تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لإيلاف ذكرى



د. سمير العمري
10-05-2020, 10:46 PM
لإيلاف ذكرى



لِإِيـــلَافِ ذِكْــرَى أَوْجَــفَت روعَ مُــبْسَلِ=بِــإسْــرَافِ وَجْـــدٍ صَــامِتِ الــجَأْرِ مُــثْكَلِ
وَأُمْــنِــيَّــةٍ عَــذْرَاءَ فِــــي صَـــدْرِ خَــيْــبَـةٍ=تَــرَى الــقُــرْبَ قَــبْــرًا مُــشْــرَئِبَّ الــتَّدَلُّــلِ
سَــقَــتْهَا أَبَــارِيــقُ الــهَــوَى صَـــابَ غُــرْبَةٍ=وَسَــاقَــتْـ هُمَا بَــيْــنَ الـــرُّؤَى وَالــتَــخَــيُّــلِ
يَــجُــسَّانِ جَــيْــبَ الــغَــيْبِ وَالــلُبُّ ذَاهِــلٌ=أَمِـــنْ ثَــمَــلٍ يَـمْـتَــاحُ أَمْ مِــــنْ تَــمَــثُّــلِ
كَـــأَنَّ حِـــوَارَ الـــوَأْمِ حَـــارَاتُ نِــقْــمَــةٍ=وَكَــبَّـ لَ سُـــوقَ الـــرَّأْمِ حَــظْــرُ الــتَّــجَــوُّلِ
مَــحَــضْتُ لَـهَــا صَــغْــوَ الــضَّــمِيرِ فَــأَقْبَلَـتْ=بِــحَــو َاءِ كَــيْــدٍ يَــبْــتَلِــي نَـــزْعَ مَـــنْ بَــلِــي
يُــوَتِّــرُهَــا بِــالــصَّــمْتِ صَــــوْنُ تَــعَــتُّــبِــي=وَيُــ ْــضِــبُهَا بِــالــخَــبْتِ هَــــوْنُ تَــرَسُّــلِــي
وَمِــنْ كُــلِّ رِفْـــقٍ حَـــلَّ تَــسْتَــلُّ قَــسْــوَةً=وَتَـشْـكُــ ابْــتِــهَالِي فِـــي الــهَــوَى وَتَــبَـتُّلِــي
ثَــوَى طَــيْفُهَا مَــا بَــيْنَ جَــفْنِي وَخَــاطِرِي=أَرَاهَـــا، وَلَــكِــنْ لَا يَــرَى الــعُشَّ بــلْبلِـــي
أُفَــتِّــقُ زَهْـــرَ الــقَــوْلِ مِــنْ مُــحْكَمِ الــنَّدَى=فَــتَــقْــطِ ُ مَــعْــنَــىً مُــمْــتَــرَى بِــالــتَّــأَوُّلِ
تَـــقُــولُ وَقَـــدْ جَـــارَتْ عَــلــيَّ أَهَــنْــتَنِــي=وَأَلــ َــمْــتَنِي بِــالــكِــبْرِ صَــحْــنَ الــتَّــطَفُّــلِ
فَــقُــلْتُ فَـــدَاكِ الــقَدْرُ يَــا بِــنْتَ مُــهْجَتِي=أَمَــــا وَالَّــــذِي سَــــوَّاكِ لَــــمْ أَتَــبَــجَّــلِ
أَطَــعْــتُ الــمَعَانِي بِــالَّذي شِــئْتِ أَحْــتَرِي=وَلَـــوْ نَــزْرَ قَــطْــرٍ مِـــنْ رِضَـــاكِ الــمُؤَمَّــلِ
وَلَــوْ أَزْعَـــجَــتْ كَــفِّــي هَـــوَاكِ بِــلَــمْسَةٍ=لَــفَــرَ قَ فَــضْــلِــي بَــيْــنَ كَــفِّــي وأَنْــمُــلِــي
وَلَــكِــنَّ بَــلــوَى الــنَّــفْسِ تَــسْــوِيلُ ظَــنِّهَا=وَتَــزْيِــيـ نُ مَــــا تَـــأْتِــي بِــنَــفْجِ الــتَّــزَيُّـــلِ
لَــقَــدْ كُــنْــتُ أَرْجُــو مِــنْ سَــنَابِلِ رَأْمِــهَا=فَـمَــا لِــي كَــأَنِّــي حَـطَّمَ الــيَأْسُ مِــنْجَلِــي
تَــنَــامُ عَــلَــى سَــجْــوِ الــهُــنَــيْهَــةِ نَــأْمَــتِــي=وَيَــصْـ حُـوَ عَــلَــى سَــطْـوِ الــحَــنِينِ تَــعَــلُّــلِي
وَمَـــا زِلْــتُ أَجْــفُو الــرُّوحَ حَــتَّى نَــكِرْتُنِــي=وَحَــتَّ ـى كَـــأَنَّ الــصَدْرَ فِــي قَــعْرِ مِــرْجَلِ
فَـــلَا تِــعْــزِفِي لِــلــنَّايِ يَـــا نَــفْــسُ بُــحَّتِــي=وَلَا تُــنْــشِــدِي بَــوْحِــي الـشَّـجِيَّ لِــعَــنْــدَلِ
وَمِـنْ خَــمْرِ شِـعْرِي طَــفِّفِي أَكْؤُسَ الطِّلَــى=مُــشَــعْشِعَ ً تَــنْــسَابُ فِـــي رِيـــقِ مُــثــمَلِ
بَــذَلْــتُ إِبَــائِي أَسْــأَلُ الــوَصْلَ مَــنْ جَــفَا=كَــأَنِّــي وَثِـــيــلٌ عِــــنْــدَ بَـــابِ مُــؤَثَّـــلِ
أُبَــالِــغُ بِــاَلشُكْرانِ فِــي الــقُرْبِ وَالــنَّـوَى=وَلَـيْـسَ سِــوَى الــنُّكْرَانِ فِــي كُــلِّ مَــوْئِــلِ
وَهَــا طُــفْتُ مَــنْفَى الــحُلْمِ يَــجْتَرُّنِي السُّدَى=بِـــوَجْـــهٍ خَــرِيــفِــيٍّ وَطَـــرْفٍ مُــبَــلَّـــلِ
فَــيَــا رَبَّ هَـــذَا الــقَــلْبِ مَـــاذَا تَــعَــلُّقِي=بِــأَذْيَ ـالِ مَـــنْ يَــسْــلُو وَمَـــاذَا تَــعَــقُّلِـــي
وَيَــا سَــرْمَدِيَّ الــشَّوْقِ مَــا الــذَّوْقُ فِي فَمٍ=إِذَا الــحُــزْنُ سَـــاوَى بَــيْنَ شَــهِدٍ وَحَــنْظَلِ
فَـــلَا تُــلْــقِمَانِي، صَــاحِــبَيَّ، فَـــمَ الــرَّحَى=وَلَا حَـطْــمَ أَضْـــرَاسِ الــزَّمَانِ الــهَمَرْجَـلِ
وَلَا تَــسْـقِيَانِي الــوَعْــدَ مِــنْ ضَــرْعِ صَــبْــوَةٍ=وَلَا تُــشْــقِــيَانِـي بَــيْــنَ مَــــاضٍ وَمُــقْــبِـــلِ
كَــفَرْتُ بِــخَوْضِ العِشْقِ فِي حِضْنِ فَاطِمٍ=وَتُــقْتُ لِـحَوْضِ الــرِّفْقِ فِــي حِــضْنِهَا العَلِي
فَـــإِنَّ حَــنَــانَ الأُمِّ فِـــي كَــوْثَــرِ الــمُــنَى=أَرَقُّ وَأَنْــقَــى مِـــنْ حَــبِــيــبٍ مُــــدَلّـــلِ
وَمَـــا الــــيُــتْــمُ إِلَّا فَـــقْـــدُ أُمٍّ وَأُمَّـــــةٍ=وَغَـــــد رُ حَــبِــيــبٍ وَامْــتِــهــانُ مُــبَــجَّــلِ
خُـــذَانِــي إِلَــيْــهَــا فِـــي رَحِــيــلٍ مُــعَــجَّلٍ=وَلَا تُــبْــقِــيَانِي رَهْــــنَ مَــــوْتٍ مُــؤَجَّــلِ
خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةً=تُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي
خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَـدْ صَــارَ غُــرْبَــةً=وَفِــي لَـحْـدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْـزِلِــي
يُــمَــزِّقُ شَــجْــوُ الـحُــزْنِ قَــلْـبِـي بِــفَــقْدِهَـا=وَيَــجْ ـثُمُ صِــنْــدِيدُ الأَسَـى فَـــوْقَ كَــلكَلــي
وَيَــرْسُــمُ وَجْــهًــا فِـــي مَــرَايَــا تَــوَهُّــمِـي=سَـنِــيّ ــا بِــفِــرْدَوْسِ الــخَــيَــالِ الــمُــفَضَّــلِ
تَــوَارَيـتِ يَــا أُمِّــي فَــمَا الــشَّمْسُ تَــسْتَحِي=إِذَا أَشْــرَقَــتْ دِفْــئًــا وَلَا الــبَـــدْرُ يَــأْتَــلِــي
وَمَــــــا لِــلَــيَــالِــي لَا تَـــنُـــوحُ تَــلَــهُّــفًــا=عَـلَـ ى فَـجْــرِهَا الـمَجْبُولِ مِـنْ نُـورِكِ الـجَلِـي
وَلَـــوْ أَنْــصَــفُوا لَاسْــتَــأْثَرُوكِ عَــلَى الــمَدَى=بِـــعِــطْــرٍ سَـــمَـــاوِيٍّ وَذِكْـــــرٍ مُـــرَتَّـــلِ
لِـمَـنْ يَــسْــتَرِيحُ الــنَّــحْلُ يَــا أُمِّ فِــي الــرُّبَــى=وَكُــلُّ شَــذَىً مَـهْمَـا يَـفِ الــعَهْدُ يَــخْــذُلِ
تَـشَــظَّيْتُ كَــالــبِّلَوْرِ بَــعْــدَكِ فِـــي الــقُـرَى=فَـــمَــا لِــــيَ بَــعْــدَ اللهِ إِلَّاكِ مِـــنْ وَلِـــي
وَمَـــا زِلْـــتُ يَـــا أُمَّـــاهُ كَــالطِّـفْــلِ كُــلَّمَــا=ذُكِـرْتِ جَـرَى فِــي مُـقْلَةِ الــعَطْفِ فُــلفُلِــي
تَــــبَــدَّلَ كُــــلُّ الــرَّهْــطِ يَـــا أُمِّ خِــلــفَةً=وَلَـــكِــنْ فَـــتَــاكِ الـــحُــرُّ لَـــمْ يَــتَــبَــدَّلِ
حَــصَدْتُ رَوَابِــي الــحُلْمِ لَــمْ يَبْقَ لِي سِوَى=وُرَيْــقَــاتِ عُــمْــرٍ مِــنْ سَــرَابٍ وَسُــنْبُـــلِ
أَسِــيــرُ كَــأَنِّــي أَفْـــرشُ الـــدَّرْبَ وَحْــدَةً=وَأَسَـــرِي كَـــأَنِّــي دَرْسَ بِــئْــرٍ مُــعَــطَّـــلِ
أُمَــارِسُ طَــقْسَ الــنَّزْفِ بِــالعَزْفِ شَاعِرًا=وَأَرْوِي بَــسَــاتِــينَ الــنُّــهَى مَـــاءَ جَــدْوَلِــي
وأُسْــرِجُ قِــنْــدِيلَ الــحِــجَا زَيْـــتَ حِــكْمَتِي=وَأَمْـــلَأُ طِـــرْسَ الــعِلمِ مِــنْ فِــكْرِ فَــطْحَلِ
رِكَــابِــي احْـتِـسَابِي فِــي اغْـتِرَابِي وَرِحْــلَتِـي=عَـــلَــى هَــرَجِ الأَنْــفَــاسِ رَيَّـــا قَــرْنَــفُـــلِ
مُـكِــبًّا عَــلَــى الآدَابِ أَسْـمَــو إِلَــى الــعُــلَا=بِــمِــنْــه اجِ ذِي عَـــدْلٍ وَمِــعْــرَاجِ مُــرْسَــلِ
شَــرِيــفًــا عَـــلَــى الــعِــلَّاتِ لَا يَــسْــتَخِفُّنِي=حَــسُ ــودٌ وَلَا يَــــهْــتَــمُّ لَــيْــثِــي بِــتَــتْــفُلِ
أُنَــافِــحُ مِـلْءَ الـــذَّوْدِ عَـــنْ كُــلِّ شِــيمَـةٍ=وَأَصْــفَــحُ مِــلْءَ الــهَــوْدِ عَــنْ كُــلِّ أَعْــزَلِ
فَــأُنْــكِــرُ مِــنْ قَـــوْمِــي تَــوَاكُــلَ غَــفْــلَـــةٍ=وَيُــنْـ كِــرُ مِـــنِّــي الــقَــوْمُ جُــهْــدَ الــتَّــوَكُّلِ
إِذَا كُــنْــتَ ذَا عِـــلــمٍ وَحِـــلْــمٍ وَفِــطْــنَــةٍ=فَــلَــ ْتَ سِــوَى مُــسْــتَنْكَـرِ الــقَدْرِ مُــهْمَــلِ
وَإِنْ شِــئْــتِ عِـــزًّا يَـــا صَــبــيَّةَ فَــارْقَصِــي=وَإِنْ شِــئْتَ مَــجْدًا يَــا ابْــنَ لَــهْوِكَ فَــارْكُلِ
فَـــكُــلُّ نَــفِــيسٍ أَرْخَـــصَ الــجَــهْلُ دُرَّهُ=وَكُــلُّ خَــسِــيسِ زَيَّــنَ الــحَــالَ بِــالحُلِــي
يَــقُــولُونَ مُــغْــتَرٌّ شَــقَــى الــوَهْــمُ كَــدْحَــهُ=وَلَــيْــسَ لَــهُ فِــي الــصَــوْبِ غَــيْرُ اَلــتَبَلُّـــلِ
وَمَـــا أَنَـــا إِلَّا تــكْسِفُ الــشَّمْسَ هَــالَتِـــي=وَلَا ذَنْــبَ لِــي إِنْ لَــمْ يَــرَ الــبَدْرُ أَرْجُــلِــي
وَإِنِّــــي عَــلَــى مَـــا يُــعْــجِزُ الــفَــذَّ قَـــادِرٌ=بِـــأَبْــرَا ِ عَــقْــلٍ ضَـــمَّ أَلْـــفَ عَــقْــنَقَــلِ
فَــيَــا لَـــيْــتَ قَـــوْمِــي يَــعْــلَمُونَ وَلَــيْــتَنــِي=أَرَى عِــنْــدَ دَأَبٍ نَــاهِــضٍ مِـــنْ مُــعَــوَّلِ
وَيَـــوْمَ جِــدَالٍ إِذْ عَــقَرْت عَــنِ الــهَـــوَى=فُـــؤَادِي فَـــلَــمْ يَــجْــمَــحْ وَلَـــمْ يَــتَــجَمَّلِ
يُـــرَاوِدُنِـــي عَـــــنْ دَمْــعَــتَــيهِ بِــبَــسْــمَةٍ=تُــذِيـ ُ نِـيَــاطَ الــصَــدِّ فِــي صُــمِّ جَــنْــدَلِ
فَــقُــلتُ وَفِـــيٌّ أَنْــتَ مَـــا زِلْـــتَ بَــعْدَمَــا=جَــفَــتْـ كَ الَّــتِـــي هَــيَّــجْــتَهَا بِــالــتَــغَـــزُّلِ
وَهَل عُدْتَ بَعْدَ الوَصْلِ فِي السُّخْطِ وَالرِّضَا=بِــغَــيْــرِ عَــقَــابِــيــلِ الــهَــوَى الــمُـتَــمَلْـمِـلِ
تَــطُوفُ بِــضَبْحِ الــشَّوْقِ فِــي سَأْمَةِ الدُّجَى=كَــأَنَّــكَ جُــرْحُ الــوَقْتِ فِــي رَأْسِ بَــرْجَلِ
بِــلَــيْلٍ رَهِــيفِ الــنَّوْحِ يَــنْسَــلُّ مِــنْ يَــدِي=كَــمَنْفُوشِ عِــهْنٍ لَــمْ يَــذُقْ طَــعْمَ مِــغْــزَلِ
حَـــوَارِيِّ إِطْـــرَاقٍ مَـــجَــازِيِّ مَــنْــطِــقٍ=طُـــفُــو ِــيِّ إِلْـــحَـــاحٍ ضَــبَــابِــيِّ هَــيْــكَــلِ
إِذَا جَـــنَّ أَلــقَــانِي إِلَـــى جَـــوْفِ غُــصَّةٍ=وَإِنْ حَــنَّ أَبْـقَــانِي عَــلَــى غُــصْنِ مُــمْحــلِ
يُــسَــامِرُنِي كَــيْ يُــوقِــظَ الــوَطْــرَ بِــالأَسَى=عَــلَــى فِــكْــرَةِ الـنَّـهْرِ الَّــذِي فِــيَّ يَــصْطَلِــي
وَإِنِّــي وَهَــذَا الــلَّيْلُ كَــالصَّوْتِ وَالــصَّدَى=وَكَــاَلــض ــوْءِ وَالــظِّــلِّ اشْـمَــخَــرَّا لِـمُـخْــتَلِ
وَمَــــا الــلَّــيْــلُ إِلَّا تُــرْجُــمــانُ سَـــرَائِــرِي=وَسُــبْـ حَــةُ أَفْــكَــارِي وَحِـنْــطَــةُ مُــنْــخُلِــي
وَمَــهْــمَــا تَــمَــطَّــى بِــاَلــهُــمُومِ فَــإِنَّ لِـــي=فَــرَادِيــسَ صَـفْــوٍ مِــنْ خَــيَــالٍ مُــحَــجَّــلِ
وَيَــوْمَ امْــتَطَيْتُ الــصَّمْتَ فِــي أَوْجِ دَهْشَةٍ=بِـــأَنَّ الـــرَّزَايَــا كِـــدْنَ حَـــدَّ الــتَّــوَغُّــلِ
أَدُوسُ عَــلَــى الــبـنْــزِينِ وَالــرِّيــحُ تَــقْــتَفِــي=بِــأَنْـ فَاسٍ مَــذْعُــورٍ مِــنَ الــمَوْتِ مُــذْهَــلِ
كَــأَنِّــي أَشَـــقُّ الأَرْضَ مِـــنْ أُمِّ رَأْسِــهَــا=لِأَدْفِـــ َ هَـــمِّــي فِـــي زَئِــيــرٍ مُــجَــلجــلِ
أُحَـــدِّقُ فِـــي الآفَـــاقِ وَالــهَدْءُ صَــاخِبٌ=بِـــزَفْــرَةِ حُـــرٍّ لَا يَـــرَى الــعَــدْلَ يَــعْــتَلِــي
وَتَــرْمِــقُــنِي "خَــيْــلِــي" بِــعَــيْــنَيْ غَــضَــنْفَــرٍ=أَلُــوف شَــغُــوفٍ صَـــارِمِ الــوَجْهِ مُــجَفَــلِ
إِذَا مَـــا جَــرَتْ أَغْــرَى الــجَــمَالَ قَــوَامُهَــا=تَـمِـيـسَ بِـفَــرْشٍ فَــاخِـرِ الـنَّـسْجِ مُـخَــمِّلِـي
وَإِنْ زَمْــجَــرَتْ ذَلَّـــتْ لَــهَا الأَرْضُ عُــنْوَةً=تَـكَــادُ تَـحُــثُّ الــرَكْــبَ صَــوْبَ الــتَّرَجُّــلِ
جَــلَسْتُ وَمَــا فِـي الــكَوْنِ فُــسْحَةُ ضَــائِقٍ=عَــلَى سَــفْحِ طَــوْدٍ نَــاضِرِ الــعُشْبِ مُــرْفلِ
وَفِـــي رَغْــدِ مَـهْــدِ الــوَهْــدِ تَــغْــفُو بُــحَيْـرَةٌ=عَــلَــى شَــطِّــهَا اسْــتَــلقَى جَـــلَالُ الــتَّأَمُّلِ
تُــطِلُّ عَــلَيْنَا الــشَّمْسُ مِــنْ خَــلْفِ غَــيْمَةٍ=بِــخُــصْــلَ ـةِ ضَـــوْءٍ أُرْهِـــفَــتْ بِــالــتَّــأَفُّــلِ
تَــمــيــلُ لَـــهَــا والـــكَــوْنُ سَـــاجٍ كَــأَنَّــهَا=عَــنَــاق ــيدُ سِــحْــرٍ مِــنْ جُـمَــانٍ مُــفَــصَّـلِ
وَيَــسْــبَــحُ سِـــرْبٌ مِـــنْ إِوَزٍّ مُــزَرْكَــشٍ=ويَـــمْــ َحُ سِـــرْبٌ مِـــنْ ظِــبَــاءٍ وَأُيَّـــلِ
فَــمَــاذَا أَلَــجَّ الــدَّمْــعَ فِــي عِــذْقِ مُــقْلَتــِي=عَــلَــى حِــيــنِ سَـهْــوٍ مِـــنْ وَقَـــارٍ مُــكَــبّلِ
كَــأَنَّ بُــرَاقَ الــحَدْسِ لَــمْ يَــدْرِ مَــا اعْتَرَى=حَـيَــارَى عَـرَاجِــينِ الـــرُّؤَى مِــنْ تَــحَــوُّلِ
مَــوَاقِــيــتُ أَمْـــنٍ فِـــي نَــوَاضِــرِ خَــاطِــرٍ=يَــوَاقِــيـ تُ يُـــمْــنٍ فِـــي أَكُـــفِّ مُــخَــوَّلِ
وَمَـــا حَــزَبَ الأَحْــلامَ شَـــيْءٌ كَــحَزْبِهَـا=وَلَا اشْــتَــدَّ عَــتْــمُ الــكَــرْبِ إِلَّا وَيَــنْــجَلــي
كَـمَــا جِــئْتَ فَـحْوَى الــدَّهْرِ يَـأْتِيكَ نَــحْوهُ=وَإِنَّ نَــصِــيــبًــا مِـــــنْ هَــــوَاكَ لَــمُــبْــتَلِ
وَثِـــقْ بِــالَّــذِي يُــورِيكَ بِــالعَذْلِ مَــاحِضًا=كَـمِــثْلِ الَّــذِي يَــرْوِيكَ مِــنْ صَــفْوِ مَــنْهَــلِ
وَإِيَّــــاكَ وَالــحَــبْــرُ الـــذِّي عَـــدَّ فَــضْــلَـــهُ=وَلَــيْـ سَ لَـــهُ فِـــي الــفَضْلِ حَــبَّةُ خَــرْدَلِ
بَـــلَايَــا الــبَــرَايَــا فِـــي فَــسَــادِ ضَـمَــائِــرٍ=وَمِـــنْ نَـــزْعَـــةٍ لِــلــجَــوْرِ أَوْ لِــلــتَّــوَسُّـــلِ
وَإِنَّ بِــلادًا لَا تَــــرَى الــعَــدْلَ مَــنْــهَجًـا=تَـــظَـــ ُّ بِـــــلادًا تُــبْــتَــلَــى بِــالــتَّــغَــوُّلِ
وَإِنَّ شُــعُــوبًــا أَخْــبَــتَــتْ لِـــلــذِي بَـــغَــى=حَـقِــيــقٌ بِـــأَنْ تَــشْــقَى بِـــذُلِّ الــتَّــبَـــذُّلِ
أَتَــخْشَى مِــنَ الــكُوفِيدِ كَالطِّفْلِ فِي الدُّجَى=وَلَــمْ تَــخْــشَ أَمْــرَ اللَّهِ فِــي كُــلِّ مَــحْفـلِ
كَـــأَنَّ انْــتِــشَارَ الـــدَّاءِ لَـــمْ يَــكُ بَــلْسَمًا=يُــرَقِّــي خَــلَاقِ الإِنْــسِ بَــعْــدَ الــتَّــسَفُّـــلِ
سَــئِــمْتُ فُــراتَ الــعَيْشِ فِــي شَــطْءِ ذِلَّــةٍ=وَإِنْ كُــنْـــتُ لَـــمْ أَخْــنَــعْ وَلَـــمْ أَتَــذَلَّــلِ
وَلَــكِــنْ شَــجَــانِي الــعَجْزُ فِــي أُمَّــةٍ هَــفَتْ=إِلَــى دَعَـــةِ الــنَّــجْوَى وَدَعْــوَى الــتَّنَصُّــلِ
وَقَــدْ يَــدَعُ الأَسْــبَابَ مَــنْ لَــيْسَ يَــسْتَبــِي=وَلَا يَــدَعُ الــمَــعْنَـى الَّــذِي لَــيْــسَ يَــنْطَلِــي
إِلَامَ أُعَــزِّي الــنَّفْسَ فِــي كُــلِّ مَنْ قَضَــى=وَأَحْــمِــلُ هَــمَّ الــقَــوْمِ مِـــنْ غَــيْرِ مِــعْــوَلِ
وَفِــيــمَ أُلُـــوكُ الـلَّــوْمَ فِــي شَــرِّ مَــا جَــرَى=وَأَجْــلِــدُ ظَـــهْــرَ الــعَــزْمِ رَغْـــمَ الــتَــبَــزُّلِ
وَإِنِّـــي وَأَيْـــمُ الــلَّــهِ مَـــا الــيَأْسُ مَــذْهَبِي=وَلَــكِــنَّ صَـرْفَ الــبُؤْسِ لِــليَأْسِ يَــجْتَلِـــي
وَأَنِّـــي إِذَا مَــا اسْــتَيْأَسَ الــقَلْبُ بِــالأَذَى=أَلُــــوذُ بِـــآيَـــاتِ الــكِــتَــابِ الــمُــنَـــزَّلِ
أَلَا رُبَّ مَـــوْتٍ يَــرْفَعُ الــذِّكْرَ فِــي الــوَرَى=مَــتَــى انْــتَــهَــجَ الــمَــرْءُ الــسَّــبِيلَ بِــأَمْــثَــلِ
وَرُبَّ حَــيــاةٍ تُـــرْهِــقُ الـــوَثْــرَ بِــالــثَــرَى=وَتُــخْـ زِي الــثُّــرَيَّـا مِـــنْ عُــرَاةِ الــتَّسَرْبُــلِ
فَــإِنْ كُـــنْــتُ يَـــوْمًــا لَا مَـحَــالَةَ مَــيِّــتًـا=أَلَا فَــلْـيَكُنْ فِــي نُــصْــرَةِ الــحَــقِّ مَــقْــتَلِــي

احمد المعطي
11-05-2020, 09:39 AM
وما لامرِئ القيسِ احتفال بمنزلِ
...........................وقد حِدْتَ عن "سقط اللِّوى" بِتَجمُّلِ
مُعلَّقَةٌ فيها البَيانُ مُعتَّقٌ
...................................جَزالةُ شعْرٍ في حريرَةِ مِغزَلِ
بأيِّ حروف الضادِ أنقلُ رعشتي
..................................وأيِّ شَعورٍ منْ فضائِكَ أعتلي؟
فمنْ كلِّ بيْتٍِ أستشفُّ قصيدةً
...............................ومن كلِّ بيْتٍ في القصيدة منْهَلي
ألوذُ بصمتي فالحُروفُ تعقُّني
....................................تَجرُّ ذيلَ الصَّمْتِ دونَ تعلُّلِ

أسأل الله تعالى للفقيدة الوالدة الرحمة والغفران وجنات الخلد ..إنا لله وإنا إليه راجعون

محمد ذيب سليمان
11-05-2020, 12:16 PM
قصيدة كبيرة امتلأت بالمشاعر الصادقة والحكمة والوجع
حقيقة يقف المرء عاجزا عن توصيف ما قرأ من بيان وتصوير
ومعان تدفقت ولم تتوقف من الفها الى يائها
بورركت ايها الحبيب ورحمة واسعة لمن فقدتم
هذه حال الدنيا

للتثبيت

عبدالحكم مندور
11-05-2020, 01:58 PM
فَــــإِنَّ حَــنَــانَ الأُمِّ فِـــي كَــوْثَــرِ الــمُــنَى
أَرَقُّ وَأَنْــــقَــى مِــــنْ حَــبِــيــبٍ مُــــدَلّــلِ
وَمَـــــا الــــيُــتْــمُ إِلَّا فَـــقْـــدُ أُمٍّ وَأُمَّـــــةٍ
وَغَـــــدْرُ حَــبِــيــبٍ وَامْــتِــهــانُ مُــبَــجَّــلِ
خُــــذَانِــي إِلَــيْــهَــا فِـــي رَحِــيــلٍ مُــعَــجَّلٍ
وَلَا تُــبْــقِــيَانِي رَهْــــنَ مَــــوْتٍ مُــؤَجَّــلِ
خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةً
تُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي
خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَــدْ صَــارَ غُــرْبَةً
وَفِــــي لَــحْــدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْــزِلِي

