تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : السّر الدّفـين: كيف أنشأ الخليل نظامه العَروضي..؟



ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 12:21 AM
كيف أنشأ الخليل نظامه العَروضي فكان مترابطاً شاملاً..؟
( السّر الدّفـين )

هذا الموضوع "السر الدفين"، هو الجزء الثاني المكـمّـل لمقالتنا الأولى في رابطة الواحة التي بعنوان (هل عقلية الخليل عقلية رياضية..؟). فهي تعد امتداداً لها، فلا يمكن فهم بعض العبارات في هذه المقالة الجديدة فهماً صحيحاً، إلّا بالاطلاع على الجزء الأول منها.

تاريخ نشر هذه المقالة: 18- 4 - 2023

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 12:27 AM
( 1 )

حتى نستطيع بيان السّر الدفين الذي جعل نظرية الخليل العروضية مترابطة ومتينة وشاملة، والذي يعرفه الخليل أيضاً؛ لأنه سبب ظهور الجزء أسّ نظامه، مع شرط صـحته الذي ظل ملازماً له في كل نظامه (ظن عازم). هذا السر الذي أفرزَ بالمعيّة - ودون تقصّد من الخليل- ظاهرة التقليب بكلا نوعيها، أي التقليب الثابت والتقليب المتحرك على حدّ وصف محمد العلَمي؛ هذه الظاهرة التي فُـتِن بها البعض كما رأينا. وهو نفس السر الذي جعل الكل عـاجزين عن الإتيان بنظرية صوتية عروضية أقوى من نظرية الخليل، أو حتى مساوية لها في القوة.

فليس هناك أقوى من نظرية الخليل العروضية إذا غابت نظرية قضاعة عن الساحة الصوتية والعروضية..! هذا على حدّ زعم صانعها طبعاً (أبو الطيب القضاعي)، وهو زعمٌ لا ألزم به أحداً إلّا نفسي ومن تبعني. وإذا اشتركَ بعد ذلك ذوي النباهة والمعرفة بهذا الزعم، فسوف يثبت هذا الزعم لعروض قضاعة في الساحات الصوتية والعروضية؛ إذا شاء له الله ذلك طبعاً؛ فصحة الفكرة وقوتها ليست الشرط الوحيد لهيمنة الفكرة على الساحة المعنية، فما لم يقدر الله أتباعاً للفكرة يحملونها عن صاحبها، فستظل حبيسة كُتب صاحبها.

فأبو الطيب يشهد بأن نظرية الخليل العروضية هي نظرية مترابطة وشاملة، حتى لو شابها انتقادات كثيرة. ولا احد ينكر أن نظام الخليل العروضي قد كان لَبِنة ناقصة في بناء علوم العربية، قد فطن الخليل لنقصانها من البناء فشيّدها على ما اجتهد. وليس الذنب ذنبه إن لم يأت أحد ليستلم الراية منه. فهو يستحق الشكر لفطنته على اللبنة الناقصة من البناء وإقامتها، فمنعت العابثين من إفساد بضاعة العرب [الشعر بضاعة العرب]؛ فجزى الله الخليل خيراً، فرُبَّ مُبَلـَّـغٍ أوعى من سامع.

لكن النظريات عموماً، بما فيها نظرية الخليل العروضية ونظرية قضاعة، بل وحتى النظرية النسبية لانشتاين في الفيزياء، جميعها تقبع في خانة الظن لا في خانة اليقين، لكن شتان شتان بين ظنّ منخفض القيمة قام على دلائل وقرائن مهزوزة ومفككة، وبين ظن مرتفع القيمة قام على دلائل وقرائن قوية ومترابطة، كنظرية الخليل ونظرية قضاعة. ومع أن صاحب عروض قضاعة قد اتكأ على جُهد الخليل الجبار في صقل بنيان نظامه العروضي، وهو أمر أدين فيه للخليل، لكن علم عروض قضاعة في كشفه لحقيقة الإيقاع العربي، هو مؤيد بدلائل وقرائن أقوى من التي في نظرية الخليل، وترابط مكونات نظرية قضاعة أقوى من ترابط مكونات نظرية الخليل.

فعلى الرغم من اشتراك نظرية الخليل ونظرية قضاعة في أن كلّاً منهما معنِـيّ بنظم شعراء الجاهلية ومَن هُم في حكمهم حتى عصر بين الدولتين؛ إلّا أن هناك اختلافاً جوهرياً في البُنيان الذي قام عليه كلّ من العلمَين، فعروض قضاعة قد قام على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب. وهذا بعكس نظام الخليل الذي قام على قدر ما وصل للخليل من قوالب شعر العرب، فهذه القوالب هي ما شكلّت نظامه ككل، بحيث إذا استدرَك عليه قالب لا مكان له فيه، تضعضع نظامه ووصف هذا القالب بالشذوذ كما هو معروف.

