن يُسعد الناس , والفن حياة .

تظهر الحياة في قلب الموت , عندما يجثم الموت على القلوب , ويُخيّم فوق البيوت , يولد عشق الحياة , وقليل من وهبهم الله القدرة على صناعة الحياة عند الموت . من هؤلاء أم ورد ( خاتم ) , تعطيك دائما الرغبة في الحياة مهما قست حولك الظروف . في بعض ليالي الوحدة حين تراه مكتئبا , تبحث عن أي شيء تجده في البيت كحبّات حلوى أو فاكهة وتأتي بها إليه . وصلت سنوات الإرهاب والدّمار إلى ذروتها , واستطاع الخوف والرّعب أن يدخل كل بيت . المنزل الذي سكنته العائلة كان قريبا من الجبل , وتُطل ساحته , والأبواب والنوافذ عليه , فقد ترى الجبل قريبا وأنت تجلس في وسط الدار , قبل أن تكثر المساكن حوله . ذات ليلة , وكانت ليلة عيد الفطر, شاع في البلد خبر أنّ جماعات الإرهاب ستدخل الدّيار ويذبّحون كل من فيها . ورد يجلس مرعوبا لا يقدر على الحراك ولا نطق كلمة , بينما أمه تضحك مع سمير , وتقول له : تخيّل سيدخلون ويذبّحونا , وسمير يضحك بصوت عال . في الصّباح قامت باكرا وصنعت خبزتها الرّائعة التي اخترعتها , وجاء الأقارب أبناء الخال يُعيّدون , وأبدوا إعجابهم بالخبزة وجلست تشرح لهم طريقة اعدادها . تطلّقت سعاد , وكان أول طلاق في العائلة , ثم تلتها الأصغر منها مريم , وسكنا في بيت العائلة , الأولى مع ابنيها , والثانية مع ابنتها . زاد التّوتّر والضّغوط , في كل صباح يسمع أخواته يصرخن في وجه الأم ويلقين اللوم عليها , حتى الأخت الأخرى رشيدة تأتي تصرخ وتصيح ثم تعود إلى بيتها , تاركة الأم صامتة حائرة لا تعرف ما سبب صراخها ولا مجيئها أصلا . ويرى ورد أمه تنظر اليه وسط الحشود المتحرّكة داخل الدّار , كأنّها تريد أن تُكلّمه ولا يُمكنها ذلك . ما أصعب أن تجمعك بأمك التي تحبها وتحبك مائدة الطعام ولا تقدر أن تتكلّم معها , ما أصعبها , وما أتعسها من حياة .

عماد هلالى
10-09-2018, 11:50 PM
موت

موت الأقرباء يوقفك أمام الحقيقة التي نعرفها ونجهلها , نوقن بها وننكرها , تعرف الإجابة وتسأل : أين ذهب هؤلاء ؟ , أحقا رحلوا عن عالمنا ولن نراهم في دنيانا أبدا ؟ . العمّان توفّاهما الله في طفولة ورد , ولا يذكرهما إلّا بعض أطياف وخيال , ثم الخال وبعده الجدّة مريم حين كبر قليلا . في كبره توفي العم الكبير ( أبي موسى ) وقد عمّر وتجاوز المائة سنة , كان رجلا عظيما زعيما , ومؤثّرا . في تلك الأثناء التزم ورد رعاية أبيه ( الخير ) حيث اشتد عليه المرض , لا يغادر فراشه ولا يتحرّك الّا بمساعدة , لذلك داوم ورد على البقاء معه , مع أمّه التي لا تنقطع عنه لحظة , ولم تعد تخرج مطلقا من البيت حتى لا تتركه وحيدا . مرض الأب المزمن قارب العشرين سنة . رغم ما قدّمه للناس وما بذله من خدمة , لم يزره أحد طيلة تلك المدّة , ووقف ورد على حقيقة الناس في زماننا , عندما تتركك الدنيا لا يذكرك أحد . صوت الأب حين يناديه : ورد , ويقطع صوته الهاديء الحنون سكون الليل , عاش صداه في قلب ورد . يناديه كي يأخذه إلى الحمّام أو يناوله كأس ماء . ثم أصبح لا يقدر على الأكل والشرب , حينها لازمه ورد . يجلس قربه يقرأ له القرآن الكريم ليل نهار , ويمسك السبحة ويذكر ويستغفر ويدعو له . تأثّرت الأم ( خاتم ) كثيرا لما يفعله ورد مع أبيه , وأيضا بعض الأقارب حين يأتون لزيارته مع أبنائهم , كثيرا ما يُقال للإبن : أنظر , حين أكبر وألزم الفراش اصنع معي ما يفعله ورد . بقي معه هكذا إلى دنو الأجل , وما أقربه من موت .

مات بين يديه يقرأ له القرآن الكريم , لحظات وعجّ البيت بالصّراخ . صعد ورد سلم السطح , جلس على آخر عتبة , ضم ركبتيه ولفّهما بيديه , كمن يحتضن نفسه , وأجهش بالبكاء . طعم اليُتم مر , وإن تجرّعته على كبر , وإن مهّد الموت طريقه وكنت تتوقّعه , لكن الشعور عند مجيئه يصعب لا محالة . جنازة الأب ( الخير ) مهيبة , كأنّ البلد كلها خرجت تشيّعه , قيل أنّها من أكبر الجنائز حضورا في تاريخ البلد . وذكروا الناس ولا زالوا يذكرون خصاله وشهامته , وخيره , كان اسما على مسمى . يذكر الجيران ما كان يدخله إلى البيت حين عودته من عمله بالسوق , ويضربون به المثل . تقول سيدة من الجيران , أنّها عندما تكون تكنس سقيفة بيتها ويكون قادما , ينحنح بصوت مسموع , فتتوقّف حتى يمر . حين يذهب إلى العاصمة يأتي ببدلات كاملة لكل أحفاده الأولاد , وقد تجاوز عددهم العشرين , وفساتين للبنات , وكلها متشابهة حتى لا يغيروا من بعضهم . ويذهب بعلب الكارتون الكبيرة من حاجيات البيت إلى بناته الكبار , يفاجئهن صباحا بهدايا تكفي احتياجات بيوتهن لشهور قادمة . وليت هذه البيوت التي تأسّست على خيره وكرمه قد وفّت أو أثمر بعض الخير في أبنائها . ورد يذكر جيّدا ما قاله له الأب : لا يوجد أي أحد يذكرني بسوء , أو فعلت له شيئا سيّئا . بقيت الدّار حتى الأربعين تأنس بالناس , وتجلب النساء من بيوتهن الكثير من الأطعمة والوجبات التي تقدّم عادة في مثل هذه المناسبات , فقد كانت معارف الأم ( خاتم ) كثيرة , وفضلها كبير على الناس والعائلات , حيث لم تكن تفوّت فرصة مرض أو موت , ولادة أو عرس , الّا حضرت وفعلت الواجب , ويتبادل الناس عادة هذه الزيارات من قبيل تعزيز العلاقات الإجتماعية , وقد كانت إجتماعية جدا ومحبوبة , وسمعتها طيّبة بين الناس . يحدث كثيرا أن يلحق الزوج زوجته والعكس , حين تجمعها عشرة العمر , والحب. بعد عام عاد الموت من جديد , يُكمل مهمّته الحتميّة , ويقطف آخر زهرة في بستان العمر , هي زهرة العمر , وزهرة الحياة . كل ما حدث من موت في جهة , وما سيحدث الآن أصعب وأخطرمن كل موت .

عماد هلالى
11-09-2018, 10:39 PM
صدمة

صدمة الأم ( خاتم ) من كلمة قالها لها ابنها الكبير أحمد أودت بحياتها , وصدمة ورد من موت أمه أدخلته نفقا مُظلما لم يخرج منه الّا بعناية الله ولطفه . عام واحد تعيشه الأم بعد وفاة الأب ( الخير ) , وكأنّ الشقاء والتّعب عنوان كتاب حياتها . لم ترتح يوما , ولم تذق للراحة طعما . أمنيتها الوحيدة في زيارة العمرة , لم تنلها حين وصلت إلى بابها . كثيرا ما تمنّتها وقالت لورد أنّها ستشتري له كاميرا فيديو من رحلة العمرة . حين جهّزت الحقائب أرجعوا لها أوراقها , فقد ألغيت الرحلة , قالوا أنّ هناك شخص معنا مرصود بعين أو سحر , قالت في نفسها : هي أنا . تسحرها سجية زوجة ابنها الكبير أحمد وأمّها باستمرار . تسبّبت ابنتها سعاد في مشكلة جديدة , ولا تتوقّف أبدا عن صناعة المشاكل . أرادت الزّواج للمرّة الثالثة , بعد طلاقها من زوجها الأول ثم طلاق آخر . ذهبت الأم في ليلة إلى بيت ابنها الكبير أحمد تحدّثه في الأمر , والبيت يلتصق بمنزل العائلة , فقد كان جزءا منه , اتّحد أحمد مع نذير على تعنيفها بالقول الجارح والقاء اللوم عليها , وهكذا طبيعتهم هؤلاء الأبناء الكبار , يتجمّعون على شخص حتى يقضون عليه بلا رحمة ولا شفقة . قال لها نذير كلاما جارحا , ثم قال لها أحمد : ساقطة . بالكلمة القبيحة التي تُقال بالعامية في أحقر المواضع , حتى سقطت أرضا وقد أغمي عليها . لم يتوقّفا بعد أن سقطت , وسجيّة واقفة تتفرّج شامتة سعيدة . عادت الأم ( خاتم ) في تلك الليلة إلى البيت مهزومة , شاحبة الوجه صامتة . نظرت إلى ورد وسمير كأنّها تريد أن تقول : لقد أهينت كرامتي , ان استطعتما أن تفعلا أي شيء افعلا . جاءتها في الصّباح أم سجية شامتة , وهي تسكن قريبا . استقوى الرجال على أمهم العجوز الضعيفة بعد أن مات من كان يحميها . من حينها لزمت الفراش , لم تعد تتكلّم مع أحد , ولم تعد تفعل أي شيء . تعيش في غربة , لا يزورها أحد , ولا بناتها . حتى هاتف البيت يقطعه ابنها اسماعيل عنها , وهو يعمل في اتصالات الهاتف , وقد كان يتصنّت على مكالماتها مع ابنتها الكبرى فاطمة . ماتت فيها كل نوازع الحياة بعد صدمتها من الكلمة التي قالها لها ابنها الكبير أحمد الذي دلّلته وأعطته كل شيء , وقضت حياتها في خدمته . الشريف تؤلمه الكلمة الوضيعة أكثر , وكم من موت جاءت به صدمة .

