المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سامحوني أنا في الحمّام (قصة قصيرة)



محمد فتحي المقداد
05-05-2020, 09:16 AM
(أدب العزلة في زمن الكورونا)

سامحوني.. أنا في الحمّام
قصة قصيرة

بقلم الروائي – محمد فتحي المقداد

لقاء العيون في المدينة عابر سريع. مئات الوجوه صافحتني كشريط سينمائيّ قديم من أيّام (شارلي شابلن)، خلال مشوار صغير لم يستغرق أكثر من خمس دقائق للوصول إلى ذلك المكان، أستحثُّ خُطاي إسراعًا للوصول إلى جسر فكتوريا؛ لتخفيف ما يضغط في بطني يريد الخروج، سندويشة فلافل تناولتها وقوفًا أمام مطعم الصغير قريبًا من مقهى الحجاز في دمشق.
ومن باب المجاز كلّما آتي هذا المكان أو شبيهه، أعتقدُ أنّني داخل إلى سجن، أبواب غُرَفه العديدة على الجانبين، والتي لا تتعدّى بمساحتها المتر طولًا وعرضَا، أبوابها مُتقابلة وهي أفضل من أبواب الزنازين لأنّها تُفسح لمساحة فارغة منفتحة إلى الخارج من تحت الباب ومن أعلاه.
في وسط المدينة قضاء الحاجة (التبوّل والتغوّط) مُشكلة عظيمة، أماكن الحمّامات العامّة مُتباعدة، والوصول إليها يحتاج لحساب الوقت. اصطفاف الأبنية، والمحلّات التجاريّة المُتراصّة؛ لم يترك فسحة، ولو كخُرم إبرة من الممكن اللّجوء إليها في حالة الاضطرار لمثل هذا الأمر.
من إن وطئت يُسراي الباب الرّئيس المُعاكس لاتّجاه الشّارع العامّ، حتّى استقبلتني رائحة.. لا بل روائح لا يُمكن تصنفها، ولا أعتقدُ أنّ أعتى مُختبرات التحاليل الطبيّة المُتقدّمة تقنيًّا تستطيع تفكيك رموزها إلى عناصر معروفة لديهم. ولو أنّ فيروس الكورونا مرّ من هنا.. لقُضي عليه نهائيًّا ونقطع خطره عن البشريّة.
قطعة منديل ورقيّ ما زلتُ قابضّا عليها؛ بعدما مسحتُ بها حول فمي آثار الطعام، ولم أفطن لرميها في واحدة من سلّات المهملات المعلقة على بعض الأعمدة بجانب الرّصيف. من فوري وضعتها على أنفي اتّقاء الرّوائح المُقرفة.
الخطوة الأخرى نقلتُ جسمي بكامله داخل ممرّ بعرض متر تقريبًا، في نهاتيه شكل شيء يشبه طاولة مُتهالكة، خلفها يقبع رجلٌ أشعث الشّعر الأشيب، عُثنونه طويلُ لم يَمَسّه مقصّ حلّاق منذ زمن طويل، بُقع الأوساخ المُتراكمة على جاكيته وسرواله؛ شكّلت خارطة فقر بائس أثارت اشمئزازي.
حيّيْتُه بصوت مسموع، شفتاه لم تتحرّكا.. ردّ عليّ بهزّة واحدة من رأسه فقط. يجلس على بقايا كُرسيّ من أيّام المماليك. هكذا يبدو..!!. في هذا الرّجل كلّ شيء قديم، دُخان سجائره لوّن شعر شاربيْه بالأصفر مع أجزاء من شعر الدقن وحاجبيْه. لا يختلف كثيرًا بشكله عن عمارات هذه المنطقة الدّاكنة من سُخام السيّارات.
في نهاية الممرّ فُسحة أوسع مرّتين منه. ثلاثة أشخاص ورابعهم أنا؛ نصطفّ بانتظار دَوْر الدّخول.. أحدهم عابس. تغضنات وجهه تنبئ عن ازدحامه الشديد.. كلّ قليل يطرق الباب الذي أمامه ُمباشرة .. نحنحة.. يتلوها.. انفجار هائل يطير له صوابي.. أنفاس مقهورة تتأوّه صادرة من زنزانة على الطرف، طشطشة ماء تنذر عن اقتراب انتهاء محنة أحدهم... روائح حوّلت مزاجي من متفائل إلى اكتئابي.. لا فائدة من وضع يدي ومعها قطعة المنديل على أنفي لصدّها.
دخل المزنوق بحركة سريعة مُرتبكة؛ ارتطام الباب الحديديُ كما صوت باب السّجن المركزيّ، وكأنّه سجّان غاضب، أغلق الباب بقوّة خوف انفتاحه، ويخرج أحد مسجونيه.
الواقف أمامي وجهه يتلوّن احمرارًا مع قتامة واضحة، فخذاه يصطّكان بتناغم مع تأوّهات صادرة من أعماقه، لكن لا حيلة له، إلّا المُصابرة لانفتاح باب الفرج يأتي من خارج آخر. نوبة مغصٍٍ جعلتني أنطوي للأمام، وأشدّ على بطني بكلتا يديّ. مازال تأتي أصوات الانفجارات من داخل ساحات المعارك، متناغمة بقوّة صوتها، وأخرى بشذوذ بعضها عن المعتاد، كبرميل ترميه طائرة على حيّ سكنيّ انتقامًا من أهله.
دقائق حسبتُها دهرًا من العذاب. تُغالبُني الغازات انفلاتًا، الحياء من ضحك وسخرية الآخرين منعني. وذلك العجوز خلف طاولته يتناول النّقود، لا يكترثُ لشيء مما يحدثُ حوله، يسحب دُخان سيجارته الدّائمة الاشتعال، شغلتني ظنوني الكثيرة به، رغم أنّ أكثرها ليس بإثم. والدقائق تمرّ بسرعة النملة.