وقيام نظام قضاعة على ما ذكرنا، هو سبب قدرة أبي الطيب أكثر من غيره على كشف السر الدفين المشار إليه. فأبو الطيب قد تعاملَ مع المادة الخام التي تعامل معها الخليل، ثم هضمها هضماً عميقاً، ثم تفرّس في نظرية الخليل التي سبق وجودها وجود نظرية قضاعة، فنظر كيف تعاملت نظرية الخليل مع هذه المادة الخام؛ فتكشّف له بعض ثغراتها التي لم يكشفها غيره. ثم بدأ البحث في العروض من الصفر تقريباً، متخلياً عن الآراء المسبّقة. وكان نتيجة ذلك هو انبثاق نظرية قضاعة التي تفوّقت على نظرية الخليل بمراحل. وما كان ذلك إلّا لأن أبا الطيب القضاعي قد خرج على أساسات نظرية الخليل الصوتية والإيقاعية؛ فمن سيظل مرتهناً لها فسيظل دائراً في فلك الخليل رغم أنفه، حتى لو ادّعى عكس ذلك، وحتى لو استند على مقطع الأصواتيين الذي ملأ الدنيا جعجعةً من غير طحن..!

أقول: فحتى نستطيع بيان هذا السّر الدفين، فلا بد لنا من بعض المقدمات الضرورية عن حقيقة الإيقاع العربي بمنظور قضاعة، التي ستزيل من الأذهان بعض الآراء المسبّقة عند الشخص، كي نضمن أن يُفهم عنا حقيقة الكلام القادم كما أردناه. فبعض القراء قد يكونون متأثرين بمقولات علم أصوات اللغة المحدَث؛ هؤلاء الذين انقلبوا حتى على مفهوم الحرف الصوتي الصحيح في أصله. كما أنّ المتشبّع بتقريرات نظرية الخليل العروضية، لن يستطيع منع نفسه من مقارنة أقوالي بأقواله. ومن فُـتن منهم بالأرقام، استناداً على مقولة "عقلية الخليل الرياضية"، ومقولة " أن الذائقة العربية في وزن الشعر هي ذات صفات رياضية دقيقة مطردة"، فهذا عائق اكبر من جميع ما سبق. إضافة إلى عدم تفريق البعض [أو تعمّدهم لعدم التفريق..!]، بين التقديس الذي هو مذموم، وبين الاحترام والتقدير الذي هو واجب مستحَق عن جدارة للخليل رحمه الله، في رقبة كل عربي ومسلم.

فكل هذه المعيقات ستمنع الشخص من إدراك السّر الدفين المقصود، على الوجه الصحيح الذي يريد صاحب عروض قضاعة بيانه. فهذا السر الدفين هو من مكتشافات نظرية قضاعة العروضية، التي تفوّقت على نظرية الخليل بأشواط كثيرة كما قلنا. وبالتالي، فلا بد من حضور بعد المفاهيم الضرورية في عروض قضاعة، برفقة المصطلحات الضابطة لها فيه؛ لينفتح المجال أمامنا دون معوّقات معرفية وفكرية، كي نتحدث عن هذا السّر الدفين المشار إليه.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 12:54 AM
( 2 )

الآن وبعد تلك المقدمة الضرورية نقول: قد سبق لنا وأن قلنا بأن الخليل وأبا الطيب يقرّان بوجود واقع الدائرة، لكنهما يختلفان في ماهيتها في عروض شعر العرب (يختلفان في مفهومها). فمفهومنا للدائرة الإيقاعية العربية يختلف عن مفهوم الخليل عنها؛ فالدائرة بما أنها كيان إيقاعي في الأصل، فيجب أن تُقرأ على أساس المكوّن الإيقاعي الذي يؤلّفها، وليس على أساس المكوّنات الصوتية التي تتألّف منها هذه المكونات الإيقاعية، على ما هو الحال في دوائر نظام الخليل المقروءة من الوتد والسبب.

فالدائرة بمفهوم قضاعة هي امتداد لا متناهي من الأنساق المنتظمة التكرار من كلا الطرفين؛ بحيث لا يزيد التكرار فيها عن نسقين، وإلّا فهي ليست دائرة عربية. (ظن عازم). فعروض شعر العرب برأي أبي الطيب، لم يقم على الأجزاء إنما قام على ثلاثة أنساق عُقدية [(نسق الفتلة لا نعم)- (نسق القنطرة لا لا نعم)- (نسق العنقاء لا لا نعم)]. وعلى ذلك، فليس للدائرة العربية طول كما افترض الخليل في دوائره الهندسية، إنما الطول هو للسلاسل المقتطعة منها (ظن عازم)؛ فهناك أحكام اقتطاع للسلاسل من الدائرة العربية، مهما كان طول السلاسل، قد راعاها العرب بشكل مدهش كما سنرى بعد قليل.

فإذا مُثِّلت هذه الأنساق على هيئة دائرة، فهي حرّة الدوران في كلا الاتجاهين. كما في هذا الشكل عن دوائر العرب العُقدية الأربع بنظر نظام قضاعة، والتي يسميهما عروض قضاعة من باب التسهيل، على اسم أول بحر اشتُق منها بحسب أطول نسق مؤلّف لها. فدائرة الرجز ودائرة البندول، وكذلك دائرة قحطان التي حلّت محل دائرة المشتبه المرفوضة في عَروض العرب، تقتصر على نسق واحد في تأليفها. أمّا دائرة البسيط فهي تتألف من نسقين مكررين بانتظام.