حين اشتدّ بها المرض أخذها الأبناء إلى الطبيب , وصدمة المفاجأة أنّها مصابة بالسرطان . تأخّروا في اكتشافه , وزاد من تفاقمه سوء تغذيتها في الفترة الأخيرة , فقد تعمّد الأبناء الكبار تجويعها , ولم تكن تأكل الّا العجائن يوميا في الغذاء . ارتسم زوجها ( الخير ) على الحائط الذي بجانب فراشها وهي مستلقاة , وابتسم . لا أحد يعرف كيف , لكنّها رأته , وحكت ما رأته . طلب الأطبّاء أن تُعالج في العاصمة , لم يرد أحفادها أبناء أميمة أخذها في سياراتهم , وساعدتهم خالتهم بركة بنفاقها المعتاد . أجّر الأبناء سيارة , وسكنت في فترة العلاج عند بعض المعارف . الأبناء الكبار أحسّوا بالذنب ربما , أو لم يتوقّعوا أن تؤول الأمور إلى موتها . هم يعتمدون عليها في كل شيء ولا يتصوّرون حياتهم ستقوم بدونها , وكذلك البنات . أرادوا أن يفعلوا أي شيء كي لا تموت , ليس من أجلها , وإنّما من أجلهم . استعملوا الشهادة الدّراسية لسمير الذي يدرس الطب هناك , كي يدخلوا بها المستشفيات , دون علمه . لم يبلغوه وحاصروها حتى في فترة العلاج , لم يتركوا أخويهم الصّغيرين ولا الأخوات الاقتراب منها . مع آذان صلاة الجمعة , وهي نائمة تقابل شرفة مُطلّة على البحر , مثلما كانت صاخبة بالحياة , بين يدي ابنها الحبيب ورد يقرأ لها القرآن , ماتت , أمسك سمير أصبعها مُشهّدا لها . دخل ورد أزمة حادة وطويلة بعدها , عرف في آخر أزمته أنّها بسبب صدمة موتة الأم . وموت الأم أكبر صدمة .

عماد هلالى
12-09-2018, 11:46 PM
انتقام

انتقام المرء ممّن أساء اليه تجد ما يُبرّره , وان كان الإنتقام لا يُستحب مطلقا , لكن هل يوجد تفسير مقنع للإنتقام ممّن أحسن اليك ؟ المكر في الأم أخذ شكل الإنتقام بعد موتها , في ابنيها ورد وسمير . كانت تريد أن توثّق حقّهما في المسكن قبل موتها , حين مرضت , ولم تلحق . هي تعرف نوعيّة أبنائها الكبار , وقد فعلوا أضعاف ما تخيّلته , وليته كان بالنسبة للبيت فقط . في مرضها أوصت ابنتيها الكبيرتين فاطمة وبركة أن يتصالحا , كانت بينهما عداوة تقليدية مزمنة , وحين ركبت السيارة أمام باب الدار في سفرها الذي عادت منه في صندوق , أوصت على ابنة أخيها , كانت تقف قربها , لم تتزوّج , قالت اعتنوا بها , وابتسمت للجميع وقالت : لا تقلقوا علي . عادت في صندوق الأموات من العاصمة في سيارة كبيرة مغلقة , جلس ورد وسمير مع الصندوق . الطريق طويلة قطعتها السيارة ليلا , ورد لم يتحمّل وسمير كان أشد بأسا منه , وصبّره طيلة الطّريق . جنازة الأم ( خاتم ) كبيرة ومهيبة , قال عنها بعض الأعيان الكبار في المنطقة : لم يسبق أن رأينا جنازة امرأة بهذا الحجم . مباشرة بعد الدفن جاء اسماعيل بالعالية أدخلها الدار . وسرعان ما خلا البيت , لم يكن كعزاء الأب الذي استمر إلى الأربعين , ليس للأخوات الكبار ولا للإخوة ما للأم من صلات اجتماعية . حتى بينهم , لا يلتقون الّا بدافع شر , أوانتقام .

ورد دخل في حالة من العزلة والكآبة , سمير توقّف عن دراسته الجامعية في الطب بسبب الإضطرابات في تلك الفترة العصيبة التي عاشتها البلد , هو يدرس في بلاد القبائل , وكثرة الاضرابات . آنس وحدة ورد , وعوّضه فقد الأم , أصبح بالنسبة له كل شيء . وبسبب كثرة حديث اسماعيل وزوجته العالية عن سمير والسخرية منه أمام ابن سعاد الكبير عندما يذهب اليهما , وهو ضخم الحجم , متخلّف ذهنيّا وحقود , وبسبب أيضا تربية أمه , وكل أخواتها يفعلن هذا مع أبنائهن , يسخرن من أخوالهم ويضعونهم في موضع تنافس معهم . قال له سمير : اسكت قليلا دعنا نتابع الأخبار , ردّ عليه بعنف : لا تسكتني , وقال لأمه : هاتي سكينا . حذّرت سعاد جميع أخواتها أن لا يذكرن السكين في حديثهن عمّا جرى , حتى الأخت أميمة التي تسكن بعيدا كذبوا عليها . في الليلة التي بعدها ذهب سمير إلى الأخت الصغرى مريم أعطته ورقة نقدية , ذهب إلى محطة المسافرين وغادر البلدة , مع أول حافلة متّجهة إلى بلد حيّه الجامعي القديم , عاد يستأنف حياته الجامعية بعد أن توقّف عنها منذ زمن طويل . صدمة ورد كانت قويّة من هول المشهد الذي حضره , وأنّه واجه الوحدة والفقد مرّة أخرى . جاء أحمد ونذير يضحكان ويستهزئان ممّا حدث . كلّمه بعد شهرين نذير قال له بمنتهى الوقاحة : كلهم يحسبونك غادرت المنزل بسبب ابن أختك سعاد . عاشت سعاد فترة في بيت العائلة , ورد يقضي كل أوقاته في الغرقة وحيدا , وهي تمكث في غرفة الأب مع ابنها وابنتها التي أنجبتها من زوج آخر , يغلقون على أنفسهم الباب في وجبتي الغذاء والعشاء . استغلّت عيش ورد وحيدا وصمته , فصارت تختلق عنه الحكايات . تؤلّف قصصا عن حماقات يرتكبها تُضحك بها أختها الصغرى ( مريم ) وزوجها الجديد , وهو من بيت وضيع يشتغل في الصّرف الصّحي التابع للبلدية . تفنّنت في اظهاره في شكل مجنون . بعد أيام , جمعت كل أثاث البيت , حتى الأشياء الصغيرة منه , وضعتها في غرفة الأب التي مكثت فيها . حين تذهب إلى عملها صباحا تترك ابنها يحرس الأثاث , أعطته مفتاح البيت , ورد في غرفته يسمعه يفتح ويغلق الباب , يدخل ويخرج ويلف حول البيت , كأنّه يحرس زنزانة . وفي صباح يوم حين أفاق ورد من نومه , وخرج من غرفته إلى وسط الدار , تفاجأ بالمنزل فارغا , أخذت سعاد كل ما فيه وغادرته مع ابنها وابنتها , وتركته وحيدا في منزل فارغ . لم يكن المشهد الّا ( برومو ) مسلسل طويل عنوانه .. انتقام .

عماد هلالى
14-09-2018, 12:02 AM
صمت

صمت المكان , مع الوحدة والعزلة , وفقد الأحباب , وغياب القوى التي تحميه وتسانده , كل هذا جعل ورد يبحث عن أكبر قوة في الوجود , التي يستمد منها كل الوجود , قوامه وبقاءه . تشعر به عندما تفقد كل أحد , رغم أنّه كان ولا يزال معك , في كل أحوالك , فالإنسان يشعر عادة بما يُشاهده بعينيه فقط , وهذه أكبر خدعة عاش أغلب الناس بها حياتهم , أن تشعر بما تشاهده فقط . شعر بالقوة الكبرى الواضحة , التي تتجلّى عندما تسقط كل التماثيل والقشور الزّائفة . شعر بمركز القوة الوحيد , وأراد الاتصال به , والتواصل معه . كالطريق الذي تسلكه وأنت لا تعرف أنّه سيوصلك , ولا تعرف لماذا ولا كيف سلكته , كأنّ الهاما ما دفعك اليه , ولا تعرف مصدر الإلهام , سلك ورد طريق الصّمت , كي يسمع الكلام الحق , وسط ضوضاء وغوغاء الكلام الكاذب الخادع . لا يتكلّم ولا ينطق أي كلمة , الّا لفظ الجلاة , الله . ويكتفي بالإيماء أو حركة وجهه عند الضّرورة , وتشكّلت طبقات أخرى من الصمت داخل نفسه , أصبح لا يتكلّم حتى مع نفسه , في ذهنه دون أن ينطق بفمه , الّا لفظ الجلالة , الله . وحتى في نفسه وذهنه لا يقول لفظ الجلالة عندما يكون في أماكن غير طاهرة , كبيت الخلاء . ترك عالم المُلك , ودخل عالم الملكوت , في صمت .