عمّان – الأردن
2 \ 5 \ 2020

عبد السلام دغمش
05-05-2020, 10:23 AM
كانت مغامرة تصور معاناة - يعيشها الآدميّ لا شك و لكنها تختلف من مكان لآخر حيث لا تتواجد المرافق والخدمات الكافية .
أسلوب جميل و عرض طريف أديبنا.
تحياتي .

ناديه محمد الجابي
05-05-2020, 01:18 PM
أسلوب سردي ساخر، وماهر في ذكر التفاصيل الدقيقة
صوت، وصورة، ورائحة...ها ـ في نص متقن صياغة ومعنى
حول أحد العمليات الفزيولوجية الأساسية للإنسان ( دخول الحمام)
ومدى رقي ما يقدمه المجتمع من مرافق لقضاء الحاجة خارج المنزل
وما يتبع ذلك من مستوى في النظافة.
وصف لا يقدر عليه إلا أديب متمكن في نص اجتمعت فيه السخرية والطرافة.
سلمت يداك.
:sm::v1::001:

محمد فتحي المقداد
06-05-2020, 01:08 PM
كانت مغامرة تصور معاناة - يعيشها الآدميّ لا شك و لكنها تختلف من مكان لآخر حيث لا تتواجد المرافق والخدمات الكافية .
أسلوب جميل و عرض طريف أديبنا.
تحياتي .

أستاذ عبدالسلام..
أسعد الله أوقاتك بكل خير..
تتسع مساحات الكتابة لكل أنواع المغامرة
لتصوير المعاناة الناشئة..
دمت بكل ود.. واحترام
وكل عام وأنتم بخير..

أسيل أحمد
06-05-2020, 05:59 PM
في الغالب تغيب الحمامات العامة لقضاء الحاجة في دولنا العربية ـ وإن وجدت فهى
على أبعد مستوى من النظافة ـ إن وجدت النظافة اصلا في هذا الحمام الذي تفوح منه
الروائح العطرة ـ لا أذاقكم الله مكروها.
وإذا كان سلوك الناس مقززا حينما يبولون في الأماكن العامة، وعلى الأسوار ، وعلى أرصفة الطرقات
فإنها مسئولية الدولة في بناء حمامات في كل الأماكن العامة حتى لا يضطر الناس إلى أن يعملوها على روحهم ..ها
قصة رغم طرافتها إلا إنها قوية الفكرة والمضمون ـ بسرد واقعي ، وبأسلوب أدبي مكثف.
دمت ألقا.