1430
https://photos.app.goo.gl/F1WhoEwp5vMCX8ck8

1431
https://photos.app.goo.gl/6RTAvRYczNhLHPas8

فدائرة الرجز تقتصر على نسق القنطرة في تأليفها، فيكون بحر الرجز هو أول بحورها. والكامل والوافر ضمن دائرة الرجز، لأن الإيقاع الأولي بين الكامل والرجز من جهة، والوافر والهزج من جهة؛ هو إيقاع أولي مشترَك بينهما كما قلنا من قبل، والقانون الصوتي العامل في كل اثنين منها هو ما سيفرّق بينهما (التكافؤ والخبب)، على تفصيل خاص ليست هذه المقالة مكانه.

ودائرة المشتبه التي حكم عروض قضاعة بأنها ليست دائرة عربية، فقد حلّت محلها دائرة قحطان التي تقتصر على نسق العنقاء في تأليفها، فيكون (بحر قحطان) بديل المقتضب، هو أول بحورها لكونه يبتدئ بعنقاء. ودائرة البندول التي منها المتقارب، تقتصر على نسق الفتلة في تأليفها، فيكون بحر البندول الذي طرحه الخليل من نظامه كبحر حَي، كما قلنا وبسبب ما قلنا، هو أول بحورها. أمّا دائرة البسيط فهي تتألف من نسق القنطرة ونسق الفتلة مكرّران بانتظام، فيكون البسيط هو أول بحورها.

وإذ تلاحظ، فإن شرط انتظام تكرار الأنساق في الدائرة هو شرط ضروري؛ سواء كانت الدائرة الإيقاعية عربية أم غير عربية. فلولا ذلك لَما استحقت دائرة المشتبه وصفنا لها من قبل بكونها دائرة إيقاعية بالمعنى العام؛ مع أنها ليست دائرة عربية كما قلنا. فأنساقها الثلاثة المؤلّفة لها مكررة فيها بانتظام فيما لو تابعت الدوران على دائرة المشتبه الهندسية لمرتين على الأقل. أمّا شرط أن لا يزيد التكرار في الدائرة عن نسقين وبانتظام، فهذا الشرط إنما يميز الدوائر الإيقاعية العربية عن غير العربية.

1432


وبما أنّ الدائرة الإيقاعية في شعر العرب هكذا هو حالها بنظر أبي الطيب، وأنه لا طول لها إنما الطول هو للسلاسل المقتطعة منها كما قلنا. فإنّ هناك أحكاماً لاقتطاع السلاسل من الدائرة العربية، قد راعاها العرب بشكل مدهش كما قلنا؛ من ضمنها الحدّ الأدنى لطول السلسلة المحقق للسقوط الإيقاعي على الدائرة (قواطع البحور). وهذه الأحكام هي ما حافظت على أن يكون انتظام الأنساق في الدائرة منعكساً في السلاسل المقتطعة منها، في أيّ طول للسلسلة حقّق ذلك. فإذا لم تكن كذلك فهي ليست سلسلة عربية، حتى لو أمكن إسقاطها نظرياً على الدائرة العربية بطول التام القياسي..!

فالمعوّل عليه في انتماء السلسلة لنظام العرب، سواء كسلاسل قياسية تامة، أو كسلاسل أقصر طولاً من طول التام؛ هو السقوط الإيقاعي للسلسلة على الدائرة العربية المستعملة (1)؛ على اعتبار أنّ الدائرة هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب (ظن عازم)، وليس أنها مجرّد حقيبة لتجميع عدة بحور معاً كما هو حالها في نظام الخليل.

(1): قلنا أن من أحد شروط كون الدائرة عربية أم ليست بعربية، غير شرط انتظام تكرار الأنساق فيها طبعاً، هو أن لا يزيد تكرار الأنساق فيها عن نسقين. وبناء على هذا الشرط الصحيح، فيمكن وجود دائرتين عربيتين تدخل العنقاء فيهما. فإذا جمعنا نسق العنقاء مع نسق القنطرة وكررناهما بهذا الانتظام، ستنشأ دائرة السراب العربية ثنائية النسق. أمّا إذا جمعنا نسق العنقاء مع نسق الفتلة وكرّرناهما بهذا الانتظام، فستنشأ دائرة الفراغ العربية ثنائية النسق أيضاً. لكن دائرتي السراب والفراغ دوائر مهملة وجوباً، أي لا يجب استعمالها مطلقاً على الرغم من أنها دوائر عربية (ظن عازم). وهذا هو سبب منحنا لها هذه المسميّات (الفراغ والسراب). وتفسير ذلك يتعذر في هذا الموضع. ولذلك استعملت في المتن عبارة "الدائرة العربية المستعملة"، وذلك لأخرج هاتين الدائرتين العربيتين المهملتين من الاعتبار.