يُــــمَــزِّقُ شَــــجْــوُ الــــحُــزْنِ قَــلْــبِي بِــفَــقْدِهَا
وَيَــجْــثُمُ صِــنْــدِيدُ الأَسَـــى فَـــوْقَ كَــلكَلي
وَيَــــرْسُــمُ وَجْــــهًــا فِـــي مَــرَايَــا تَــوَهُّــمِي
سَــنِــيًّــا بِــــفِــرْدَوْسِ الــخَــيَــالِ الــمُــفَضَّلِ
تَــوَارَيــتِ يَــا أُمِّــي فَــمَا الــشَّمْسُ تَــسْتَحِي
إِذَا أَشْــــرَقَــتْ دِفْــئًــا وَلَا الــبَــدْرُ يَــأْتَــلِي
وَمَــــــا لِــلَــيَــالِــي لَا تَـــنُـــوحُ تَــلَــهُّــفًــا
عَــلَــى فَــجْــرِهَا الــمَجْبُولِ مِــنْ نُــورِكِ الــجَلِي
وَلَـــوْ أَنْــصَــفُوا لَاسْــتَــأْثَرُوكِ عَــلَى الــمَدَى
بِــــعِــطْــرٍ سَـــمَـــاوِيٍّ وَذِكْـــــرٍ مُـــرَتَّـــلِ
لِــمَــنْ يَــسْــتَرِيحُ الــنَّــحْلُ يَــا أُمِّ فِــي الــرُّبَى
وَكُـــلُّ شَـــذَىً مَــهْمَا يَــفِ الــعَهْدُ يَــخْذُلِ
تَــشَــظَّيْتُ كَــالــبِّلَوْرِ بَــعْــدَكِ فِـــي الــقُرَى
فَــــمَــا لِــــيَ بَــعْــدَ اللهِ إِلَّاكِ مِـــنْ وَلِـــي
وَمَـــا زِلْـــتُ يَـــا أُمَّـــاهُ كَــالطِّفْلِ كُــلَّمَا
ذُكِــرْتِ جَــرَى فِــي مُــقْلَةِ الــعَطْفِ فُــلفُلِي
تَــــبَــدَّلَ كُــــلُّ الــرَّهْــطِ يَـــا أُمِّ خِــلــفَةً
وَلَــــكِــنْ فَــــتَــاكِ الــــحُــرُّ لَــــمْ يَــتَــبَدَّلِ
حَــصَدْتُ رَوَابِــي الــحُلْمِ لَــمْ يَبْقَ لِي سِوَى
وُرَيْــقَــاتِ عُــمْــرٍ مِـــنْ سَـــرَابٍ وَسُــنْبُلِ
أَسِــيــرُ كَــأَنِّــي أَفْـــرشُ الـــدَّرْبَ وَحْــدَةً
وَأَسَــــرِي كَــــأَنِّــي دَرْسَ بِــئْــرٍ مُــعَــطَّلِ
أُمَــارِسُ طَــقْسَ الــنَّزْفِ بِــالعَزْفِ شَاعِرًا
وَأَرْوِي بَــسَــاتِــينَ الــنُّــهَى مَـــاءَ جَــدْوَلِــي
وأُسْـــرِجُ قِــنْــدِيلَ الــحِــجَا زَيْـــتَ حِــكْمَتِي
وَأَمْـــلَأُ طِـــرْسَ الــعِلمِ مِــنْ فِــكْرِ فَــطْحَلِ
رِكَــابِــي احْــتِــسَابِي فِــي اغْــتِرَابِي وَرِحْــلَتِي
عَــــلَــى هَـــرَجِ الأَنْــفَــاسِ رَيَّـــا قَــرْنَــفُلِ
مُــكِــبًّا عَــلَــى الآدَابِ أَسْــمَــو إِلَـــى الــعُلَا
بِــمِــنْــهَاجِ ذِي عَـــدْلٍ وَمِــعْــرَاجِ مُــرْسَــلِ
شَــرِيــفًــا عَــــلَــى الــعِــلَّاتِ لَا يَــسْــتَخِفُّنِي
حَـــسُـــودٌ وَلَا يَــــهْــتَــمُّ لَــيْــثِــي بِــتَــتْــفُلِ
أُنَــافِــحُ مِـــلْءَ الـــذَّوْدِ عَـــنْ كُــلِّ شِــيمَةٍ
وَأَصْــفَــحُ مِــلْءَ الــهَوْدِ عَــنْ كُــلِّ أَعْــزَلِ
فَــأُنْــكِــرُ مِــــنْ قَــــوْمِــي تَــوَاكُــلَ غَــفْــلَةٍ
وَيُــنْــكِــرُ مِــــنِّــي الــقَــوْمُ جُــهْــدَ الــتَّــوَكُّلِ
إِذَا كُــــنْــتَ ذَا عِــــلــمٍ وَحِــــلْــمٍ وَفِــطْــنَــةٍ
فَــلَــسْتَ سِـــوَى مُــسْــتَنْكَرِ الــقَدْرِ مُــهْمَلِ
وَإِنْ شِــئْــتِ عِـــزًّا يَـــا صَــبــيَّةَ فَــارْقَصِي
وَإِنْ شِــئْتَ مَــجْدًا يَــا ابْــنَ لَــهْوِكَ فَــارْكُلِ
فَــــكُــلُّ نَــفِــيسٍ أَرْخَـــصَ الــجَــهْلُ دُرَّهُ
وَكُـــلُّ خَــسِــيسِ زَيَّـــنَ الــحَــالَ بِــالحُلِي
يَــقُــولُونَ مُــغْــتَرٌّ شَــقَــى الــوَهْــمُ كَــدْحَــهُ
وَلَــيْــسَ لَـــهُ فِـــي الــصَــوْبِ غَــيْرُ اَلــتَبَلُّلِ
وَمَـــا أَنَـــا إِلَّا تــكْسِفُ الــشَّمْسَ هَــالَتِي
وَلَا ذَنْـــبَ لِــي إِنْ لَــمْ يَــرَ الــبَدْرُ أَرْجُــلِي
وَإِنِّــــي عَــلَــى مَـــا يُــعْــجِزُ الــفَــذَّ قَـــادِرٌ
بِــــأَبْــرَاجِ عَــقْــلٍ ضَـــمَّ أَلْـــفَ عَــقْــنَقَلِ




شجية عميقة الشجن زاخرة بالمعاني مازلت أبحر في بحرها المترامي وشلال معانيها المنساب وأمواج مفرداتها المتلاحقة وما زال للإبحار مدى وللإقلاع إلى فضائها شأو إلا أني أستخلصت منها ما أوجب أن أقول أذهب الله عنك الهم والحزن وثبتك على رفيع القيم ومد الله في عمرك على سعة من الخير والنعمة ورحم الله الوالدة ووسعها بعظيم رحمته ووفقك وسدد خطاك.. مع خالص التقدير وأطيب التحيات

حسين الأقرع
11-05-2020, 02:43 PM
لإيلاف ذكرى



لِإِيـــلَافِ ذِكْــرَى أَوْجَــفَت روعَ مُــبْسَلِ=بِــإسْــرَافِ وَجْـــدٍ صَــامِتِ الــجَأْرِ مُــثْكَلِ
وَأُمْــنِــيَّــةٍ عَــذْرَاءَ فِــــي صَـــدْرِ خَــيْــبَـةٍ=تَــرَى الــقُــرْبَ قَــبْــرًا مُــشْــرَئِبَّ الــتَّدَلُّــلِ
سَــقَــتْهَا أَبَــارِيــقُ الــهَــوَى صَـــابَ غُــرْبَةٍ=وَسَــاقَــتْـ هُمَا بَــيْــنَ الـــرُّؤَى وَالــتَــخَــيُّــلِ
يَــجُــسَّانِ جَــيْــبَ الــغَــيْبِ وَالــلُبُّ ذَاهِــلٌ=أَمِـــنْ ثَــمَــلٍ يَـمْـتَــاحُ أَمْ مِــــنْ تَــمَــثُّــلِ
كَـــأَنَّ حِـــوَارَ الـــوَأْمِ حَـــارَاتُ نِــقْــمَــةٍ=وَكَــبَّـ لَ سُـــوقَ الـــرَّأْمِ حَــظْــرُ الــتَّــجَــوُّلِ
مَــحَــضْتُ لَـهَــا صَــغْــوَ الــضَّــمِيرِ فَــأَقْبَلَـتْ=بِــحَــو َاءِ كَــيْــدٍ يَــبْــتَلِــي نَـــزْعَ مَـــنْ بَــلِــي
يُــوَتِّــرُهَــا بِــالــصَّــمْتِ صَــــوْنُ تَــعَــتُّــبِــي=وَيُــ ْــضِــبُهَا بِــالــخَــبْتِ هَــــوْنُ تَــرَسُّــلِــي
وَمِــنْ كُــلِّ رِفْـــقٍ حَـــلَّ تَــسْتَــلُّ قَــسْــوَةً=وَتَـشْـكُــ ابْــتِــهَالِي فِـــي الــهَــوَى وَتَــبَـتُّلِــي
ثَــوَى طَــيْفُهَا مَــا بَــيْنَ جَــفْنِي وَخَــاطِرِي=أَرَاهَـــا، وَلَــكِــنْ لَا يَــرَى الــعُشَّ بــلْبلِـــي
أُفَــتِّــقُ زَهْـــرَ الــقَــوْلِ مِــنْ مُــحْكَمِ الــنَّدَى=فَــتَــقْــطِ ُ مَــعْــنَــىً مُــمْــتَــرَى بِــالــتَّــأَوُّلِ
تَـــقُــولُ وَقَـــدْ جَـــارَتْ عَــلــيَّ أَهَــنْــتَنِــي=وَأَلــ َــمْــتَنِي بِــالــكِــبْرِ صَــحْــنَ الــتَّــطَفُّــلِ
فَــقُــلْتُ فَـــدَاكِ الــقَدْرُ يَــا بِــنْتَ مُــهْجَتِي=أَمَــــا وَالَّــــذِي سَــــوَّاكِ لَــــمْ أَتَــبَــجَّــلِ
أَطَــعْــتُ الــمَعَانِي بِــالَّذي شِــئْتِ أَحْــتَرِي=وَلَـــوْ نَــزْرَ قَــطْــرٍ مِـــنْ رِضَـــاكِ الــمُؤَمَّــلِ
وَلَــوْ أَزْعَـــجَــتْ كَــفِّــي هَـــوَاكِ بِــلَــمْسَةٍ=لَــفَــرَ قَ فَــضْــلِــي بَــيْــنَ كَــفِّــي وأَنْــمُــلِــي
وَلَــكِــنَّ بَــلــوَى الــنَّــفْسِ تَــسْــوِيلُ ظَــنِّهَا=وَتَــزْيِــيـ نُ مَــــا تَـــأْتِــي بِــنَــفْجِ الــتَّــزَيُّـــلِ
لَــقَــدْ كُــنْــتُ أَرْجُــو مِــنْ سَــنَابِلِ رَأْمِــهَا=فَـمَــا لِــي كَــأَنِّــي حَـطَّمَ الــيَأْسُ مِــنْجَلِــي
تَــنَــامُ عَــلَــى سَــجْــوِ الــهُــنَــيْهَــةِ نَــأْمَــتِــي=وَيَــصْـ حُـوَ عَــلَــى سَــطْـوِ الــحَــنِينِ تَــعَــلُّــلِي
وَمَـــا زِلْــتُ أَجْــفُو الــرُّوحَ حَــتَّى نَــكِرْتُنِــي=وَحَــتَّ ـى كَـــأَنَّ الــصَدْرَ فِــي قَــعْرِ مِــرْجَلِ
فَـــلَا تِــعْــزِفِي لِــلــنَّايِ يَـــا نَــفْــسُ بُــحَّتِــي=وَلَا تُــنْــشِــدِي بَــوْحِــي الـشَّـجِيَّ لِــعَــنْــدَلِ
وَمِـنْ خَــمْرِ شِـعْرِي طَــفِّفِي أَكْؤُسَ الطِّلَــى=مُــشَــعْشِعَ ً تَــنْــسَابُ فِـــي رِيـــقِ مُــثــمَلِ
بَــذَلْــتُ إِبَــائِي أَسْــأَلُ الــوَصْلَ مَــنْ جَــفَا=كَــأَنِّــي وَثِـــيــلٌ عِــــنْــدَ بَـــابِ مُــؤَثَّـــلِ
أُبَــالِــغُ بِــاَلشُكْرانِ فِــي الــقُرْبِ وَالــنَّـوَى=وَلَـيْـسَ سِــوَى الــنُّكْرَانِ فِــي كُــلِّ مَــوْئِــلِ
وَهَــا طُــفْتُ مَــنْفَى الــحُلْمِ يَــجْتَرُّنِي السُّدَى=بِـــوَجْـــهٍ خَــرِيــفِــيٍّ وَطَـــرْفٍ مُــبَــلَّـــلِ
فَــيَــا رَبَّ هَـــذَا الــقَــلْبِ مَـــاذَا تَــعَــلُّقِي=بِــأَذْيَ ـالِ مَـــنْ يَــسْــلُو وَمَـــاذَا تَــعَــقُّلِـــي
وَيَــا سَــرْمَدِيَّ الــشَّوْقِ مَــا الــذَّوْقُ فِي فَمٍ=إِذَا الــحُــزْنُ سَـــاوَى بَــيْنَ شَــهِدٍ وَحَــنْظَلِ
فَـــلَا تُــلْــقِمَانِي، صَــاحِــبَيَّ، فَـــمَ الــرَّحَى=وَلَا حَـطْــمَ أَضْـــرَاسِ الــزَّمَانِ الــهَمَرْجَـلِ
وَلَا تَــسْـقِيَانِي الــوَعْــدَ مِــنْ ضَــرْعِ صَــبْــوَةٍ=وَلَا تُــشْــقِــيَانِـي بَــيْــنَ مَــــاضٍ وَمُــقْــبِـــلِ
كَــفَرْتُ بِــخَوْضِ العِشْقِ فِي حِضْنِ فَاطِمٍ=وَتُــقْتُ لِـحَوْضِ الــرِّفْقِ فِــي حِــضْنِهَا العَلِي
فَـــإِنَّ حَــنَــانَ الأُمِّ فِـــي كَــوْثَــرِ الــمُــنَى=أَرَقُّ وَأَنْــقَــى مِـــنْ حَــبِــيــبٍ مُــــدَلّـــلِ
وَمَـــا الــــيُــتْــمُ إِلَّا فَـــقْـــدُ أُمٍّ وَأُمَّـــــةٍ=وَغَـــــد رُ حَــبِــيــبٍ وَامْــتِــهــانُ مُــبَــجَّــلِ




لا فض فو ك ... هذه هي لامية العرب ....

غلام الله بن صالح
11-05-2020, 07:27 PM
رحم الله والدتك وجميع موتى المسلمين
قصيدة رائعة شجية
دمت بخير شاعرنا الكبير
مودتي وتقديري

عبدالستارالنعيمي
12-05-2020, 02:41 AM
أعانكم الله على بلواكم وثبت أجركم بمن فقدتم
ولا غيض مداد شعرك النبيل وأنت تستعمل أدوت الإبداع جلها في نص بديع من جناس وتقابل ::



كَـــأَنَّ حِـــوَارَ الـــوَأْمِ حَـــارَاتُ نِــقْــمَــةٍ
وَكَــبَّــلَ سُـــوقَ الـــرَّأْمِ حَــظْــرُ الــتَّــجَــوُّلِ

عبد السلام دغمش
12-05-2020, 08:41 AM
شاعرنا الكبير

هذه قطعة من الشعر العباسي بياناً و جزالةً .
وتميزت كما في شعر العمري بالحكمة وملامسة الواقع .

حصدتُ روابي الحلم لم يبق لي سوى
وريقات عمرٍ من سرابٍ و سنبلِ

أسيرُ كأني أفرش الدرب وحدةً
وأسري كأني درس بئرٍ معطلِ

أمارس طقس النزف بالعزف شاعراً
وأروي بساتين النهى ماء جدولي

هذه قطاف من روض القصيد.

رحم الله الوالدة ، وأطال الله عمركم شاعرنا الفاضل .

تحياتي .

صبري الصبري
12-05-2020, 12:33 PM
رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته ورحم الله أمواتنا وأموات المسلمين
رثاء صادق الشعر والشعور
معلقة باذخة الجمال والحزن
تحياتي لكم وتقديري ومحبتي

ميسر العقاد
13-05-2020, 01:14 AM
أحسن الله عزاءك شاعرنا الكبير وأعظم أجرك
وما من مصيبة لعمري كفقد الأم ولكن الأجر على قدر المصاب فاصبر وتجمل
وكلٌّ على هذا الدرب سائر
لا فض فوك ولا غيض مدادك وأنت تكتب كدأبك هذه وأمثالها من خرائد الشعر الرائعة التي تسقي أرواحنا الظمأى لعذوبة ونقاء نبع الأقدمين الأكرمين
تحياتي وتقديري

رائد عبد اللطيف
13-05-2020, 02:30 PM
وَمَــــا الــلَّــيْــلُ إِلَّا تُــرْجُــمــانُ سَـــرَائِــرِي
https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifوَسُــبْــحَــةُ أَفْــكَــارِي وَحِـنْــطَــةُ مُــنْــخُلِــي

وكأني برحلة امرئ القيس ، وفارس من العصر القديم، يحمل سيفه ويمتطي صهوة حصانه، بورك الجهد.
أرى إنها قصيدة للخاصة، ولا يستطيع أن يستلذها العامة، لجزالة اللفظ وطول السرد، فهي متعة للأبصار وتغذية للعقول والأرواح.

رأيت أن كلمة "بنزين" طفلا تائها في قوم لا يعرفهم.

عبدالسلام حسين المحمدي
13-05-2020, 09:18 PM
دكتورنا الحبيب
تحياتي واحترامي
تقومستَ في هذي القصيدةِ عالياً
وكسَّرتَ صلصال الحروف بمعولِ
تعثكلتَ كي تبدو أشــدَّ رصانـــةً
وأتعبتَ فتّـال القريــض بمغـــزلِ

براءة الجودي
14-05-2020, 12:48 AM
ماشاءالله بارك الله هي معلّقة وليست قصيدة

جمعت مابين الأسلوب الجزل والسهل الممتنع وتمتّعت بالحكمة وورد فيها صورا فنية تستحق التأمّل في معناها كما اعتدنا من والدنا الدكتور سمير العمري
الأغراض هنا متعددة على نسق شعراء الجاهلية ولكن بصورة حديثة حيث ان المواضيع متداخلة ومتناسبة بطريقة متسلسلة مترابطة ، ولكلّ عصر ولكل زمان سماته الأدبية الخاصة به
ويذكرني هذا بالبارودي حينما أحيا الشعر القديم في رصانته وجزالته حينما عبث الشعراء بالشعر وأنهكوه بالضعف والركاكة والجمود والإكثار من البديع بدون مضامين وشاعرية تحيي الروح فيه ، وهنا الدكتور سمير يشبه مافعله البارودي بإحياء الشعر القديم والنهضة به في صورة متناسبة مع متطلبات الشعر العصرية والحديثة التي نعيشها في وقتنا باسلوب متين متماسك و صور فنية مميزة وشاعرية وطول نفس قد لايقدر عليها إلا قلة من الشعراء ، معلقة بديعة في الشكل والمضمون .

كل التقدير

محمود صندوقة
21-05-2020, 11:21 PM
رحم الله والدتك رحمة واسعة وأسكنها فسيح جنانه .. هكذا هي قصائدك دوما أخي الحبيب عميقة الوصف جميلة المعاني قد أسهبت هنا وكتبت قصيدته طويلة لا نراها الا غرفة صغيرة من ماء نهر شعرك الأقاح الذي لا ينضب ...
كل التحايا والود

زيد الأنصاري
21-05-2020, 11:47 PM
تتميز القصيدة بأصالة المعاني ووضع المفردات المناسبة في أماكنها، هذا الشعر يذكرني بالشعراء الكبار في قوة أسلوبه وجمال تصاويره.

براءة الجودي
25-05-2020, 12:11 AM
لِإِيـــلَافِ ذِكْــرَى أَوْجَــفَت روعَ مُــبْسَلِ
بإسْــرَافِ وَجْـــدٍ صَــامِتِ الــجَأْرِ مُــثْكَلِ

معنى الكلمات :
وجف : أي أسرع وخفق واضطرب
روع : الروع هو الفزع ، وأيضا هو موضع وهو القلب .
الجأر : رفع الصوت بالدعاء والتضرّع .

معنى البيت :
هذه الذكرى التي لزمت الشاعر وبقيت تأتيه متصلة دون انقطاع عنه قد أرجفت قلب الشجاع ، ولن يرتجف قلب الباسل إلا من أمرٍ جلل ليس تافها أو بسيطا ، ومع هذا الأمر العظيم الذي جعل قلبه مضطربا شديد الخفقان كانت ردة فعل وجده هو الإسراف في الصمت رغم حاجته إلى الجأر لكنه لم يتضرع ولم يرفع صوته من شدة كتمان الحزن وتحمل هول الشدائد وصعوبة المكاره ، فقد فضّل الصمت وكأنّما ألِفه وأصبح سمة له ولم يكتفي بالسكوت لفترة مؤقتة ، وفوق هذا فهو وجدٌ لا يعاني الشدة والضيق فقط إنما الفقدان ، وكلها مشاعر مؤلمة وحزينة ، أكثر ما تكون على الوجد شدّة ، لكنّ الباسل وحده هو الذي يستطيع توطين نفسه على احتمال المكاره والأحزان .


وَأُمْــنِــيَّــةٍ عَــذْرَاءَ فِــــي صَـــدْرِ خَــيْــبَـةٍ
تَــرَى الــقُــرْبَ قَــبْــرًا مُــشْــرَئِبَّ الــتَّدَلُّــلِ

معنى الكلمات :
مشرئبّ : اشرئبّ اشرئبابا أي إذا مدّ عنقه فارتفع وعلا

معنى البيت :
إنّ الأماني البكر التي لم يمسّها إنسان تقبع في صدر أُصيب بالخيبة من معرفته لعدم استجابة الأماني لتلبية رغبته من اقترابها منه ، حيث ترى هذه الأمنية أنّ اقترابها من راغبها يعني الموت والفزع ومعاني الخوف ، كالفتاة العذراء التي تصدّ عن الحبيب بابتعادها وتمدّ عنقها وترفعه تمنُّعا ودلالا حال إعراضها رغم أنها رؤية معروفة عند أغلب النساء وبالأخصّ العذراوات لكنّ تصويرها على أنها للأمنيات جعلها تبدو كرؤية جديدة تم تخريجها بطريقة حسنة .
هنا شبّه الأمنية بالفتاة العذراء لكونها سريعة الانكسار إن جُرحت أو أصابتها خيبة والجامع بينهما هو التمنّع والتدلّل من رغبة الاقتراب وتفضيل الابتعاد عن الحبيب ، ذكر المشبه وحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية .


سَــقَــتْهَا أَبَــارِيــقُ الــهَــوَى صَـــابَ غُــرْبَةٍ
وَسَــاقَــتْــهُمَا بَــيْــنَ الـــرُّؤَى وَالــتَــخَــيُّــلِ

معنى الكلمات :
صاب : الصبا من الشوق ، ويقال منه تصابى وصبا يصبو صبوة أي مال إلى الجهل والفتوّة ، وصاب ويصبي ويصبون إلى الفتنة أي يميلون إليها ، وصبا القلب : أي مال إلى الهوى .

معنى البيت :
هذه الأمنية العذراء التي تتمنع بدلال وترى القرب من حبيبها عبارة عن قبر بالنسبة لها ، قد سقتها أباريق هوى الشاعر ومال إليها أكثر خصوصا في فترة غربته وتخصيص هذه الفترة دقيق في تأدية معنى الوحدة والحاجة إلى الشخص الذي يهواه ويحبه ويأنس لمجالسته ومسامرته ، ثم قال :
( وساقتهما بين الرؤى والتخيّل) إن هذه الأمنيات أصبحت بين الرؤى المحسوسة الواقعية التي يصدّقها الإنسان كالأخبار التي لا يُحتمل تكذيبها وبين التخيّل والوهم التي تمرُّ كالطيوف والسراب يراه ولا يراه !
فما الشيئان اللذان ساقا هذه الأمنية وجعلاها بين الرؤى والتخيّل !

هل هما ياترى ( الهوى ، والغربة ) ؟

فإن كانا كذلك فإنّ الهوى قد يجرّ الإنسان إلى كثرة الخيالات حتى تزدحم عليه فما يبصر الحقيقة إلا بعد عناء وكونها أمنية فقد تكون أقرب للوهم إن كانت شبه مستحيلة مما يجعله واقعا بين حالتين من تصديقها و عدمه .

وأمّا الغربة فهي ترفع نسبة حدّة البصيرة لدى الإنسان وتزيد من إثراء وجدانه بالمعاني وتقوّي مبادئه فيضعف احتمال فتنة قلبه وتنخفض نسبه توهمه ولايسهل خداعه من رؤية السراب وبالتالي يكون أكثر تركيزا على الحقيقي والواقعي والمنطقي ويبصر قلبه حالها ما لايبصره في حال ضجيج الهوى وزحمة الأمنيات والتوهمات ، وهذين الاثنين (الهوى ، والغربة) من جعلاه يعيشان بين الرؤى والتخيل .
وتحديده لكلمة التخيّل لأن الإنسان يكون بإرادته أن يتخيل في كثير من الأحيان ومتى ما أراد وزيادة هذا التخيل يسوقه إلى الوقوع في حفر بعض الأوهام مابين مصدق ومكذب لما يراه في عالم خياله .

وأما الرؤى فتسوقه إلى طريق واضح مشعّ نوره ولا مجالا لتكذيب مايراه واقعا ومنطقيّا مما حوله التي تتكون من خلاله رؤاه الخاصة وفلسفاته .

(سقتهما وساقتهما) بينهما جناس ناقص
( أباريق الهوى) و ( صاب غربة) ( بين الرؤى والتخيّل ) هنا جمل فيهم تقسيم على شكل جمل مضافة معرّفة في أغلبها وكأنها تثبت وتؤكد للقارئ عن أمرٍ عجيب جعل الشاعر يقع في مثل هذه الحالة بين الحقيقة والوهم وبين الرؤى والتخيل وبين تصديقه لما يراه وتكذيبه له ، ولن يجعله في هذه الحالة إلا أمرا جلل ليستحق هذا التركيب وهذا الوصف .


يَــجُــسَّانِ جَــيْــبَ الــغَــيْبِ وَالــلُبُّ ذَاهِــلٌ
أَمِـــنْ ثَــمَــلٍ يَـمْـتَــاحُ أَمْ مِــــنْ تَــمَــثُّــلِ

معنى البيت :
وهنا يُكمل مابدأه في البيت السابق من هذه الحالة التي أوقعته مابين تصديق وتكذيب ، فيقول : يجسّان جيب الغيب ، فمن هما اللذان يجسّان؟
أتوقع أنهما الرؤى والتخيّل ، فالرؤى تمثّل مايراه من الظاهر ، والتخيّل تمثل وهما وقع فيه أو شكّا في عدم تصديق مايراه وإحساس لتكذيب هذا الظاهر الذي يكاد يخدعه .

يقول : إن هذه الرؤى وهذا التخيّل يفحصان ويبحثان عن هذا الخبر ، ويتلمّسان مواقعه الرسمية ويتحرّان عنه؛ ليستبينانه ويستثبتانه ، لذا يفتشان عن بواطنه وفي أثناء هذا البحث والتفتيش ترى لبّ الشاعر ذاهل ، حيث اصبح محتارا من ذهوله هل سببه أنه ثمل مازال يستقي من هذه الأخبار فتزداد ثمالته ليراها وهما بين مكذّب ومصدق لها أم بسبب الحقيقة الماثلة أمامه التي أصابت قلبه بالذهول وقطعت تخيّلاته بالصدق واليقين ، فلم يعد يغمض جفنيه ولايستطيع إغلاق شفتيه من صحّة هذا الخبر الذي جعله في بداية الأمر بين الرؤية الحقيقية والتخيّل ، والتساؤل هنا يدلّ على حيرة الشاعر .