عاد سمير بعد فترة , ولم يُكمل دراسة الطّب . الأخ الكبير اسماعيل صار قوّادا , بمساندة الأخ الأكبر أحمد الذي يستفيد منه بما يأخذه من مال باستمرار , وهو انتهازي وبخيل , لا يعرف في المال أباه , ويُسانده أيضا الأصغر منه نذير , الذي يفعل لهما أي شيء , حتى دون أن يطلبا , هو هكذا ينشط في أعمال الخسّة والنذالة , ينفّذ لهما خططهما ويتجسّس لصالحهما . دفع اسماعيل بأختيه المطلّقتين إلى الرذيلة مع زوجته العالية , بدأ بسعاد وتبعتها مريم , بمباركة الأخت الكبيرة بركة صاحبة الخبرة في هذا المجال عندما كانت شابّة , والنّساء الكبيرات في المنطقة والعجائز يعرفن ويذكرن سلوكها وقصصها المنحرفة أيّام زمان . أجّرت الأختين منزلا صغيرا سكنتا فيه مع بعضهما , تتصلان فيه بحريّة مع العالية زوجة اسماعيل سيّئة السمعة , ويسهّل اسماعيل اتّصالهن بالرجال , خاصة من الدرك والشرطة . ورم العار بدأ يكبر ويستفحل , واقترب من الأخت رشيدة . لم يستطع اسماعيل الإبقاء على عائلته الشريفة , بحكم طبيعته وسلوكه غير السوي الذي لا يتأقلم مع الحياة العائلية , وأراد أن يدفع بعائلته كلها إلى وكر الفحش والفساد . نية الإيقاع بالعائلة اشتركت فيها أطراف كثيرة , سجية زوجة الأخ الأكبر أحمد وأمها الساحرة التي استقبلت ورد عندما عاد بأمه ميّتة بالأحضان باكية , كمن يقتل القتيل ويلطم عند موته , وزوجة أكبر أبناء الأخوات ( مريم ) , التي فعلت عائلتها المستحيل كي يقام العرس ولم يتركوا جدّته ( خاتم ) تكمل علاجها , استعجلوا موتها , وأقاموا العرس قبل الأربعين . بدأ الإخوة الكبار يجتمعون ويُخطّطون للإيقاع بالجميع وتعرية البيت الذي قام على الشرف ويضرب المثل في الرّفعة والكرم . أخطر الأفكار تأتي من اسماعيل , تحدّثوا عن ورد والحالة التي يعيشها , وبدؤوا التفكير في خطة للنيل منه والإيقاع به , ثم دفعوا بالأخ الأصغر سمير إلى ترك حلمه وحلم أمه ( خاتم ) أن يُصبح طبيبا , فعلوا المستحيل واستماتوا حتى أدخلوه مهنة التمريض , وتوقّف عن الدّراسة , حينها قالوا : هذا هو الوضع الذي يليق به . مهنة بسيطة وشاقة بأجر ضعيف , يعيش مع ورد بمفردهما في الجزء المتبقّى من مسكن العائلة . ورد يُكلّمه فقط بالإيماء , كأن يقول نعم أو لا بصوت الأنين الخافت الذي يُصدره أنفه . يأنس بوجوده , يستمد منه القوة والعون رغم خموله وسكونه , وهو قد اقترب من الوصول إلى مركز القوة , وصل نهاية الطريق , وجد ما كان يصبو اليه , وأثمر ما عاناه طويلا من صمت .

ناديه محمد الجابي
14-09-2018, 06:58 PM
الأحداث تتلاحق ـ أحداث كثيرة ومؤثرة ـ ولكنك أضعت أهميتها
بذكر تفاصيل كثيرة غير هامة كان من الممكن اختصارها حتى لا يضيع منك المتلقي
جذبني أسلوبك الشيق للمتابعة بحوار داخلي
مشحون بالألم تبثه ذكريات مرة تخرج من الأعماق.
أتمنى أن تتقبل رأي كقارئة
ومازلت أتابع معك باهتمام
تحياتي وتقديري.
:sb::sb::sb:

عماد هلالى
14-09-2018, 10:47 PM
الأحداث تتلاحق ـ أحداث كثيرة ومؤثرة ـ ولكنك أضعت أهميتها
بذكر تفاصيل كثيرة غير هامة كان من الممكن اختصارها حتى لا يضيع منك المتلقي
جذبني أسلوبك الشيق للمتابعة بحوار داخلي
مشحون بالألم تبثه ذكريات مرة تخرج من الأعماق.
أتمنى أن تتقبل رأي كقارئة
ومازلت أتابع معك باهتمام
تحياتي وتقديري.
:sb::sb::sb:

شكرا جزيلا الأستاذة الأديبة نادية محمد الجابي , أكيد يهمني رأيك وأنا أعمل بكل ملاحظة وإشارة توجيه من حضرتك , واعجابك بالأسلوب شهادة أعتز بها , بارك الله فيك , خالص تحياتي وتقديري

عماد هلالى
16-09-2018, 09:07 PM
وحي

وحي في آخر طريق الصّمت . بينما هو ممدّد على فراشه , يقابله التلفزيون ولا يشاهده , وسمير ممدّد على الفراش الموازي يتابع برنامجا في التلفزيون , في أول الليل , حلّ سكون في المكان , وحالة مثل النّسيم يشعر بها تنساب على أشفار عينيه . بدأ المولى عز وجل يُكلّمه , كلام جميل متتابع , يفهمه ولا يكاد يعقله , أو يحفظه , كالشعر , لكنّه أعذب وأرق من كل شعر سمعه في حياته , كبردة المديح مثلا . كأنّ وصول الكلام اليه يتطلّب رقيّا روحيّا خاصّا , فلو نزل لحظة بمستواه ما أمكنه ادراك الكلام . بقي يُحاول جهده أن يحافظ على رقيّه الروحي الذي وصله بعد معاناة طويلة من الصّمت , ويصعب عليه التنازل عمّا وصل اليه من هذه الخصوصيّة , أو ترك هذا الشعور الفريد والسّعادة النّادرة التي اكتشفها ولم تكن أبدا في الحسبان . في هذه الأثناء كان الإخوة الكبار يمتلكون مفاتيح البيت , يدخلون ويخرجون في أي وقت , دون استئذان , وعندما تحدث مشكلة ما يتحجّجون بأنّهم لا يملكون المفتاح , ولو أرادوا تقديمه يقدّمونه على أساس أنّهم يعطونه مزيّة , حتى الأخت الكبيرة فاطمة امتلكت مفتاحا فصارت تدخل عليه في أي وقت ومتى تشاء . ومع هذه المعيشة الصّعبة , حاول ورد جاهدا أن يُحافظ على ما امتلكه من وحي .

طلب الله فوجده سريعا , وكلّمه . وبقي متّصلا في كل لحظة مع مولاه , يفهم بأدق إشارة كل رسالة تصله , وكل معنى . دار في ذهنه سرّا وصل اليه , همّ أن يتفوّه به , فقال له سمير ( وكان قربه ) : إنّ فلانة تعمل في مصلحة الوثائق والأرشيف , ففهم أنّ عليه أن يحتفظ بسرّه ولا يبوح به . تعلّق قلبه بأمر ما , فأحسّ بوخز , فهم أنّه قد أشرك بقلبه , وعرف صعوبة وخطورة الشّرك . مع اتّصاله بالله عز وجل , فقد الإحساس بالوقت , وشعر فعلا أنّ هناك أعواما كثيرة قد مضت , لا يعرف ان كانت آلاف أو ملايين السنين . يقضي وقته ممدّدا يقابل شاشة التلفزيون , في يده جهاز التّحكم , يستمتع بقناة إعلانات تُطلق مدائح دينية خفيفة , يشاهد فقط ماهو مبهج وسعيد , ولا يلمس زر قناة تُطلق برامجا فيها شر , وان كانت نشرة الأخبار , فبقي حريصا على جهاز التحكّم وكأنّه جهاز اتّصاله النفسي والروحي , كي لا ينزل أو يحيد عن حالة البسط والصّفاء التي يعيشها . ليس له أي مشوار خارج الدّار , الّا عندما يكبر شعر رأسه ولحيته فيضطر إلى الخروج إلى الحلاق , هذا المشوار يعمل له ألف حساب , يقصد حلّاقا في البلدة , يذهب سريعا ويعود سريعا , ويحرص الّا يتكلّم مطلقا . وأحيانا يدعوه سمير إلى الجلوس في مقهى في وسط البلد , محاولا إخراجه من الحالة التي دخل فيها . هو لا يريد الخروج أبدا من هذه الحالة , يحس بوزنه خفيفا , ويحس بأشفار عينيه , كمن يكون في حالة بين النّوم والصّحو . يجيء الوحي إلى العينين لأنّهما أكرم أعضاء الإنسان , لذلك يُطلق عليهما : الكريمتان . والكريمتان أكرم من يستقبل من الكريم .. أكرم وحي .

عبدالله يوسف
17-09-2018, 11:05 PM
بدأت بقراءة روايتك صباح اليوم وكدت أن أنهي قراءة كل ما كتبت لولا الوقت
وها أنا قد أنهيتها الآن
الأحداث والسرد يدفعاني لأن أكمل القراءة وأنا متشوق للمزيد
ربما لأن ورد يشبهني كثيرا في فترة الطفولة, إلا أني لم أبح يوما لأحد بتلك المواهب
بل إنني كنت أكتب الأغنية في كراس الدرس ثم أتوجها باسم فنان من المشاهير كأنها له
حتى لا يعلم رفقائي أنني من كتبها.

أعجبني ورد جدا وأشفقت عليه كثيرا
ربما قد أضاع حقه بسكوته واستسلامه لمن حوله

فقط في آخر فصل تحدثت عن وحي وكلام له من الله
فهل تقصد كلاما حقيقيا أم مجرد إحساس بالقرب من الله؟

عماد هلالى
17-09-2018, 11:58 PM
بدأت بقراءة روايتك صباح اليوم وكدت أن أنهي قراءة كل ما كتبت لولا الوقت
وها أنا قد أنهيتها الآن
الأحداث والسرد يدفعاني لأن أكمل القراءة وأنا متشوق للمزيد
ربما لأن ورد يشبهني كثيرا في فترة الطفولة, إلا أني لم أبح يوما لأحد بتلك المواهب
بل إنني كنت أكتب الأغنية في كراس الدرس ثم أتوجها باسم فنان من المشاهير كأنها له
حتى لا يعلم رفقائي أنني من كتبها.

أعجبني ورد جدا وأشفقت عليه كثيرا
ربما قد أضاع حقه بسكوته واستسلامه لمن حوله

فقط في آخر فصل تحدثت عن وحي وكلام له من الله
فهل تقصد كلاما حقيقيا أم مجرد إحساس بالقرب من الله؟
أسعدني كثيرا حضورك الأستاذ الشاعر عبد الله يوسف , وأرجو البقاء معي إلى آخر فصل في الرواية , مثير جدا ما تحدّثت عنه بخصوص مواهبك الرائعة في طفولتك , وهذا فعلا ما يُميّز رواية السير أنّها تكون قريبة من تجارب الآخرين , فكل انسان عنده ما يكتبه عن نفسه وحياته ونختلف فقط في بوحنا , أرجو أن أكون قد وفّقت في هذا البوح بما أريد أن أوصله من رسالة ربما ستكون أكثر وضوحا لاحقا . بخصوص سؤالك أخي الكريم عن آخر فصل ( وحي ) رغم أنّه موضوع شائك يختلف فيه الكثير من الناس ويتطلّب توضيحا ربما لا يتّسع المجال له , أنا أقصد بالوحي كلام الله عز وجل , أنّ الله كلّمه وليس مجرد القرب , والقرب غاية المنى . بارك الله فيك , ولك خالص تحياتي وتقديري