فدوائر نظام الخليل لا تراعي سوى قضية الإسقاط النظري على الدائرة، فهي لا تستطيع مراعاة الإسقاط الإيقاعي حتى لو أرادت..؟ ذلك أن دوائر نظامه كما قلنا من قبل، موظّفة في نظامه كي تمنح الشرعية للأجزاء المنضوية فيها فقط؛ وسبب ذلك أنّ الجزء نفسه الذي هو الأداة الإيقاعية الأهم في نظامه، ليس له شرعية في ذاته كما قلنا ورأينا. وهذا ما جعل دوائر نظام الخليل في واقع الحال، أشبه بالحقيبة لتجميع عدّة بحور معاً في دائرة واحدة، في الصورة القياسية التامة فقط، الأمر الذي جعل دور الدائرة باهتاً في نظام الخليل على ما هو مشاهد. وحال دوائر الطريقة الرقمية للأستاذ خشان، لا يختلف كثيراً عن حال دوائر الخليل، فهي إنما نسخة رقمية عنها.

فبدون حضور واقع الدائرة العربية عموماً، فليس هناك أيّة ميزة لسلسلة عن أخرى، سواء كانت تامة الطول أو دون التامة، أليس كذلك..؟ ولو غابت فكرة الدائرة عن الساحة العروضية من منظور قضاعة على الأخص، مع غياب أحكام الاقتطاع الإيقاعية منها طبعاً؛ سيغدو أيّ تفسير لسبب اقتصار العرب على السلاسل التي مضوا عليها دون غيرها، لا حُجة قاطعة فيه لأحد على أحد. وحينها سيكون القول المقبول عقلاً أكثر من غيره المفسّر لذلك، أي عند غياب منظور قضاعة؛ هو القول بأن السلاسل المشابهة لسلاسل العرب القياسية، التي لم ينظم عليها شعراء العرب المعتَدّ بنظمهم؛ هي فقط لم يحالفها الحظ في أن تكون بحوراً، بما فيها ذلك المهملات القياسية التي أثبتها الخليل في دوائر نظامه..!

فالقول بأنّ السلاسل التي لا مكان لها في نظام الخليل لا تمثّل شعراً، حتى وإن أشبهت سلاسل العرب في بعض الأشياء؛ للالتفاف على هذا الإشكال؛ على ما قال الأخفش وتلميذه الزجّاج من بعده [(العروض للأخفش، ص 143 ، ت/ 221 هـ). (العروض للزجّاج، ص 120، ت/ 311 هـ)]. أو هي على الأقل تمثّل موزوناً لا شعراً على ما يقول الأستاذ خشان، والمعنى في الحالتين واحد. (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص 42، 245). فهذا القول لا يعفي الباحث العروضي من تبعيّة ما قلناه في الفقرة السابقة، فهذا القول منهم مؤسّس على نظرية الخليل القاصرة عن حصر السلاسل الممكنة الوجود على ما ظهر لنا، وقاصرة عن الحكم على السلاسل صوتياً وإيقاعياً، حكماً قاطعاً مريحاً للعقل والنفس، على ما أشرنا في مقالة سابقة لنا.

ثم أنّ هذا القول مجافٍ للصواب في ذاته تماماً، وهو ناتج عن ما استقر في الأذهان من أنّ نظم العرب الجاهليين ومن هم في حكمهم، هو أعلى طراز من النظم يطمح إليه الشاعر العربي في كل عصر؛ لكن مفهوم الشعر أوسع بكثير من مفهوم العروض. فمفهوم الشعر عموماً، هو استخدام جُمل اللغة المعينة في الشعر بأسلوب مثير للعواطف، غير الأسلوب العادي في الكلام. فالمتلقون للشعر المتذوقون له، في أيّ لُغة كانت؛ لا يقبلون من الشاعر أن يقول لهم ما يعرفونه بالطريقة التي يعرفونها، إنما هُم يتوقعون منه أن يقول لهم ما يعرفونه بطريقة لا يعرفونها (الجملة في الشعر العربي، ص 22- محمد حماسة عبد اللطيف). والشعر بمفهوم العرب موزون مقفّى، وعند غيرهم من الأقوام قد يكون موزوناً على شرط العرب وقد لا يكون. وعلى ذلك، فعند العرب شعر، وعند الأقوام غيرهم شعر؛ أمّا أنّ شعر العرب أعلى كعباً من شعر غيرها بسبب كذا وكذا، فهذا تفصيل إضافي لا يسلب استحقاق ما أنتجه غير العرب بهذا الشرط مسمّى شعر.

كما أنّ الإيقاع مجرّداً هو إيقاع كما قلنا من قبل، فأن تُبدع كشاعر سلسلة صوتية وتمضي عليها في كل أشطر قصيدتك، ودون إمضاء للقانونين الصوتيّيَن عليها [التكافؤ والخبب]، فهذا إيقاع سواء وافق نظم العرب أم لم يوافقها؛ وهذا التقرير صحيح أيضاً مع عَروض غير العرب. أمّا محاولة معرفة طبيعة القوانين الإيقاعية التي راعتها قرائح العرب، وصناعة نظرية عروضية مع مسطرة لها لقياس لذلك لأيّ سبب كان، فهذا إنما هو تأصيل وتقعيد لعروض العرب تمييزاً له عن غيره فقط. (2)

(2): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها: (الفرق بين الإيقاع المجرّد والإيقاع العربي، وأهمية العروض للعربية). وراجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها (صعوبة نظام الخليل وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه مُعلّمين أو مُتعلّمين)، فقد بينا فيها كيف أن نظرية الخليل قاصرة عن الحكم على السلاسل المستجدَة صوتياً وإيقاعياً.