كَـــأَنَّ حِـــوَارَ الـــوَأْمِ حَـــارَاتُ نِــقْــمَــةٍ
وَكَــبَّــلَ سُـــوقَ الـــرَّأْمِ حَــظْــرُ الــتَّــجَــوُّلِ

معاني الكلمات :
الحوار : هو الحديث الذي يجري بين الشخصيات
الوأم : أي الموافقة
حارات : هي حلة متصلة المنازل ومدخل ضيق للمنازل
نقمة : العقوبة والاستياء
السوق : هو الموضع الذي يُجلب إليه المتاع والسلع للبيع
الرأم : رأم الشيء أي لأمه وأصلحه .
الحظر : المنع
كبّل : أي قيّد

معنى البيت :
يقول الشاعر ، إن الحوارات بين الأشخاص التي تدور بطريقة ودية وتنشر الوئام تكون مع اختلاف الآراء منقلبة إلى نقمة في كثير من الأحيان ، ثم يأتي بخبر في العجز فيقول : إنّ الذي يُصلح أوضاع الناس وحالهم قد كُبّل بقرار من الحكومات بمنع التجوّل في الأحياء .

فما علاقة معنى الصدر بالعجز ؟

إنّ السوق الكبير الذي يُحسّن حال كثير من الناس الاقتصادي والاجتماعي ويجعل في المكان حياة وبركة وسير قد قُيّد بهذا القرار المفاجئ وهو (حظر التجول) ، فأصبحت البيوت تضيق صدورها بساكنيها وتلك الحوارات التي كانت تتوافق فيما بينها بمحبة ووداد انقلبت إلى الشعور بالاستياء والضيق والنكد .
ثم ذكر تشبيها مميزا ومناسبا جدا وهو أنه شبه الحوارات المتوافقة مع بعضها بعد تحولها إلى استياء ونقمة بالأحياء التي تكون حاراتها ضيقة ومنازلها متلاصقة مما يجعل هناك بعض التوتر والمشاكل بين ساكني هذه البيوت وقد تكون لأتفه الأسباب فتصبح قنبلة وعقاب بين المتحاورين ، وأداة التشبيه ( كأن) وهو من التشبيه البليغ .

( كأنّ حوار الوأم ، وكبّل سوق الرأم ) و ( حارات نقمة ، حظر التجوّل) كان تقسيما دقيقا .

وجناسا بديعا بين (الوأم والرأم) الذي يدل معناهما على أمر حسن من الموافقة والإصلاح .

وأما ( حارات وحظر) فكلمتان تدلان على تضييق كل وسيع وهو أمر سيء للناس الذين اعتادوا الحرية ولايطيقون أمر التقييد .

( والحوار والسوق ) هما متناسبان حيث أنّ كلا منهما يرسمان معنى الانفتاح على الحياة والانطلاق والتطور ، فالسوق يُنمّي الاقتصاد ومهارات البائعين والمشترين ، والحوار يزيد من تفتق فكر المرء ويكسبه مهارات عديدة من ناحية زيادة الثقافة ومن ناحية السمات التي تظهر في المحاور المتفتح في نقاشه وأفكاره المرن في تعامله والذكيّ المحترم في أسلوبه ، كل هذا ينميه الحوار عند الإنسان ، لذا هو متشابه في هذه الناحية من السوق يدخل إليه الكثير وقد يخرجون منه بما هو حسن ومريح ومفيد لهم يعجبهم أو بما هو سيء ويضيّق الصدر وينكّد عليهم فبالتالي يصبحان نعمة على من يدخلها أو نقمة عليه ،في الربح والخسارة من جهة المال في السوق ومن جهة الثقافة والتطور العلمي والنماء الفكري في الثاني .



ابنتكم / براءة الجودي

د. سمير العمري
28-05-2020, 01:30 AM
وما لامرِئ القيسِ احتفال بمنزلِ
...........................وقد حِدْتَ عن "سقط اللِّوى" بِتَجمُّلِ
مُعلَّقَةٌ فيها البَيانُ مُعتَّقٌ
...................................جَزالةُ شعْرٍ في حريرَةِ مِغزَلِ
بأيِّ حروف الضادِ أنقلُ رعشتي
..................................وأيِّ شَعورٍ منْ فضائِكَ أعتلي؟
فمنْ كلِّ بيْتٍِ أستشفُّ قصيدةً
...............................ومن كلِّ بيْتٍ في القصيدة منْهَلي
ألوذُ بصمتي فالحُروفُ تعقُّني
....................................تَجرُّ ذيلَ الصَّمْتِ دونَ تعلُّلِ

أسأل الله تعالى للفقيدة الوالدة الرحمة والغفران وجنات الخلد ..إنا لله وإنا إليه راجعون



بارك الله بك أيها الشاعر الكريم والأخ الغالي الحبيب وأشكر لك قراءتك السامقة وردك الشعري الراقي ورأيك الكريم !
ما شاء الله عليك إذ انتبهت بحصافة لأحد أهم مقاصد النص!
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!




تقديري

أحمد محسن الحديدي
01-06-2020, 06:51 PM
عندنا في ثقافتنا في مصر إذا أردنا أن نشير إلى شيء بالغ الجمال نقول : ( جاحد أو مجرم ) وليس هذا من باب الإساءة إلى الشيء ، بل من باب المحسن البديعي المشهور ( تأكيد المدح بما يشبه الذم ) . عمل مجرم . فيه سلاسة التركيب مع عمق الرؤية وثراء الصور الخيالية . أنعم الله عليك بأعمال تأسر القلوب كالعادة دائما أتعلم منك سيدي الكريم .

خالد صبر سالم
03-06-2020, 10:08 AM
رحم الله الوالدة الكريمة وظللها بظلال جنته الوارفة وجزاكم فضيلة الصبر والسلوان وأقول كما قيل قديما(ما مات من رثي بهذا الرثاء)
اخي شاعرنا الكبير الدكتور سمير
حقا انها معلقة رثاء رائعة فدمت شاعرا قديرا
احترامي ومحبتي

مازن لبابيدي
04-06-2020, 04:41 PM
اصدقني القول أبا حسام أهذه واحدة من أروع ما كتبت من القصائد أم هي مخطوطة عثرت عليها لامرؤ القيس فنقلتها لنا ؟

قراءة أولية لم أتمكن فيها من إتمام أكثر من نصف هذه المعلقة فتركتني ثملا من كأسها المشعشع

وأضع هنا برهن السؤال والتحفيز : أين النقاد والدارسون للشعر العربي ؟

عزالدين تسينت
04-06-2020, 11:54 PM
جعلتَ من الخفيفِ مطيّةً تبحرُ بها بالغدو و الأصيل، كالموج يحمل سفنا تنوء بالِحملِ الثّقيل...
بوركت و بورك نفسك الطويل ... ودمت بألف خير

تفالي عبدالحي
05-06-2020, 06:58 PM
قصيدة جميلة و رائعة شاعرنا الكبير

رحم الله الوالدة و أسكنها فسيح جنانه
تحياتي لك شاعرنا الكبير و شكرا لك على هذه القصيدة المتميزة و الرائعة و دام لك الشعر و الابداع

يحيى سليمان
06-06-2020, 04:32 AM
قراءة واحدة لا تكفى وقراءتان لا تفيان الجمال حقه
لقد وقع المارون من هنا في فخ امريء القيس وهو ملك ضليل وما رأيتك إلا ملكا لبيان يضاهي أشعر شعراء العرب صاحب المعلقة الزهير بن أبي سلمى وهو من شهد ابن عباس رضي الله عنه بإنه أشعر العرب وأراك قامة فارهة جمعت الشعر واللغة والبيان والمضمون ليس مجرد مطولات كتلك التي لامريء القيس تحصحص إذا حصص الحق عن بعض أبيات فرادى هي من عيون الشعر أما مجملة قلا ترقى لبيان الزهير الذي هو حالنا مع درتك الفريدة رثاء وفخرا وبيانا وفجعة في الأمة فكأنك رثيت أمة لا أما فهي مجملة بديعة بديعة وبها من اللؤلؤ الفريد فرادى فرادى أعود إليها مفصلا بعد إجمال لم يفها حقها وأنتظرها في منصة الأدب ليكون للفضاء الأزرق حظ من رؤيتي وافتتاني بها بإذن الله
إلى عودة قربية مفصِلة

د. سمير العمري
08-06-2020, 02:42 AM
قصيدة كبيرة امتلأت بالمشاعر الصادقة والحكمة والوجع
حقيقة يقف المرء عاجزا عن توصيف ما قرأ من بيان وتصوير
ومعان تدفقت ولم تتوقف من الفها الى يائها
بورركت ايها الحبيب ورحمة واسعة لمن فقدتم
هذه حال الدنيا

للتثبيت

بارك الله بك أيها الشاعر الكريم المبدع واالأخ الحبيب الغالي أبا الأمين وأشكر لك تثبيت القصيدة وردك الراقي ورأيك الكريم!


دام دفعك!
ودمت بخير وعافية ولا أوحش الله منك!


تقديري

د. سمير العمري
10-06-2020, 02:29 AM
فَــــإِنَّ حَــنَــانَ الأُمِّ فِـــي كَــوْثَــرِ الــمُــنَى
أَرَقُّ وَأَنْــــقَــى مِــــنْ حَــبِــيــبٍ مُــــدَلّــلِ
وَمَـــــا الــــيُــتْــمُ إِلَّا فَـــقْـــدُ أُمٍّ وَأُمَّـــــةٍ
وَغَـــــدْرُ حَــبِــيــبٍ وَامْــتِــهــانُ مُــبَــجَّــلِ
خُــــذَانِــي إِلَــيْــهَــا فِـــي رَحِــيــلٍ مُــعَــجَّلٍ
وَلَا تُــبْــقِــيَانِي رَهْــــنَ مَــــوْتٍ مُــؤَجَّــلِ
خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةً
تُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي
خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَــدْ صَــارَ غُــرْبَةً
وَفِــــي لَــحْــدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْــزِلِي

يُــــمَــزِّقُ شَــــجْــوُ الــــحُــزْنِ قَــلْــبِي بِــفَــقْدِهَا
وَيَــجْــثُمُ صِــنْــدِيدُ الأَسَـــى فَـــوْقَ كَــلكَلي
وَيَــــرْسُــمُ وَجْــــهًــا فِـــي مَــرَايَــا تَــوَهُّــمِي
سَــنِــيًّــا بِــــفِــرْدَوْسِ الــخَــيَــالِ الــمُــفَضَّلِ
تَــوَارَيــتِ يَــا أُمِّــي فَــمَا الــشَّمْسُ تَــسْتَحِي
إِذَا أَشْــــرَقَــتْ دِفْــئًــا وَلَا الــبَــدْرُ يَــأْتَــلِي
وَمَــــــا لِــلَــيَــالِــي لَا تَـــنُـــوحُ تَــلَــهُّــفًــا
عَــلَــى فَــجْــرِهَا الــمَجْبُولِ مِــنْ نُــورِكِ الــجَلِي
وَلَـــوْ أَنْــصَــفُوا لَاسْــتَــأْثَرُوكِ عَــلَى الــمَدَى
بِــــعِــطْــرٍ سَـــمَـــاوِيٍّ وَذِكْـــــرٍ مُـــرَتَّـــلِ
لِــمَــنْ يَــسْــتَرِيحُ الــنَّــحْلُ يَــا أُمِّ فِــي الــرُّبَى
وَكُـــلُّ شَـــذَىً مَــهْمَا يَــفِ الــعَهْدُ يَــخْذُلِ
تَــشَــظَّيْتُ كَــالــبِّلَوْرِ بَــعْــدَكِ فِـــي الــقُرَى
فَــــمَــا لِــــيَ بَــعْــدَ اللهِ إِلَّاكِ مِـــنْ وَلِـــي
وَمَـــا زِلْـــتُ يَـــا أُمَّـــاهُ كَــالطِّفْلِ كُــلَّمَا
ذُكِــرْتِ جَــرَى فِــي مُــقْلَةِ الــعَطْفِ فُــلفُلِي
تَــــبَــدَّلَ كُــــلُّ الــرَّهْــطِ يَـــا أُمِّ خِــلــفَةً
وَلَــــكِــنْ فَــــتَــاكِ الــــحُــرُّ لَــــمْ يَــتَــبَدَّلِ
حَــصَدْتُ رَوَابِــي الــحُلْمِ لَــمْ يَبْقَ لِي سِوَى
وُرَيْــقَــاتِ عُــمْــرٍ مِـــنْ سَـــرَابٍ وَسُــنْبُلِ
أَسِــيــرُ كَــأَنِّــي أَفْـــرشُ الـــدَّرْبَ وَحْــدَةً
وَأَسَــــرِي كَــــأَنِّــي دَرْسَ بِــئْــرٍ مُــعَــطَّلِ
أُمَــارِسُ طَــقْسَ الــنَّزْفِ بِــالعَزْفِ شَاعِرًا
وَأَرْوِي بَــسَــاتِــينَ الــنُّــهَى مَـــاءَ جَــدْوَلِــي
وأُسْـــرِجُ قِــنْــدِيلَ الــحِــجَا زَيْـــتَ حِــكْمَتِي
وَأَمْـــلَأُ طِـــرْسَ الــعِلمِ مِــنْ فِــكْرِ فَــطْحَلِ
رِكَــابِــي احْــتِــسَابِي فِــي اغْــتِرَابِي وَرِحْــلَتِي
عَــــلَــى هَـــرَجِ الأَنْــفَــاسِ رَيَّـــا قَــرْنَــفُلِ
مُــكِــبًّا عَــلَــى الآدَابِ أَسْــمَــو إِلَـــى الــعُلَا
بِــمِــنْــهَاجِ ذِي عَـــدْلٍ وَمِــعْــرَاجِ مُــرْسَــلِ
شَــرِيــفًــا عَــــلَــى الــعِــلَّاتِ لَا يَــسْــتَخِفُّنِي
حَـــسُـــودٌ وَلَا يَــــهْــتَــمُّ لَــيْــثِــي بِــتَــتْــفُلِ
أُنَــافِــحُ مِـــلْءَ الـــذَّوْدِ عَـــنْ كُــلِّ شِــيمَةٍ
وَأَصْــفَــحُ مِــلْءَ الــهَوْدِ عَــنْ كُــلِّ أَعْــزَلِ
فَــأُنْــكِــرُ مِــــنْ قَــــوْمِــي تَــوَاكُــلَ غَــفْــلَةٍ
وَيُــنْــكِــرُ مِــــنِّــي الــقَــوْمُ جُــهْــدَ الــتَّــوَكُّلِ
إِذَا كُــــنْــتَ ذَا عِــــلــمٍ وَحِــــلْــمٍ وَفِــطْــنَــةٍ
فَــلَــسْتَ سِـــوَى مُــسْــتَنْكَرِ الــقَدْرِ مُــهْمَلِ
وَإِنْ شِــئْــتِ عِـــزًّا يَـــا صَــبــيَّةَ فَــارْقَصِي
وَإِنْ شِــئْتَ مَــجْدًا يَــا ابْــنَ لَــهْوِكَ فَــارْكُلِ
فَــــكُــلُّ نَــفِــيسٍ أَرْخَـــصَ الــجَــهْلُ دُرَّهُ
وَكُـــلُّ خَــسِــيسِ زَيَّـــنَ الــحَــالَ بِــالحُلِي
يَــقُــولُونَ مُــغْــتَرٌّ شَــقَــى الــوَهْــمُ كَــدْحَــهُ
وَلَــيْــسَ لَـــهُ فِـــي الــصَــوْبِ غَــيْرُ اَلــتَبَلُّلِ
وَمَـــا أَنَـــا إِلَّا تــكْسِفُ الــشَّمْسَ هَــالَتِي
وَلَا ذَنْـــبَ لِــي إِنْ لَــمْ يَــرَ الــبَدْرُ أَرْجُــلِي
وَإِنِّــــي عَــلَــى مَـــا يُــعْــجِزُ الــفَــذَّ قَـــادِرٌ
بِــــأَبْــرَاجِ عَــقْــلٍ ضَـــمَّ أَلْـــفَ عَــقْــنَقَلِ




شجية عميقة الشجن زاخرة بالمعاني مازلت أبحر في بحرها المترامي وشلال معانيها المنساب وأمواج مفرداتها المتلاحقة وما زال للإبحار مدى وللإقلاع إلى فضائها شأو إلا أني أستخلصت منها ما أوجب أن أقول أذهب الله عنك الهم والحزن وثبتك على رفيع القيم ومد الله في عمرك على سعة من الخير والنعمة ورحم الله الوالدة ووسعها بعظيم رحمته ووفقك وسدد خطاك.. مع خالص التقدير وأطيب التحيات


بارك الله بك أيها الشاعر المبدع واالأخ الحبيب الغالي وأشكر لك ردك الراقي ورأيك الكريم!
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!




تقديري

عبد الحليم منصور الفقيه
10-06-2020, 06:52 PM
أنصفت الشعر قبل الموضوع. إعجابي..

د. سمير العمري
12-06-2020, 03:24 AM
لا فض فو ك ... هذه هي لامية العرب ....

بارك الله بك أيها الشاعر المبدع والأديب الكريم وأشكر لك رأيك المغدق ومرورك المورق!
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!




تقديري

د. سمير العمري
16-06-2020, 05:19 AM
رحم الله والدتك وجميع موتى المسلمين
قصيدة رائعة شجية
دمت بخير شاعرنا الكبير
مودتي وتقديري

بارك الله بك أيها الحبيب والشاعر الرائع، وأشكر لك كريم رأيك وجميل تقريظك وألق شعرك!


دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
22-06-2020, 02:37 AM
أعانكم الله على بلواكم وثبت أجركم بمن فقدتم
ولا غيض مداد شعرك النبيل وأنت تستعمل أدوت الإبداع جلها في نص بديع من جناس وتقابل ::



كَـــأَنَّ حِـــوَارَ الـــوَأْمِ حَـــارَاتُ نِــقْــمَــةٍ
وَكَــبَّــلَ سُـــوقَ الـــرَّأْمِ حَــظْــرُ الــتَّــجَــوُّلِ

بارك الله بك أيها الشاعر الكريم والأخ الغالي الحبيب وأشكر لك قراءتك السامقة وردك الراقي ورأيك الكريم !
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
30-06-2020, 04:59 AM
شاعرنا الكبير

هذه قطعة من الشعر العباسي بياناً و جزالةً .
وتميزت كما في شعر العمري بالحكمة وملامسة الواقع .

حصدتُ روابي الحلم لم يبق لي سوى
وريقات عمرٍ من سرابٍ و سنبلِ

أسيرُ كأني أفرش الدرب وحدةً
وأسري كأني درس بئرٍ معطلِ

أمارس طقس النزف بالعزف شاعراً
وأروي بساتين النهى ماء جدولي

هذه قطاف من روض القصيد.

رحم الله الوالدة ، وأطال الله عمركم شاعرنا الفاضل .

تحياتي .

بارك الله بك أيها الأخ الحبيب والشاعر الرائع، وأشكر لك كريم رأيك وجميل تقريظك وألق شعرك!
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
06-07-2020, 03:10 AM
رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته ورحم الله أمواتنا وأموات المسلمين
رثاء صادق الشعر والشعور
معلقة باذخة الجمال والحزن
تحياتي لكم وتقديري ومحبتي


بارك الله بك أيها الأخ الكريم والشاعر الرائع، وأشكر لك كريم رأيك وجميل تقريظك وألق شعرك!
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
11-07-2020, 02:46 AM
أحسن الله عزاءك شاعرنا الكبير وأعظم أجرك
وما من مصيبة لعمري كفقد الأم ولكن الأجر على قدر المصاب فاصبر وتجمل
وكلٌّ على هذا الدرب سائر
لا فض فوك ولا غيض مدادك وأنت تكتب كدأبك هذه وأمثالها من خرائد الشعر الرائعة التي تسقي أرواحنا الظمأى لعذوبة ونقاء نبع الأقدمين الأكرمين
تحياتي وتقديري

بارك الله بك أيها الشاعر المبدع والأخ الحبيب ولا حرمني الله من تفاعلك الراقي وحسك الواعي وأدبك الجم.
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

صباح تفالي
12-07-2020, 06:35 PM
روى الأصمعي أن أبا عبيد سئل عن خيرة الشعراء فقال: "امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرِب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهِب" وأنا أراكم كل هؤلاء
لا تقديد ولا تقليد في شعركم وإنما هو رمز لقيادة عليا لكل الأجيال وقلادة متفردة تتلألأ وسط كل إبداع شعري لهذا العصر ولكل العصور..


حرف مستقل بذاته ذو ابتكار في المعاني ورصده للصور البيانية التي تتميز باستعارات وتشابيه لم يسبق لأحد أن باح بها


حرف يعكس وعي الشعر الأصيل المتأصل في الموهبة الحقيقية، نضْرٌ ونضِرٌ ورحيب، متقن الحبك والسبك فيه أنفة الملوك وعزة نفس بليغة اللسان وخلود


محطة كبرى لحرف يتقد فيها الشعر العربي النخبوي الذي أراه مدرسة عمرية خالدة لحرف متميز الإنطلاقة في شاعريته وأساليبه لا مناص لتجاوزه أو حتى لتطويره فهو ثابت في إبداعه وكينونته قائم بذات سطوعه


لسنين عديدة عاصرنا هذا الحرف فوجدنا أنه يلهج كيفما يحلو له بيانا وصورا واستعارات وتشابيه تبعث إلى الدهشة والإعجاب


وإنا وقفنا عند هذه الأبواب أوقاتًا عدة نتأمل هذا الوهج المتأجج والألق المتواصل فلم نجد له إلا تصاعدا وقوة في السطوع والشموخ وقد كان بالفعل مصدرا موثوقا لمراجعة قواعد اللغة والأدب وما يتضمنه من نحو وصرف وإعراب


وإني والله لا أراكم شاعرنا السامي الدكتور سمير العمري إلا من سلاطين الشعر في هذا العصر، أذكيتم وهجه وأعليتم رتبه ومقامه وأيقظتم وجدانيته وجودته وإنه لملكية يصعب مجاراتها ومبارزتها..

تقديري وإعجابي لا حدود لهما :0014:

#صباح تفالي

جلال دشيشة
12-07-2020, 08:50 PM
وعطفا على ما قالت الشاعرة صباح تفالي ، أقول بأن شعر الأستاذ العمري متفرد لا شريك له في أي عصر من العصور ..وهو مقتدر على أن ينيخ في أي عصر ويستخدم أساليبه وتراكيبه وألفاظه بكل سهولة ، فسبحان من خصه بهذه الملكة العظيمة ، وحفظه الله لنا وأدام عزه ومجده.

د. سمير العمري
23-07-2020, 02:19 AM
وَمَــــا الــلَّــيْــلُ إِلَّا تُــرْجُــمــانُ سَـــرَائِــرِي
وَسُــبْــحَــةُ أَفْــكَــارِي وَحِـنْــطَــةُ مُــنْــخُلِــي


وكأني برحلة امرئ القيس ، وفارس من العصر القديم، يحمل سيفه ويمتطي صهوة حصانه، بورك الجهد.
أرى إنها قصيدة للخاصة، ولا يستطيع أن يستلذها العامة، لجزالة اللفظ وطول السرد، فهي متعة للأبصار وتغذية للعقول والأرواح.


رأيت أن كلمة "بنزين" طفلا تائها في قوم لا يعرفهم.


بارك الله بك أيها الشاعر المبدع والأخ الحبيب ولا حرمني الله من تفاعلك الراقي وحسك الواعي وأدبك الجم.
ونعم صدقت وأحسنت ... هي قصيدة أردتها للخاصة وفيها ما أردته أن يستوقف كل ذي عقل لبيب وحكم نزيه ورأي صادق. وأنا أتفهم رأيك في تلك المفردة ولكنها تنساق في جملة المقاصد خصوصا وأنني أردت في هذه القصيدة أن أجمع فيها كل المستويات وكل العصور وكل الأساليب وبهذا لا تكون تلك المفردة تائهة إلا بقدر ما يتيه المرء على دهره.
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!




تقديري

د. سمير العمري
05-08-2020, 02:17 AM
دكتورنا الحبيب
تحياتي واحترامي
تقومستَ في هذي القصيدةِ عالياً
وكسَّرتَ صلصال الحروف بمعولِ
تعثكلتَ كي تبدو أشــدَّ رصانـــةً
وأتعبتَ فتّـال القريــض بمغـــزلِ

لعلك كما رأيت أيها الحبيب من انتباه الكرام أن القصيدة هي للخاصة ولأسباب خاصة، ولذا أتفهم انزعاجك منها رغم أن عدد الألفاظ المعجمية لا تقترب حتى من 1% من عدد ألفاظ القصيدة. ولكن أن تقول كي تبدو أشد رصانة فلعلك هنا تجاوزت وأسأت وجنفت مع من تتبعه الرصانة حرفا وأدبا وخلقا ويلهث العلاء وراءه أملا في رضاه وقبوله، ولا أعلمني يوما إلا بالغت في إكرامك وما أسأت إليك قط غفر الله لي ولك!
عموما ... بارك الله بك أيها الشاعر المبدع والأخ الحبيب ولا حرمني الله من تفاعلك الراقي وحسك الواعي وأدبك الجم.
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

براءة الجودي
05-08-2020, 05:04 AM
مَــحَــضْتُ لَـهَــا صَــغْــوَ الــضَّــمِيرِ فَــأَقْبَلَـتْ=بِــحَــو َاءِ كَــيْــدٍ يَــبْــتَلِــي نَـــزْعَ مَـــنْ بَــلِــي


يبدأ في هذا المقطع في الحديث عن حبيبة مدلّلة متمنّعة حينما أخلص لها فصغا ضميره إليها ووثقت بهذا الإصغاء من مهتمٍّ بها أقبلت بفعل ما تفعله بنات جنسها من كيد تمتحنه بها .
فقال هنا ( بحواء كيد) وكأنّه جعل الكيد نفسه هو حواء ، شبه الكيد بحواء وحذف وجه الشبه وحرف التشبيه ، فهو تشبيه مؤكّد مجمل .
( يبتلي نزع من بلي) يبتلي وبلي بينهما جناس ناقص والمعنى جميل.
فهي بهذا الكيد تبتلي أي تختبر شخص مُحِبّ قد أفنته هذه الابتلاءات فلا يضير فعلها ولن يؤثّر فيه وهو قد أصبح رثًّا فانيا من الداخل من كثرة الابتلاءات التي مرّت عليه وجرّبها ، فأن يشبه نفسه بشخص قد بلي أي فني وزال فهو تشبيه يوحي بما وصل إليه من مرحلة موت داخلي في التأثر من أفعال الكيد أو المكر بشكل خاص ولا يعني هذا موت القلب أو الضمير أو المشاعر، بل هو تبلّد وصلابة في حالة يمرّ بمثل هذه المواقف على وجه الخصوص لا العموم في كل أمر .
أو قد يكون بمعنى تختبر نزع أي قلع ما بداخل قلبه ليظهر لها فيُخبرها أنه قد بلي وفني فكيف تستطيعين قلع ما تريدين معرفته من داخلي ، وهنا يحمل معنى محاولة إدخال اليأس عليها من أنها لن تنجح في جذب ما بداخله .

مع أنها جملة خبرية، يخبر أنها تمتحنه وأنه رجل قد فني وتلاشى من الداخل بسبب ما مرّ به من ألم شديد وصدمات وتحمّل العداوات ، إلا أني ألمح ظهور سؤال ناشئ من قوله ( من بلي) وكأنه يقول وهل تستطيعين باختبارك لي أن تنزعي شخص قد بلي ما بداخله أصلا !


يُــوَتِّــرُهَــا بِــالــصَّــمْتِ صَــــوْنُ تَــعَــتُّــبِــي=وَيُــ ْــضِــبُهَا بِــالــخَــبْتِ هَــــوْنُ تَــرَسُّــلِــي

ثم يبدأ في ذكر بعض صفات المحبوبة في تقسيم جميل وله أثر موسيقي رائع في القصيدة مابين ارتفاع وانخفاض وشدة ولين ( صون تعتبي) و ( هون ترسّلي )
فيقول : أن الحبيبة يوترها طول صمته الذي يدلّ على معاتبته الصامتة لها بدون أن ينطق بكلمة وهي تعرف أو تشعر بذلك ، ويغضبها حينما تراه أكثر لينٍ من المعتاد وأكثر سهولا في تعامله معها برفق .


وَمِــنْ كُــلِّ رِفْـــقٍ حَـــلَّ تَــسْتَــلُّ قَــسْــوَةً=وَتَـشْـكُــ ابْــتِــهَالِي فِـــي الــهَــوَى وَتَــبَـتُّلِــي

ثم يقول أنها في كل تصرف ليّن صدر منه تكون ردّة فعلها بأن تقسو أكثر ،فهنا تشبيه جميل وهو استلال خيط القسوة من بين كمية الرفق الكبيرة .
قال إن الرفق ( حلَّ) ليبين أن الأصل في استقرار وبناء معاملته معها كان هو الرفق . .

