تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أمي ،،، وحلاوة التوت



محمد نديم
15-09-2022, 05:59 AM
.
كنت أتجول بين حقول بلادي ،ونخيلها والبساط الأخضر ممتد لمسافات ، خامره نسيم غض ، صحى لتوه من غفوة الضباب البريء،كنت أشعر بأن نافذة في طرف وجداني قد فتحت مصراعيها على ذكريات طفولة مررت بها هنا ، بين سماء زرقاء وطير تراوح بين الشجيرات وحافة النهر الصغير ، وكتاب تاريخ أدرسه بحب جارف ، كان نافذة أخرى لي أطل بها إلى مستقبلي الغرير. والشغب الطفولي يشدني نحو شجرة التوت أرنو إلى سكرها وألوانها التي تطبع ملابسي النظيفة، كنت أنهي درسي بدقة ، كي تكون شجرة التوت هي الجائزة .
كانت جماعات الفلاحين ، بمواشيها وصبيانها وصباياها، تلقي على السلام ( كيف أنت يا أفندي يا صغير ؟ شد حيلك وانجح ، وسنحصل على الحلاوة من الشيخ علي ).
رائحة تراب الحقول الخضراء، التي رويت لتوها،ذلك العبق الحميم إلى صدري يملأني فخرا وإقداما . تلملم الشمس عيالها لتعود لتشرق في مكان آخر رحيب ، وأعود معها إلى بيتنا ، حافظا لدروسي بدقة متناهية . لأجد أمي هناك على طرف أريكتها ، تعيد رتق الجوارب ، وما أفسدته عملية الغسيل ، من زر سقط هنا أوجيب تفتق هناك .
ترمقني بنظرة معاتبة : لونت ، بشقاوتك المعهودة ، ملابسك بألوان التوت مرة أخرى؟ !!!! أحاول مشاغلتها عن جريمتي بأن أردد بنود ما درست، لأثبت لها أنني لم أكن ألهو ، تبتسم بود وتبدل لي قميصي النظيف المغموس في حلاوة التوت ، وتعد لي ( المكرونة التي أعشقها ).
عدت من وعثاء غربة طالت؛ بحفنة من نقد أجنبي ،وشيب يكسو رأسي، وذكريات مؤلمة.
عيون الفلاحين المارين الآن بجواري منكسرة ذابلة ، وخطاهم مبعثرة على جوانب الطريق الترابي المتعرج ، وامتداد الحقول تقلص ، بين ناطحات سحاب أسمنتية قاسية الملامح، أشق طريقي بصعوبة بين سيقان أسمنتية عملاقة، وصخب أغنيات فجة . وغصة تسد حلقي٫ ودمعات حبيسات تطل من شرفات عيوني.
.أعود إلى بيتنا ، حيث أبي قد غاب، في غيابي ، بلا عودة ، وأمي يلازمها ألم المفاصل ، ووجع العمود الفقري. أحاول أن أتذكر بنود درس التاريخ وصوره الباهتة .وقميصي الفاخر المستورد ، ليس عليه أثر لألوان التوت ، ولا حلاوته في وجداني العجوز، أشمر عن ساعدي الواهن لأعد لأمي وجبة العشاء،أشاحت بيدها ،فلم تجد في نفسها رغبة في طعام ، تناولت دواءها بعد تمنعها المعتاد ، ودعت لي دعوة حارة ، ثم غطت في سبات عميق.
.

عبد السلام دغمش
27-09-2022, 02:23 PM
الأستاذ محمد نديم ..

نص جميل .. وارتحال بين زمن الصبا بحلاوته وبساطته إلى خريف العمر حيث الجفاف يبسط رداءه على العواطف والناس ..
كانت رحلة ممتعة بين اجواء النص المعبر ..
تحياتي .

ناديه محمد الجابي
16-10-2022, 11:56 AM
ذكريات حميمة عن طفولة سعيدة حلوة كحلاوة التوت
ومقارنة بين ما كان وما أصبح عليه الريف من تقلص للحقول ، وامتداد
للمساحات الأسمنتية ، وتبدل للأحوال في سرد واقعي يقدم فكرا بحس عميق
جميل المضمون ليعبر بذكاء عن أثر الزمن في الإنسان والبيئة بأسلوب أدبي مكثف.
تحياتي وتقديري.
:v1::0014:

سحر أحمد سمير
26-10-2022, 07:48 AM
نتعلم من الأم أعقد و أبسط الأشياء بالمعايشة ما لم نتعلمه من غيرها ، و نجدها في داخلنا ببصمتها و إن تباعدت بيننا المسافات بسبب الاغتراب أو الفراق ..
للزمن دروس و مواعظ بعضها يركن إلى الإيناس بأطياف الماضي ..
قص ماتع ..رائع و أكثر..
دمت بكل خير و عافية

محمد نديم
13-02-2023, 06:30 PM
أ. نادية
أهلا بحرفك الراقي هنا.
تحياتي لاهتمامكم بأحرفي.
دمت بألف خير

محمد نديم
13-02-2023, 06:32 PM
أ. سحر
نعم الأم هي من يمدنا بمخزوننا الثقافي والإنساني من القيم الرائعة.
تحياتي لحضوركم الأبهى.

أسيل أحمد
15-02-2023, 07:57 PM
تأخذنا الذكريات إلى عوالمنا التي انطفأت برحيلنا ، فإذا رجعنا ألى الأماكن التي شهدت
طفولتنا تتدفق الذكريات ممتزحة بمشاعر الأنتماء وحب الوالدين والأرض والأهل
وباسم الحرية زحف المواطنون على الأراضى الزراعية ليحولوها إلى غابات أسمنتية
لتصبح زراعة الخرسانة بديلة لزراعة المحاصيل. ليزحف البوار على الأرض الزراعية
وغصة تسد الحلوق٫ ودمعات حبيسات تطل من شرفات العيون.
سرد متقن سلس بأفكار راقية أبدعت في التعبير عنها.

محمد نديم
16-02-2023, 04:40 AM
أ. أسيل
نعم. استبدل الإسمنت بالزرع.وحصدنا رمالا في قيعان وجداننا.
تحية لوجودك العذب.