والشعور والذوق لا يركن عليهما في الحكم العقلي على السلاسل أهي عربية أم غير عربية، فلو كانا هما طريق ذلك، لَما أجهد الخليل نفسه ولا أجهد أبو الطيب نفسه، في صناعة كل منهما لنظرية عَروضية تخصّصت بنظم شعراء الجاهلية ومَن هُم في حكمهم حتى عصر بين الدولتين؛ فأحكام هاتين النظريتين على السلاسل صوتياً وعروضياً، هي أحكام عقلية وليست أحكاماً شعورية. (3)
فالذوق ليس بمقياس معتبر، فها هي سلسلة الدوبيت غير العربية إطلاقاً، قد نظم عليها بعض الشعراء بعد الخليل، فاستساغ إيقاعه كثير من العرب قديماً وحديثاً..! لدرجة دفعت الدماميني بسبب غلبة الشعور عليه، إلى محاولة إلصاقها بنظام العرب غصباً؛ مستعملاً بعض تقريرات نظام الخليل الخاطئة بنظرنا، وفوق ذلك قد استعمل الدماميني هذه التقريرات بتعسف وتكلّف غير مقبول إطلاقاً؛ فادعى أنّ الدوبيت هو نفسه الوافر..! إنما قد أصاب كل أبياته الخرم والزحافات المختلطة المرفوضة بنظرنا (زحاف العقل وزحاف النقص). (الغامزة، ص 20)

(3): أي نعم أن تقدير مراتب الزحاف الثلاث في نظام الخليل (مرتبة الحَسن، والصالح، ومرتبة القبيح)، التي هي تعبير عن ناحية إيقاعية، قد خضع بعض تقديرها لذوق الخليل، أي للشعور؛ والبعض الآخر في تقديرها قد جاء استناداً على نسبة شيوعها في الشعر (دراسة في التأسيس والاستدراك. ص 143، محمد العلمي). فسواء اتفقنا مع فكرة مراتب الزحاف نفسها، ومع تقديرات الخليل لها أم اختلفنا معه فيها؛ لكن هذا كان على مستوى غلاف نظريته وليس نواتها. ثم أن هذا كان على مستوى الإيقاع الثانوي المزاحِف، وليس على مستوى الإيقاع الأولي غير المزاحف بعد. فمراتب الزحاف هي وصفٌ لمدى حُسن الزحاف أو قبحه في البحر المعين، وهي ثلاث مراتب في نظامه كما قلنا. فنواة نظرية الخليل هي الجزء والدائرة ومكونات الجزء الصوتية (الأسباب والأوتاد)، والزحاف والعلة المرتبطان بالأسباب والأوتاد ضمن الجزء. وما عدا ذلك في نظامه هو غلاف نواة نظريته، كالعروضة- الضرب - المجزوء - المنهوك - الاعتماد المعاقبة- المراقبة- المكانفة- الاعتماد- الخرم- التشعيث- ومراتب الزحاف]

وإرجاع الحكم على السلاسل القياسية المشابهة لسلاسل العرب في كونها سلاسل عربية أم غير عربية، إلى اللغة العربية، أي في كونها غير متفقة مع بناء الجملة العربية والكلام العربي. وهو رأي طرحه الدكتور حسني عبد الجليل في محاولة منه لتفسير سبب عدم نظم العرب على البحور المهمَلة في دوائر نظام الخليل (ميزان الذهب، ص 123، الهامش رقم 1 والهامش رقم 2). فمع أن البحور المهملة هي احد احتمالات السلاسل القياسية الممكنة الوجود وليس كلها، لكن ما سينطبق عليها بحسب رأي حسني عبد الجليل، سينطبق كذلك على باقي احتمالات السلاسل القياسية المشابهة لسلاسل العرب، الممكنة الوجود عن غير طريق الدوائر.

لكن رأيه هذا أُقدّره بدرجة الظن الغافل، لأن واقع البحور المهملة في الدوائر الإيقاعية محسوس تماماً، وكونه لم ينظم عليها أحد من الشعراء العرب المعتَد بنظمهم، هو أيضاً واقع محسوس. إنما إرجاع السبب في عدم استخدام العرب لها لكونها ليست متفقة مع بناء الجملة العربية، فهذه ركيزة مضللة ومرفوضة عقلاً. فمناط البحث هنا هو بحث إيقاعي ولا دخل للغة العربية بذلك إطلاقاً؛ فاللغة العربية مرنة جداً، فهي تستطيع التلبّس بأيّ إيقاع تريد، وها هي قد تلبّست بالدوبيت غير العربي.