عماد هلالى
18-09-2018, 12:01 AM
مكر

مكر الإخوة الكبار بدأ برصد حركات ورد ومراقبته , وكثرة الحديث عنه والحالة الغريبة التي دخلها حسب زعمهم , وأخذوا يتحدّثون عنه للأصحاب والجيران . بدأ كلام النّاس يكثر حوله ونظرة الغرابة التي يفتعلونها عندما يرونه في الشارع , رغم خروجه القليل . وبدأ السؤال السحري الذي يُطلقونه سكان القرية عندما يريدون ادخال ضحيّتهم عالم الجنون , وهو : ما به ورد ؟ . تفاجأ مرّة حين كان يمشي في وسط البلدة بسيّارة تتبعه ببطء , اكتشف أنّهم الإخوة الكبار قد تتبّعوا خطواته منذ خروجه من البيت . نادوه فصعد معهم , وأخذ نذير ينتقد طريقة مشيته وأسلوب لباسه , وهو آخر من يمكنه التّكلّم عن الذوق واللباس لأنّه جمع بين بشاعة المنظر والجوهر , ويقول له معنّفا : هل يوجد شخص طبيعي يمشي هكذا في وسط البلدة ؟ وأعادوه إلى البيت . أخبر أخاه الأصغر سمير بما حصل معه فقال له أنّهم فعلوا معه نفس الشيء سابقا . اتّفقوا على برنامج ليُقدّموا لهما الطّعام , ورد وسمير , الغذاء من بيت أحمد والعشاء من بيت نذير مثلا , أو أسبوع من بيت وأسبوع من آخر على أساس أنّهما قريبين , والبيتان ملتصقان بالسّكن العائلي . مع بخلهما الشديد الذي لو سمع به الجاحظ لأفرد له فصلا خاصا في مصنّفه " البخلاء " فقد وجدت سجيّة ( زوجة الأخ الأكبر أحمد ) فرصتها الجيّدة في السحر , وهي تواظب عليه وعندها لوازمه , وان نقصها أي شيء أو احتاجت إلى مساعدة ستجدها قريبا عند أمّها , وحانت فرصتهما الكبيرة لما خطّطاه طويلا من مكر .

مع بخلهما وتقتيرهما الشديد فيما يُقدّمانه من أكل , فقد كانا يمنّان ويُكثران في المن في أكثر من مناسبة , ولم يتركا شخصا قريبا أو بعيدا الّا أخبراه أنّهما يُقدّمان لهما وجبتي الغذاء والعشاء . مرّة قال نذير لسمير : لماذا لا تغسلان الأواني حين تُعيدانها , وسمير مشغول جدا بعمله المتعب ويعود إلى الدار في أحيان كثيرة في أوقات متأخّرة . وقال له مرّة صراحة : هذا كثير , لقد تعبنا من تقديم الطّعام كل يوم , يجب أن تُدبّرا أمركما بنفسيكما . ثم ما لبثوا طويلا , الإخوة الثلاثة , حتى قرّروا أخذ ورد إلى طبيب أمراض نفسية وعصبيّة , استسلم للأمر ولم يكن في حالة يستطيع فيها القرار والإختيار , خصوصا وقد ألحّوا كثيرا ورغّبوا له الأمر . وقد كانت زوجاتهم تدفعنهم إلى هذا , سجيّة عندها أخ مريض عقليّا , عقوبة ربّانيّة بما تفعله أمها في النّاس من سحر , أرادت أن تُلحق ورد به مكرا . في أول زيارة إلى الطبيب , دخلوا معه وكلّموه طويلا فيما يفعله . تفنّن نذير , وهو أكثر الإخوة حرصا على معالجة ورد عند طبيب عقلي , في سرد والصاق أغرب التّصرّفات بورد , أحيانا كثيرة يصف التّصرفات التي يفعلها هو , والشعور الذي يحس به , لأنّه شخص غير طبيعي , ومريض نفسيّا وعصبيّا , كان يسمعه كل من ينام في البيت عندما يقوم ليلا يتحدّث مع نفسه بصوت مسموع , ويُحرّك الأواني بلا سبب , ويُعيد نفس الحركة عدّة مرّات بسبب وسواسه القهري . حرصوا أشد الحرص على مواعيد الطّبيب الشهرية , وتناول الأدوية . أخذوه مرّة في الصّباح من فراشه بلباس النوم يجرجرانه في وسط البلدة , أحمد يمسك من ذراع ونذير من ذراعه الآخر , وشعره منكوش ولحيته كبيرة , بمظهر المجنون , رآه أكبر أبناء أخواته وكان متّجها إلى عمله فاندهش , وكلّمه , التفت اليه ورد حزينا . مرّة أراد أن يُدخله أحمد إلى الطبيب مع أخ زوجته سجيّة المجنون بإيعاز منها . ومرّة أراد أن يُصدر له بطاقة الأمراض العقلية , بإيعاز منها أيضا , بحجة أنّه سيستفيد من منحة الضمان الإجتماعي , حتى أشفق الطبيب وقال له وورد يسمع : لا تُخرج له هذه البطاقة وتُفسد حياته ومستقبله , حالته لا تتطلّب كل هذا , هذا مكر .

عبدالله يوسف
18-09-2018, 09:23 AM
أسعدني كثيرا حضورك الأستاذ الشاعر عبد الله يوسف , وأرجو البقاء معي إلى آخر فصل في الرواية , مثير جدا ما تحدّثت عنه بخصوص مواهبك الرائعة في طفولتك , وهذا فعلا ما يُميّز رواية السير أنّها تكون قريبة من تجارب الآخرين , فكل انسان عنده ما يكتبه عن نفسه وحياته ونختلف فقط في بوحنا , أرجو أن أكون قد وفّقت في هذا البوح بما أريد أن أوصله من رسالة ربما ستكون أكثر وضوحا لاحقا . بخصوص سؤالك أخي الكريم عن آخر فصل ( وحي ) رغم أنّه موضوع شائك يختلف فيه الكثير من الناس ويتطلّب توضيحا ربما لا يتّسع المجال له , أنا أقصد بالوحي كلام الله عز وجل , أنّ الله كلّمه وليس مجرد القرب , والقرب غاية المنى . بارك الله فيك , ولك خالص تحياتي وتقديري

إن شاء الله متابع معك أخي الكريم
أما بخصوص تكليم الله للبشر من أمثالنا فلا أعلم عنه إلا قول الله:" وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء"
لك خالص تحياتي ومودتي أخي الفاضل

عماد هلالى
18-09-2018, 03:37 PM
إن شاء الله متابع معك أخي الكريم
أما بخصوص تكليم الله للبشر من أمثالنا فلا أعلم عنه إلا قول الله:" وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء"
لك خالص تحياتي ومودتي أخي الفاضل
تسعدني وتشرفني متابعتك أستاذ , وأحترم رأيك , شكرا جزيلا ولك خالص تقديري واحترامي , ومودّتي

عماد هلالى
19-09-2018, 11:23 AM
مؤامرة

مؤامرة ادخال ورد مستشفى الأمراض العقلية خطّط لها اسماعيل , نفّذها نذير وأحمد , وباركتها الأخت الكبرى فاطمة , مع صمت وتواطؤ باقي الإخوة والأخوات الكبار . جلس الإخوة الثلاثة الكبار يخطّطون , قال لهم اسماعيل نأخذه إلى طبيب أمراض عقلية كبير في العاصمة , يتابع عنده العلاج حتى يبعثه إلى مستشفى الأمراض العقلية . حدّدوا موعدا مع الطّبيب ونظّموا الرحلة , يأخذه نذير في سيارته التي اشتراها مؤخّرا , ويرافقه أحمد مع صديق لهم , يذهبون إلى العاصمة لزيارة الطبيب ثم يتوجّهون إلى حمّامات طبيعية في أقصى مدن الشرق كانوا قد منحوا لاسماعيل في عمله رحلة عائلية فيها , فاستغل الفرصة . بعد أن ظبطوا وحدّدوا كل الأمور , توجّهوا إلى الأخت الكبرى فاطمة , استأذنوها في أخذ ورد إلى طبيب أمراض عقلية في العاصمة على أساس أنّها أكبر الإخوة والأخوات , والوالدان توفّاهم الله . أذنت لهم وقالت : لا يهم مادام أنّه طبيب وسيعالجه . جاء نذير يجري إلى البيت كعادته عندما يُكلّف بمهمة قذرة , دخل ونادى ورد , وقال له بمكر كبير : ستذهب معنا غدا إلى العاصمة , دون أن يشرح له إلى أين بالظبط ولا سبب هذا السفر المفاجيء . ورد ظن أنّه سيأخذه في رحلة سياحية من أجل التخفيف عنه وإخراجه من الكآبة التي يعاني منها والضغوط التي يعيشها , خاصّة وأنّه قد اشترى سيارة جديدة , وبعض الظن في واقعنا سذاجة وغباء . لكن سمير راودته الشكوك وقال له احذر ربما ينوون أخذك إلى مصحّة عقلية . وعندما اقترب ميعاد السّفر نصحه أن يكون فطنا و يعرف جيّدا إلى أين سيأخذوه , ربما تكون مؤامرة .

في هذا السفر الطويل تعرّض ورد إلى شتّى أنواع الإذلال من أخيه الكبير نذير , يصرخ في وجهه ويشتمه أمام صديقه , ويتّهمه في تصرّفاته . فتح باب السيارة ليغلقه جيّدا , فصرخ في وجهه : تريد أن ترمي نفسك ؟ مع تنمّره أوصى الصّديق المرافق بحراسته , وحدّثه كثيرا عنه هامسا , ولفّق الأكاذيب أنّه خطر وينوي الهروب . حين ركنوا السيارة في زاوية من شوارع العاصمة المزدحمة ذهب نذير مسرعا إلى عيادة الطبيب تاركا ورد خلفه يتبعه , تفصله مسافة كبيرة عنه والشارع زحمة والناس كثيرة , يغيب عن نظره كثيرا وأوشك ورد أن يتيه فعلا بين الشوارع . أحسّ أنّهم يريدون التّخلّص منه بأي طريقة , فالرحلة التي خُصّصت من أجله وجد نفسه مُهمَلا فيها . الطبيب عيادته كبيرة ويُرسلون له الحالات الصّعبة , قام بفحوصات وكتب له أدوية جد خطيرة , منها دواءا يوقف نبضات القلب يستعملونه بكثرة في الإنتحار . اشتروا الدواء مباشرة وأعطوه فشرب الأقراص , بدأ يغيب عن الوعي , يتمايل في مشيته كالسكران , ولا يكاد يرى أو يعقل شيئا . ذهبوا إلى الحمامات الطبيعية في الشرق , وورد في حالة أشبه إلى النوم منها إلى اليقظة , كأنّه يرى كل ما أمامه في المنام , ومن غفلته دخل رجله في بركة ماء تغلي , فاحترق . عادوا به إلى البيت بحروق بليغة في رجله , لزم الفراش , وتكتّموا على ما أصابه كي لا يتّهمونهم أنّهم أهملوه . أول ما يشرب الدواء يقع مغشيّا عليه في غيبوبة كاملة , أحيانا يسقط أرضا عندما ينهض كي يذهب إلى الحمام , لاحظ سمير أنّه يُغمى عليه مباشرة بعد شربه الدواء , قرأ العلبة فعرف أنّه الدواء الذي يستعملونه في حالات الإنتحار , وقد تعرّف عليه في تربّصاتهم عند دراسته الطب . عندما أخبر الأخ الأكبر أحمد بهذا أصر على أن لا يُوقف الدواء وقال له : لا تعرف أنت أكثر من الطبيب . أبعد سمير هذا الدواء عن ورد , توقّف عن شربه , ولم يعد إلى الطبيب , وفشل ما دبّروه من مؤامرة .