إذن من كل هذا الرفق الذي يعامله بها ، تعامله بالمقابل بالقسوة التي تستلّها من ذلك الرفق ، ثم تشكو انقطاع هواه بعد معاملته بتلك القسوة ،واعتزاله وهو في حالة ابتهال أي دعاء ورجاء في أن تعامله بالمثل على الأقل ليس أكثر.

وبين (الابتهال والتبتل) رابط قويّ حيث يتعلّق بمعنى الإخلاص في العبادة عادة والزهد والانقطاع عن متع الدنيا والتضرّع إلى الله مابين صلاة ودعاء وذكر ، وكأنه استعار هذه الحالة من التبتل والابتهال في هوى المحبوبة ليُظهر مدى إخلاصه في حبها ، إضافة إلى أنّ تكرار هذه التاءات المهموسة قوّت المعنى من ناحية الرجاء والاحتمال والصبر مما يلقاه المرء في الهوى غالبا وهو معلوم غنيٌّ عن الذكر.

(ومن كل رفق حلّ) شبه الرفق بالإنسان الذي أحبّ بقعة معينة من الأرض وارتاح فيها فحلّ ووضع متاعه واستقرّ بها ، ذكر المشبه وحذف المشبه به وهو استعارة مكنية ، وكانت استعارة موفقة وألفاظ أنيقة في أسلوب جميل .



ثَــوَى طَــيْفُهَا مَــا بَــيْنَ جَــفْنِي وَخَــاطِرِي=أَرَاهَـــا، وَلَــكِــنْ لَا يَــرَى الــعُشَّ بــلْبلِـــي

وهنا يقول أن مثوى طيفها أي مكان عيشه مابين جفنيه وخاطره والخاطر يكون مكانه القلب ، ولكن هي بالمقابل لا ترى هذا العشّ داخله بمعنى لا ترى فيه مايرى فيها من محبة عظيمة.

(ثوى طيفها) وقفة ( مابين جفني وخاطري) وقفة ( أراها) وقفة ( ولكن لايرى ) وقفة (العش بلبلي) ..
شعرت أن فيها ترتيب ، ووقفات ، هذه الوقفات قد توحي بتأكيد إحساس الشاعر وأضفت على البيت جمالا .


أُفَــتِّــقُ زَهْـــرَ الــقَــوْلِ مِــنْ مُــحْكَمِ الــنَّدَى=فَــتَــقْــطِ ُ مَــعْــنَــىً مُــمْــتَــرَى بِــالــتَّــأَوُّلِ

ثم يشبه قوله وكلامه وقصائده بالزهر المتفتق وهذا الصنيع من القول هو إرادة منه يجعله متفتحا قابلا للتأويل، فقوله الذي يشبه الزهر يزهو ولا يتفتق إلا بمحاسن القول والكرم والخلق والحكمة ، وهذه الحبيبة تقطف من زهر قصائده الوارفة ثمار المعاني الطيبة عن طريق التأويل والتحليل.

شبه أقواله بالزهر المتفتّق وهذه الأقوال لم تظهر بهذا الحسن لولا ما يتحلّى به من صفات كريمة ونبيلة ، فهذه الأقوال عامة شعرا ونثرا ، ونستطيع أن نقول أن الزهر أي قصائد الشاعر بشكل خاص.
ثم ذكر وحدّد القطف هنا ( قطف الأزهار) لأن الفتاة بشكل أخص من الرجل حينما تقطف الزهر تقطفها بأكثر رفق وبعاطفة ودقّة لتتشبّع عينيها وقلبها من تأمّل الزهر ، ثم تنطلق في تغريدها بهذه المعاني ليُدرك خوافيها أاسرارها الناس .


تَـــقُــولُ وَقَـــدْ جَـــارَتْ عَــلــيَّ أَهَــنْــتَنِــي=وَأَلــ َــمْــتَنِي بِــالــكِــبْرِ صَــحْــنَ الــتَّــطَفُّــلِ
فَــقُــلْتُ فَـــدَاكِ الــقَدْرُ يَــا بِــنْتَ مُــهْجَتِي=أَمَــــا وَالَّــــذِي سَــــوَّاكِ لَــــمْ أَتَــبَــجَّــلِ
أَطَــعْــتُ الــمَعَانِي بِــالَّذي شِــئْتِ أَحْــتَرِي=وَلَـــوْ نَــزْرَ قَــطْــرٍ مِـــنْ رِضَـــاكِ الــمُؤَمَّــلِ
وَلَــوْ أَزْعَـــجَــتْ كَــفِّــي هَـــوَاكِ بِــلَــمْسَةٍ=لَــفَــرَ قَ فَــضْــلِــي بَــيْــنَ كَــفِّــي وأَنْــمُــلِــي


وفي هذه الأبيات ينقل لنا الحوار بينه وبين حبيبته ،فيقول أنها ظلمته باتهامه بإهانتها ورمته بصفتي الكِبر والتطفّل .

فأتى بلفظ ( ألقمتني) وكأنه بالإجبار وبالغصب وهذا يناسب لفظة الكبر
وعبّر (بالصحن) كناية عن الكثير الذي قام بإلقامها إياه بالقوة ليعرف عنها الأكثر
بمعنى أنها تقول له متهمة إياه أنك تريد التطفل عليّ بالقوة وأنا لا أرغب في ذلك لهذا اختار لفظة (ألقمتني صحن) .

ثم ردّ عليها بأنه لم يتكبر ولم يتعالى عليها، وتمّت اختيار الألفاظ بعناية وحرص لتجنّب الصدام مثل قول ( يابنت مهجتي) وهذا يوحي بعظيم القدر والمكانة التي تحتلها في قلبه .
وأيضا العجز من هذا البيت كان جزلا وتوهّج فيه قوّة النظم ( أما والذي سوّاك لم أتبجّل) .

وأكمل في البيت الذي يليه ( أطعتُ المعاني بالذي شئتِ أحتري) هنا يُظهر صفة اللين بشكل واضح في إطاعته للمعاني التي تحبّها فهو اختار تلك المعاني الجيدة ثم قال أطعتُ من باب اللين والودّ والتقرّب ، ثم قال ( أحتري) أي أنتظر ولو النزر أي اليسير مما أؤمّله من إعجابك ورضاك بهذه المعاني التي تقرّ لها عينك. .

ثم يبيّن الشاعر مقدار هذا الهوى والحب الذي يكنّه لها ويبديه لها كما أنه يوحي بالتدليل للحبيبة ي قوله ( ولو أزعجت كفي ) وكأنه يقول لو فقط شعرت بإزعاج لمسة كفي هواها لفرّق فضلي بين كفي وأنملي وبدأ بقول ( ولو أزعجت) ولم يبدأ بغيرها ليثبت أانه من المستحيل أو من المستبعد أن يزعجها وإن فعل ذلك على سبيل الافتراض البعيد لفرقّ ... إلخ

وضرب مثلا على هذا الإزعاج الافتراضي المستبعد وهو لمسة كفه لهواها ، خيال جميل فعادة اللمس يكون للجسد أو شيء محسوس ، ولكنه جعل هنا المعنوي محسوسا وكأن الهوى إنسانا تمثّله الحبيبة ، وهذه اللمسة لا تزعج ،لكن أتى بها على سبيل المثال فإن كانت لمسة الكف هذه قد أزعجت هواها لميّز ذلك بالتفريق بين كفه وأنامله فالأنملة جزء من الكف واللمس بالأنملة قد يكون أكثر رفقا ونعومة لذا قال ( بين كفي وأنملي ) .

وحقيقة قد لا أكون فهمت العجز كما ينبغي لكن هذا ما توصّلت إليه. .



لَــكِــنَّ بَــلــوَى الــنَّــفْسِ تَــسْــوِيلُ ظَــنِّهَا=وَتَــزْيِــيـ نُ مَــــا تَـــأْتِــي بِــنَــفْجِ الــتَّــزَيُّـــل

ثم يستدرك ب (لكنّ) ليخبرنا عن الظنّ السيئ الذي يصدر من تسويل النفس ووسوستها للإنسان وتزيين ما تحدّث به نفسها بما تثيره من أمرٍ عظيم يدعو للتفرُّق أو الافتراق .
وكانت ( نفج وتزيل) كلمتين معبرتين وقويتين وفيهما أناقة لتأدية المعنى المراد من خلال هذا التركيب.

والنفج :هو الفخر بما ليس عند الشخص أو تعظيمه ، وتأتي بمعنى الريح أيضا .
والتزيّل : من زيّل الشيء وأزاله وهو تفريق الأشياء عن بعضها ، وقد قال تعالى (فزيّلنا بينهم)

فالبيت كاملا قد يعني ..
أنّ هذه النفس من أعظم بلواها أمرين :
- تسويل الظن والوسوسة .
- وتزيّن للإنسان أن ريح التفرقة بين أفراد المجتمع .

فهنا جعل ظنّ النفس وهو من الإثم وتسويلها للإنسان كالريح التي حينما تهبّ تفرقّ وتبعثر الأشياء ، كذلك ظن السوء والوسوسة تفرّق بين أبناء البيت الواحد والبلد الواحد وأفراد المجتمع بشكل عام .
وبرأيي هذا البيت يُضاف إلى أبيات الحكمة ، أي يجري كحكمة على ألسنة الناس.

براءة الجودي
05-08-2020, 06:48 AM
لَــقَــدْ كُــنْــتُ أَرْجُــو مِــنْ سَــنَابِلِ رَأْمِــهَاhttps://www.rabitat-alwaha.net/clear.gif
https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifفَـمَــا لِــي كَــأَنِّــي حَـطَّمَ الــيَأْسُ مِــنْجَلِــي


أرجو : أي قد كان يأمل وهو أمل مع رجاء يستطيع أن يُحقق وليس كما التمنّي الذي قد يكون غالبا بعيد المنال أومستحيل وقوعه .
الرأم : له معان كثيرة وقد يكون هنا بمعنى العطف ، نظرا للسياق .

فهو يقول : قد كنت أرجو عطفها ، وجعل هذا (الرأم) أي العطف شبيها بالسنابل وهو من التشبيه البليغ ، وذلك لأنّ صفة العطف محمودة وهي تنبع من قلب رحيم ، وفيها نفع ونشر للخير ، ولولا العطف لقسا قلب الإنسان على كل يتيم ومحتاج و ... إلخ
لذ برأيي أنه تشبيه بديع وربط ذكي بين العطف والسنابل .

ثم انقضى هذا الرجاء وزال بعدم تحقيق ماكان يرجو فقال بسؤال أعتبره من الأسئلة المتأمّلة التي يُفكّر الإنسان في أجوبة وحلول عديدة لها مع إحساس المتعجّب ..
(فما لي كأنّي حطّم اليأسُ منجلي ) ؟!
وقد شبّه اليأس بالفأس والجامع بينهما هو التحطيم والتدمير الأوليّ ، فاليأس يحطم النفس ويُوهن القلب ، والفأس يحطم الأشياء ويخربها ، ذكر المشبه وهو ( اليأس) وحذف المشبه به وهو (الفأس) وأتى بشيء من لوازمه وهو ( حطّم) على سبيل الاستعارة المكنية .

فاليأس هنا قال أنه حطّم منجله ، ولم أصل إلا لمعنى وهو ..
أنّ هذا اليأس حطّم شيء من طباعه الأصيلة من الهمّة والتفاؤل ...إلخ وغيرها من الخصال الطيبة ، وذلك لأن الإنسان حينما يغزوه اليأس يكون في فترة وهن ، وضعف يجتاح كل ماكان يُحفّزه ويبعث في قلبه أملا وقوة وإصرارا ومايجعله أكثر إرادة فقد قضى اليأس على ذلك كله بالتحطيم، وهنا أراد أنّ فقدان ماكان يرجو من العطف وتقديم المعونة والخير الذي رمز إليه بالسنابل جعله يشعر بشيء من التحطيم الذي يجلب الحزن ويُوقف ذو الهمّة عن مايطمح إليه فترة قد تطول وقد تقصر ، والله أعلم .
وكان هنا تحطيم اليأس معنويًّا لايُرى ، أمّا تحطيم الفأس فيكون محسوسًا .





تَــنَــامُ عَــلَــى سَــجْــوِ الــهُــنَــيْهَــةِ نَــأْمَــتِــي
https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifوَيَــصْــحُـوَ عَــلَــى سَــطْـوِ الــحَــنِينِ تَــعَــلُّــلِي

مقابلة بين الشطرين في البيت ..

في الصدر : عبّر (بالنوم) وهو يريد به توقّف الحركة ، فلا يُصدر أية صوت ، وليس شرطا أن يكون وقت النوم بل قد يكون للتأمّل أو التفكّر أو وقت تخلو فيه النفس وتفرغ من كلّ المُكدّرات .

فكلمة ( سجو ، هنيهة ، نأمتي) كلها تدلّ على السكون والهدوء والتوقّف لحظة قصيرة عن الحركة .

وفي العجز : عبّر بـ ( يصحو) والصحو والاستيقاظ يكون فيه نشاط وحركة وضجيج .

ثم جعل الحنين مثل اللص الذي يسطو على المنزل فيُحدث فيه حركة بعد تسللّه المباغت .
لذا مفردة يصحو حينما تقرأها مع الجملة كاملة فإنها توحي بالصحو المفاجئ وكأنّما هذا الحنين أوقظه بعدما كان هانئا في نومه وسكونه .

وحقيقة البيت من أجمل الأبيات التي قرأتها وذلك للمقابلة فيها وللاستخدام الدقيق للمفردة حيث ساعدت على إيصال المعنى كما يريد الشاعر .



وَمَـــا زِلْــتُ أَجْــفُو الــرُّوحَ حَــتَّى نَــكِرْتُنِــي
وَحَــتَّــى كَـــأَنَّ الــصَدْرَ فِــي قَــعْرِ مِــرْجَلِ

فَـــلَا تِــعْــزِفِي لِــلــنَّايِ يَـــا نَــفْــسُ بُــحَّتِــيhttps://www.rabitat-alwaha.net/clear.gif
https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifوَلَا تُــنْــشِــدِي بَــوْحِــي الـشَّـجِيَّ لِــعَــنْــدَلِ

وَمِـنْ خَــمْرِ شِـعْرِي طَــفِّفِي أَكْؤُسَ الطِّلَــىhttps://www.rabitat-alwaha.net/clear.gif
https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifمُــشَــعْشِعَةً تَــنْــسَابُ فِـــي رِيـــقِ مُــثــمَلِ


في هذه الأبيات كأني ألمس شعور الحزن قد توهّج من بعد إحساس بيأس ..

( ومازلت أجفو الروح حتى نكرتني = وحتى كأنّ الصدر في قعر مرجل )

من هنا بدأ الحزن بالتوهّج والياس يصل إلى قمته ، فهو يقول مازلت أجفو الروح أي أبتعد عن روحي وكأني أنفر منها وهنا يريد ان يوصل رسالته إليها وكأنه يقول جفوت عن روحي لأني صاحبتُ روحك ولازمتها وكأني نسيت نفسي إلى أن أتى الوقت الذي نكرتني اي جحدتني فيه وقتها عادت لروحه بعد مجافاة وعودته لروحه بدأت بعد غليان الصدر وسبب غليانه هو النكران والجحود حتى كأنّه قدر على النار .

فشبّه الغضب والألم في صدره جرّاء هذا النكران بالقدر الذي يغلي وسطه الماء وهو على نار عالية ويكون له أزيزا ، ووجه الشبه هو أنّ المشاعر السلبية المختلطة التي تسبب الألم والقهر والغضب تغلي كما يغلي الماء والصدر كالمرجل أي القدر حيث انّ كلامها عبارة عن شكل وهيئة كالوعاء يُصب فيهما سائل المشاعر في الصدر والماء في المرجل ، وهو تشبيه مرسل ومجمل .


والبيت التالي ( فلا تعزفي للناي يانفس بحّتي = ولا تنشدي بوحي الشجيّ لعندل)
بين ( بحتي وبوحي) جناس ناقص .

وهنا يأمر النفس أن تعرض عن العزف بالناي الذي يحبّ سماعه الناس ، وخصّص الناي لأنه غالبا يصدر منه صوتًا يحمل حكاية إنسانية مليئة بالأحاسيس المختلفة وينبعث منها معنى من معاني الحزن والغربة والوحدة وهي مؤثّرة على قلب السامع ، والبحّة في الصوت رغم بعض الخشونة فيها إلا أنّها قد تُعطي الصوت حُسنا خاصّا يتفرّد به الإنسان، ثم نهى نفسه أيضا عن إنشادها بما يبوح به الشاعر من أبيات شجيّة للعندل ، وخصص العندليب لأنّه من الطيور المشهورة بأصواتها الشجيّة الجميلة .

وكأنّ الشاعر يُقابل ماعنده من الحسن بشيء ىخر مشهور بهذه الصفة ، بمعنى أنه قابل بحّة أشعاره الحسناء التي تمتلأ شاعرية وإحساسا بالناي والناي هو المشهور بهذا النوع من الصوت والإحساس ، ثم قابل إنشاد بوحه بصوت العندليب والعندليب مشهور بالصوت الشجيّ ، وهذه المقابلة بين شعره وبوحه مع من اشتُهر بذلك في الأصل من الناي ذات الصوت المرهف الرقيق والعندليب الشجيّ ، أضفى على المعنى روعة ورسم لنا تحديًّا ظريفًا وكأنّ الشاعر قد قلب الصفات الاصلية التي اشتُهروا بها فجعلها أصلا له دون أن يُقلّل من قيمة الناس والعندليب .


( ومن خمر شعري طففي أكؤس الطلى = مشعشعة تنساب في ريق مثمل)

مايفعله الإنسان غالبا عند الوقوع في يأس أو حزن عميق هو مايمثّله البيت الأخير من الأبيات المقتبسة وهو ( ومن خمر شعري طففي أكؤس الطلى) ..
غالبا قد يلجأ الإنسان للشرب والمخدرات أو الرقص أو ... إلخ ، ولكن الشاعر جعل خمره أشعاره التي ينتشي بها بل ويُكرم غيره بما عنده وهذا مادلّ عليه قول ( طفّفي) الذي يعني هنا أعطيهم ووزعي عليهم أكؤس الطلى أي اللذّة ، واللذّة تُقرن مع الخمر لأنها من لذائذ الدنيا المحرّمة .

فالشاعر هنا شبّه شعره بالخمر ووجه الشبه بينهما التذوّق واللذّة والمتعة ، لكنّ الشعر تذوّقه معنويّ ، والخمر تذوقه حسيّ وهو تشبيه بليغ ومجمل .

وقد يقصد بـ ( تنساب في ريق مثمل) أي حينما ينطق القارئ ويقرأ أبيات القصيدة :

- يستعذب موسيقاها وأحرفها (أولا ).
- ثم يستلذّ بمعانيها فيثمل بها (ثانيا ).

ثم يصف هذه الأكؤس بأنها (مشعشعة تنساب في ريق مثمل )

مشعشع هو الضوء المنتشر خفيفا ، وأيضا الخمر الممزوج بماء ، وأرى المعنى هنا أي قصائده مشعشة ممزوجة بالفكر والصور والمعاني والألفاظ الجزلة التي تجعل القارئ مبهور بحسنها ثملا من جمالها مستلذًّا بها .

(أكؤس الطلى مشعشعة) كناية عن الشعر الممزوج بالفكر والصور والمعاني والشكل الجميل التي يثمل منها القارئ المتذوّق كما يثمل شارب الخمر بالخمر ، وهو تصوير جميل يحمل معنى الفخر والثقة .
وهنا يذكرنا بقول عمرو بن كلثوم وهو يصف الخمر ( مشعشعة كأنّ الحُصّ فيها = إذا ما الماء خالطها سخينا)


ونلاحظ أنّ الناي والإنشاد والعندليب الشجيّ والبوح والبحّة ..
كلها تتعلّق بالاصوات الجميلة الحسنة وغايتها التأثير على قلوب الناس بشكل كبير .

فبعد نهي النفس عن العزف والإنشاد طلب منها ماهو اشدُّ أثرًا على الإنسان بحيث إن فعله يثمل وهو ( الخمر) وذلك لأن الإنشاد والعزف مهما كان تأثيره قويًّا وممتعاً إلا أنه يبقى معنويًّا قد يستمر لحظات يهتزُّ له الروح والقلب ، لكن لايقع عليهم كالخمر الذي يؤثّر على الجسد والروح ، لذا أمر النفس بعد نهيها بأن توزّع أكؤس شعره وأراد أن يكون لشعره تاثيرا كالخمر تماما الذي يكون أشدّ من العزف بالناي والإنشاد بصوت شجيّ كالعندليب .

براءة الجودي
05-08-2020, 02:52 PM
بَــذَلْــتُ إِبَــائِي أَسْــأَلُ الــوَصْلَ مَــنْ جَــفَا=كَــأَنِّــي وَثِـــيــلٌ عِــــنْــدَ بَـــابِ مُــؤَثَّـــلِ
أُبَــالِــغُ بِــاَلشُكْرانِ فِــي الــقُرْبِ وَالــنَّـوَى=وَلَـيْـسَ سِــوَى الــنُّكْرَانِ فِــي كُــلِّ مَــوْئِــلِ

الوثيل : هو حبل من الليف أو القِنّب ، وأيضا يأتي بمعنى الضعيف والأنسب هو المعنى الثاني .

أتى الشاعر بصورة توحي بالأصالة والقِدَم ،وكأنّها صورة لأطلال بيت يوجد به باب قديم ويقف أو يجلس عند عتبة هذا الباب شخصٌ ضعيف ، وضعفه هذا ليس بمعنى أنه مسكين أو محتاج ،بل هو الاحتياج المعنوي ،أي ضعف القلب رغبةً في وصال من جفا عنه وابتعد .
فهذا الشخص رغم أنه عزيزٌ في قومه ويتّسم بالإباء ومالديه من العزّة والمنعة ،إلا أنّه بذل من إباءه وعزّته فكأنه أصبح ضعيفًا يسأل من يسكن هذا البيت ممّن جفاه ، وينتظر عطاء وصله .

وهناك ألفاظ ساعدت على تفخيم الصورة مثل ( بذلت إبائي) و(وثيل) و (مؤثّل) حيث أوحت بالمكانة الكبيرة للصورة لعراقتها وشرف هذه العلاقة التي تزعزت بالجفاء
كما أوحت بتناسب هذه المشاعر المؤلمة من الهجر -ومافي معناه - بصورة الباب القديم الذي يرمز إلى الشخص الجافي حيث الباب هو الفتحة ومنه يكون الوصل بفتحه أو الصدّ والهجر بغلقه ، فالربط بين الضعيف عند الباب الذي يسأل حاجته من طعام أو غيره ، مناسب جدًّا لمن يقف عند باب من جفا ويتخلّى عن بعض عزّته ببذلها في سبيل وصل ذاك الشخص .

شبه الشاعر نفسه وهو يبذل من إبائه في سبيل وصل من جفاه بالمؤثّل وهو الضعيف الذي يقف عند باب مؤثّل أي قديم يسأل حاجته ، ووجه الشبه المحذوف هو سؤال الحاجة فالأول حاجته هو إعطائه الوصل ، والثاني هو إعطائه حاجته من مال أو مأكل أو ملبس ..إلخ ، وأداة الشبه (كأنّ) وهو تشبيه مرسل ومجمل .

وألحظ في هذا البيت والأبيات التي سبقته تركيز الشاعر بشكل مستمرّ ومكثّف على كل ماهو معنويّ ...
( كاليأس الذي يوهن القلب ، والحاجة إلى الوصل ، وتذوّق الشعر اللذيذ والاستمتاع به وكأنه خمر ، والمشاعر المؤلمة الساخنة التي تغلي في الصدر ، ولمس الهوى بالأنملة والكفّ ) ..
هذه كلها معنوية وعبارة عن أحاسيس ومشاعر ،وفقدانها قد يكون أبعد تأثيرا وأكثر سوءا من مرض الجسد المحسوس ، قد تكون الأمور المعنوية عابرة وموجودة في قصائد كثير من الشعراء ولكن هنا برزت بكثرتها عن طريق التركيز عليها وهي حاضرة وبقوّة في هذه المعلّقة وهذا شيء لافت ومميّز .

ثم قال في البيت الذي يليه أنه يبالغ بالشكران في القرب والنوى ..
والشكر يحمل معنى أعمق وأشمل من لفظة الوصل وحده ،فالشكر ينبع من الاحترام والتقدير ،ويكون على التصرّف الحميد وعلى السيء، ففي كلا الحالتين تشكر وتصل وتعطي بنفسٍ طيبة معطاءة وقلبٍ سليم ، ويحمل أيضا معنى الصبر على الجفا وهو أحد أنواع الألم ، ومع ذلك لم يُقابَل هذا الشكر والتقدير إلا بالنكران والجحود في كل ملجأ أو مكان يرى أنه قد استقرّ فيه واطمأنّ إليه .

وربما الثاني - أي النكران- نتج عن المبالغة في الشكران ، ورغم أن الشكر والعطاء والوصل تصرّف جيد إلا أنّ الإفراط والمبالغة قد يؤدي إلى الجحود .
ولا أرى في البيت أن المبالغة يعنيها نفسها ؛لأنها لن تصدر من شخص حكيم غالبا ولكن قد يقصد بالمبالغة هو الصبر على العطاء ومدّ حبل الوصال ومحاولة البدء بالإصلاح ونشر الألفة مع استمرار نكرانهم ،وتغاضيه عن ذلك رغم الألم الذي يحلّ على قلبه من ردّة هذا الفعل والتصرّف غير اللائق الذي يُقابل به الشاعر وهو الجحود .

وأعجبني التقسيم والنغم في هذا البيت الصادر من هذه الألفاظ المتضادّة وتسمّى الطباق ( الشكران ، النكران) ( القرب، النوى) .

ونلاحظ أنّه قدّم (الشكران والقرب) ..
لأنهما اصلٌ في أخلاق الإنسان لاسيّما المسلم ، لما فيهما من ربط أواصر المجتمع والألفة التي تنتشر من خلال هذا التقارب والتعاون ، ثمّ أنّ القيام بالشكر هو فعلٌ يؤلّف القلوب وهو الأساس والبداية لبناء الاحترام ومدّ حبل الوصل وزرع المودّة .
وانظر إلى حرف الكاف ( في الشكران) وتقاربها مع حرف القاف في (القرب) واشتراكهما بحرف الراء ، وكأنما نطقها بهذه الحركات من ضم وسكون تؤكّد المعاني السابقة وتُحرّص عليها لما فيها من قوّة وإرادة في المجتمع الذي يتحلّى بها .

وأخّر (النوى والنكران) ..
لأنّهما من الحالات المستثناة وتقع كحدث عارض وليست الأصل في بناء المجتمع الصالح ، ولما فيهما من من ألم ووهن وتفرقة للمجتمع بشكل عام، وأستثني من معنى النوى العام ، المعنى الخاص وهو ماكان البعد عنه بوجه حقّ كمن هو واجب اجتنابه أو يكون فراقه مصلحة وأقلّ ضررا من القُرب ، وهذه قد تكون أحكام مستثناة حسب الحالة والموقف وهي قليلة وليس الأصل كما أسلفنا .

وانظر حرف النون المشتركة بينهما والواو ونطقها بحركاتها توحي بالوهن والتفكّك الذي تؤدي إليه هاتين اللفظتين ، والكاف الساكنة والراء المفتوحة كأنّما تحذّر من هذه وقوع هذه المعاني المذمومة .