ولذلك، يجب البحث عن سبب معقول لتفسير ذلك غير ما ذكر حسني عبد الجليل. وهذا السبب المعقول يجب أن ينحصر بسبب إيقاعي فقط، أي هل هذه السلاسل القياسية التي لم تحظ بشرف نظم العرب عليها، محقّقة لشرط العرب الإيقاعي أم لا. ولا سبيل إلى الحكم على ذلك بموثوقية عالية، إلّا بحضور فكرة الدائرة العربية لأنها هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب؛ فبدون حضور واقع الدائرة العربية عموماً، وعلى الأخص فكرة الدائرة بمنظور قضاعة، فليس هناك أيّة ميزة لسلسلة عن أخرى كما قلنا.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:08 AM
( 3 )

ففكرة الأنساق العُقدية الثلاثة هي فكرة إيقاعية، مثلها مثل فكرة الأجزاء العشرة الإيقاعية بنظر الخليل، هذه التي حاولت ترجمة هذا التكرار المنتظم للأنساق في دوائر العرب وفي السلاسل المقتطعة منها؛ لكنها فشلت في ترجمتها الترجمة الصحيحة. فالأنساق شبيهة بها من حيث كونها تسلسلات وليست سلاسل، ومن حيث كونها كيان إيقاعي حتى لو تألّف من مكوّنات صوتية في ذاتها.

فإنه وإنْ كانت السلسلة الصوتية في الشعر العربي لها تأثير إيقاعي بمجملها، لكن هذا التأثير الإيقاعي لها لم يحصل إلّا بسبب التكرار المنتظم للأنساق الإيقاعية التي تتألف منها السلسلة في الشعر العربي. وليس بسبب التكرار المنتظم للمكوّنات الصوتية المؤلّفة للأنساق فيها فقط، أو حتى للمكوّنات الصوتية المؤلّفة للأجزاء فقط؛ مهما كانت رؤية كل باحث صوتي أو عَروضي لهذه المكوّنات الصوتية؛ أهيَ سببين ووتدين بنظره، أم حروف متحركة وساكنة فقط، أم وحدات صوتية، أم مقاطع أصواتية، أم كانت أرقاماً جوفاء..!

وبالتالي، فمن يتعامل مع السلسلة كاملة من خلال الاقتصار على علاقة الأوتاد بالأسباب فيها، معتبراً أنّ السلسلة بمجملها هي نفسها الكيان الإيقاعي، أسوة بما هو حالها في دوائر الخليل؛ فهذا خطأ فادح شنيع، لا يمثّل فكرة الإيقاع نفسها، ولا يمثّل كذلك حقيقة الإيقاع في عروض شعر العرب. وبالتالي هو لا يمثّل حتى فكر الخليل ومنهجه العروضي الذي انتبه لهذا الأمر، فالخليل في نظامه قد اختار فكرة الجزء لتقطيع السلاسل فقط، وليس لتقطيع الدائرة بالأجزاء.

فدوائر نظام الخليل، وبسبب من طبيعتها [ماهيتها]، لا يمكن قراءة إيقاعها من خلال الأجزاء، على ما حاول أن يجتهد أبو الحسن العروضي وغيره؛ فكانت محاولته في منتهى التعقيد على عكس مراد الخليل (الجامع في العروض والقوافي، ص 242). (انظر الرسم لترى كيف هي محاولته)

1433
https://photos.app.goo.gl/zDwrbg6c6nC1bT1r7
(دائرة الطويل (المختلف) كما صورها أبو الحسن العروضي)

1434
https://photos.app.goo.gl/ACeqje4fFSxVpiH27
(دائرة المشتبه كما صورها أبو الحسن العروضي)

فدوائر نظام الخليل إنما تُـفك فقط من خلال الأوتاد والأسباب المتموضعة على محيط دوائره الهندسية [وليس تُقرأ إيقاعياً منها]. وهي تُفك بداية من المكون الصوتي الذي حدّده الخليل عليها، وهو غالباً وتد مجموع مربوط بالبحر الذي هو أصل الدائرة..؟ ذلك أن دوائره مصمّمة لتفرز سلاسل قياسية محدّدة الطول مسبّقاً، وبالتالي هي لا تستطيع حتى لو أرغمتها؛ على أن تتوفر على أحكام اقتطاع إيقاعية كالتي في نظام قضاعة كما سنرى بعد قليل، هذه التي راعها العرب عند الاقتطاع من الدائرة في جميع الأطوال، وليس فقط للطول القياسي.

ومعظم الرقميين ارتكبوا هذا الخطأ الشنيع في النظرة للإيقاع، أي عاملوا السلسلة بمجملها على أنها هي نفسها الكيان الإيقاعي، مهما كان طولها. يأتي على رأسهم الأستاذ خشان صاحب الطريقة الرقمية الأشهر؛ فقد اقتصر في طريقته على تكرار المكوّنات الصوتية التي قالها الخليل للجزء على طول السلسلة؛ أي ألغى التفاعيل [أو ألغى الحدود بين التفاعيل بحسب تعبيره] (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص: 22- 24، 236)، (منظومة الخليل لعلم العروض، خشان، ص 5- 13).