عبد القادر حفصاوي
06-05-2020, 07:00 PM
راقت لي قصتك أديبنا..
أبدعت في الوصف ..
وبعض العبارات المبتكرة وهي كثيرة مثل قولك:
// مئات الوجوه صافحتني //
فقد بتنا في زمن الكورونا والمصافحة بالوجوه..
وربما حتى هذه باتت منقوصة، فكثيرون ممن نقابلهم تجده ينأى ويتململ ويعطيك جنبه ..

تقديري .. /

محمد فتحي المقداد
06-05-2020, 07:30 PM
أسلوب سردي ساخر، وماهر في ذكر التفاصيل الدقيقة
صوت، وصورة، ورائحة...ها ـ في نص متقن صياغة ومعنى
حول أحد العمليات الفزيولوجية الأساسية للإنسان ( دخول الحمام)
ومدى رقي ما يقدمه المجتمع من مرافق لقضاء الحاجة خارج المنزل
وما يتبع ذلك من مستوى في النظافة.
وصف لا يقدر عليه إلا أديب متمكن في نص اجتمعت فيه السخرية والطرافة.
سلمت يداك.
:sm::v1::001:



أستاذة نادية
أسعدك الله ورعاك
سيدتي
كما يقال في التفاصيل يكمن الشيطان..
والتفاصيل في الأدب إثراء للنص.. وهي
كسوته وسداه.. لا يكتمل إلا بها..
تحياتي وتقديري لك

محمد فتحي المقداد
06-05-2020, 07:33 PM
في الغالب تغيب الحمامات العامة لقضاء الحاجة في دولنا العربية ـ وإن وجدت فهى
على أبعد مستوى من النظافة ـ إن وجدت النظافة اصلا في هذا الحمام الذي تفوح منه
الروائح العطرة ـ لا أذاقكم الله مكروها.
وإذا كان سلوك الناس مقززا حينما يبولون في الأماكن العامة، وعلى الأسوار ، وعلى أرصفة الطرقات
فإنها مسئولية الدولة في بناء حمامات في كل الأماكن العامة حتى لا يضطر الناس إلى أن يعملوها على روحهم ..ها
قصة رغم طرافتها إلا إنها قوية الفكرة والمضمون ـ بسرد واقعي ، وبأسلوب أدبي مكثف.
دمت ألقا.

أستاذة أسيل
أسعد الله اوقاتك بالخير
المدن وازدحاماتها.. لاتترك مجالًا للتنفّس أبدًا
سكنى المدن مرهقة.. لمن لم يعتدها..
وهناك شيء قاهر حتى لسلطات البلديات في
أية مدينة.. قلة الأماكن وضيقها.. خاصة في
الأوساط التجارية. فالأمر محسوب بالسنتم
تحياتي وتقدري لك
سيدتي الراقية

محمد فتحي المقداد
06-05-2020, 07:36 PM
راقت لي قصتك أديبنا..
أبدعت في الوصف ..
وبعض العبارات المبتكرة وهي كثيرة مثل قولك:
// مئات الوجوه صافحتني //
فقد بتنا في زمن الكورونا والمصافحة بالوجوه..
وربما حتى هذه باتت منقوصة، فكثيرون ممن نقابلهم تجده ينأى ويتململ ويعطيك جنبه ..

تقديري .. /





أستاذ عبدالقادر
أسعد الله أوقاتك بالخير
وتقبل الله طاعاتكم ..
في الحقيقة جائحة الكورونا فرضت عليناا
أنماط سلوك جديدة.. ونحن على أعتباب
مرحلة جديدة على لكل المستويات والأصعدة
حياتيًا.. فلا غرابة ممن يُعرض عنك.. فالقادم
أكبر بكثير ..
تحياتي وتقدبري لك

براءة الجودي
10-05-2020, 12:04 AM
كما اعتدنا عليك في قصصك بارع في الوصف مميز في أسلوبه

تحيتي

محمد فتحي المقداد
10-05-2020, 12:07 AM
كما اعتدنا عليك في قصصك بارع في الوصف مميز في أسلوبه

تحيتي

أستاذة براءة
كل التقدير والاحترام لمتابعتك
كل عا م وأنت بخير وصحة وسلامة
تحياتي