أحمد صفوت الديب
05-08-2020, 06:55 PM
خُـــذَانِــي إِلَــيْــهَــا فِـــي رَحِــيــلٍ مُــعَــجَّلٍ
وَلَا تُــبْــقِــيَانِي رَهْــــنَ مَــــوْتٍ مُــؤَجَّــلِ
خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةً
https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifتُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي
خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَـدْ صَــارَ غُــرْبَــةًhttps://www.rabitat-alwaha.net/clear.gif
وَفِــي لَـحْـدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْـزِلِــي



الشاعر الرائع الدكتور / سمير العمري


رحم الله الوالدة و أسكنها فسيح جناته

نص فخم من الطراز الأول
يذكرني بالمعلقات فيه من أصالتها الكثير

تحياتي لحرفك السامق

خالص الود و الاحترام

محمد سمير السحار
05-08-2020, 10:51 PM
غفر الله لوالدتكم ورحمها بواسع رحمته وأسكنها فسيح جنانه وجعل قبرها روضة من رياض الجنّة
عظّم الله أجركم وأحسن عزاؤكم وألهمكم الصبر والسلوان
ًأطال الله في عمركم وجعله خيرًا لكم في الدنيا والآخرة
مع أطيب التحيّة والأمنيات

مصطفى السنجاري
06-08-2020, 10:48 PM
رفقا بقرائك يا عمري
ورفقا بزملائك
تعبت ولم اصل الى البيت الأخير
كنت كمن يرتقي جبلا
ربما لي عودة
انت في القمة وتبقى
صعب ان تكون نسرا في مملكة الدجاج

براءة الجودي
06-08-2020, 11:08 PM
وَهَــا طُــفْتُ مَــنْفَى الــحُلْمِ يَــجْتَرُّنِي السُّدَى=بِـــوَجْـــهٍ خَــرِيــفِــيٍّ وَطَـــرْفٍ مُــبَــلَّـــلِ
فَــيَــا رَبَّ هَـــذَا الــقَــلْبِ مَـــاذَا تَــعَــلُّقِي=بِــأَذْيَ ـالِ مَـــنْ يَــسْــلُو وَمَـــاذَا تَــعَــقُّلِـــي
وَيَــا سَــرْمَدِيَّ الــشَّوْقِ مَــا الــذَّوْقُ فِي فَمٍ=إِذَا الــحُــزْنُ سَـــاوَى بَــيْنَ شَــهِدٍ وَحَــنْظَلِ
فَـــلَا تُــلْــقِمَانِي، صَــاحِــبَيَّ، فَـــمَ الــرَّحَى=وَلَا حَـطْــمَ أَضْـــرَاسِ الــزَّمَانِ الــهَمَرْجَـلِ
وَلَا تَــسْـقِيَانِي الــوَعْــدَ مِــنْ ضَــرْعِ صَــبْــوَةٍ=وَلَا تُــشْــقِــيَانِـي بَــيْــنَ مَــــاضٍ وَمُــقْــبِـــلِ
كَــفَرْتُ بِــخَوْضِ العِشْقِ فِي حِضْنِ فَاطِمٍ=وَتُــقْتُ لِـحَوْضِ الــرِّفْقِ فِــي حِــضْنِهَا العَلِي

في البيت الأول ..
أحاسيس من الألم والوحدة والفقد ولكنها كانت صادقة وذا إيقاع هادئ متّزن فيه شيء من انكسار وجمال صور مثل ..
(طفت منفى الحلم يجترّني السُّدى = بوجه خريفي وطرف مبلل)
بدأ (طفت منفى) وانتهى بـ ( طرف مبلل) وهما مرتبطتان برابط قويّ فالجملة الأولى في الصدر هي فعل ، وفي العجز هي نتيجة هذا الفعل ، فهو لمّا طاف في منفاه يمشي بلا فائدة وبلا وجهة مقصودة وقد اصبح لونه مصفرًّا كالخريف وتجمّعت في قلبه غيوم الأحزان والمواجع فهطلت أدمعه فتبللّ طرف العين من بقايا الأدمع الجارية .

استعمال الألفاظ كان أنيقا ومُقسّمًا بدقّة ( طفت منفى ) (يجترّني السدى) ( بوجه خريفيّ) ( وطرف مبلّل) ، والأخير وهو ( وطرف مبلل) كان أنيقًا جميل التركيب والسبب الذائقة الجيّدة في اختيار المفردات تتبُّعًا للأحاسيس الموسيقية

بين ( طفت وطرف) جناس ناقص
وأما ( منفى ومبلل) كلاهما يبدآن بحرف الميم وكأنمّا أرض منفاه قد تبلّلت من غزارة دموعه

ولو لاحظنا لوجدنا علاقة بين كل جملتين من هذه الجمل الأربع في هذا البيت فانظروا معي إن لم نرتّب التقسيم كما في البيت :( طفت منفى ، طرف مبلّل) و (يجترّني السدى ، بوجه خريفيّ) أي طفت المنفى بطرفٍ مبلّل ويجترّني السدى بوجه خريفيّ

( طفت منفى وطرف مبلل) قلنا أنها فعل ونتيجة هذا الفعل
(يجترّني السدى وبوجه خريفيّ) وهنا أيضا فعل ونتيجته ، فلمّا اجترّى السدى وكأنّما هو الذي يجرّه ليمشي هكذا من دون قصد وفائدة اصبح وجهه خريفيًّا نتيجة لهذا المشي الذي يُوحي اجتراره بكثرة التفكير والهمّ والألم والانكسار .
كان بيتًا موفّقا في دقّة تركيبه وحُسن ألفاظه وتأدية معناه .

( بوجه خريفي) شبه وجهه بلون الخريف ووجه الشبه هو الاصفرار والوحدة والفقد والفراق لأن الخريف غالبا يرمز لهذه المعاني الوجدانية المؤلمة والشجيّة في إحساسها وموسيقاها غالبا ، وهو تشبيه بليغ ومجمل .
( يجترّني الأسى) هنا استعارة مكنية حيث ذكر المشبه وهو الأسى وحذف المشبه به وهو الإنسان الذي يجرّ غيره إلى مكان ما للعقاب أو لأمر مهمّ ، والجامع بينهما الإحساس بالضياع والمشي بحيرة وانكسار ودون هدف .

وفي البيت الثاني ( تعلقي وتعقلي ) بينهما جناس
وفي البيت الثالث ( مالذوق في فمٍ إذا الحزن ساوى بين شهدٍ وحنظل) بين (شهد وحنظل) طباق

في هذين البيتين وردت أسئلة استفهامية ..

في البيت الثاني : كانت توحي هذه الاسئلة بالحيرة وكأن الشاعر احتار بين الاضطراب الذي يقع مابين تعلّق القلب وتعقّل المرء أي عقله ، بمعنى مابين تغلّب العاطفة في القلب تارة وتغلّب العقل عليه تارة أخرى ، وكأنه قد تعب من ذلك فبثّ في نجواه لربّه هذه الأحاسيس التي أرهقته بعد تعلّق القلب بأذيال من يسلو أي أنه متعلّق بطرف هذا الشخص الذي هجره وفارقه ، والتعلّق بالأذيال هي صورة جيّدة توحي بالتمسّك ببقايا المحبوب الذي لايزال قابعًا في خَلَده ، والذيل يكون من الخلف ففيه دلالة كبيرة على افتراق الطرق والرحيل أو الهجر .

أما في البيت الثالث : كان الاستفهام تقريريًّا ، وهو يقرّر عن طريق هذا السؤال أنّ قد يأتي وقت يستوي فيه الحلو والمرّ فما عدتَ تفرّق بينهما ولاتميّز طعم كلّ واحدٍ منهما وهذا يدلّ على الشعور بالمرارة من هذه الآلام وهذا الهجران وهذا الغدر الذي يحدث له .


( فلاَ تُــلْــقِمَانِي، صَــاحِــبَيَّ، فَـــمَ الــرَّحَى=وَلَا حَـطْــمَ أَضْـــرَاسِ الــزَّمَانِ الــهَمَرْجَـلِ
وَلَا تَــسْـقِيَانِي الــوَعْــدَ مِــنْ ضَــرْعِ صَــبْــوَةٍ=وَلَا تُــشْــقِــيَانِـي بَــيْــنَ مَــــاضٍ وَمُــقْــبِـــلِ)

وفي هذين البيتين تكرّّر النهي كما تكرّر الاستفهام في البيتين السابقين

الشاعر هنا يخاطب صاحبا له أو صاحبين وهذا موجود في الشعر العربي قد يخاطب الشاعر صاحبا واحدا له ويقول ياصاحبيّ ، وقد يُجرّد واحدا من نفسه ويخاطبه على أنه شخص آخر ، وهو أسلوب حواريّ جميل يجعل الشعر متنوّعا ، كما أنّ محاورة الصاحب يُعطي معنى الاقتراب والمودّة والمشاركة معهم في الحديث عن الهموم والأوجاع وهذا فيه سلوٌّ للنفس وتخفيف عليها ، ولا بأس في ذلك .

يقول (صاحبيّ لاتلقماني فم الرحى ) فهو يناديهما ياصاحبيّ ثم ينهاهما فيقول :
لاتلقماني ( فم الرحى) وهي كناية عن المتاعب والأوجاع وكلّ مايُسبّب في هلاك الإنسان وقتله روحيًّا بشكل خاص .

وجعل للرحى فم وهنا استعارة مكنية حيث ذكر المشبه وهو الرحى وحذف المشبه به وأظنه سمك من اسماك البحر والأقرب أن يكون الحوت فيكون شبّه الرحى بالحوت والجامع بينهما هو التهام مايجدانه من فريسة وبلعها ، والقرينة التي دلّت على المشبه به المحذوف هي (تلقماني) .
وكأنما يقول لصاحبيه لاتزيدانني متاعبًا فوق متاعبي وتدخلاني بطرح آرائكما لمشكلتي ولما أعاني منه فترمياني للهلاك .

ثم يقول في العجز ( ولا حطم أضراس الزمان الهمرجل) وهو بيت يحمل نفس معنى البيت الأول تقريبا .
الهمرجل : يعني الجواد الخفيف السريع أو الجمل الضخم .

ينهاهما في العجز أن يلقماه أيضا أضراس الزمان الذي سيوخزه ويوجعه بسرعة طحن أضراسه للشاعر ، وهذا قد يوحي بنائبات الزمان التي تنزل على المرء .
وهننا ايضا استعارة مكنية فشبه الزمان بالجواد السريع والقرينة ( أضراس ) والجامع بينهما هو وقوع الآلام والأوجاع المتتالية السريعة على الإنسان ، والله أعلم .
كما قلت المعنى مكرّر في الصدر والعجز ، وكأنّما أُتي بالعجز من أجل تجديد الصورة فقط التي تؤدي إلى نفس المعنى المكرور وقد يكون هذا التكرار لتأكيد النهي عن القيام بما يوقعه في المتاعب والمهالك .

ثم يقول ( ولا تسقياني الوعد من ضرع صبوة = ولا تشقياني بين ماض ومقبل)
ينهاهما عن أن يسقوه من الوعود أو يحثّوه على تصديقها النابعة من الاشتياق والحب للمحبوب ، لأنه إن سقوه ذلك فقد يؤدي إلى شقاءه ، لذلك ذكر ذلك في العجز باسلوب النهي فقال ( ولا تشقياني بين ماض ومقبل) اي لاتجعلاني أعاني الشقاء مما مرّ في القديم ومن الوعود الذين تريدون أن تسقياني بها فأعاني الشقاء في المستقبل والأيام المقبلة .
( ماض ومقبل) طباق

رأينا أنه قد أتى بأسئلة استفهامية فيها الحيرة وفيها التقرير في بيتين ، ثم خاطب صاحبيه في بيتين آخرين وهو ينهاهما وكان مع هذا النهي الزجر الذي يحمل شيئا من شعور الضجر والملل من كثرة تكرّر هذه الأوجاع والآلام وتُعاد هي مع أسبابها وعواقبها المؤلمة ، وقد علت مشاعر الضجر في البيت الآتي وكان فيه الانفجار مع القرار ، حيث يقول :

(كَــفَرْتُ بِــخَوْضِ العِشْقِ فِي حِضْنِ فَاطِمٍ=وَتُــقْتُ لِـحَوْضِ الــرِّفْقِ فِــي حِــضْنِهَا العَلِي)
إني قد أيقنت أن لاجدوى من هذا العشق وأنه يفتح أبوابا للمتاعب ويجعلك تغرق في بحر التعلّق حتى تهلك إن لم تنفذ بجلدك وتحسم أمرك ، فهاهو يصرخ كفرت بخوض بحار العشق في أحضان المحبوبة ، واشتقت للحب الأرقى والأسمى والأنقى والأكثر راحة وأمنا واطمئنانا لحضن أمي .
ونلاحظ أنّ العجز يأتي بعكس الصدر فالصدر يكفر فيه بهذا النوع من العشق والتعلّق الزائف والهادم للنفس والهادر للوقت ، ويؤمن بالحب السامي الرزين الذي لايجعله يتوه ويزيح عنه الهموم وهو حب أمه .

فقد عبّر عن الحب بنوعيه بـ ( الحضن )

( حضنها العلي) أي حضن الأم ، ويرمز بلفظة (العلي) أي معاني السمو والارتياح التي تجعلك شامخا وتُعزّز من ذاتك ولا تهدمها ، وبهذا الوصف هو يعرّض للحضن الآخر الذي لم يردفه بوصف وجعله محذوفا ولكن يُفهم في باب التعريض بأنه الحضن الأسفل عكس (العلي) لأن هذا النوع من العشق يهدمك ويجعلك تمشي في وهم وضياع وعلى غير هدى ويُحطّم قلبك .

كما أنه قال في الصدر ( عشق) وفي العجز قال ( تقت) مما يدل على أن العشق هو أحد مراحل الجنون الذي يغيب فيها عقل الإنسان ويهيم ويهذي ، وأما التوق وهو الاشتياق فهو ملازم للعاطفة الصادقة والمحبّة السويّة المعتدلة التي ترفع من الإنسان وتبني ثقته وتحفظ له كرامته وهي من المعاني الفضيلة التي يدعو إليها الإسلام ، وحتى بين الزوجين فالعلاقة إن وصلت لحدّ الجنون أوردتك للمهالك والإسلام يعلمنا في كل شيء أن لا إفراط ولاتفريط والاعتدال محمود ومطلوب حفاظا على الروح وصحّة البدن وسلامة النفس .

ثم ينتقل بعد ذلك في الأبيات القدمة للحديث عن الأم ومشاعر فقدها والاشتياق لها والذكريات معها وهو تسلسل في الأغراض والمواضيع مترابط ومقبول .

جهاد إبراهيم درويش
06-08-2020, 11:48 PM
عظم الله أجركم وأحسن عزاءكم وغفر لوالدتكم ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين
وسدد الله خطاك وأعانك وأخذ بيدك للذي يحب ويرضى
وكعادة شعرك فرغم الوجع والحزن الذي تحمله في جوانح قلبك حلقت بنا في بحور الحكمة وقدمت لنا معلقة لامية تميزت بالعمق والجمال

تقبل خالص الود وأعطر التحايا

براءة الجودي
07-08-2020, 02:45 PM
بعد الحديث عن المحبوبة ، انتقل بمدخل جميل إلى حب وموضوع آخر وهو عن الأم ومدى اقتراب الأم من أبنائها واحتوائها همومهم قد لاتحتويها لا زوجة ولا محبوبة ولا صديقا ، فيقول :


فَـــإِنَّ حَــنَــانَ الأُمِّ فِـــي كَــوْثَــرِ الــمُــنَى=أَرَقُّ وَأَنْــقَــى مِـــنْ حَــبِــيــبٍ مُــــدَلّـــلِ
وَمَـــا الــــيُــتْــمُ إِلَّا فَـــقْـــدُ أُمٍّ وَأُمَّـــــةٍ=وَغَـــــد رُ حَــبِــيــبٍ وَامْــتِــهــانُ مُــبَــجَّـل

يشعر الإنسان مع أمه أنه هو المدلّل ، بينما مع الحبيبة أو بعض الزوجات هو من يقوم بفعل التدليل وهي المدلّلة ، لذا قال ( أرقّ وأنقى) بمعنى أنها مشاعر جميلة وسامية تحتويها الطمأنينة في حضن الأم .
وشبه حنان الأم بالكوثر ، والكوثر في الجنةهو أفضل وأعذب من أنهار الدنيا أجمع ، ويقصد بالكوثر هنا اي حنان الأم أعذب وانقى وأعمق من المحبوب المتدلّل ، وجعل المنى والأماني تتعلّق بحضن الأم وحنانها كونها بمحبتها لأبنائها تعينهم وتدعمهم معنويًّا بشكل كبير لبناء أحلامهم وثبات خطواتهم الأولى في الطريق .

ثم يقول في البيت الذي يليه أن اليتم الحقيقي هو عدة أمور :
- فقد الأم
- فقد الأمّة : وردت عدة معاني لها منها (
أَمَّمَتِ الدَّوْلَةُ الشَّرِكاتِ الكُبْرى : جَعَلَتْ وَسائِلَ الإِنْتاجِ وَإنْتاجَها مِلْكاً لَها

) وهنا قصد مايفقده الإنسان من أملاكه الخاصة أو ملكه من حكم ومنصب ..إلخ .

- وغدر حبيبٍ .
- وامتهان مبجّل أي إهانة وتحقير الشخص العظيم الذي يستحق التعظيم فيُستهان به ولايُعطى قدره وحقّه في زمن يعبث فيه الناس ويرفعون الوضيع ويُسقطون العظيم .

وأعجبني الترتيب هنا واراه مرتّبا على حسب الأهمية والألولوية ، ففقدان الأم والأب هو أعظمها ثم يليه أملاك الإنسان وملكه ثم يليه غدر الحبيب ثم امتهان المبجل ، وقد يكون الأخيرين أي
( غدر الحبيب وامتهان المبجل) في نفس المستوى لكن أُخّر الثاني من أجل القافية .
وهذا البيت الثاني فيه تقسيم لطيف وجميل كما قلنا حسب الأهمية .



خُـــذَانِــي إِلَــيْــهَــا فِـــي رَحِــيــلٍ مُــعَــجَّلٍ=وَلَا تُــبْــقِــيَانِي رَهْــــنَ مَــــوْتٍ مُــؤَجَّــلِ
خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةً=تُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي
خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَـدْ صَــارَ غُــرْبَــةً=وَفِــي لَـحْـدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْـزِلِــي

الله الله .. أبيات جميلة رغم الإحساس المؤلم فيها جدا
عاد الشاعر ليخاطب صاحبيه فيقول لهما : خذاني إلى أمي عاجلا ولاتجعلوني أبقى وأنتظر موت مؤجّل أي إلى مايحين أجلي ، وهنا استعجال الموت نابعا من شدة الألم والإحساس بالغربة والفقد وتبدّل أحوال من حوله من البشر والمجتمع إلى الأسوء وكأنه يرى أخذه إلى الموت نجاة وراحة ، ولا أرى عتبًا او ملامة في التعبير عن هذه الأحاسيس الصادقة ، بل أن المؤمن إن اشتدّت عليه الكربات وخاف على نفسه من شدة الفتن وتبدّل الأحوال له ان يدعي بما هو ماثور عن النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينيي ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)
ثم في البيت الثاني يُظهر مدى استوحاشه من هذا الفقد والحنين الذي قد أذاب فؤاده فلم يعد يحتمل هذا الاشتياق وهذا أحد أسباب قوله في البيت الأول ( خذاني إليها في رحيل معجّل).

والبيت الثالث يذكر فيه سببا ثالثا وهو أن الموجودين على ظهر هذه الأرض من الأحياء قد صاروا على غير عادتهم وبدّلوا كثيرا من المناهج والمبادئ وغيّروا الطرق حتى اصبح المؤمن يشعر انه غريب وهو بين أهله ووطنه إضافة إلى الاغتراب عن وطنه مضطرا ، حتى اصبح اللحد ومن في القبور في باطن الأرض أفضل منزلا مما هم عليها ،وهذا أحد أسباب قوله في البيت الأول أيضا ( خذاني إليها في رحيل معجّل) .

( وفي لحدها المعمور بالبرّ منزلي) أي مكاني الذي أتمناه هو معها أي نفس مصيرها في اللحد وأنا قد عمرته وأنا حي بالبرّ وآن الأوان لأن يكون منزلي معها ، بل القبور هي منازل الناس الحقيقية بعد الحياة الدنيا ن وهذه خيرُ موعظة أوردها الشاعر وخير مشاعر صادقة عذبة تضيء بالنقاء والصفاء .



يُــمَــزِّقُ شَــجْــوُ الـحُــزْنِ قَــلْـبِـي بِــفَــقْدِهَـا=وَيَــجْ ـثُمُ صِــنْــدِيدُ الأَسَـى فَـــوْقَ كَــلكَلــي
وَيَــرْسُــمُ وَجْــهًــا فِـــي مَــرَايَــا تَــوَهُّــمِـي=سَـنِــيّ ــا بِــفِــرْدَوْسِ الــخَــيَــالِ الــمُــفَضَّــلِ
تَــوَارَيـتِ يَــا أُمِّــي فَــمَا الــشَّمْسُ تَــسْتَحِي=إِذَا أَشْــرَقَــتْ دِفْــئًــا وَلَا الــبَـــدْرُ يَــأْتَــلِــي



ثم يشرح هنا ماذا فعل الحزن به بعد فقد أمه ، وأعجبتني صورة الأسى ..
(ويجثم صنديد الأسى فوق كلكلي)
الكلكل :هو الثقل والضغط على صدره مما يصيبه بتعب وإعياء ، وأيضا يعني الصدر ، وهو يقصد أن هذا الأسى قد جثم فوق صدر الشاعر فأثقل عليه
والصنديد : هو الرجل الشريف والشجاع ، ولكنه يعني بهذه الكلمة هنا بوصف (الشديد) اي ان هذا الاسى شديدا ثقيلا على صدره

شبه الأسى بالرجل الشديد ووجه الشبه محذوف وهو اشتراكهما في الشدة وتوجيه الأوامر والضغط على من هم تحت ولايتهم أو رعايتهم أو الإثقال عليهم بالأوامر والصناديد يحتلون مرتبة ومكانة عالية في المجتمع غالبا ، وهو جعل الأسى مثل الصنديد الشديد وجعله يحتل المكانة العالية في جسده وهي الصدر فيثقله حينما يجثم فوقه ، وهو تشبيه بليغ ومجمل ، وهو من التشبيهات المميزة .

وأظنه في البيت الثاني يُكمل فهو قال أن الحزن قد مزق شجوه من شدة الفقد ، والأسى جثم بكلكله ، وقد رسم وجها يحبّه في مرايا توهمه ، بمعنى أنه في وهمه رسم وجها من سناء في خيال الشاعر الذي وصفه خياله بالفردوس وهو وجه مفضّل لديه وقد يقصد بهذا أمه والله أعلم .
والمرايا والتوهم قد تربط بينهما علاقة تخيّل الأشياء غير الواقعية أو توهّم حدوث اشياء لم تحدث أو تمنّي امنيات بعيدة في خياله لاتحدث ولكنه يتوهمها كمن ينظر للمرآة ويتوهم أمورا لن تحصل من الأساس ، ولكني ألمس استمتاعه وشعوره بالراحة في هذا البيت وهو يسرح ويتعمّق في خياله .

والبيت الثالث : هو أكثر هؤلاء الثلاثة شاعرية وألقًا وكان محلّقا بحزنه عميقا في إحساسه جميلا في صورته وهي صورة الفقد والرحيل بلفظة معبّرة جدا تبعث الأسى وينهمر لها العين ( تواريتِ يا أمي) فقد اختفيت تحت الثرى ، والحياة مستمرة في ظاهرها كما هي وعبّر عن استمرارها بتعاقب الليل والنهار وأتى بما يدلّ على تعاقبهما وهو الشمس المشرقة بدفئها وهي رمز لوقت النهار ، والبدر بنوره وهو رمز لوقت الليل .
فما الشمس استحت وغابت بعد تواريك ولا البدر اهتم ونوره مستمرا اي لم يشاركاه الحزن في فقد أمه وغيابها عنه تحت الأرض ، ولكنّ مع استمرار الشمس والبدر الظاهر فإن حزن مستمرا في داخله وإن ظهور الشمس بدفئها تذكره بدفء الأم وعطفها ، وإن البدر في الليل يبعث في داخله الاشتياق لها ففي كلا الحالتين لم يشاركانه حزنه واستمرا في الظهور ..!

وأرى أن الشمس والبدر هذه هي طريقة مشاركتهما لفرحة الإنسان أو حزنه وهو ظهورهما وماتمنحهما للإنسان من معاني وأحاسيس .




وَمَــــــا لِــلَــيَــالِــي لَا تَـــنُـــوحُ تَــلَــهُّــفًــا=عَـلَـ ى فَـجْــرِهَا الـمَجْبُولِ مِـنْ نُـورِكِ الـجَلِـي
وَلَـــوْ أَنْــصَــفُوا لَاسْــتَــأْثَرُوكِ عَــلَى الــمَدَى=بِـــعِــطْــرٍ سَـــمَـــاوِيٍّ وَذِكْـــــرٍ مُـــرَتَّـــلِ

وهنا يخاطب الشاعر أمه ، ويقول بأسلوب شاعري استفهامي تقريري : كيف لليالي لاتنوح لهفة على الفجر الذي قد جُبل على سطوع نوره الواضح ونور الفجر هذا هو مثل نورك ، فإني أتلهف إلى لقياك ورؤية نورك الجليّ الذي جُبلتِ عليه وهو طبيعتك وليس نورا مصطنعا كما يتلهف الليل لطلوع نور الفجر وصفة النور صفة ملازمة للفجر .

وكأنما الشاعر يشبه نفسه بالليل المشتاق الذي أسودّت مشاعره من احتراق الحزن وحرائق الجراح وهو يتلهّف لهذا النور الجلي والواضح الذي يبدّد عتمته ويجعل مشاعره ساطعة مشرقة وهو نور أمه الذي شبهها بطلوع الفجر بعد ظلام الليل .

ولو الناس كلهم أنصفوك وأعطوك حقك وقدرك يا أماه دون حدوث عقوق أو انشغال أو نسيان عنك لاستأثروا بك لأنفسهم ولزموا قدميك وقدّموك على كل أحلامهم وأمنياتهم وأعمالهم وأزواجهم ... إلخ ، ولجعلوك كالعطر النقيّ النديّ الخالص ومثل الذكر والقرآن الذي يرتلونه دوما .

( بعطر سماوي) أ ظنه خصّ العطر بصفة سماويّ كونه نقيًّا نديّا طبيعيّ الرائحة كالمطر ،دون روائح صناعية ومركّبة ومختلطة بل هو عطر نقي طبيعي خالص كروائح الطبيعة الخلاّبة وكرائحة ماء المطر .

( ذكر مرتّل) وصف الأم بذلك وهو يريد أنهم لو أنصفوا واستأثروا الأم لأصحب على ألسنتهم مثل الذكر المرتّل ويقصد : ذكر الأم والحديث عنها في الأشعار وفي الكتابات ومع الجميع يصبح ذكر الأم كأنه قرآن مقدّس يرتّل من عظمة حقها وأجر برّها.
وهذا معنى لايخرج أبدا عن المعاني المأمور بها المسلم في القرآن عن برّ الوالدين وعظمة مرتبتهما التي استهان فيها الأغلبية أو تناسوها أو هجروها وقدّموا عليها الزوجة والحبيبة والأصدقاء وغيرها من الأمور التي يحبوها .



لِـمَـنْ يَــسْــتَرِيحُ الــنَّــحْلُ يَــا أُمِّ فِــي الــرُّبَــى=وَكُــلُّ شَــذَىً مَـهْمَـا يَـفِ الــعَهْدُ يَــخْــذُلِ
تَـشَــظَّيْتُ كَــالــبِّلَوْرِ بَــعْــدَكِ فِـــي الــقُـرَى=فَـــمَــا لِــــيَ بَــعْــدَ اللهِ إِلَّاكِ مِـــنْ وَلِـــي
وَمَـــا زِلْـــتُ يَـــا أُمَّـــاهُ كَــالطِّـفْــلِ كُــلَّمَــا=ذُكِـرْتِ جَـرَى فِــي مُـقْلَةِ الــعَطْفِ فُــلفُلِــي

وفي هذه الأبيات يشكو الشاعر لأمه ويقول لها ..

كيف يستريح النحل النشيط في الربى وهو كلما أدى عمله وجد أن شذى الأزهار كلما فاحت خذلته إذا ذبلت ، وهو يستمر في اللف فوق الربى للمحافظة على حياة الجميع وعلى تعاونهم واجتهادهم .
وقد أرى أن الشاعر شبّه نفسه بالنحل ، وجعل الربى هي مملكته والأزهار هي من يعتني بها ليتعاونوا معه ولكنّ بعضها قد يستمر شذاها فترة ثم تذبل والذبول هنا لايعني الموت بل هو فقدان النشاط والرقود والتكاسل عن التعاون وتحقيق الأهداف والإنجازات التي تخدم الجميع وترفع من شأن المجتمع ،مما يُشعره بالخذلان .

ثم يقول في البيت الذي يليه : أني بعد فقدك يا أمي أصبحك كالبلّور المتشظّي الذي قد فجّره الحزن والأسى فتناثرت شظاياه على القرى ، فمالي بعد الله في هذا الحالة إلا عطفك وحبك وحنانك واحتوائك .

وهذا البيت نستطيع إسقاطه على أمة الإسلام وكيف يفجّرها الأعداء ويفجرون بعضهم البعض بالكيد والحقد والمشاكل الداخلية إضافة إلى الخارجية حتى اصبحت هذه الدول والقرى الإسلامية كأنها شظايا ، ولكن المعنى الأول هو الأقرب والأنسب والظاهر ، وهذا قد يكون معنى ابعد يتعلّق بأبيات قادمة يتحدث فيها الشاعر عن المجتمع وكأن إحساسه بأمته كحبل متين متصل مع مشاعره الخاصة .