وهو يحسب بذلك انه يشرح منهج الخليل بعيداً عن وَهْم التفاعيل، تمثيلاً منه لفكر الخليل الرياضي الشمولي بزعمه. وظن بهذا الصنيع أنه ما زال وفِـيّـاً لمنهج الخليل الذي لم يكشفه احد غيره..! فلو كان الأمر كما ظن الأستاذ خشّان ومعظم الرقميين، لاقتصر الخليل على رواية التنعيم الساذجة في تأصيل سلاسل العرب، هذه التي استفاد منها الخليل بداية صنعه لنظامه (4)؛ طبعاً مع إجراء بعض التطوير البسيط عليها لتحقيق هذه الغاية البسيطة..! (ظن ثاقب)

وصنيع الرقميين هذا عند العارف ليس بمستغرب، ذلك أنّ الهدف النهائي والأوحد لجميع الطُرق الرقمية في العروض - حتى لو ادّعى الرقميون عكس ذلك- هو فقط تسهيل الاستدلال على البحر أو على قالب معين فيه؛ هذه التي يعاني منها متعلّمي نظام الخليل الصعب بطبعه، بسبب أنّ شعر العرب به وجهي إيقاع، أولي سالم من الزحاف، ووجه ثانوي مزاحف. وهذا الهدف لهم لن يتحقق لهم إلّا بهذا الصنيع، فالجزء وحده ليس طريق معرفة ذلك، لكونه بعض من السلسلة لا كلها، ولأن الجزء حمّال أوجه كثيرة؛ خاصة مع دخول الزحاف والعلل المربوطة بدوائر الخليل على الخط.
والدليل على ذلك أنه ليس خشان وحده من فعل هذا، بل فعله كذلك احمد مستجير ومحمد طارق الكاتب؛ وهما على ما أشرنا من قبل، أصحاب طُرق رقمية قبل طريقة خشان الرقمية. أمّا طريقة الشيخ جلال الحنفي الرقمية (1978م)، فمختلفة تماماً عن هذه الطُرق، فهو إنما منح الأجزاء أرقاماً، في صورتها السالمة والمزاحفة والمعلولة، وهو بالمناسبة لا يقيم للدائرة كثير قيمة في طريقته هذه. (العروض تهذيبه وإعادة تدوينه، ص 39- 58).

(4): رواية التنعيم، واستفادة الخليل منها بداية صنعه لنظامه: قال أبو بكر محمد القضاعي: {وتكاد تجزئة الخليل تكون مسموعة من العرب، فإنّ أبا الحسن الأخفش روى عن الحسن بن يزيد أنه قال: سألتُ الخليل بن أحمد عن العروض، فقلت له: هلّا عرفت لها أصلاً..؟ قال: نعم، مررتُ بالمدينة حاجاً، فبينما أنا في بعض طرقاتها، إذ بصُرت بشيخ على باب يعلّم غلاماً، وهو يقول له، قُل: نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم نعم ... نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم لا لا. قال الخليل: فدنوت منه فسلمت عليه، وقلت له: أيـّها الشيخ، ما الذي تقوله لهذا الصبي..؟ فذكر أنّ هذا العلم شيءٌ يتوارثه هؤلاء الصبية عن سلَفِهم، وهو علم عندهم يسمّى(التنعيم)؛ لقولهم فيه: نعم. قال الخليل: فـحجَجتُ ثم رجعت إلى المدينة فأحكمتُها}. (دراسة في التأسيس والاستدراك لمحمد العَلمي، ص 37).

ولست الوحيد الذي يقول بأن الخليل قد استفاد من رواية التنعيم بداية صنعه لنظامه. فهناك كثر قالوا بذلك، يأتي على رأسهم الدكتور محمد العلمي، فقد قال: {وعصر الخليل كان عصر وضع العلوم العربية، ولم يكن العروض بدعاً من غيره من العلوم. **، ولا شك أن الخليل حين وضع علمه، لم يبنه من فراغ، ذلك أن التنعيم أو المتير اللذين سبقت الإشارة إليهما، يمكن أن يكونا الأساس الذي بنى عليه عمله، خصوصاً انه يصرّح بأن أصل العروض هو ما وجده عند الشيخ الذي يعلم صبية. فقد يكون التنعيم هو الذي بعثه على التفكير في أصل نظامه} (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 60). والدكتور سيد البحراوي قال بذلك أيضاً في مقدمة تحقيقه لكتاب العروض للأخفش (العروض للأخفش: ص 129)؛ وكلام البحراوي عن هذا الأمر قريب من كلام محمد العلمي السابق الذكر. أقول: وليس عيباً أو قدحاً في المرء أن يستفيد من إشارات من سبقه، فالعلوم البشرية علوم تراكمية بطبعها، فأبو الطيب أيضاً قد استفاد من رواية التنعيم واستفاد من نظرية الخليل في نفس الوقت، فعروض قضاعة تخلّقَ في رَحِم عَروض الخليل ثم خرج مولوداً جديداً لا صِلة له بأُمّه. بل أن من الشروط العقلية والاجتماعية والأكاديمية، الواجبة على من يأتي نظرية جديدة في أيّ موضوع، أن يبين ضعف وثغرات النظرية السابقة في الميدان، التي تعرضت لنفس الموضوع؛ وهذا ما فعله أبو الطيب القضاعي.