عبدالله يوسف
19-09-2018, 10:14 PM
بربك يا أخي, ما كل هذا الحقد الذي يكنّه هؤلاء الأخوة لأخيهم؟

عماد هلالى
19-09-2018, 11:06 PM
بربك يا أخي, ما كل هذا الحقد الذي يكنّه هؤلاء الأخوة لأخيهم؟
نعم يحق لك أن تسأل وتتعجّب , والقادم أفظع

عماد هلالى
19-09-2018, 11:10 PM
سوء

سوء أدب ووقاحة شديدة أن تُرسل الأخت الكبيرة لورد وسمير ملابس أولادها الداخلية وجوارب زوجها الممزّقة , وسوء أخلاق وقلّة ذوق أن تطلب الأخت رشيدة من سمير أن يشتري الأدوية التي يكتبها لها طبيب النساء , بدلا من أن تطلب ذلك من زوجها , سوء تقدير أن يُسأل ورد فقط عن غذائه وعشائه , ماذا أكلت ؟ سوء معاملة وقلّة احترام أن تجلس أخته بجانب رأسه وتحكي له يوميّاتها وهمومها كأنّها تتكلّم مع أمّها أو أختها . وكأنّهم كانوا ينتظرون هذا الوضع , وكأنّ مشهد ورد هذا كان في مخيّلتهم وكان حلمهم , وكأنّ ما حدث لورد هو فألهم . بسبب ما يفعله هؤلاء الإخوة والأخوات زادت حالة ورد سوءا , صار لا يُغادر فراشه , وعاش مع نفسه وصمته , يكتفي في الصّلاة أن يُردّد في قلبه مع الآذان , فيُوقف صوت التلفاز , ويُردّد في صمت . مكوثه في صالة البيت والنافذة التي تقابله , نافذة الصالة الملتصقة بساحة البيت , التي تراها زهرة زوجة نذير , من نافذة غرفتها , جعل زهرة تراقبه , وتلاحظ حركاته التي يفعلها ويداوم عليها بصفة مستمرة , وفي أوقات ثابتة , كتوقيفه الصوت عند سماع الآذان , حتى البرامج التي يُتابعها , وحاولت أن تكتشف سرّه والوقوف على ما يفعله ويريد فعله . بدأت تُرسل له اشاراتا لتضليله , يُساعدها زوجها ويستعملان ابنهما البكر شديد الغباء أيوب . يناديه الطفل أيوب من نافذتهم المطلّة على البيت وعندما ينهض ورد لا يجد أحدا , ثم يسمعهم يضحكون , ترفع زهرة صوت تلفازهم في الوقت الذي يوقف فيه ورد صوت تلفازه . متعة الأخ الأكبر نذير الكبيرة في المكر , نظرا لفراغ وقته وقلّة عقله , وحاول جهده ادخال ورد عالم الجنون , يسخر منه ويغمز عليه ابنه , ويفتعل بعض القصص التي يمثلونها لإرباك تفكيره ومخيّلته حتى يفقد الثقة في سلامة عقله , وهذا أقصى ما يمكن أن يفعله المرء من سوء .

سجيّة تبعث الغذاء بالتقتير , وكأنّه دواء وليس غذاء . وعندما تُرسل أوانيها القديمة الحقيرة ويأتي بها ابنها أو زوجها الأخ الكبير أحمد , يجب على ورد أن يأكله والّا اتّهموه أنّه يعتقد أنّهم يسحرونه فيما يُقدّمونه من أكل . يأتي أحمد بأكله مُعنّفا كأن يقول غاضبا : هاكم الأكل , ويلف على المطبخ ووسط الدار , ويقول : لماذا لا تُنظّفان ؟ ومثل هذا النوع من الكلام الذي لو قيل للمساجين لأحسّوا بامتهان الكرامة . يدخل عليه اسماعيل الذي يسكن بعيدا بلا استئذان , يفتح الباب , يُطل عليه وكأنّه ميّت , ويُلقي نظرة في الثلاجة , ثم المطبخ والحمام , ليعرف تطوّرات معيشته مع سمير باستمرار . أمّا مكر سجيّة زوجة الأخ الأكبر أحمد فهو لا يختلف عن شريرات وساحرات الأساطير , تماما كزوجة أب سندريلا مثلا . استغلّت فرصتها جيّدا , حتى ماليّا , وهي شديدة البخل والحرص على المال , فكانت تشتري للأكل من المبلغ الذي قد أخصّه زوجها , أرذل الأنواع وأقل الكميات , كي تحنفظ بباقي النقود ولو كان قليلا . وعندما تبرمج خروجا لزيارة ما , ترسل له مع ظلام الفجر , اناء عجين ( معكرونة ) بيضاء , مطبوخة في الماء فقط , لا مرق ولا حتى قطعة خبز معها . وتبقى بجانبه ينتظرها حتى موعد الغذاء . زهرة زوجة الأخ نذير , بعد طول المراقبة وكثرة التحليلات وعمق الاستنتاجات , أرادت أن تدلي بدلوها وتشارك الجميع تجربتهم في هذا الولد , كي تُبرز وجودها أيضا في العائلة . كمن يصمت دهرا وينطق كفرا , قالت لنذير زوجها : عندي الحل , وسأخبرك بالتفصيل قصة ورد , وأكشف لك سر ما به من سوء .

عماد هلالى
20-09-2018, 10:53 PM
مهمّة

مهمّة الكشف عن سر ورد وما به من سوء , تكفّلت بها جنّية , سخّرتها زهرة زوجة الأخ نذير , وعقدت معها صفقة عند أحد السحرة المشعوذين . تتكفّل الجنيّة بجلب أخبار ورد إلى زهرة مقابل التّمتّع به وبجسده جنسيّا . بدأت زهرة تبخّر , ويصل البخور إلى فراش ورد الذي لا يُغادره . في هذه الأثناء كان قد بدأ ورد يعيش حالة خاصّة مع نفسه , يريد أن يحافظ على ارتقائه الروحي الذي وصل إليه , وبدأت تتشكّل عنده بعض الوساوس . ينام فقط صامتا على فراشه , يقابل شاشة التلفاز , لا يتكلّم , ولا يتحرّك , حتى مصباح الصالة لا يطفئه , وجهاز التّحكم لا يُحرّكه الّا بحسابات دقيقة في تفكيره . يتفرّج صامتا , عندما يسمع الآذان يوقف صوت الجهاز ويُردّد مع المؤذّن في قلبه . يقوم يأكل وهو جالسا على فراشه في موعد الغذاء والعشاء , يؤنسه أخوه سمير الذي يُقدّم له الأكل ويُحدّثه رغم صمته وعدم تجاوبه معه . صار يخشى أن يخرج سمير ولا يعود ثانية , بتأثير وساوس غزت نفسه المتعبة , فكلما خرج سمير وأغلق باب الدّار , بمجرّد أن يسمع صوت غلق الباب القريب منه يقول في نفسه كلمة ( رحمة ) ويحرص على قولها مباشرة مع صوت غلق الباب , ويخشى ان لم يقلها لن يعود سمير مرّة أخرى , ولا يطمئن قلبه حتى يسمع صوت فتح الباب عند عودة سمير . وعندما يحين موعد النوم , ينام على شقّه الأيمن , يقرأ أذكارا مُعيّنة ويُغمض عينيه أملا في أن يفتحها في الصّباح ويكون حيّا , لأنّه بدأ يتخيّل نفسه أنّه لو أغمض عينيه ولم يقرأ هذه الأذكار سوف لن يفتحهما ثانية ويصبح ميّتا . مع غلق عينيه واطفاء نور الصالة , وأنوار الدار , بدأ يشعر بلمسات تتحسّس جسمه , تلمس شعره , تُقبّل شفتيه . ثم شعر بخيوط سرواله تفتح عقدها , ولمس مناطق حسّاسة في جسمه , حتّى يبدأ قذف المني . يتكرّر هذا كل يوم مع بداية الظلام , حتى خاف قدوم الّليل , ومع صمته الذي فرضه على نفسه , وحرج الموقف , لم يستطع البوح بهذا إلى أخيه سمير الذي يوجد احترام كبير بينهما , رغم أنّه اعتبرها أمورا خطيرة وجد مُهمّة .

تصرّفات الجنيّة التي يبدو أنّها عشقته , تكرّرت في النّهار أيضا , بصفة كبيرة وفي أوقات كثيرة . وسبّبت احراجا كبيرا لورد , فأحيانا يكون جالسا مع سمير في الغذاء , يبدأ يقذف بغزارة ويبلّل لباسه والفراش . تتحكّم زهرة في جنيّتها الشّاذة بواسطة البخور , فيغطي البخور كل فراش ورد , وأحيانا يكون سمير متّكئا على الفراش الموازي يشاهد التلفاز . الجنيّة تتحرّك في جسم ورد حسب ما تريد , وبدأ بذكائه وفطرته النّقيّة يفهم ما يدور بينها وبين رئيستها في هذه المُهمّة زهرة . أحيانا يشعر بها في قلبه تكتشف عواطفه وأحاسيسه , وأحيانا أخرى قرب أذنه فيسمع ما يدور من حوار بينها وبين زهرة . ثم في جبهته وناصيته , عندما تريد الجنيّة أن تغوص في أعماق ذاكرته , يبدأ جبينه يتصبّب عرقا , وتبدأ أحداث ماضيه وحياته السابقة تعود أمام مخيّلته , وكأنّه يُشاهدها في شريط فيديو , ويسمع ما تقوله زهرة للجنيّة ويكون معهما زوجها نذير , عندما يُريدان نذير وزهرة التوقّف عند حادثة معيّنة يسألان الجنيّة فيتوقّف شريط الذكريات عند هذه الحادثة , ويتعرّفان على كل تفاصيلها . وجبين ورد يتصبّب عرقا , وهذا أشد ما أرهقه نفسيا وعصبيا . هكذا دخلا حياته كلها وتعرّفا على كل تفاصيلها مهمّة وغير مهمّة .