ثم يخبر أمه أنه مازال كالطفل الذي تكثر احتياجاته ويعتمد على أمه ويريدها ويستشيرها في كل شيء فيقول :
أني كالطفل يا أمي كلما ذُكرتِ أو ذُكر اسم الأم جرى في مقلة العطف حنينا وفقدا لك

وقال هنا ( جرى في مقلة العطف فلفل)
وصف المقلة بالعطف وذلك لأنه حينما تُذكر سيرة الأم يرقّ قلبه فيشتاق لعطفها فيحنّ وتتبع العين والمقل قلبه فتبرق وتلمع احتياجا لعطف أمه وتنزل الدموع وكأنها حبات فلفل .

وهنا إما أنه يقصد بالفلفل :
- صفة لدمع مقله أي أن دموعه نزلت ساخنة حارقة من عِظم مايشعر به من ألم وفقد ووجع .
- أو أنه يشبه حبات دموعه التي تسقط بشجر ثمر الفلفل (وهو شجر معمر متسلق أو زاحف ويكون ثمره كحبات صغيرة جدا ذات لون أخضر أو أحمر) فحجمه قد ينفع تشبيهه بحبات الدموع التي تبدأ بالخروج من مقل العين كالفلفل أو البلورة في بداية خروجها وسقوطها ، وهو تشبيه جيّد .

ناديه محمد الجابي
09-08-2020, 05:55 PM
رحم الله والدتك وطيب ثراها ـ أدعو الله أن يرحمها برحمته الواسعة،
وأن يسكنها الفردوس الأعلى
ما أجملها من قصيدة رائعة البيان والبديع، والمعاني والعبارة، والعاطفة، والسبك والجرس
ذات مضمون راق، وحس نبيل، ونفس طويل، وفكر ناضج، وأسلوب رائع
أحسنت وأجدت هذه الرائعة التي تقطر ألما، وحبا ووفاء وبرا
دامت حروفك متوهجة بنبض إحساسك.
:os::nj::os:

وشكرا لبراءة الجودي على رؤيتها النقدية الرائعة.
:v1::0014:

براءة الجودي
10-08-2020, 12:20 PM
تَــــبَــدَّلَ كُــــلُّ الــرَّهْــطِ يَـــا أُمِّ خِــلــفَةً=وَلَـــكِــنْ فَـــتَــاكِ الـــحُــرُّ لَـــمْ يَــتَــبَــدَّلِ

هنا بدأ الشاعر يسردُ حال ووضع الأمّة الإسلامية وبالمقابل يذكر خلالاً فيه كان من المفترض أن يثبت عليها المسلمين لأنها من نهجهم ولكنهم خالفوها ، بينما هو كما أوضح في الأبيات التزم بها ولم يبدّلها أو يغيّرها لأنه يراها طريقا للصواب .
وقد أعجبني إثبات فعل التبدّل في بداية الصدر ثم نفي فعل التبدّل عن نفسه حيث بثبت لنفسه العكس ، وهذا الإثبات والنفي يوحي بتوكيد المعنى الذي أراده الشاعر .


حَــصَدْتُ رَوَابِــي الــحُلْمِ لَــمْ يَبْقَ لِي سِوَى=وُرَيْــقَــاتِ عُــمْــرٍ مِــنْ سَــرَابٍ وَسُــنْبُـــلِ
أَسِــيــرُ كَــأَنِّــي أَفْـــرشُ الـــدَّرْبَ وَحْــدَةً=وَأَسَـــرِي كَـــأَنِّــي دَرْسَ بِــئْــرٍ مُــعَــطَّـــلِ
أُمَــارِسُ طَــقْسَ الــنَّزْفِ بِــالعَزْفِ شَاعِرًا=وَأَرْوِي بَــسَــاتِــينَ الــنُّــهَى مَـــاءَ جَــدْوَلِــي
وأُسْــرِجُ قِــنْــدِيلَ الــحِــجَا زَيْـــتَ حِــكْمَتِي=وَأَمْـــلَأُ طِـــرْسَ الــعِلمِ مِــنْ فِــكْرِ فَــطْحَلِ
رِكَــابِــي احْـتِـسَابِي فِــي اغْـتِرَابِي وَرِحْــلَتِـي=عَـــلَــى هَــرَجِ الأَنْــفَــاسِ رَيَّـــا قَــرْنَــفُـــلِ

ثم يتحدّث الشاعر عن طريقه في سبيل تحقيق حلمٍ شريف له ، فهاهو يحصد روابي الحلم اي حقّق أغلبها ولم يبقَ له إلا مجرد نزر يسير من العمر وسراب الدنيا وجمالها الذي يرمز إليه بـ ( سنبل) .
وقد يكون مصدر جمالها هو في أمله لتحقيق ماتبقّى من أحلام وأهداف بقدر ما يستطيع ، وكما هو معلوم عمر الإنسان محدّد وهو يحاول أن يستغله فيما يكون نافعا ويترك أثرا طيّبا وصالحا بعد الرحيل ، وشبه الحلم بالروابي ووجه الشبه محذوف وهو المساحات الواسعة الممتدّة التي لاتكون محصورة وجمال اخضرارها وخصوبتها فالأحلام تشبه الروابي في ذلك ، وهذا تشبيه مؤكّد ومجمل.

ثم يعبّر في البيت الثاني عن وحدته بالسير في الدرب وكأنه هذا الدرب مفروش بالوحدة ، وهذا التصوير يُعطي الإحساس الهائل بحجم هذه الوحدة التي يشعر بها الشاعر، وفي العجز يمُثّل نفسه مع وحدته في صورة بئر معطّل أي مهجور ، وليس ذلك فحسب إنما قد دُرست معالم هذا البئر وكأنه يقول أن هذه الوحدة الكبيرة التي يشعر بها جعلته وكأنه من الأطلال المنسيّة ، والأطلال غالبا تكون قيّمة وثمينة ولايشعر بقيمتها إلا ذوو الأصل والشرف من يُقدّرون القيمة الحقيقة ويتركون المظاهر المزيّفة .

وفي البيت الثالث .. رغم حالته السابقة والإحساس بالوحدة إلا أن ذلك كان شعورا ملهما له فجعل شعره الذي يعزفه كالطقس الذي تكون فيه الغيوم ماطرة ، وقد رمز لذلك بــ ( النزف) فالنزف هو مايسيل من الدماء بكثرة إن جُرح الإنسان، وليس يسيل في تغيرات الطقس إلا ماء الغيم وهو المطر ، وكما يستمتع الناس بتغيّر الطقس ونزول المطر فإنهم يسعدون ويستمتعون بشعر هذا الشاعر الذي يعزف وإن كان عزفه فيه مافيه من ألم وأسى وحزن يحسّون به نابعة من جراحه النازفة .
وبين النزف والعزف ( جناس ناقص)
ثم في العجز يقول أنه من خلال عزفه للشعر فهو يروي بساتين النهى أي اصحاب العقول الوارفة الذي تحبّ كل جميل يرتوون من ماء جداوله العذبة ، ففي الصدر جعل عزفه كالطقس الماطر النازف وفي العجز جعل شعره كماء الجدول العذب يروي أولي النّهى .

وفي البيت الرابع : يقول أنه يسرح قنديل الحِجا بزيت حكمته ، والِحجا هو العقل الذي يحاول دوما قول الألغاز واكتشافها وحلّها ، وكأنما يقصد الشاعر قصائده الذي يجعل أبياتها كاللغز فيأوّلها ويحاول القراء اكتشاف معانيها عن طريق تأويلات متعدّدة ، وهذه الأبيات أغلب مصدر نورها هو زيت الحكمة .
ثم يقول في العجز وأني أملأ طرس العلم أي اوراق العلم بفكر نيّر عظيم ، والفطحل هو السيل العظيم أو صاحب الحجم الممتلئ وأيضا الغزير العلم ، فهو يريد أن يقول أنّ فكره غزيرا عزيما يملأ به أوراق العلم وتجدها أيضا منعكسة في مرآة قصائده .

ثم يقول أنه في سبيل هذا العلم والفكر يركب ويغترب ويرحل محتسبًا الأجر ، وفي رحلته هذه يكون أثر كلامه وفعله وقصيده مثل أنفاس القرنفل ورائحته ، وهو يشير بذلك إلى انتشار الذكر الحسن عنه والله أعلم .



مـكِــبًّا عَــلَــى الآدَابِ أَسْـمَــو إِلَــى الــعُــلَا=بِــمِــنْــه اجِ ذِي عَـــدْلٍ وَمِــعْــرَاجِ مُــرْسَــلِ
شَــرِيــفًــا عَـــلَــى الــعِــلَّاتِ لَا يَــسْــتَخِفُّنِي=حَــسُ ــودٌ وَلَا يَــــهْــتَــمُّ لَــيْــثِــي بِــتَــتْــفُلِ
أُنَــافِــحُ مِـلْءَ الـــذَّوْدِ عَـــنْ كُــلِّ شِــيمَـةٍ=وَأَصْــفَــحُ مِــلْءَ الــهَــوْدِ عَــنْ كُــلِّ أَعْــزَلِ
فَــأُنْــكِــرُ مِــنْ قَـــوْمِــي تَــوَاكُــلَ غَــفْــلَـــةٍ=وَيُــنْـ كِــرُ مِـــنِّــي الــقَــوْمُ جُــهْــدَ الــتَّــوَكُّلِ

في البيت الأول : يُكمل في هذه الأبيات طريقه وانشغاله بالآداب بمنهج عادل متبعا الكتاب والسنة ويدعو إلى مافيهما من أقوال وأفعال وصفات وفضائل وأخلاق وهذا كله يسمو به إلى العلا فما حقيقة الفنّ والأدب إن كان بعيدا عن الفضيلة والخير .

ثم يقول أني أعلو وأسمو وأجتنب العلاّت والمآخذ وأكون شريفًا لا أنزل إلى المستوى الأقل كي لا أسقط في حفر الخلل الخُلُقي والفعلي مما ينقص من شرفي ومروءتي ، وكذلك لا يستخفّ عقلي حسود لأرد على كل رميه وقذفه عني ، ولا يهتم الليث أي الاسد بمكر الثعلب ، وهو يُكنّي نفسه بالأسد وعدوّه الحاسد بالثعلب ، وصفات كل منهما معروفة .

ثم يقول أنه ينافح أي يدافع عن كل الشيم والأخلاق التي تبدّلت عند رهط من الناس فيقومون بمحاربتها وتغيير جوهرها أو التخلّي عنها وهو يحاربهم بالمنافحة عنها ، وأنه يصفح عمن هو أعزل اي جاهل أو تائب عائد إلى الصواب والتمسّك بهذه الشيم .

والهود من معانيه الهائد أي العائد التائب ومن معانيه البطئ في السير والترجيع في الغناء والسكون واللين والرقّة في الأصوات وفي المشي .
وربما يقصد أن يشبه الصفح عن كل أعزل بالهود حيث أن الصفح يُلقي في القلب سكونا وهدوئا أو إحساسا مريحا .

في البيت الثاني : يقول أنه ينكر على قومه خطأ الاعتماد على الغير والرقود وقلّة الصنعة والإنجاز ، وهم يُنكرون على الاجتهاد وتحمل المسؤولية والنشاط والإنجاز ، وكأن هذه الصفات التي تبدّلت عند بعض أمّته اصبحوا يرون الفضل والخير في العكس أي في القعود ويُنكرون الصحيح بحجّة أنه تعب وصعب ولابد من الراحة الطويلة والتي في حقيقتها همة وعزم قد فترا .



إِذَا كُــنْــتَ ذَا عِـــلــمٍ وَحِـــلْــمٍ وَفِــطْــنَــةٍ=فَــلَــ ْتَ سِــوَى مُــسْــتَنْكَـرِ الــقَدْرِ مُــهْمَــلِ
وَإِنْ شِــئْــتِ عِـــزًّا يَـــا صَــبــيَّةَ فَــارْقَصِــي=وَإِنْ شِــئْتَ مَــجْدًا يَــا ابْــنَ لَــهْوِكَ فَــارْكُلِ
فَـــكُــلُّ نَــفِــيسٍ أَرْخَـــصَ الــجَــهْلُ دُرَّهُ=وَكُــلُّ خَــسِــيسِ زَيَّــنَ الــحَــالَ بِــالحُلِــي
يَــقُــولُونَ مُــغْــتَرٌّ شَــقَــى الــوَهْــمُ كَــدْحَــهُ=وَلَــيْــسَ لَــهُ فِــي الــصَــوْبِ غَــيْرُ اَلــتَبَلُّـــلِ
وَمَـــا أَنَـــا إِلَّا تــكْسِفُ الــشَّمْسَ هَــالَتِـــي=وَلَا ذَنْــبَ لِــي إِنْ لَــمْ يَــرَ الــبَدْرُ أَرْجُــلِــي
وَإِنِّــــي عَــلَــى مَـــا يُــعْــجِزُ الــفَــذَّ قَـــادِرٌ=بِـــأَبْــرَا ِ عَــقْــلٍ ضَـــمَّ أَلْـــفَ عَــقْــنَقَــلِ

ثم يخاطب القارئ هنا وكأنه ينبّهه على أمر قد يستغربه فيُخبره بالتجربة أن لايستغرب إن رأى الإنسان من نفسه أنه صاحب علم وفطنة أن يكون يُنكر غيره ذلك عليه ويهملونه ،كونهم يفكرن بعقلية سطحية مختلفة فثيابهم تختلف عن ثيابه وفكرهم يختلف عن فكره ،اختلافا كبيرا ليس الاختلاف بين الآراء الذي يكون معم على نفس الطريق بل مبثابة اختلاف عقيدة عن عقيدة تحتاج إلى فرمتة وتغيير في تلك العقول التي تبدّلت افكارها وأخلاقها .

في البيت الثاني :ثم يخاطب الصبيّة البنت فيقول لها إن أردت العزّ والغنى فارقصي وتفسّخي وتخلّي عن حيائك ستجدين العزّ بين الأراذل والسفهاء، وهذا أسلوب ساخر ، لأن العز لن يكون إلا بالستر والحجاب والفضيلة والهمة وفي أمور الخير والحق .

ثم يقول في عجز البيت ( وإن شئت مجدا يا ابن لهوك فاركل) إن شئت المجد أيها الصبي أو الشاب فاغرق في اللهو والملذات والشرب واركل كل فضيلة وشيمة وخير .
وهو أسلوب ساخر أيضا لأن طريق المجد هو في البعد عن الملذات وترك المحرمات والالتزام بالهدى والفضائل .
وكلمة (اركل) ترمز إلى الطيش واللا مبالاة وعدم احترام الغير وعدم إعطاء كل شيء حقه وقدره .

في هذه الأبيات نلاحظ أن الشاعر أتى بصفات القوم الذين تبدّلوا في أخلاقهم وأفعالهم وهو كما قال إن أردت العز فارقصي وإن شئت المجد فاركل ، وإنك سوف يُنكر عليك ويهملوك إن كنت صاحب علم وقدر وفطنة ثم يأتي ببيت آخر كمثال على تبدّل حال هذا الرهط.
فيقول في البيت الثالث : إنّ كل ثمين نفيس جعلوه رخيصا وبخسوا حقه وما ذالك إلا للجهل الذي يقود إلى السفاهة والظلم ، وإن كل خسيس تزيّن في ظاهره بحليّ رخيصة تُرضي أذواق السفهاء فقد اعتبروا ثمينا ومُقدّرا عندهم .

ثم يشير الشاعر في البيت الرابع إلى قولهم عنه ويردُ على هذا القول بإثبات الصفات الحميدة فيه وهو قولهم أنه مغترّ يتبع وهمه ولم ينل من مقصده وهدفه والطريق الذي يتجه إليها إلا مقدار قليل كما يتبلّل ثوب الإنسان بقليل من الماء ، وقولهم هذا في بخس وتقليل لحقّه وقدره .

فيرد عليهم في البيت الخامس : ما أنا إلا مثل الشمس المضيئة إن مرّت عليها حالة من حالات الكسوف ، أو أنه يقصد بذلك أن من شعاعه وضياء هالته تكسف أي تخجل الشمس حين رؤية تلك الهالة لعظمها وقدرها وهو تشبيه مقلوب ، ثم يقول وليس لي ذنب إن لم يرّ نور البدر في ظلمة الليل ارجلي وهي تسير في طريق الهدى والفضائل وتسعى إلى المحامد وكل مايُشرّف الإنسان من علوّ وبذل همّة والله أعلم .

ثم يتحداهم في البيت السادس : أي من يقولون عليه أنك ما أصبت مما تريد إلا بمقدار التبلل ن فيقول ما أنا إلا قادر على كل مالم يقدر عليه الأفذاذ ، وذلك بمقدرته العقلية ومامنحه الله من ذكاء وقدرة تحمّل وهمة وصبر .

وشبه عقله بالأبراج ثم قال أن عقله ضمّ ألف عقنقل ( والعقنقل) هو الكثيب العظيم المتداخل من الرمل أو الوادي العظيم المتسع .

ولو نظرنا فإن الأبراج تكون مرتفعة على سور المدينة ومنها يراقب الجنود وأهل الفلك .

ويقصد الشاعر أن عقله قد ارتفع درجات فهو في سموّ وعلو لذا يختلف عن عقلية غيره في طريقة تفكيره وأسلوب حياته وأن عقله هذا يوجد به عدد كبير من الكثبان العظيمة أو الوديان المتسعة وهو دلالة على قوّة تفكيره وحنكته وحكمته وغزاره علمه وأفكاره التي تُلهم غيره .

وكلمة ( ألف) هو عدد يستعمله العرب للدلالة على الكثرة فيتم تصوير هذه الكثرة العظيمة بهذا العدد ( ألف) أو (ألف ألف) ، كما نقول في عصرنا مليون دلالة على تصوير الشيئ الكثير جدا ، وهذا التصوير الأخير كان جميلا ومميزا .



فَــيَــا لَـــيْــتَ قَـــوْمِــي يَــعْــلَمُونَ وَلَــيْــتَنــِي=أَرَى عِــنْــدَ دَأَبٍ نَــاهِــضٍ مِـــنْ مُــعَــوَّلِ

ثم هنا يتمنّى وقد تكون أمنية بعيدة أن يعلم قومه حقيقة تبدلهم ويبصرون طريق الصواب ويرجعون عما هم فيه من رقود ، ثم يتمنى مرة أخرى أن أن يجد من يعينه وشخص يُعتمد عليه نشيط ودؤوب ينهض بهمّة لإكمال السير نحو المجد وبنائه .



وَيَـــوْمَ جِــدَالٍ إِذْ عَــقَرْت عَــنِ الــهَـــوَى=فُـــؤَادِي فَـــلَــمْ يَــجْــمَــحْ وَلَـــمْ يَــتَــجَمَّلِ
يُـــرَاوِدُنِـــي عَـــــنْ دَمْــعَــتَــيهِ بِــبَــسْــمَةٍ=تُــذِيـ ُ نِـيَــاطَ الــصَــدِّ فِــي صُــمِّ جَــنْــدَلِ
فَــقُــلتُ وَفِـــيٌّ أَنْــتَ مَـــا زِلْـــتَ بَــعْدَمَــا=جَــفَــتْـ كَ الَّــتِـــي هَــيَّــجْــتَهَا بِــالــتَــغَـــزُّلِ
وَهَل عُدْتَ بَعْدَ الوَصْلِ فِي السُّخْطِ وَالرِّضَا=بِــغَــيْــرِ عَــقَــابِــيــلِ الــهَــوَى الــمُـتَــمَلْـمِـلِ
تَــطُوفُ بِــضَبْحِ الــشَّوْقِ فِــي سَأْمَةِ الدُّجَى=كَــأَنَّــكَ جُــرْحُ الــوَقْتِ فِــي رَأْسِ بَــرْجَلِ

ثم يقول أنه في يوم من أيام جداله مع محبوبته قد عقر هواه أي ذبحه ولايريد عودة هذا الهوى إلى قلبه ، ولكن فؤاده خالفه فهو لم يجمح أي لم يتوقف بل سار ، ولم يتجمّل أي لم يصبر تهدأة صاحبه له ولم يتلطف بفؤاد صاحبه إنما خالفه للتوجّه نحو هوى المحبوبة ، وهذا يعيد له الذكرى فتدمع عينيه ويبتسم بمحبة ويعذبه الشوق والحنين فيذوب نياط الصدّ وهو يقصد العرق المتصل بالقلب والقلب هو الذي صدر منه الصدود فنسب العرق للفعل الصادر من قلبه وقت الجدال والغضب واتخاذ قرار الصدّ وعقر الهوى ، فهذا الفؤاد وذكرى هواه والسير نحوه والشوق أذاب نياط الصدّ ( في صم جندل) أي الشيء الشديد العظيم ، وكأنه يشبّه نفسه بعد عقر هواه بالصخرة الصمّاء الشديدة إلا أن هذا الحنين والاشتياق والذكرى الذي عاد بالهوى إلى فؤاده أذاب نياط قلبه وجعله ليّنا بالحنين لمن يحب .

ثم يخاطب الشاعر فؤاده ويقول له أنت مازلت وفيًّا رغم جفاء محبوبتك ، ويقول في البيت الذي يليه على شكل شكل استفهام تقريري : أنت لم تعد بعد الوصل في كلا الحالتين في السخط والرضا بغير العداوة والدواهي من هذا العشق .

ثم يقول إنك يافؤادي تطوف بالشوق في الليل وقد غلبت السآمة من بعد الحبيب وجفائه ولم تعد تصبر لوصاله وإنك بهذه الحالة التي تطوف فيها والطواف يستلزم الدوران الكامل، وشبه هذا الطواف برأس برجل,
رأس برجل :وهي الآلة الهندسية التي تُرسم بهال الدوائر والأقواس .
وهذا كله نتيجة للجرح الذي تعاني منه ويجعلك تدور وتطوف هذا الوقت كله .


بِــلَــيْلٍ رَهِــيفِ الــنَّوْحِ يَــنْسَــلُّ مِــنْ يَــدِي=كَــمَنْفُوشِ عِــهْنٍ لَــمْ يَــذُقْ طَــعْمَ مِــغْــزَلِ
حَـــوَارِيِّ إِطْـــرَاقٍ مَـــجَــازِيِّ مَــنْــطِــقٍ=طُـــفُــو ِــيِّ إِلْـــحَـــاحٍ ضَــبَــابِــيِّ هَــيْــكَــلِ
إِذَا جَـــنَّ أَلــقَــانِي إِلَـــى جَـــوْفِ غُــصَّةٍ=وَإِنْ حَــنَّ أَبْـقَــانِي عَــلَــى غُــصْنِ مُــمْحــلِ
يُــسَــامِرُنِي كَــيْ يُــوقِــظَ الــوَطْــرَ بِــالأَسَى=عَــلَــى فِــكْــرَةِ الـنَّـهْرِ الَّــذِي فِــيَّ يَــصْطَلِــي
وَإِنِّــي وَهَــذَا الــلَّيْلُ كَــالصَّوْتِ وَالــصَّدَى=وَكَــاَلــض ــوْءِ وَالــظِّــلِّ اشْـمَــخَــرَّا لِـمُـخْــتَلِ
وَمَــــا الــلَّــيْــلُ إِلَّا تُــرْجُــمــانُ سَـــرَائِــرِي=وَسُــبْـ حَــةُ أَفْــكَــارِي وَحِـنْــطَــةُ مُــنْــخُلِــي
وَمَــهْــمَــا تَــمَــطَّــى بِــاَلــهُــمُومِ فَــإِنَّ لِـــي=فَــرَادِيــسَ صَـفْــوٍ مِــنْ خَــيَــالٍ مُــحَــجَّــلِ

ثم يصف الشاعر هنا الليل والليل له علاقة بالشوق والحب لذا كل الأغراض والمواضيع هنا متناسبة وكأنها موضوع واحد لترابطها ..

فيقول ليل الاشتياق هذا رهيف جدّا وشبّه رهافته بالعهن المنفوش أي القطن على حالته ولم يترتّب ويهذّب والقطن رقيق وخفيف جدا ، ويقصد بذلك وصف نفسه فهو يرى نفسه في هذا الليل المرهف لعظم شوقه فيه وجرحه وأساه لبعد المحبوبة وهجرها وكأنه عهن منفوش لم تلمسه يدٌ حانية لتغزل خيوطه وتفتلها وتلفّها وترتّبها .

ثم يصف نفسه في البيت الثاني وهو عبارة عن صفات قسّمها الشاعر بين صدر وعجز فيقول : أنه (حواري إطراق) أي إطراقه يدلُّ على نقائه و صدق في موالاته لذا ناسبه هذا الإطراق وهو إطراق المخلصين والأوفياء والنبلاء .
( مجازيّ منطقٍ) أي منطقه ومنطوقه يعتمد على المجاز والتلميح والصور الفنيّة التي تجعل الخيال خصبًا والله أعلم
( طفوليّ إلحاح) أي هو مثل الطفل في إلحاحه وحاجته في تلبية رغباته .
( ضبابيّ هيكل) اي نوره الوهّاج يتوقّد في قلبه ، أما هيكله الشكليّ فهو ضبابي من الحزن والوحدة والألم ولا يلحظه إلا من يقدّر قيمة الإنسان وروحه وفكره .

ثم يقول أن الليل إذا جنّ أي أتى ألقاني في جوف أغصّ فيه من البكاء والحزن خصوصا من الاشتياق ، وإن حنّ عليّ هذا الليل جعلني على غصن ممحل كالعصفور الذي لايستطيع التغريد وفقد حلاوة الحبّ .

(جنّ وحنّ) بينهما جناس ناقص

( يوقظ الوطر بالأسى على فكرة النهر الذي فيّ يصطلي) يقول إن هذا الليل يوقظ وطره أي حاجته بالأسى ، وكأن الأسى هو عامل من العوامل التي تجعل أنهار الأفكار تعبر عقله ليلا فيصطلي بها وتظهر آثار الاسى واضحة في قصائده .

ثم يقول أنه وهذا الليل وكأنهم اصحاب كالصدى الذي يلازم الصوت ، فيقول أنه هو الصوت والليل هو الصدى لأنه قال قبل هذا الوصف
(وإني وهذا الليل) ، ثم قال أنه كالضوء والليل هو الظل فقد اشمخرّا وامتدّت قامتهما وعنقهما رفعةً وسموًّا لكل مختلٍ صافي الذهن والنفس .

ثم يقول ما هذا الليل إلا بمثابة شخص يترجم كل ماخفي في نفسي ولم أبده لأحد ،فالسريرة هي بواطن الإنسان والذي يظهر شيئا منها أو حقيقتها إذا كان في خلوة مع نفسه فهذا الليل يترجم سرائري .

وهو أيضا بمثابة سبحة لأفكاري ،جعل أفكاره العظيمة بمثابة الأذكار المقدّسة التي يرددها المسلم وهو يمسك السبحة وهو يريد بذلك كما قلنا عظمة أفكاره التي تحافظ على الفضيلة والهدى ومن يقراها يجد فيها الحكمة ويجد منها السكينة .

ويقول أن هذا الليل ايضا هو ( حنطة منخلي) أي مانقّاه من الشوائب فشبه افكاره بالحنطة ووجه الشبه هو فائدتهما العظمى لصحة الإنسان فكا يصح بدن المؤمن باختيار الغذاء السليم يصحّ عقله باختيار الفِكر السليم الخالي من الشبهات والعِلل ، وهذا البيت جميل في معانيه .


ثم يقول أن هذا الليل مهما تمطّى وتأخّر ولم يرحل فلن يقتلني فيه الأسى وإن بلغ مني كل مبلغ ، وذلك لأنّ لدي في قلبي وفكري فراديس أي جنان فيها مالذّ وطاب من الخيال المحجّل أي المشرق المضيء والفكر العظيم والخلق النبيل والحرف الأصيل .

براءة الجودي
10-08-2020, 06:01 PM
وَيَــوْمَ امْــتَطَيْتُ الــصَّمْتَ فِــي أَوْجِ دَهْشَةٍ=بِـــأَنَّ الـــرَّزَايَــا كِـــدْنَ حَـــدَّ الــتَّــوَغُّــلِ
أَدُوسُ عَــلَــى الــبـنْــزِينِ وَالــرِّيــحُ تَــقْــتَفِــي=بِــأَنْـ فَاسٍ مَــذْعُــورٍ مِــنَ الــمَوْتِ مُــذْهَــلِ
كَــأَنِّــي أَشَـــقُّ الأَرْضَ مِـــنْ أُمِّ رَأْسِــهَــا=لِأَدْفِـــ َ هَـــمِّــي فِـــي زَئِــيــرٍ مُــجَــلجــلِ
أُحَـــدِّقُ فِـــي الآفَـــاقِ وَالــهَدْءُ صَــاخِبٌ=بِـــزَفْــرَةِ حُـــرٍّ لَا يَـــرَى الــعَــدْلَ يَــعْــتَلِــي

في البيت الأول تشبيه حيث شبه الصمت بظهر الخيل الذي يُمتطى ، وهذا الامتطاء المفاجئ للصمت كان عن اندهاش وعجبٍ من أمر هذه الرزايا التي تجمعت عليه وكادت تتوغل وتضيق عليه أنفساه فتقتله ، ومصدر الدهشة هو النجاة منها بعد أن كادت تتوغل وتطرحه صريعا من ثقلها .

وهو تعبير جميل بألفاظ راقية ( امتطيت ، أوج ، دهشة ، الرزايا) كلها اختيارات تدلّ على الذوق الفنيّ والإحساس المرهف لدى الشاعر .

ثم يقول أدوس على البنزين ، وهذا الدوس غالبا لايصدر إلا من إنسان مذهول أو متوتر أو غاضب والأقرب هي الحالة الأولى وهي الذهول والذعر من هذه الرزايا التي كادت تُهلكه ، فالموت مهما أيقنّا وآمنا بحقيقته إلا أنه مصدر من مصادر الحزن لفراق الأحبة والجمال الذي عاشه الإنسان في الدنيا وهو لاشك لايساوي قدر أنملة من جمال الآخرة لكنه إحساس يُذهل كل البشر ويُذعرون منه

وجميل قوله ( بأنفاس مذعور) فهذا دقة في الوصف حيث أنّ الشعور بالذعر يجعل الأنفاس مضطربة فعلا .

رغم أن الكثير يرى عدم استعمال المصطلحات العصرية كما هي أي التي لم تُعرّب ولم تترجم إلى العربية ولم نجد لفظا فصيحا لنستنغي عنها لا أرى بأسا أحيانا في إدخال بعض الكلمات التي تدلّ على العصر الذي عاشه الشاعر ولكن لايكون هذا استعمال دائم له في قصائده بل من باب التغيير أحيانا .

المهم أن لايكون بابا سمير من هذا الذهول قد خالف القانون بالسرعة الزائدة والتفحيط الشبابي :005:


ثم يقول : (كأني أشق الأرض من أم رأسها = لأدفن همي في زئير مجلجل)
هذا البيت جميل في تصويره وفي معناه ، فهو يقول أني بسبب هذا الذعر كأني أشق الأرض من أساسها وهذا يعكس شعور الذهول لديه الذي أفقده التركيز فما كان منه إلا أن يستعمل لفظة السرعة وما في معناها للتعبير عن ذلك ، وقد أجاد ، وأكد هذا في العجز في قوله ( لأدفن همّي) فبقيادة السيارة بهذه السرعة قد يُنسيه ويخفّف ذعره ويدفن همه ، وأمر آخر يجعله يدفن همه وهو ( الزئير المجلجل) !

قد يتساءل أحدنا ، كيف لهذا الزئير أن يدفن همّه بل أنه قد يبينه أكثر ؟
و أقول ..
أنّ الأسد حينما يزأر يُخيف السامعين بصوته المجلجل القويّ ولن يميّزوا ماباعث هذا الصوت !
فكم من قائد ومدير صرخ صرخة مجلجلة يأمر وينهى وفي داخله همّ عظيم مكبوت داخله، فيظهر همه بطرق غير مباشرة بحيث يبدو أمام الأعين قوي محافظ على شدّته وصرامته بينما في داخله يصرخ ألما أو ذعرا ، ولن يكشف باعث هذا الصوت غالبا إلا المقرّبين منه ومن يفهموه .

وهنا مما فخّم حجم هذا الصورة هو اجتماع الصوتين انشقاق الأرض من الذعر ودفن الهم عن طريق صوت الزئير المجلجل فهي قوتان إن اتحدتا زُلزل أمامه كل باطل وتهاوى كل فاسد .

وقد يسأل احدهم ماعلاقته بالباطل والفاسد ؟
فاقول : لو تأملنا الصورة لوجدنا وإن استعملت في هم وذعر خاص إلا أنّا نستطيع إسقاطها على قوّة الحق الذي يشقّ الأرض فيهزّ كل باطل ويزأر هذا الحق بصوت مجلجل يفرح له المؤمنون ويذعر منه المنافقون ويخشى منه الكافرون .

( ربما خيالي شطح ، لكني ألمح هذا التفسير البعيد من خلال استعمال الألفاظ القوية والاصوات شديد العلوّ التي تصمّ الأذان من شدتها في هذا البيت ) .

ومما يؤكد تفسيري البعيد هو البيت الذي يليه حيث قال ( أحدّق في الآفاق والهدء صاخبٌ = بزفرة حرّ لايرى العدل يعتلي)
بعد ما أخرج هذا الزئير المجلجل وأعتبرها زفرة هي من زفرات الأحرار الذي يشعرون بارتياح قليل بعدما صرخوا في وجه الظالم بالحق مع استمرار الحزن والأسف على واقع الأمة وحالها مما هي فيه من ذل وهوان ، فما كان منه إلا أن يعود للتحديق المستمر في الأفق وهي صورة تدلّ على الطموح والأمل والسعي للمجد بعزم الرجال وأصحاب الهمم .
والهدء الصاخب أي هزيع الليل من أوله إلى ثلث رغم هدوئه الظاهر إلا أنه يصخب بالمشاعر والأحاسيس وتزدحم فيه أصوات الضمير وحيويٌّ بنجومه وكواكبه وكائناته الليلية النشِطة .
وهاهو يزفر اسفًا على حاضر الأمة المُبكيّ وعلى مجدها الغابر ، وحدّد السبب الأساسي لخروج هذه الزفرة وهو اختفاء الحق وموت وكتم أنفاسه إجبارا وانتشار الظلم وارتفاع أمواج الطغيان المدمّرة .

وأشيد بهذه الأبيات الأربعة وبشكل خاص البيتين الأخيرين منها لما فيها من جمال معنى وتصوير قويّ مناسب لمراد الشاعر .



وَتَــرْمِــقُــنِي "خَــيْــلِــي" بِــعَــيْــنَيْ غَــضَــنْفَــرٍ=أَلُــوف شَــغُــوفٍ صَـــارِمِ الــوَجْهِ مُــجَفَــلِ

وهو في هذا الليل الساكن الصاخب ، يُحدق في الأفق ويزفر زفرة حر لعدم تحقق العدالة واعتلاء الحق ، قال أن خيلي يرمقني ، مما يدل على أنه بعد الدعس على البنزين وهذا الذعر توقف في مكان خالٍ يعرفه ويوجد به خيلٌ خاص به ، وهاهو خيله يرمقه كأنّما يشاركه معاناته لكنها نظرة تبدو في ظاهرها قوية مثل الغضنفر أي الأسد وهذه النظرة تدلّ على توهّج روحه وشغفه وسعيه الدائم وتعكس ورغم صرامة ملامحه إلا أنه مجفل أي نافر يشارك صاحبه في الذعر والنفور من واقع الأمة الإسلامية وكأنما الخيل يعكس شخصية صاحبه الذي يجالسه .


إِ
ذَا مَـــا جَــرَتْ أَغْــرَى الــجَــمَالَ قَــوَامُهَــا=تَـمِـيـسَ بِـفَــرْشٍ فَــاخِـرِ الـنَّـسْجِ مُـخَــمِّلِـي
وَإِنْ زَمْــجَــرَتْ ذَلَّـــتْ لَــهَا الأَرْضُ عُــنْوَةً=تَـكَــادُ تَـحُــثُّ الــرَكْــبَ صَــوْبَ الــتَّرَجُّــلِ

وفي هذين البيتين يصف جمال قوام الخيل وهي تسير وشبه شعرها الذي يميس خلفها بالفرش المخملي الفاخر فحينما تمشي ويتحرك شعرها يكون كقطعة واحدة متسعة تميل يمينا ويسارا لهذا شبّهها بالفرش المخملي الناعم وهو استعارة تصريحية حذف المشبه وذكر المشبه به وهو (الفرش المخمليّ).

ثم مدح صوت الخيل حينما تزمجر وهي غاضبة راكضة وكأنّ الأرض عبدا ذلّ لها فامتلكته واصبح تحت حكمها عنوة وإجبارا ، وهي بسرعتها وركضها الرائع كأنما تحث الراكبين عليها بالترجّل لتركض خفيفة حرّة غير مقيّدة بالامتطاء ، وكذلك هم الأحرار .

ثم أنّا نستطيع إسقاط الخيل على السيارة كونها مركبة عصرية ويشترك الاثنان في ذلك في طريقة الرمق بالعين ، والصوت المزمجر والفرش المخملي الفاخر قد ينعكس على لون السيارة .




جَــلَسْتُ وَمَــا فِـي الــكَوْنِ فُــسْحَةُ ضَــائِقٍ=عَــلَى سَــفْحِ طَــوْدٍ نَــاضِرِ الــعُشْبِ مُــرْفلِ
وَفِـــي رَغْــدِ مَـهْــدِ الــوَهْــدِ تَــغْــفُو بُــحَيْـرَةٌ=عَــلَــى شَــطِّــهَا اسْــتَــلقَى جَـــلَالُ الــتَّأَمُّلِ
تُــطِلُّ عَــلَيْنَا الــشَّمْسُ مِــنْ خَــلْفِ غَــيْمَةٍ=بِــخُــصْــلَ ـةِ ضَـــوْءٍ أُرْهِـــفَــتْ بِــالــتَّــأَفُّــلِ
تَــمــيــلُ لَـــهَــا والـــكَــوْنُ سَـــاجٍ كَــأَنَّــهَا=عَــنَــاق ــيدُ سِــحْــرٍ مِــنْ جُـمَــانٍ مُــفَــصَّـلِ
وَيَــسْــبَــحُ سِـــرْبٌ مِـــنْ إِوَزٍّ مُــزَرْكَــشٍ=ويَـــمْــ َحُ سِـــرْبٌ مِـــنْ ظِــبَــاءٍ وَأُيَّـــلِ

ثم انتقل الشاعر إلى وصف الطبيعة الخلاّبة التي تُعتبر سياحة وفسحة للمؤمن وكل حرّ ليجد مافي هذا الكون من طبيعة أبدعها الخالق سبحانه لتجلي كل ضائقة يشعر بها المهموم ، وخصص جلوسه بسفح طود لأن الطود وهو الجبل يكون أسفله غليظا وقريبا للأرض تستطيع الجلوس فيه أكثر من الأعلى ويستطيع من هناك أن يتأمل جيدا ذلك العشب المرفّل الذي تجد فيه نعيما وترفًا وراحة لعين وقلب الناظر إليه .

ثم يقول (وفي رغد مهد الوهد تغفو بحيرة ) شبه الوهد وهو المكان المنخفض بمهاد الطفل ووجه الشبه الامتداد وحجم المكان المحصور والفرش الليّن المهيّأ في كل منهما ، وجعل البحيرة كالطفل الرضيع في المهد يغفو في أمان وسكون ، ثم يقول ( على شطها استلقى جلال التأمل) أي على شاطئ البحيرة منظر رائع تسرح في العين وهي تتأمله ،وهو تشبيه بديع وجميل حقيقة .

( مهد الوهد) استعارة مكنية فالمشبة هي الأماكن المنخفضة والمشبه به مهد الطفل وقلنا الجامع بينهم المكان المحصور والامتداد والفرش المهيأ اللين .
(تغفو البحيرة) استعارة مكنية ، ذكر المشبه البحيرة وحذف المشبة به وهو الطفل الرضيع في المهد والجامع بينهما الإحساس بالأمان والسكون .

(على شطها استلقى جلال التأمل) استعارة مكنية ، ذكر المشبه وهو التأمل وحذف المشبه به وهو الإنسان الذي له ملك أو هيبة ويعلوه الوقار والسكينة والجامع بينهما هو منظر العظمة والجمال الساكن الهادئ الذي يجعل الناظر إليه يوقّره ويقدّره ويحترمه لمكانته المادية المحسوسة أو المعنوية الفكرية وكلاهما فيه منظر مُلهم لكل متأمل وحكيم ، وهذه استعارة بصورة راقية وألفاظ أنيقة عكست قدر جلال هذا التأمّل وصفائه وحذقه .

وفي هذا المكان السفح الذي يجلس عليه ويمتدّ نظره إلى العشب المرفل ، والبحيرة الغافية في المكان المنخفض الذي شبهه بمهد الطفل، هنا تطلّ عليهم الشمس الجميلة من خلف غيمة وهي عابرة طريقها وقد بدت منها خصلة من شعاعها المضيء هذه الخصلة قد أرهقها التأفّل أي الكِبر وهو يقصد هنا تكبّر الشمس بسبب شدّة جمالها .
وإن منظرها يميل له القلب والكون ساج أي هادئ ، وكأنّ اشعة هذه الشمس (عناقيد سحر من جمان مفصّل )

كيف تكون عناقيد سحر؟
العناقيد غالبا تكون متدلية للأسفل ، لكنه خصص العناقيد هنا بالسحر فجعل للسحر تأثيرا على خيوط الشمس ،بحيث يكون شكلها مختلفا عن عادة شكل العناقيد المتدلية للأسفل غالبا ،وكأن السحر قد حولها إلى خيوط ممتدة في كل اتجاه من الشكل الدائري للشمس ، وأنّ هذه الخيوط كأنّ فيه جمان مفصّل أي مفرّق حول قرص الشمس .
ووجه الشبه بين أشعة الشمس والجمان هو :مصدر الضياء الذي يظهر منههما وتباعد كل من الجمان والخيوط عن بعضه البعض .


ثم يصف الحيوانات الموجودة في هذا المكان من الإوز السابح في البحيرة ، والظباء أي الغزلان والأيّل السائر في هذه الأرض ، والأيّل هو من فصيلة الأيليات لذكوره أظلاف وقرون متشعبة بها تجويف وتُعرف بالوعل أيضا .

وكله منظر ممتع للمتأمّل ويجعل الإنسان يتفكّر في خلق الله وكيف هذا التآزر بين عناصر البيئة وطبيعتها من جبل وسفح ووهد وبحير وحيوانات وسماء وتعاونها على العيش في حياة رغيدة سعيدة ، مشرقة هادئة ، خالية من الأحقاد والضغائن والاضطرابات ، وهذا فيه درسٌ للنهوض والتىزر بين عناصر المجتمع لخلق حياة فريدة يفخر فيها الإنسان لاسيما المؤمن الذي أُمر بتعمير الأرض بالإيمان والصالحات ونشر الخير ومكافحة الفساد والخراب والظلم الذي يدمّرها ويشوّه طبيعتها .

وحقيقة أبيات الوصف للطبيعة هي من أجمل الأبيات في دقّة رسمها بإحساس مرهف وذوق انتقائيّ رفيع ، وأظن هذه الأبيات المتسلسلة في وصف الطبيعة تدخل ضمن التشبيه التمثيلي المركّب



فَــمَــاذَا أَلَــجَّ الــدَّمْــعَ فِــي عِــذْقِ مُــقْلَتــِي=عَــلَــى حِــيــنِ سَـهْــوٍ مِـــنْ وَقَـــارٍ مُــكَــبّلِ
كَــأَنَّ بُــرَاقَ الــحَدْسِ لَــمْ يَــدْرِ مَــا اعْتَرَى=حَـيَــارَى عَـرَاجِــينِ الـــرُّؤَى مِــنْ تَــحَــوُّلِ
مَــوَاقِــيــتُ أَمْـــنٍ فِـــي نَــوَاضِــرِ خَــاطِــرٍ=يَــوَاقِــيـ تُ يُـــمْــنٍ فِـــي أَكُـــفِّ مُــخَــوَّلِ
وَمَـــا حَــزَبَ الأَحْــلامَ شَـــيْءٌ كَــحَزْبِهَـا=وَلَا اشْــتَــدَّ عَــتْــمُ الــكَــرْبِ إِلَّا وَيَــنْــجَلــي

ثم يعود الشاعر للأبيات الوجدانية والتعبير عن حزنه ، أن الوصف السابق كله وما أضفى عليه من مشاعر مختلطة من ضمنها الحزن جعل دمعه يلجّ ويزدحم في عذق مقلتيه ، شبه رموش عينه بعذق النخلة وهو سعفها ذكر المشبه وحذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو ( عذق) على سبيل الاستعارة المكنية ، والجامع بينهما الطول وتقوّس الشكل .

يقول : أن دمعه قد خرج من مقلتيه وبلل رموش عينه على حين سهو من ذهاب الوقار لأن الوقار يُكبّل المرء ويجعله أكثر تصبّرا وحفاظا على ضبط نفسه وأعصابه حتى لاتنهار روحه ولا تتأزم نفسيته ، لذا قال وقار مكبّل لأنه ضابط لهذه العواطف .

ثم يقول أن حدسه الذي يشبه البُراق وهي الدابة الذي ركبها الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ووجه الشبه بينهما هو الصعود أو الطيران ، يقول أن حدسه كالبراق (لم يدرِ) أي ينفي عن حدسه الدراية عن معرفة ماذا اعترى الرؤى من تبدّل وتحوّل !
وهو إما يقصد أحبابه واصحابه أو يقصد رهط من أمة الإسلام الذين ذكرهم في أبيات سابقة .

(عراجين الرؤى) شبه الرؤى بـــــ العراجين وهي العذق التي تحمل التمر وكالعنقود من العنب .
وهذا التشبيه رائع والربط به موفّق ، حيث أن هذه الثمر تعتريها بعض التغيّرات في فترة من الفترات فيتبدّل حالها ولونها وقد تيبس وتجفّ أيضا .

كأن هذه الرؤى مُنحوها من هم أهل لها وخوّلهم أي سُمح لهم التصرّف بشأنها ، سواء في حياة الشاعر الخاصة أو عمن خُوّلوا لتحقيق أهداف وأمور ترتقي بالمجتمع والأمة الإسلامية .

فيقول :أن هذه الرؤى (في مواقيت أمنٍ) .. أي في مكان آمن تطمئن إليه النفس وفي مكان تُحفظ فيه ولن تضيع سدى وهذا المكان هو الخاطر في القلب الذي تعبُر فيه الأفكار والرؤى العميقة .

وأيضا هذه الرؤى هي (يواقيت يمن) أي كالياقوت ممنونة ومباركة لعِظمها وسموّ ماتهدف إليه وماتخطط له وماستبنيه من مجد وعزّة وكانت بكفّ شخص مخوّل مُنح هذه السلطة ليتصرّف بالرؤى بجكمة ورويّة وجدّية وهو أهلٌ لذلك .

وبين ( مواقيت أمن ويواقيت يمن) مقابلة .

ثم قال وما أصاب الأحلام من حادث عارض مؤسف أعظم مما يصيبها من اشتداد الكرب وعتمته فهو يحول بينها وبين تحقيقها ولن يتم تحقيقها إلا مع تحسّن نفسية المكروب الذي توقّفت أحلامه وأصبح يراها معتمة مستحيلة التحقيق ،ولكنّ ماكرب يشتدّ إلا والفرج قريب ، يأتي فتنجلي كلّ شدة .

وكما قلنا في البيت السابق نستطيع أن نأول البيتين على أنه حلم وؤوى تخصّ الشاعر ونستطيع إسقاطه على المجتمع المسلم بشكل عام ومايُقعدها عن أحلامها ورؤاها وماتمرّ به من ظلم وكربات يُسجن فيها أهل الحق ويُذلُّ منها الرجال فتعيقها عن السير لمجدها بمثابرة وعزم .



كَـمَــا جِــئْتَ فَـحْوَى الــدَّهْرِ يَـأْتِيكَ نَــحْوهُ=وَإِنَّ نَــصِــيــبًــا مِـــــنْ هَــــوَاكَ لَــمُــبْــتَلِ
وَثِـــقْ بِــالَّــذِي يُــورِيكَ بِــالعَذْلِ مَــاحِضًا=كَـمِــثْلِ الَّــذِي يَــرْوِيكَ مِــنْ صَــفْوِ مَــنْهَــلِ
وَإِيَّــــاكَ وَالــحَــبْــرُ الـــذِّي عَـــدَّ فَــضْــلَـــهُ=وَلَــيْـ سَ لَـــهُ فِـــي الــفَضْلِ حَــبَّةُ خَــرْدَلِ
بَـــلَايَــا الــبَــرَايَــا فِـــي فَــسَــادِ ضَـمَــائِــرٍ=وَمِـــنْ نَـــزْعَـــةٍ لِــلــجَــوْرِ أَوْ لِــلــتَّــوَسُّـــلِ
وَإِنَّ بِــلادًا لَا تَــــرَى الــعَــدْلَ مَــنْــهَجًـا=تَـــظَـــ ُّ بِـــــلادًا تُــبْــتَــلَــى بِــالــتَّــغَــوُّلِ
وَإِنَّ شُــعُــوبًــا أَخْــبَــتَــتْ لِـــلــذِي بَـــغَــى=حَـقِــيــقٌ بِـــأَنْ تَــشْــقَى بِـــذُلِّ الــتَّــبَـــذُّلِ
أَتَــخْشَى مِــنَ الــكُوفِيدِ كَالطِّفْلِ فِي الدُّجَى=وَلَــمْ تَــخْــشَ أَمْــرَ اللَّهِ فِــي كُــلِّ مَــحْفـلِ
كَـــأَنَّ انْــتِــشَارَ الـــدَّاءِ لَـــمْ يَــكُ بَــلْسَمًا=يُــرَقِّــي خَــلَاقِ الإِنْــسِ بَــعْــدَ الــتَّــسَفُّـــلِ

ثم يخاطب الشاعر القارئ هنا فيقول : ( كما جئت فحوى الدهر) معنى فحوى أي مضمون ومعنى الكلام الذي يرمي إليه القائل .

فالشاعر هنا يعطي نصيحة وهي أنّك مثل ماتفهم من الدروس والعبر الذي يرمي إليها الدهر وكأنه إنسان فصيح بليغ ويعلّمك الحياة ومراوغتها والمرونة معها وتقبّل ظروفها من خلال المواقف والرزايا فإنه بقدر اقترابك وفهمك وفطنتك لما يرمي إليه الدهر سيُقرّبك من طرقه وأسراره ونواحيه و تأتيك مقاصده وتصبح ماهرا في التعامل مع ذلك وإنّك بقدر علمك وفهمك لهذه التقلبات في الحياة سيأخذك هواك أي حبّك نصيبًا من الابتلاء .
هذا البيت ألمح فيه شيئا من الفلسفة ، فلسفة الإنسان وتعامله مع تقلّبات الدهر والصوارف والابتلاءات والعمق في التفكير والذكاء في التعامل معها بالأخذ والعطاء والقبول والرضا لأن السخط سيزيدك شخصا ولن يغير شيئا .


ثم يقول في نصيحة ثانية : ثق بالذي يعاتبك عتاب مخلص محبّ للخير لك كما تثق تماما فيمن يرويك من نبع الوداد الصافي العذب .


ثم ينصح نصيحة ثالثة بأسلوب تحذيري باستعمال لفظة ( إيّاك) أي احذر من الحَبر أي العالم الذي يُعدّد أفضاله وكأنه يمدح ويثني على نفسه فإنه إن فعل ذلك فهو لايمتلك من الفضل حبة خردل ، وهذه الصورة توحي بتقليل مالديه من الفضائل والخصال الحميدة حتى وإن أُترس داخله علما ، فما فائدة العلم دون فضائل ودون أخلاق حميدة !

وهذا أسلوب تلميحي بجهله رغم مالديه من علم لكنه لم يبصر النور فيه ، وهو منطقي ولايخرج عن الآداب الإسلامية .

لأن العالم الحقيقي متواضع كالسنبلة المنحنية الممتلئة بالخير فهو مملوء بماء العلم في بساتين الفضائل ويخشى الله ولايمدح نفسه ولايتمنّن بعطائه بل يرى نفسه الأقل ويبكي خشية التقصير وعدم تأدية العلم على وجهه الصحيح ، ولم أرّ عالما حقيقيا يُشار إليه بالبنان ووضع الله محبته في قلوب عباده يمدح نفسه بل أنه يستحي حال ظهوره وانتشار سمعته ويتصرّف كالعامة خشية أن تجرّه نفسه إلى العجب والتكبّر أو الإحساس بالتفضّل على الغير رغم تفضّله عليهم بما منحه الله من علم وفهمه ومساعدة الناس في فهمه .

ثم يقول أنّ أغلب مشكلات البرايا أي الخلق محصورة في الضمائر فإنّ الضمائر هي أصوات القلوب التي تعاتبك إن فسدت وماتت فسدت حياتك وحالك وإن صلُحت صلُح حالك وعيشُك .

ثم عدد أمرين آخرين هما من المشكلات وبلايا العباد حصرها في ثلاثة أمور :
- فساد الضمائر .
- نزعة الجور ، أي حب التسلط والتجبّر وومارسة اي نوع من أنواع الظلم على الآخرين فلا يتقي الله في الناس إلا القليل .
- التوسّل ، وهو التقرّب والتذلل ورجاء الله والخضوع للآخر وهي التي لاتكون إلا لله فما كان منها لغير الله اصبح كالعبد المأسور المأمور غالبا .

(بلايا ، البرايا) جناس ناقص .

فئة فسدت ضمائرها وماتت قلوبها فإما هي تميل إلى الجور وتكون الظالمة ، وإنا هي لاتفهم من الحياة غير الرضا بالهوان والتعلّق بغير الله والتوسّل بذلّة مما يجعلهم من الفئة المستعبدة وقد رضوا بهذا الهوان ، او يقصد الشاعر بمن يقترب ويتوسّل إليك بشدّة فإن لبّيْت حاجته وساعدته غرز سكينًا في ظهرك ، بعدما شبع منك ، وكلا الحالتين تُعتبر من بلايا البرايا فعلا .

ثم يقول إن البلاد التي لاترى العدل في منهجها ، وتطبيق العدل أساسٌ ينبع من تعاليم الكتاب والسنّة، فإن هذه الأمة التي تظلم ولا تسلك طريق العدل قد ابتُليت بالتغوّل اي بالبعد عن المحجة فسيهلكون في طريق الضلال المتشابك الذي لايبين ولايكون واضحا كالحق والعدل .


ويقول في البيت الذي يليه : إن الشعوب التي أُخبتت أي رضيت وسكنت لمن بغى عليهم وتجبّر ولم تناضل وتقاوم وتمنعه عن ذلك فإنه حّقّ لها بعدم الانتفاضة والنهوض أن تعيش بهذا الشقاء والذلّ والتبذّل أي عيش ليس فيه صون لكرامتها وحشمة نفسها فلا تتحرّز من الأمور المستقبحة وهذا يرفضه كلّ حرّ ومؤمن .

بعد ماوصلوا إلى ماوصلوا إليه من الذلّ والمهانة والتبذّل أي التفسّخ والعري والبعد عن كل فضيلة بارتكاب النواهي والتقصير في الأوامر وترك جلّها وتمويه بعضها واستعمال مايناسب اهوائهم منها فقط وبعد أن عمّ هذا الظلم والفساد بألوانه وأنواعه فزعوا حينما أتى (الكوفيد) أي وباء كورونا .
وشبّه خوفهم من هذا الوباء بخوف الطفل الشديد حينما يحلّ الظلام أو يمشي في الدجى وحده ، ولا خير في أمّة خافت من مخلوق هو تحت حكم الخالق سبحانه ، خشيت منه اكثر من خشيتها من ربها فإنها لو خافت ربها لما قعدت في هذا الهوان ولما تبذّلت وفسدت .

ثم يقول أنّ هذا الوباء ورغم حصوله ترى جزء منهم لم يتغيروا ولم يرتدعوا بل استمروا في غيّهم ومرحلة مفاجئتهم بهذا الوباء المباغت كان مجرد وقت كاستراحة لهم فلم يكن بلسما ودواء كافيا لأخلاقها التي وصلت بهم إلى الحضيض وجرّتهم للعيش في أسفل الحياة ، وكأن كورونا لم تُجدي معهم للارتقاء بأخلاقهم .

وقد يحتاجون عدّة نفضات وصفعات ليمحّص الله عباده، وليميز المؤمن من المنافق والطيب الطاهر من الخبيث الفاسد الذي هوى بالأمة بفكره وفساده وظلمه .

وألاحظ في الابيات السابقة كثرة حرف ( التاء) وهي من حروف الهمس وكأنّما الشاعر يلقي نصائحه عن تجربة صادقة ومعها زفرة ألم لهذا الوضع يزفرها عن طريق هذا الحرف الذي يهمسُ لك همسة محبّ حتى لاتقع في الوحل أو حتى تتجنّب هذه الأصناف وتتجنّب أفعالهم .