عماد هلالى
21-09-2018, 09:40 PM
ظلام

ظلام دامس هذا الذي دخله الولد , بعدما تكالب عليه الجميع , وزاد الوضع تفاقما ادخاله عالم الجن من طرف تصرّف ظالم وأحمق من زهرة زوجة أخيه نذير . لاحظ وجود سحلية تقابله على النافذة , تظهر في الليل وتبقى ثابتة لا تتحرّك حتىّ الفجر , عرف فيما بعد أنّها الجنيّة التي تكفّلت بمراقبته ونقل أخباره , ودخلت البلدة من جديد في حرب طائفية , جاءت شديدة هذه المرّة لم يسبق لها مثيل , استهدفوا بها كل الوطن حيث أرادو ادخاله الربيع العربي عنوة . كعادته ورد يمرض في الحروب وأيام الفتن , هذه المرة كان مريضا أصلا فزادت حالته سوءا , وتكثّف الظلام حوله . الذي يعيش هذه الفترة حالكة السواد سيعتقد أنّ فجرها لن يطلع أبدا , وأنّه يستحيل سيأتي يوم وتعود البلاد إلى حالها , ويعود الناس إلى العيش في سلام . سمير اعتنى بورد عناية خاصّة , ينهض في الصّباح باكرا يجلب له فطورا جيّدا , وفي الليل يُعد له الشواء في فناء الدار . ثم ما لبث أن فكّر الإخوة الكبار من جديد في شأن ورد وحالته , وقرّروا نقله إلى العيش في بيت أخته سعاد المطلّقة التي تعيش مع ابنيها وابنتها الصغيرة في منطقة بعيدة مهجورة في أطراف البلدة اسمها ( الشعبة السوداء ) , سميت هكذا لسواد حجارة الجبال المحيطة بها . لم يعرف سبب نقله , وقد رغّبوا الأخت سعاد بمنحها مبلغا ماليا كل شهر لمصاريف أكله . عند انتقاله معهم في سيارة نذير المشؤومة شعر بحالة استنفار قصوى من الجن . الجنية المسخّرة من طرف زهرة زوجة نذير , زعيمة على جيش من الجن الصغار , أحس بهم ورآهم كالذباب أو كحشرات صغيرة الكترونية , هكذا شبّههم , ينتقلون بسرعة بين أذنيه ويطيرون عبر نافذة السيارة بجانبه , ويسمع كلام زهرة معهم . حتى وصل إلى الدار , دخل ونام مباشرة على فراشه الجديد , وبدأ مرحلة أشد من كل سابقاتها في العيش في ظلام .

لا ينهض من فراشه الّا إلى الحمّام , وبدأت سطوة الجن ومعركتهم . يحرّكون أواني المطبخ , يشعلون جهاز الراديو حين ينامون , ويتحرّكون حوله كالحشرات , ويسمع كلام زهرة ونذير , وإشاراتهما إلى الجنية . لاحظ أنّ أخته سعاد حين تخرج من الغرفة التي ينام فيها إلى المطبخ , تدخل من جديد , في سرعة كبيرة , وتقف أمامه طويلا . وعندما تنام سعاد , تدخل عليه بكأس الماء تضعه بجانبه . تكرّرت هذه الحركات والمشاهد الغريبة , إلى أن وصلت إلى ذروتها حين ذهبت سعاد إلى عملها صباحا . جاءته الجنية في شكل أخته سعاد , سمع حركة أواني في المطبخ , ثم دخلت عليه بصينية عليها فطور , وضعتها على الطاولة , وجلست قربه في الفراش تحاول اطعامه . بدأ الجن يتشكّلون أمامه بشخصيات أناس يعرفهم , وبدأ يسمع الجنية , أنّها معجبة بشكله وبصوته , وفهم أنّها تحاول خطفه وادخاله عالمها . صار لا ينام , يبيت ساهرا في الظلام , لا يعرف الأوقات , يغمض عينيه ولا يفتحها مخافة أن يؤذيه الجن , ودخل حالة صعبة جدا لم يكن يتخيّل أبدا أنّه سيخرج منها . بدأ الإبن الأكبر لأخته سعاد ( سيف ) , يتذمّر من وجود ورد في بيتهم , ونسي أنّه قبل فترة قليلة عاش مع كل أسرته في بيت ورد يخنقونه حتّى لا يكاد يقدر أن يُكلّم أمه أو تُكلّمه . جاء سمير ذات ليلة إلى ورد وهو ممدّدا على فراشه , وهمس له أن يجب أن تغادر وتعود إلى الدّار , ربما تكون قد أثقلت عليهم وسأعتني بك . رجع معه في تلك الليلة والمكان بعيد وناء , وعند الوصول أمام الدار أعاد سيف الأحمق المغرور سوء أدبه مع خاله سمير , أمسكه من قميصه محاولا ضربه . عاد ورد إلى فراشه ومكانه الذي مكث فيه صامتا لا يتحرّك , سنوات عديدة , في ظلام .

ناديه محمد الجابي
22-09-2018, 12:13 PM
سارت القصة في خطين مختلفين كل الإختلاف ـ وكل منهما شائك الخوض فيه
المنحى الأول .. الارتقاء الروحي لبطلنا حتى يشعر إنه في معية الله
ومن يكن في معية الله يهبه الله قوة مستمدة من إيمانه تختلف عن هذا الضعف
والسلبية التي رأيناها.
والمنحى الثاني.. هو تلبس الجن بالإنس ومعاشرته والتحكم فيه ـ ورغم إننا سمعنا
عن حالات كثيرة بهذا المعنى ، إلا إنه يبق حديث شائك الخوض فيه.
يتألم الإنسان أن يكون هناك نفوس تحمل هذا القدر من الشر ـ خصوصا إن الأصل طيب
ولكن يخلق الله من العالم فاسد ، ومن الفاسد عالم
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
متابعة معك...
:sb::sb::sb:

عماد هلالى
23-09-2018, 11:10 AM
سارت القصة في خطين مختلفين كل الإختلاف ـ وكل منهما شائك الخوض فيه
المنحى الأول .. الارتقاء الروحي لبطلنا حتى يشعر إنه في معية الله
ومن يكن في معية الله يهبه الله قوة مستمدة من إيمانه تختلف عن هذا الضعف
والسلبية التي رأيناها.
والمنحى الثاني.. هو تلبس الجن بالإنس ومعاشرته والتحكم فيه ـ ورغم إننا سمعنا
عن حالات كثيرة بهذا المعنى ، إلا إنه يبق حديث شائك الخوض فيه.
يتألم الإنسان أن يكون هناك نفوس تحمل هذا القدر من الشر ـ خصوصا إن الأصل طيب
ولكن يخلق الله من العالم فاسد ، ومن الفاسد عالم
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
متابعة معك...
:sb::sb::sb:

شكرا جزيلا شرّفني حضورك ومتابعتك بارك الله فيك , فعلا المواضيع شائكة يصعب الخوض فيها , ومجالاتها متناقضة , كانت عبارة عن مرحلتين , مرحلة الإرتقاء الروحي أولا , ثم تكالبت عليه القوى الشيرة فدخل العالم المظلم , وفعلا ملاحظتك في محلها بالنسبة للشر مع الأصل الطيب , خالص تحياتي وتقديري

عبدالله يوسف
23-09-2018, 10:42 PM
أستاذ عماد
هل جميع أحداث القصة واقعية أم بها أحداث من خيال الكاتب؟

عماد هلالى
23-09-2018, 11:10 PM
أستاذ عماد
هل جميع أحداث القصة واقعية أم بها أحداث من خيال الكاتب؟
الأحداث كلها حقيقية أستاذ , وشكرا على المتابعة , خالص تحياتي وتقديري

عماد هلالى
23-09-2018, 11:12 PM
فجر

فجر الليل الطويل يولد من رحم حلكة الظلام , صوت ظل يناديه من داخل أعماق نفسه , أن انهض . صوت خافت لكنّه عنيد , يقول له : العبرة ليست في الانهزام , الهزيمة سهلة , والمنهزمون كُثُر , البطولة في الانتصار . لم يتوقّف الصوت حتّى سمعه الولد الذي أنهك جسمه وروحه عناء رحلة الظلام الطويلة , التي دامت لسنوات عديدة , حتّى اعتقد الجميع أنّه انتهى ومات . الّا الأخ الأصغر سمير , لم يفقد أبدا ثقته فيه . بقي صامدا كالجبل , متمسّكا بأرق خيط للأمل , يقول له دائما : لو اعتقد الناس جميعا أنّك انتهيت , أو فقدت عقلك , تأكّد أنّني أنا أؤمن بك وبقوّتك وارادتك . بحث ورد وفتّش عن المخرج من أزمته , قام يتلمّس في الظلام باحثا عن باب الخروج , فلم يجد الّا الله وحده , الكفيل بانقاذه . تدرّج مع نفسه , بدأ بعودته إلى الصّلاة , صلّى أول جمعة بتحدّي وشجاعة كبيرة , ثم بقي يواظب على صلاة الجمعة فقط , عدّة أسابيع , وبدأ يُصلّي كل الأوقات . اتّخذ أذكارا يتلوها بعد كل صلاة , وهي كتابين : الدعاء المستجاب , الذي فيه أدعية موزّعة على أيام الأسبوع , ودلائل الخيرات في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم . استمر على تلاوة الكتابين عقب كل صلاة , مع تدوير سبحته في الصلاة على النبي والإستغفار , في نهار وليل , وبعد صلاة فجر .

التزم بقراءة سورة البقرة كاملة بعد صلاة العصر كل يوم , يجلس في وسط الدار , ويتلوها بصوت مرتفع . أحب في تلك الأيام مشروبا حلوا , مشكّل من حليب ممزوج بعصير لوز واجاص , صار يشربه عند تلاوته السورة , مع كعك في ساحة الدار قرب الأشجار . وذات عشيّة زاره ابن بنت خاله الكبيرة المتوفية , ولم يكن يزوره أحد , جاءه مع ابنه الصغير محمد . جلسا معه في صالة الدار وقدّم لهما مشروبه الذي يحبّه , لاحظ أنّ الصغير لا يشرب , قال له : اشرب يا محمد هذا العصير , انّه حلو وسيعجبك , نظر اليه الطفل باسما وقال له : أنا أحبه لكن لا أشربه . رأى ورد في وجه الطفل كأنّ النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يُكلّمه . في رحلة بزوغ الفجر سار ورد على اشارات يتلقّاها في الطريق , تُحفّزه وترشده , وتدلّه عند كل منعطف , وظهر له شيخ الطريق صاحب الوقت الذي وصل اليه سابقا قبل أن يدخل محنته . كان يظهر له ويُكلّمه في أشكال أناس يلتقيهم في يوميّاته , ويدلّه على أمور يفعلها وأوراد يلتزم بها . تحسّنت حالة ورد كثيرا , صار يخرج ويتحرّك , وفي يوم أتاه شخص لا يعرفه , من بلاد أخرى , رقاه . مع رقيته تكلّم الجن على لسان ورد , ولم يسبق أن حدث معه هذا في رقية من قبل , وأخبره عن عدّة أسرار وخفايا تخص ماضيه وما حصل له , لقد سحروه منذ بداية شبابه , عند الثامنة عشرة أو أقل , كي لا يثبت في عمل , وهذا ما حصل له , وربط عن الزواج , مع سحر اذلال ومهانة , كي يصبح شخصا منبوذا , وضيعا وحقيرا . هذه الرقية المباركة ختمت مرحلة بزوغ الفجر , أصبح ورد طبيعيا جدا , وبدأ يتأهّب لعودته . عرف أنّ ما كان فيه ابتلاء من الله وامتحان يُحضّره لمرحلة نجاح كبرى قادمة , وقد نجح في الإمتحان , صبر وانتصر في البلاء , وعبر المحنة في سلام . كل ظلام يصنعه ليل , أكيد سيعقبه فجر .

عماد هلالى
25-09-2018, 10:23 PM
عودة

عودة ورد إلى عالمه الجميل جاءت سريعة ومفاجئة , في أقل من عام , عاد أفضل ممّا كان , خيّب ظنون من كادوا له , وحدث ما لم يكن في الحسبان . الذي استطاع أن يحوّل دفتر ذكريات إلى وسيلة تواصل ممتعة أيام الشباب واليفاعة , كيف سيفعل إذن مع وسائل التواصل الجديدة , ووسائط الصوت والصورة ؟ عندما قرّر أن يفتح حسابا في الفيسبوك , أراده باسمه الكامل وصورته الشخصيّة , وأن يعبّر فعلا عن شخصيّته . أخذ الأمر بجديّة منذ البداية , وقرّر العودة إلى الفنون التي يعشقها , خاصّة الرّسم , تدرّج مع نفسه في عودته , الرسم بالأقلام ثم المائي , إلى الزيتي . أخذ يرسم ويضع صور رسوماته في الفيسبوك , ليشاهد ويكتشف تفاعل الناس , ويتواصل معهم . وفتح صفحة خاصة بالكاريكاتور , يضع فيها الكاريكاتور كل يوم , عن الأحداث التي تمر محليّا ودوليّا , أو يُعبّر عن أمثال ومعاني في صميم المجتمع . لقيت رسوماته الكاريكاتورية اقبالا , ورواجا كبيرا , يحتفظ بها الشباب في هواتفهم ويتبادلونها بينهم . وعاد إلى الكتابة , تفنّن في منشوراته , وبدت جرأته واضحة , والحريّة الداخليّة التي يتمتّع بها . صالة المنزل التي شهدت أحلك الليالي صارت لياليها أنسا وبهجة , كلما أنهى لوحة زيتية يدعو صديقه المغني وعازف العود ورفاقه يصحبونه في لمساته الفنية الختامية , وينقلها على المباشر في الفيسبوك , أسماها " ليالي ورد " وتابعها الناس بإعجاب كبير . أقام حفلة عيد ميلاد في وسط الدار , في سهرة جميلة حضرها الأصدقاء ورقص فيها شباب الحي , وأحيتها فرقة موسيقية . شكّل ظاهرة , وحالة لم تحدث من قبل , اعتقد بعض الشباب المغرور أنّ نجاحه جاء فقط مع الفيسبوك , ولم يعرف أنّ تاريخه في الإبداع طويل وحافل , وهذه مجرّد عودة .

اشتغل في رسم البورتريه للناس , بمقابل مالي بسيط , ونجح , يرسلون له صورهم عبر مسنجر الفيسبوك ويرسمها . ثم رسم على الجدران في المؤسسات التربوية , كالمدارس الإبتدائية ودور الحضانة , واشتهرت رسوماته . لم تمض الّا فترة قصيرة حتى امتلأت جدران البلدة بخطوطه البديعة وألوانه الزاهية , محلات مختلفة ومطاعم . أحبّه الناس قبل فنّه وصار مُلهما للكثيرين , أراد أن ينجح أيضا في اليوتيوب , ويمارس هوايته الدفينة في الفيديو . أول بودكاست له صوّره بالهاتف وشاركه فيه فنان كبير من وهران , وفي رمضان أنجز برنامج الفوازير , اختار موضوعا من التراث الشعبي القديم , يتحاور في كل حلقة مع فنان أو شخصية معروفة من المنطقة , يقدم معه الفزورة , وهي عبارة عن قول شعبي جسّده وعبّر عنه في رسم كاريكاتوري . نجح البرنامج الذي بثه في قناته التي افتتحها في اليوتيوب , اجتمعت على مشاهدته الأسر , وأشاد به الأعيان والأئمة في المنطقة . ومرّة حين كان يرسم على جدران ساحة مدرسة ابتدائية , دق جرس الإستراحة وخرج التلاميذ مسرعين . تأمّلهم ودارت في ذهنه فكرة , ماذا لو خرج هؤلاء التلاميذ فوجدوا نشاطا في الساحة ؟ , أنشطة ومسابقات وجوائز , فكّر في برنامج سمّاه " جرس الفسحة " صوّر أول حلقة في تلك المدرسة , ثم انتقل بين عدّة مدارس في أحياء المدينة . تلقّى ترحيبات من مفتشين تربويين , وأشاد به المعلمون ومديرو المدارس . وأعجب التلاميذ الصّغار فصاروا يكلّمونه في الشارع فرحين . تعامل معه الناس كالنجوم , يُكلّمونه المارة الذين لا يعرفهم مشيا أو من السيارات , يلتقطون معه الصور . والذي أعجبه خاصة في نجاحه في الوسائط الإجتماعية , أنّه وصل وأحبّه كل الناس , من مختلف شرائح المجتمع والمستويات , المثقف , العامل , البسيط , المرأة , الشيخ , والطفل , وحمل في قلبه الخير للناس , أراد أن ينفعهم بما عنده من رصيد ثقافي , ويسعدهم بفنّه , نظرا للتجربة الصّعبة التي مرّ بها , التي لا يتمنّاها لشخص آخر , وشكرا لله أن أخرجه من المحنة , وأعاده ومنحه أكثر ممّا أمل ورجاه , وكانت أروع عودة .

عماد هلالى
26-09-2018, 10:00 PM
تألّق

تألّق ورد يُصاحب إبداعه , وكأنّه على موعد مع النجاح والشهرة , بدأ نجمه يسطع ويتوهّج . كتب الرواية التي كان يحلم بكتابتها منذ كان صغيرا , " أقواس الحب والذكريات " يصف بلدته المتميّزة بالتراث ويعرض جمال تقاليدها وعاداتها في إطار قصة عاطفية اجتماعية , نشرها في حلقات قصيرة في الفيسبوك وصاحبت منشوراته صورا تُعبّر عن أحداث القصّة مثّلها مع أصدقائه , تابعها الناس بإعجاب شديد , أراد طباعتها في كتاب , وانتاجها في مسلسل وفيلم سينمائي لاحقا . التقى بصديقه الذي يعمل في الخليج من جديد عبر وسائط الأنترنت , فرح بلقائه كثيرا ودلّه على مسابقة للقصص العربية في المانيا , موضوعها قصة تحكي عن بلدة عربية , اقتطع بعض الأجزاء من روايته وشارك بها كقصة قصيرة . عاد إلى الموقع الأدبي الذي نشط فيه قديما , سجّل من جديد , وتألّق في كتابة القصص , أشاد بكتاباته أدباء عرب كبار . وعندما انطلقت مسابقة دولية أعلنها أمير خليجي في صناعة الأمل بمشاريع تخدم المجتمع العربي والشباب , شارك فيها بمشروع تشجيع الشباب على الإبداع , بادر إلى النشاطات المختلفة وأعمال الخير , وتطوّع في تزيين الشوارع , وانطلقت مسيرته بين ابداع وتألّق .

مشاركته في مسابقة صناعة الأمل , ساعدته على التّعرّف على نجوم فن كبار , صار صديقا للكثير منهم , ورد المحبوب من طرف الناس والبسطاء , عنده قبول عند المشاهير والنجوم , سريع التعرّف عليهم ومصادقتهم . رسم اللوحات الزيتية , نقل التلفزيون أعماله , وظهر في أكثر من مناسبة , تم تكريمه في مصر في معرض فن تشكيلي دولي مثّل فيه بلده , قدّمته الصحافة المصرية بصفة الفنان الكبير , وتكلّموا عنه في التلفزيون المصري . بدأ يتّجه إلى السينما التي يحبّها منذ طفولته ولم يجد كيف يمارس هوايته لها . طموحه أخذه إلى صناعة الأفلام القصيرة , والإعداد لإنجاز مسلسلات درامية , يتعاون معه فيها فنانون كبار ونجوم , ومبدعون من مصر . دفع ملف الحصول على بطاقة فنان , وضع فيه ابداعاته القديمة وما نشرته له الصحافة من قصص وأشعار ورسومات تعبيرية وكاريكاتور في الثمانينات عندما كان يافعا , فقد احتفظ بها في سجل " أيام " . كرّموه في عدّة محافل وقدّمت له الكثير من الشهادات الشرفية والهدايا . أجرت معه جريدة كبيرة ناطقا باللغة الفرنسية حوارا مطوّلا عن انجازاته في المجالات الفنيّة ومسيرته , واختاروه في الإذاعة المحليّة الفنان الضيف في رأس السنة , يستقبلون معه العام الجديد في حوار طويل ثم بثّه على جزئين , الجزء الواحد في حدود الساعة , تكلّم عن الفن , وعن حياته وطفولته خاصة , مواهبه وابداعاته المبكّرة , وذكريات المنطقة . بدى مرحا في الحوار , خفيف الظل , اكتشف المستمعون جوانب جميلة جديدة فيه . ابداع مع بساطة وقبول , يؤدي حتما إلى توهّج وتألّق .