سَــئِــمْتُ فُــراتَ الــعَيْشِ فِــي شَــطْءِ ذِلَّــةٍ=وَإِنْ كُــنْـــتُ لَـــمْ أَخْــنَــعْ وَلَـــمْ أَتَــذَلَّــلِ
وَلَــكِــنْ شَــجَــانِي الــعَجْزُ فِــي أُمَّــةٍ هَــفَتْ=إِلَــى دَعَـــةِ الــنَّــجْوَى وَدَعْــوَى الــتَّنَصُّــلِ
وَقَــدْ يَــدَعُ الأَسْــبَابَ مَــنْ لَــيْسَ يَــسْتَبــِي=وَلَا يَــدَعُ الــمَــعْنَـى الَّــذِي لَــيْــسَ يَــنْطَلِــي


ثم يصوّر الشاعر هنا صورة توحي بالرفض التامّ للرضوخ في عيش ناعم مترف يشبه الماء في عذوبته وجمال حضارته وتطوّره ولكنه في يقبع في شاطئ الذلّة خالٍ من أي معنى من معاني الكرامة والعزّة التي تسعى إلى تحقيقها العدالة لحفظ الأنفس وصيانتها عن ظلم البغاة ، فيقول :
وإني إن كنت أعيش في هذا العصر وفي نفس هذا المجتمع وأسكن نفس أوطانهم إلا أني لم أحني رأسي وأخنع كما خضعوا وتذلّلوا .

ثم يقول أنّ ماحلّ عليّ من ألمٍ وانكسار وما شجاني إلا هذا العجز في أمّة أصبحت تهفو وتشتاق إلى الدّعة والراحة لأنها عوّدت نفسها على ذلك ، وكما يقال : إنّ النّفس على ماتعوّدت عليه ، فإن عودتها على الهمة واحتمال الصعاب اجتهدت وجاهدت واحتملت المشاقّ ن وإن عودتها على العكس رضخت وكسلت .

فالشاعر حدّد أمرين يعتبران من المشاكل الأساسية لعدم تطور الأمة الإسلامية وبقاءها على ماهي عليه وهو العجز الذي دعاها إلى أمرين :

- دعة النجوى أي الراحة والقعود في المجالس وتبادل الأحاديث أو التناجي فيما بينهم مما يُسبب التفرقة والالتهاء بهذه الأمور التي تضيّع الوقت فتجعل المرء عاجزا عن الصعود للقمم.

- ودعوى التنصّل أي الانسحاب والهروب من المسؤوليات التي تكون كأساس كل فرد من افراد المجتمع فيقوم بما هو واجب وحق عليه لربه ولنفسه ولأسرته ولمجتمعه ولوطنه ويتجنّب المواضع والأمور التي تُبطئ من همّته فيتكاسل عن مدّ يديه للرقي بالخلُق والمجتمع والمحافظة على مجد وعزّة الأمة الإسلامية .

(دعة ودعوى) جناس ناقص

ثم يقول في البيت الأخير من هذه الأبيات : قد يدع المرء الأسباب أي يتركها إن كانت لا تأسره ولا تعجبه حتى لو كان فيها خيرا ومصلحة للنهوض وتطوير نفسه ومجتمعه ، وإنه بمقابل ذلك لايترك المعنى الواضح الذي لاينطلي أي لاينخدع به من اتصف بالحصافة والنبهاهة من أولي النّهى .

وكأنّ الشاعر يرمي بهذا القول إلى معنى أفهم منه : أنّ بعض الفئات لاتنهض وتقوم بفعل الأسباب وتحاول لأنها ضعيفة عاجزة لاتتحمّل الخوض في التجارب واحتمال المهام الصعبة التي تحملها أكتاف الرجال من مسؤوليات لينهضوا بالأمّة ، لكنه بالمقابل ينشغل بالتوافه من الأمور والمعاني المفهومة التي لاتنطلي على أحد وكأنه يريد توضيح أنه بعدم تركه لهذه المعاني والبحث في خوافيها الظاهرة تضيّع وقته .

وقد يكون مقصد الشاعر هو قول : كان من الأجدر القيام بالأسباب للنهوض والعمل والإنجاز حتى لو لم تستهويه وتأسره هذه الأسباب في بداية الطريق ، بدلا من الانشغال في الأمور الواضحة من معاني الحياة والتي لاتستحق التوقّف مطوّلا ويكفي منها العبور ولاتنطلي عليك مقصادها ولاتخدعك الأيام بمواقفها .

فربما المعنى هنا ، يشمل الحياة بما فيها من أمور ومعانٍ واضحة من تصرّفات ناسها وتقلّبات أحوالها والانشغال بصغائرها الظاهرة .

( ولايدع المعنى الذي ليس ينطلي) كأنه يوجّه له أمرا فيقول : ( دع المعنى الذي لاينطلي عليك ، ولاتدع الأسباب التي لاتأسرك ولا تستهويك فقد تصل بك في النهاية إن صبرت إلى ما يأسرك فعلا وتمطمح إليه ).
والله أعلم ، قد يفهمها بعض النقّاد بشكل أفضل وأعمق .



إِلَامَ أُعَــزِّي الــنَّفْسَ فِــي كُــلِّ مَنْ قَضَــى=وَأَحْــمِــلُ هَــمَّ الــقَــوْمِ مِـــنْ غَــيْرِ مِــعْــوَلِ
وَفِــيــمَ أُلُـــوكُ الـلَّــوْمَ فِــي شَــرِّ مَــا جَــرَى=وَأَجْــلِــدُ ظَـــهْــرَ الــعَــزْمِ رَغْـــمَ الــتَــبَــزُّلِ
وَإِنِّـــي وَأَيْـــمُ الــلَّــهِ مَـــا الــيَأْسُ مَــذْهَبِي=وَلَــكِــنَّ صَـرْفَ الــبُؤْسِ لِــليَأْسِ يَــجْتَلِـــي
وَأَنِّـــي إِذَا مَــا اسْــتَيْأَسَ الــقَلْبُ بِــالأَذَى=أَلُــــوذُ بِـــآيَـــاتِ الــكِــتَــابِ الــمُــنَـــزَّلِ
أَلَا رُبَّ مَـــوْتٍ يَــرْفَعُ الــذِّكْرَ فِــي الــوَرَى=مَــتَــى انْــتَــهَــجَ الــمَــرْءُ الــسَّــبِيلَ بِــأَمْــثَــلِ
وَرُبَّ حَــيــاةٍ تُـــرْهِــقُ الـــوَثْــرَ بِــالــثَــرَى=وَتُــخْـ زِي الــثُّــرَيَّـا مِـــنْ عُــرَاةِ الــتَّسَرْبُــلِ
فَــإِنْ كُـــنْــتُ يَـــوْمًــا لَا مَـحَــالَةَ مَــيِّــتًـا=أَلَا فَــلْـيَكُنْ فِــي نُــصْــرَةِ الــحَــقِّ مَــقْــتَلِــي


وفي الأبيات الأخيرة من المعلقة يقول الشاعر ، إلى متى أعزي النفس في كل من قضى على نفسه بالذلّ والشقاء أو كل مانقضى من الماضي وماحلّ على الأمة من هوان ، وإلى متى أحمل همّ القوم من غير معول أي من غير أن أجد من يثق باعتماده عليّ واستعانته بي وبفكري وبما أقوم به لننهض بهذه الأمة .

ثم يقول متسائلا مرة أخرى وهي أسئلة فيها شيء من الإحساس بالإحباط والحزن : من يستحق لألوك أمامه اللوم أي يقصد لألقي عليه اللوم ، وصوّره على أنه يلوكه لبيان لمدى القهر والرفض لهذا الواقع الذي حدث فيه ماحدث من فساد وشرّ .
فيقول :من يستحق أن القي باللوم عنده وأحدّثه معاتبا عن شرّ ماجرى للأمة ، هل سأجد من سيُجدي معه اللوم ويحرك ضميره وينهض معي!

ولماذا أجلد ظهر العزم وأتقدّم مبادرا مجتهدا رغم التبزل في الأمة أي تفرّقها أحزابا وفئات وتشققها بالخلافات فيصعب توحيدها .

وتحتاج لنهوض قوي ومجموعة كبيرة لها نفوذ ولديها عدة وعتاد لترضخهم وتجمعهم على خط الاستقامة والحق والعدل دون تفرقة وبغضاء .

ثم يقول أنه من خلال أسئلته قد يُفهم منها أنه يائس ، فيُنكر ذلك بالحلف بقوله ( وإني وأيم الله) فيؤكّد للقارئ بمؤكدين :
هما :
-( إنّ) وهو حرف للتوكيد .
- والقسم أو الحلف ( وأيم الله).

وذلك حتى يصدّقه القارئ فيما سيخبره فهو يقول أنّ اليأس ليس من مذهبي بتاتا ، ولكن الشدائد حينما تتابع وتحلّ بقوّة تجعل شيئا من يأس الإنسان يجتلي أي يظهر .

ثم يقول : إن القلب لو لم يحتمل الأذى ودخل اليأس فيه ، فإني أتعوذ بالله من ذلك عن طريق الالتجاء إلى قراءة الكتاب المنزلّ أي آيات القرآن الكريم ، فقراءته تجعل الإيمان يتوهّج في قلبه المؤمن وتُطمئنه وتريحه وتسعده فلا يدخل الشيطان مداخلا على القلب وقت شدة حزنه فيُلقي فيها اليأس ، وهذه وصيّة ناجعة .

ثم يقول : متى جعل الإنسان نهجه الحق والعدل واتباع الكتاب والسنة وحرص على سلوك الطريق الأمثل الذي يؤدي إلى الصواب ويحرصُ على الأفضل والأمثل والأجمل والأكمل رغم يقينه باعتراء النقص الإنسانيّ لعمله ، فإنّ فعل هذا يرفع له ذكره بعد موته ويُصبح وقتها من الماضي ولكن أثره وبصمته باقية .




وَرُبَّ حَــيــاةٍ تُـــرْهِــقُ الـــوَثْــرَ بِــالــثَــرَى=وَتُــخْـ زِي الــثُّــرَيَّـا مِـــنْ عُــرَاةِ الــتَّسَرْبُــلِ
فَــإِنْ كُـــنْــتُ يَـــوْمًــا لَا مَـحَــالَةَ مَــيِّــتًـا=أَلَا فَــلْـيَكُنْ فِــي نُــصْــرَةِ الــحَــقِّ مَــقْــتَلِــي


ثم يقول : وربّ حياة بتوطئتها وسهولتها وليونتها وغنى عيشها ونعيمها أي حياة ميسّرة سهلة قد (ترهق الثرى وتخزي الثريّا )أي :

- ترهق بأفعالها المستقبحة الثرى فتفسده وتجعله عليلا كجسد المريض .
- وتخزي بابتذالها وعدم صونها لعزّتها وشرفها الثريّا لما وقعت فيه من عريّ وتجرّد عن ثياب الفضيلة والمبادئ والأخلاق فلم تتسربل بها بل خلعتها فتبدّلت أخلاقها .


وفي الخاتمة يقول الشاعر :

بعد ما أوضّح كل ماحلّ بهذه الأمة من هوان والحال المتردّي ، ثم سعيه الدائم بعزم واجتهاد من أجل المجد والرقي ، فإن كان بعد ذلك لامحالة ميت ، ولاهروب من الموت في كل الأحوال ، فليكن على الأقل مقتلي في نصرة الحق عزيزا شامخا لا ذليلا باكيا .

وقد أحسن الخاتمة معنى وقوة وتُعتبر الخاتمة من الأبيات التي يُستشهد بها وتجري مجرى الحكم والأمثال .

آمال يوسف
14-08-2020, 09:56 PM
الشاعر القدير د. سمير العمري
تنقلت بنا بين الحكمة والفخر والرثاء في معلقة حملت الكثير من الرسائل
رحم الله والدتكم وأعانكم على فقدانها
وأطال عمركم في الخير
تحيتي وتقديري

د. سمير العمري
28-08-2020, 05:16 PM
ماشاءالله بارك الله هي معلّقة وليست قصيدة

جمعت مابين الأسلوب الجزل والسهل الممتنع وتمتّعت بالحكمة وورد فيها صورا فنية تستحق التأمّل في معناها كما اعتدنا من والدنا الدكتور سمير العمري
الأغراض هنا متعددة على نسق شعراء الجاهلية ولكن بصورة حديثة حيث ان المواضيع متداخلة ومتناسبة بطريقة متسلسلة مترابطة ، ولكلّ عصر ولكل زمان سماته الأدبية الخاصة به
ويذكرني هذا بالبارودي حينما أحيا الشعر القديم في رصانته وجزالته حينما عبث الشعراء بالشعر وأنهكوه بالضعف والركاكة والجمود والإكثار من البديع بدون مضامين وشاعرية تحيي الروح فيه ، وهنا الدكتور سمير يشبه مافعله البارودي بإحياء الشعر القديم والنهضة به في صورة متناسبة مع متطلبات الشعر العصرية والحديثة التي نعيشها في وقتنا باسلوب متين متماسك و صور فنية مميزة وشاعرية وطول نفس قد لايقدر عليها إلا قلة من الشعراء ، معلقة بديعة في الشكل والمضمون .

كل التقدير

بارك الله بك أيتها الشاعرة الكريمة والناقدة المبدعة ولا حرمني الله من تفاعلك الراقي وحسك الواعي وأدبك الجم.
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
13-11-2020, 01:53 AM
رحم الله والدتك رحمة واسعة وأسكنها فسيح جنانه .. هكذا هي قصائدك دوما أخي الحبيب عميقة الوصف جميلة المعاني قد أسهبت هنا وكتبت قصيدته طويلة لا نراها الا غرفة صغيرة من ماء نهر شعرك الأقاح الذي لا ينضب ...
كل التحايا والود

بارك الله بك أيها الشاعر المبدع الحبيب ولا حرمني الله من تفاعلك الراقي وحسك الواعي وأدبك الجم.
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
02-01-2021, 03:03 AM
تتميز القصيدة بأصالة المعاني ووضع المفردات المناسبة في أماكنها، هذا الشعر يذكرني بالشعراء الكبار في قوة أسلوبه وجمال تصاويره.

بارك الله بك أيها الشاعر الكريم والأخ الغالي الحبيب وأشكر لك قراءتك السامقة ورأيك الكريم !
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري

د. سمير العمري
27-02-2021, 02:14 AM
لِإِيـــلَافِ ذِكْــرَى أَوْجَــفَت روعَ مُــبْسَلِ
بإسْــرَافِ وَجْـــدٍ صَــامِتِ الــجَأْرِ مُــثْكَلِ

معنى الكلمات :
وجف : أي أسرع وخفق واضطرب
روع : الروع هو الفزع ، وأيضا هو موضع وهو القلب .
الجأر : رفع الصوت بالدعاء والتضرّع .

معنى البيت :
هذه الذكرى التي لزمت الشاعر وبقيت تأتيه متصلة دون انقطاع عنه قد أرجفت قلب الشجاع ، ولن يرتجف قلب الباسل إلا من أمرٍ جلل ليس تافها أو بسيطا ، ومع هذا الأمر العظيم الذي جعل قلبه مضطربا شديد الخفقان كانت ردة فعل وجده هو الإسراف في الصمت رغم حاجته إلى الجأر لكنه لم يتضرع ولم يرفع صوته من شدة كتمان الحزن وتحمل هول الشدائد وصعوبة المكاره ، فقد فضّل الصمت وكأنّما ألِفه وأصبح سمة له ولم يكتفي بالسكوت لفترة مؤقتة ، وفوق هذا فهو وجدٌ لا يعاني الشدة والضيق فقط إنما الفقدان ، وكلها مشاعر مؤلمة وحزينة ، أكثر ما تكون على الوجد شدّة ، لكنّ الباسل وحده هو الذي يستطيع توطين نفسه على احتمال المكاره والأحزان .


وَأُمْــنِــيَّــةٍ عَــذْرَاءَ فِــــي صَـــدْرِ خَــيْــبَـةٍ
تَــرَى الــقُــرْبَ قَــبْــرًا مُــشْــرَئِبَّ الــتَّدَلُّــلِ

معنى الكلمات :
مشرئبّ : اشرئبّ اشرئبابا أي إذا مدّ عنقه فارتفع وعلا

معنى البيت :
إنّ الأماني البكر التي لم يمسّها إنسان تقبع في صدر أُصيب بالخيبة من معرفته لعدم استجابة الأماني لتلبية رغبته من اقترابها منه ، حيث ترى هذه الأمنية أنّ اقترابها من راغبها يعني الموت والفزع ومعاني الخوف ، كالفتاة العذراء التي تصدّ عن الحبيب بابتعادها وتمدّ عنقها وترفعه تمنُّعا ودلالا حال إعراضها رغم أنها رؤية معروفة عند أغلب النساء وبالأخصّ العذراوات لكنّ تصويرها على أنها للأمنيات جعلها تبدو كرؤية جديدة تم تخريجها بطريقة حسنة .
هنا شبّه الأمنية بالفتاة العذراء لكونها سريعة الانكسار إن جُرحت أو أصابتها خيبة والجامع بينهما هو التمنّع والتدلّل من رغبة الاقتراب وتفضيل الابتعاد عن الحبيب ، ذكر المشبه وحذف المشبه به على سبيل الاستعارة المكنية .


سَــقَــتْهَا أَبَــارِيــقُ الــهَــوَى صَـــابَ غُــرْبَةٍ
وَسَــاقَــتْــهُمَا بَــيْــنَ الـــرُّؤَى وَالــتَــخَــيُّــلِ

معنى الكلمات :
صاب : الصبا من الشوق ، ويقال منه تصابى وصبا يصبو صبوة أي مال إلى الجهل والفتوّة ، وصاب ويصبي ويصبون إلى الفتنة أي يميلون إليها ، وصبا القلب : أي مال إلى الهوى .

معنى البيت :
هذه الأمنية العذراء التي تتمنع بدلال وترى القرب من حبيبها عبارة عن قبر بالنسبة لها ، قد سقتها أباريق هوى الشاعر ومال إليها أكثر خصوصا في فترة غربته وتخصيص هذه الفترة دقيق في تأدية معنى الوحدة والحاجة إلى الشخص الذي يهواه ويحبه ويأنس لمجالسته ومسامرته ، ثم قال :
( وساقتهما بين الرؤى والتخيّل) إن هذه الأمنيات أصبحت بين الرؤى المحسوسة الواقعية التي يصدّقها الإنسان كالأخبار التي لا يُحتمل تكذيبها وبين التخيّل والوهم التي تمرُّ كالطيوف والسراب يراه ولا يراه !
فما الشيئان اللذان ساقا هذه الأمنية وجعلاها بين الرؤى والتخيّل !

هل هما ياترى ( الهوى ، والغربة ) ؟

فإن كانا كذلك فإنّ الهوى قد يجرّ الإنسان إلى كثرة الخيالات حتى تزدحم عليه فما يبصر الحقيقة إلا بعد عناء وكونها أمنية فقد تكون أقرب للوهم إن كانت شبه مستحيلة مما يجعله واقعا بين حالتين من تصديقها و عدمه .

وأمّا الغربة فهي ترفع نسبة حدّة البصيرة لدى الإنسان وتزيد من إثراء وجدانه بالمعاني وتقوّي مبادئه فيضعف احتمال فتنة قلبه وتنخفض نسبه توهمه ولايسهل خداعه من رؤية السراب وبالتالي يكون أكثر تركيزا على الحقيقي والواقعي والمنطقي ويبصر قلبه حالها ما لايبصره في حال ضجيج الهوى وزحمة الأمنيات والتوهمات ، وهذين الاثنين (الهوى ، والغربة) من جعلاه يعيشان بين الرؤى والتخيل .
وتحديده لكلمة التخيّل لأن الإنسان يكون بإرادته أن يتخيل في كثير من الأحيان ومتى ما أراد وزيادة هذا التخيل يسوقه إلى الوقوع في حفر بعض الأوهام مابين مصدق ومكذب لما يراه في عالم خياله .

وأما الرؤى فتسوقه إلى طريق واضح مشعّ نوره ولا مجالا لتكذيب مايراه واقعا ومنطقيّا مما حوله التي تتكون من خلاله رؤاه الخاصة وفلسفاته .

(سقتهما وساقتهما) بينهما جناس ناقص
( أباريق الهوى) و ( صاب غربة) ( بين الرؤى والتخيّل ) هنا جمل فيهم تقسيم على شكل جمل مضافة معرّفة في أغلبها وكأنها تثبت وتؤكد للقارئ عن أمرٍ عجيب جعل الشاعر يقع في مثل هذه الحالة بين الحقيقة والوهم وبين الرؤى والتخيل وبين تصديقه لما يراه وتكذيبه له ، ولن يجعله في هذه الحالة إلا أمرا جلل ليستحق هذا التركيب وهذا الوصف .


يَــجُــسَّانِ جَــيْــبَ الــغَــيْبِ وَالــلُبُّ ذَاهِــلٌ
أَمِـــنْ ثَــمَــلٍ يَـمْـتَــاحُ أَمْ مِــــنْ تَــمَــثُّــلِ

معنى البيت :
وهنا يُكمل مابدأه في البيت السابق من هذه الحالة التي أوقعته مابين تصديق وتكذيب ، فيقول : يجسّان جيب الغيب ، فمن هما اللذان يجسّان؟
أتوقع أنهما الرؤى والتخيّل ، فالرؤى تمثّل مايراه من الظاهر ، والتخيّل تمثل وهما وقع فيه أو شكّا في عدم تصديق مايراه وإحساس لتكذيب هذا الظاهر الذي يكاد يخدعه .

يقول : إن هذه الرؤى وهذا التخيّل يفحصان ويبحثان عن هذا الخبر ، ويتلمّسان مواقعه الرسمية ويتحرّان عنه؛ ليستبينانه ويستثبتانه ، لذا يفتشان عن بواطنه وفي أثناء هذا البحث والتفتيش ترى لبّ الشاعر ذاهل ، حيث اصبح محتارا من ذهوله هل سببه أنه ثمل مازال يستقي من هذه الأخبار فتزداد ثمالته ليراها وهما بين مكذّب ومصدق لها أم بسبب الحقيقة الماثلة أمامه التي أصابت قلبه بالذهول وقطعت تخيّلاته بالصدق واليقين ، فلم يعد يغمض جفنيه ولايستطيع إغلاق شفتيه من صحّة هذا الخبر الذي جعله في بداية الأمر بين الرؤية الحقيقية والتخيّل ، والتساؤل هنا يدلّ على حيرة الشاعر .


كَـــأَنَّ حِـــوَارَ الـــوَأْمِ حَـــارَاتُ نِــقْــمَــةٍ
وَكَــبَّــلَ سُـــوقَ الـــرَّأْمِ حَــظْــرُ الــتَّــجَــوُّلِ

معاني الكلمات :
الحوار : هو الحديث الذي يجري بين الشخصيات
الوأم : أي الموافقة
حارات : هي حلة متصلة المنازل ومدخل ضيق للمنازل
نقمة : العقوبة والاستياء
السوق : هو الموضع الذي يُجلب إليه المتاع والسلع للبيع
الرأم : رأم الشيء أي لأمه وأصلحه .
الحظر : المنع
كبّل : أي قيّد

معنى البيت :
يقول الشاعر ، إن الحوارات بين الأشخاص التي تدور بطريقة ودية وتنشر الوئام تكون مع اختلاف الآراء منقلبة إلى نقمة في كثير من الأحيان ، ثم يأتي بخبر في العجز فيقول : إنّ الذي يُصلح أوضاع الناس وحالهم قد كُبّل بقرار من الحكومات بمنع التجوّل في الأحياء .

فما علاقة معنى الصدر بالعجز ؟

إنّ السوق الكبير الذي يُحسّن حال كثير من الناس الاقتصادي والاجتماعي ويجعل في المكان حياة وبركة وسير قد قُيّد بهذا القرار المفاجئ وهو (حظر التجول) ، فأصبحت البيوت تضيق صدورها بساكنيها وتلك الحوارات التي كانت تتوافق فيما بينها بمحبة ووداد انقلبت إلى الشعور بالاستياء والضيق والنكد .
ثم ذكر تشبيها مميزا ومناسبا جدا وهو أنه شبه الحوارات المتوافقة مع بعضها بعد تحولها إلى استياء ونقمة بالأحياء التي تكون حاراتها ضيقة ومنازلها متلاصقة مما يجعل هناك بعض التوتر والمشاكل بين ساكني هذه البيوت وقد تكون لأتفه الأسباب فتصبح قنبلة وعقاب بين المتحاورين ، وأداة التشبيه ( كأن) وهو من التشبيه البليغ .

( كأنّ حوار الوأم ، وكبّل سوق الرأم ) و ( حارات نقمة ، حظر التجوّل) كان تقسيما دقيقا .

وجناسا بديعا بين (الوأم والرأم) الذي يدل معناهما على أمر حسن من الموافقة والإصلاح .

وأما ( حارات وحظر) فكلمتان تدلان على تضييق كل وسيع وهو أمر سيء للناس الذين اعتادوا الحرية ولايطيقون أمر التقييد .

( والحوار والسوق ) هما متناسبان حيث أنّ كلا منهما يرسمان معنى الانفتاح على الحياة والانطلاق والتطور ، فالسوق يُنمّي الاقتصاد ومهارات البائعين والمشترين ، والحوار يزيد من تفتق فكر المرء ويكسبه مهارات عديدة من ناحية زيادة الثقافة ومن ناحية السمات التي تظهر في المحاور المتفتح في نقاشه وأفكاره المرن في تعامله والذكيّ المحترم في أسلوبه ، كل هذا ينميه الحوار عند الإنسان ، لذا هو متشابه في هذه الناحية من السوق يدخل إليه الكثير وقد يخرجون منه بما هو حسن ومريح ومفيد لهم يعجبهم أو بما هو سيء ويضيّق الصدر وينكّد عليهم فبالتالي يصبحان نعمة على من يدخلها أو نقمة عليه ،في الربح والخسارة من جهة المال في السوق ومن جهة الثقافة والتطور العلمي والنماء الفكري في الثاني .



ابنتكم / براءة الجودي



بارك الله بك ابنتي االغالية براءة اسما ومعنى ... وأشكر لك جهدك الكبير والكريم هنا في سبر غور قصيدة من قصائدي العميقة الصعبة والتي أسعدني أنك وفقت للكثير من المواضع فيها ولكن غم عليك الكثير بل ولعلك خلطت في معاني المفردات في بعض مواضع فالإبسال مثلا غير البسالة والصاب غير الصبا والسوق جمع الساق غير السوق الذي يباع فيه ويشترى ... إلخ.

أكرر اعتزازي بجهدك وبرأيك أيا كان وأشكر لك قراءتك السامقة وردك الراقي ورأيك الكريم !
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!




تقديري

لمى ناصر
06-03-2021, 08:07 PM
موجعة حد الفقد...كلمات مؤثرة
كتبت فأوجعت الروح
سلمت أستاذي.

د. سمير العمري
08-11-2021, 02:37 AM
عندنا في ثقافتنا في مصر إذا أردنا أن نشير إلى شيء بالغ الجمال نقول : ( جاحد أو مجرم ) وليس هذا من باب الإساءة إلى الشيء ، بل من باب المحسن البديعي المشهور ( تأكيد المدح بما يشبه الذم ) . عمل مجرم . فيه سلاسة التركيب مع عمق الرؤية وثراء الصور الخيالية . أنعم الله عليك بأعمال تأسر القلوب كالعادة دائما أتعلم منك سيدي الكريم .

بارك الله بك أيها الشاعر الكريم والغالي الحبيب وأشكر لك قراءتك السامقة وردك الراقي ورأيك الكريم !
وأعلم وأفهم ما يقصده الأحبة في مصر ويسرني ما قلت فدام دفعك!
ودمت بخير وعافية!




تقديري

ناريمان الشريف
08-11-2021, 09:25 PM
خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةًhttps://www.rabitat-alwaha.net/clear.gif

https://www.rabitat-alwaha.net/clear.gifتُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي

خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَـدْ صَــارَ غُــرْبَــةًhttps://www.rabitat-alwaha.net/clear.gif

وَفِــي لَـحْـدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْـزِلِــي
اقتبست هذين البيتين من هذه اللامية العريقة وحقها الاقتباس كلها
صادقة العاطفة شجية المعاني لغة كبيرة تستحق شهادة أيزو
لا أكاد أضاهيها رداً أو تعقيباً
شكراً على الإمتاع
وأزكى تحية ... ناريمان

د. سمير العمري
06-06-2023, 01:56 AM
رحم الله الوالدة الكريمة وظللها بظلال جنته الوارفة وجزاكم فضيلة الصبر والسلوان وأقول كما قيل قديما(ما مات من رثي بهذا الرثاء)
اخي شاعرنا الكبير الدكتور سمير
حقا انها معلقة رثاء رائعة فدمت شاعرا قديرا
احترامي ومحبتي

بارك الله بك أيها الشاعر الكريم والغالي الحبيب وأشكر لك قراءتك السامقة وردك الراقي ورأيك الكريم !
رأي أمثالك من الشعراء الكبار هو مما ألتفت إليه وأعتز به فشكرا لقلبك ودام دفعك!
ودمت بخير وعافية!


تقديري