عماد هلالى
27-09-2018, 11:36 PM
محاولة

محاولة فاشلة لارباك ورد وإعادته إلى الحالة التي دخلها , وأرادوها أن تكون هي حالته الطبيعية , متناسين طفولته الذكيّة الموهوبة . أخته رشيدة ترتدي ثوب المرشدة الدينية والإجتماعية , صارت تتدخّل فيما ينشره في الفيسبوك , بتحريض من ابنتها الكبرى ملاك محامية الفقراء المتخرّجة من الجامعة المحلية , والأخت الكبرى فاطمة أيضا تتدخّل بتحريض من ابنها العزيز الذي لا يذكر ورد كيف كبر , السمين الأسود كقلبه , الذي يمنع أمه من تقديم اي شيء لورد وسمير وان كان أكلا , أيضا الأصغر صاحب الإسم الغريب صارت له كلمته , اسمه عبارة عن لقب صعب النطق ليس له أي معنى . الأخوات الكبيرات يفتقدهن ورد في عيشه وتدبير أموره لكن يجدهن سريعا أمامه يُعاتبنه على منشور في الفيسبوك . والقصة الكبيرة بدأت مع الأخت بركة حين زوّجت ابنتها آمنة , وكتب ورد منشورا صغيرا يُعبّر عن تذمّره من عرس في العائلة لا يحضره وكأنّه غريب . أوصل اليها الخبر زوج ابنتها رابحة البدوية البلهاء ذات العيون الزرقاء , وهذه ميزتها الوحيدة , والله وحده يعلم لو كانت كلها زرقاء ماذا كانت ستفعل . كلّمته بركة في صبيحة جمعة في هاتفه , وأمطرته نيران غضبها , ثم ألّبت الأخ الأكبر أحمد , فجاءه الدار صارخا مؤنّبا , وبدأت أخطر وأفشل محاولة .

كلّمت ابنة الأخت رابحة خالها سمير , شتمته وليس له دخل في الموضوع , ثم كلّمت خالها ورد وأسمعته ألوان السباب والشتائم , كلام حقير وفاحش واهانات , لم يجبها بأية كلمة , بقي صامتا حتى أنهت سبابها وأغلق هاتفه . بعد صلاة الجمعة كلّمته أخته الكبيرة أميمة القاطنة في بلاد أخرى , عاتبته بشدّة وطلبت منه صراحة أن يوقف حسابه في الفيسبوك , ويتوقّف عن النّشر , وابناؤها يتفاخرون بعرض صور قارورات الخمر في منشورات يومياتهم . اتّحدوا جميعا وأعلنوها حربا ضد ورد , في الهاتف وفي الفيسبوك , في محاولة جاهدة لعزله واسقاطه بعد أن فاجأهم نهوضه وعودته السريعة والقويّة . قاطعوه جميعا , كبيرهم وصغيرهم . يتقابل مع أبناء اخوته أو أخواته وجها لوجه ولا يلقون له حتى السلام أو التحية , وكثيرا ما ينتظرون أن يُسلّم هو عليهم , مرة كان واقفا في وسط البلد مع سمير وجاءت الأخت الصغرى مريم مع ابنتها , همست لها : لا تكلّميهما . وفي محاولة من ورد لتلطيف الأجواء وابقاء شعرة صلة معهم , بعد كل ما فعلوه , ذهب مع سمير في عيد الفطر لزيارتهم في بيوتهم جميعا , في بيت الأخت الكبرى فاطمة لمّح ابنها الأكبر جليل لهما بأنّهما غير متزوجين وليس لهما أولادا , وعندما كانا خارجين , قال ساخرا : لماذا لم تأتيا بدراجة , في اشارة حقيرة منه أنّهما لا يملكان شيئا ولا حتى سيارة . عادت معاملتهما من طرف الجميع بعد هذه المحاولة أسوء وأكثر تجاهلا ومكابرة , ما أنبلها وما أفشلها من محاولة .

عماد هلالى
28-09-2018, 10:01 PM
نهاية

نهاية الظالم ذل وخيبة , ونهاية المظلوم عز وهيبة . جمال أغلق محله ولم ينجح في أي مشروع بعده , جريدة " واحة " توقّفت عن الصدور , الإذاعة المحلية لم يعد يسمعها أحد . الفتاة المتربّصة في شركة الكهرباء خرجت دون أن تشتغل , ومن كلّفها بالسحر لا زال يمارس نفاقه في المجتمع , يلتقيه ورد ويضحك في وجهه , لأنّ عقابه قد تأجّل إلى دار البقاء . الأخوات الكبيرات تجاوزن الستين والإخوة الكبار على أعتابها , فاطمة خرّفت هي وزوجها المعتوه , تحرّك يديها بحركات غريبة وتنطق كلماتا غير مفهومة , أولادها مصابون بالعقم , الكبير جليل بعد معاناة سنين طويلة أنجب طفلا مريضا , في رأسه الماء يقضي حياته في علاجه بلا أمل , الآخر سكّير ومدمن مخدّرات , والصغير صاحب الإسم الغريب طلّق مباشرة بعد زواجه , وابنتها الوحيدة المتكبّرة المغرورة تسكن بعيدا عنها لا تراها الّا نادرا . أميمة قضت حياتها مع زوج متسكّع عديم التربية والأخلاق يهينها باستمرار ويخونها , أولادها السكّرين كأبيهم عاقّين , يتلفّظون لها بأقبح الكلمات وليس لها أي حكم أو كلمة عليهم , ولا حتّى على ابنتها . بركة تزوّج عليها زوجها بعد عرس ابنتها آمنة , الذي افتعلت بسببه المشاكل , وآمنة تطلّقت , تمشي بجلباب في الشارع تحمل ابنها الرّضيع كالمتسوّلة مع إحدى أخواتها الكثيرات . الإخوة الثلاثة , عصبة الشر , خرجوا إلى التقاعد , وقعدوا في ركن منزو في وسط البلد مع أراذل القوم , للخوض في سير وأعراض الناس واجترار نفس الحديث يوميا . أحمد زوّج ابنته إلى شرطي من إحدى مداشر الشمال النائية , والأخرى متخلّفة عقليّا تشبه خالها المجنون , ابنه ( يُبرّح ) في الأعراس وتقبض أمّه أجره من النقود , الإبن الآخر أخرق موسوس , تأتيهم في كل وقت أم زوجته الساحرة بمشيتها العرجاء . اسماعيل ( سواق الهانم ) يشتغل سائق سيارة بلا أجرة , لمشاوير زوجته ومعارفها , سيارته ممتلئة بالنسوة باستمرار , مع زوجته العجوز لم ولن ينجبا . نذير وزوجته اللذان يتحكّمان في الجن لا يُمكنهما السيطرة على تربية ابنيهما الوحيدين , أو التحكّم في السجائر الإحتياطية التي يسرقانها من أبيهما الذي سيقتله التدخين يوما , ويتسكّعان مع خريجي سجون القصّر في جرائم السرقة والمخدّرات . رشيدة المرشدة الدينية والإجتماعية ابنتها الكبرى ملاك في الثلاثين ولم تتزوّج بعد وابنها الوحيد مدمن مخدّر ( الزطلة ) . سعاد زوّجت ابنها البطال سيف عنادا ومكابرة وتأتيها الإستدعاءات من المحاكم لتسديد ديونها , والصغرى مريم تعيش مكتئبة معزولة مع ابنتها ( جحود ) التي يعاكسها أحقر المشردّين في الشارع وابنها الصغير غريب الأطوار , نجت من عدّة محاولات انتحار , كأنّ الدنيا الحقيرة التي تعيشها تأبى لها مغادرة أونهاية .

بعد حصوله على بطاقة الفنان بدأ ورد يفكّر في انشاء مؤسسة اعلامية , يُحقّق أحلامه , وينجز ما أمل فيه , يطبع كتبه وينتج أفلاما , يُفكّر في دراسة الإخراج والسيناريو في فرنسا , وانتاج أعمالا ضخمة في المستقبل , وانشاء مؤسسة للأعمال الخيرية باسم والدته ( خاتم ) وأبيه ( الخير ) صدقة جارية لهما . سمير سيكمل دراسة الطب في فرنسا , أو يُغيّر ويدخل المجال الفني مع ورد . يتزوّجان ويسافران , يلفّان الدنيا ويعيشان أسعد حياة , سمير ينجب ولدا يسميه ورد , أمّا ورد فسيسمّي ولده اسما جميلا لم ولن يخطر على بال انسان , فهذه هوايته وموهبته . مع آخر ورقة في البوم ذكرياته وصل إلى الدار . عندما دخل وجد رسالة تنتظره , دعوة من مذيعة التلفزيون المتألّقة دنيا تستضيفه في برنامجها " ذكريات " تلتقي فيه ألمع نجوم الفن , الرواد والجدد المتميّزين , في حوار تلفزيوني في القناة الرسمية , على المباشر , يقف فيها ورد عند محطّات حياته المهمّة من بداية إلى نهاية .

تمت

عبدالله يوسف
30-09-2018, 09:04 AM
ما أصعبها من رحلة كُللت بالنجاح والفوز
رحلة كان أصعب ما فيها هم أقرب الناس
ولكن إصرار ورد وعزيمته كانتا شيئا خارقا للعادة
سعدت كثيرا بقراءة روايتك أستاذ عماد
وآمل أن أقرأ لك مجددا.

فقط ما لفت نظري في الرواية هو الكثير من الألفاظ العامية وكذلك سقطات نحوية
أرجو -إن كانت معدّة للنشر- أن تراجعها مجددا
تقبل مروري ورأيي المتواضع

عماد هلالى
03-10-2018, 11:59 AM
أسعدني جدا حضورك الكريم معنا أستاذ عبد الله يوسف , ورأيكم شرفني وأفادني , وسأعمل بنصيحتك القيمة بكل تأكيد , الرواية فعلا معدة للنشر ان شاء الله , وأستعد حاليا لكتابة رواية جديدة " ناس عين لوبو " تتحدث عن سكان الحي الشعبي القديم الذي نشأت فيه , وتأثيرات الأحداث الكثيرة التي تعاقبت مع مرور الزمن منذ نشأة الحي في الحقبة الإستعمارية إلى وقتنا هذا , تشبه في الفكرة فقط " ليالي الحلمية " للكاتب والسيناريست الكبير أسامة أنور عكاشة رحمه الله , بارك الله فيكم , ولك مودتي وخالص تحياتي وتقديري , شكرا جزيلا

ناديه محمد الجابي
03-10-2018, 06:16 PM
استمتعت بقصة جميلة أجدت تصويرأحداثها بأسلوب حكائي جميل
وسرد مشوق وممتع وتصوير معبر
وإن كانت تحتاج إلى التنقيح وبعض التكثيف وإختصار الأحداث الغير هامة
سلمت يداك ـ وبوركت قلما وفكرا
ودمت بكل خير.
:0014::pr::nj::0014:

عماد هلالى
06-10-2018, 06:48 PM
شكرا جزيلا أستاذة نادية محمد الجابي , بارك الله فيك على كرم المتابعة وجزاك الله كل خير على تشجيعك وتوجيهاتك القيّمة , رأيك وتعليقك الجميل شرف لي وشهادة يحق لي الإفتخار بها , خالص تحياتي وتقديري