فحتى الوتد المفروق والسبب الثقيل الذين قالهما الخليل، كمكوّنات صوتية بنظره وليس كمكوّنات إيقاعية في نظريته العروضية، قد كان الجزء ذو القيمة الإيقاعية هو سبب مولدهما في ذهن الخليل وفي نظامه العروضي، وليس السلاسل الصوتية هي سبب مولدهما في ذهنه. وقد ظلّا موجودين في طريقة خشان الرقمية التي ألغت التفاعيل فزالت الحدود بين التفاعيل في طريقته..! (العَروض رقمياً، ص: 29، 32 للسبب الثقيل، وهو يعترف بالوتد المفروق على استحياء تحت مسمّى "التوأم الوتدي"، ص 95).

فالوتد المفروق كان لأجل أن نظامه لا يحتمل التجزيء التساعي كما قلنا ورأينا. أمّا السبب الثقيل في نظامه فقد كان لأجل فصل الكامل عن الرجز والوافر عن الهزج؛ على مستوى جُزئَـيّ الكامل والوافر (متَفاعلن // - /0 - //0، مفاعلَتن //0 - // - /0)؛ وليس على مستوى السلسلة الصوتية لهما بطولها على ما ظن البعض، حتى لو بدا ظاهر الأمر هكذا. فكلّ اثنين من هذه البحور الأربعة يشتركان بإيقاع أوّلي واحد كما قلنا؛ مع أنها بحور مختلفة عن بعضها في واقع الشعر.

فلم يستطع الخليل في ظلّ الأساسات التي ينطلق منها في نظامه، الفصلَ بينها إلّا برابط السبب الثقيل المزروع في جُزئَـيّ الكامل والوافر، وليس المزروع في سلاسلهما. فبالزحاف الذي سيسكّن ثاني السبب الثقيل في كل من هذين الجزأين، سيتحوّلان إلى نفس تنعيم جُزئَـيّ الرجز والهزج (متْفاعلن = مستفعلن /0 - /0 - //0 وَ مفاعلْتن = مفاعيلن //0 - /0- /0)، اللهم أنها في الرجز والهزج ستكون صورة قياسية لهما، وستكون في الكامل والوافر صوراً ناتجة عن صور مزاحفة للجزء القياسي لكل منهما، أي بزحاف الإضمار والعصب.

ولنظام قضاعة طريقته المميزة في الفصل بين هذه البحور الأربعة دون حضور كائن السبب الثقيل المتوهَّم؛ ويتعذر الحديث عن ذلك في هذه المقالة.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:11 AM
( 4 )

فلا وجود لكائن الوتد المفروق وكائن السبب الثقيل في أنساق عروض قضاعة، ولا في السلاسل المقرّرة فيه؛ ذلك أنّ السلاسل الصوتية تقوم على الوحدات الصوتية النوعية برأي أبي الطيب، وليس على الحرف الصوتي بكلا شقيه، ولا على فكرة المقطع البائسة [Syllable]. وما دام أنّ الأمر كذلك، فحتى الأنساق بصفتها مكوّن إيقاعي في نظام قضاعة، فهي تقتصر على هذه الوحدات الصوتية.

وبداية هذه الوحدات الصوتية هو الحرف الصحيح المحرّك مهما كان صوته وصوت حركته؛ ولا بد لهذه الحروف المحركة وراء بعضها، أن تنتهي بساكن في الحشو، وأن تنتهي بساكن نهاية السلسلة على الحقيقة أو على التقدير (ظن عازم). وهكذا يتحدّد مسمّى وطول الوحدة الصوتية النوعية، فالشعر العربي يقتصر على أربع وحدات صوتية نوعية، ثلاث منها كثيرة الورود، وهي الـخُطوة ( لا: /0 )، والعُقدة ( نعم: //0 )، والـجَدْلة ( نعمم: ///0 ). أمّا الوحدة الصوتية الرابعة فقليلة الورود لأنها نشاز؛ وهي الرّبـْطَة (نعملم: ////0 ).

والخطوة هي أدنى وحدة صوتية نوعيّة وكميّة في نفس الوقت، فباقي الوحدات الصوتية يمكن بنائها منها مباشرة [وسيأتي الحديث عن الناحية الكمية المقصودة فيما بعد]. وهذا ما يفسّر لنا حضور الخطوة الكثيف في السلاسل القياسية العربية. لكن العرب من أجل تنويع الإيقاع الأولي لشعرهم [أي خلق بحور متعددة]، لحاجة قرائحهم لذلك، ولأن التعبير عن الأغراض الشعرية بتراكيب اللغة يتطلب ذلك؛ كان لا بد من استحداث وحدة أخرى معها تساعدها في إنشاء الإيقاع، ولا بد أن تكون بعدها مباشرة من حيث الطول الكمّي، أي وحدة العقدة.

فالذي حصل أنهم بدافع الاصطلاح الإيقاعي، وليس بدافع الاصطلاح الصوتي؛ قد دمجوا خطوتين معاً دمجاً ثابتاً لإنشاء وحدة العقدة، فجعلوا هذه العقدة في سلاسل عروضهم تأخذ نفس حكم وحدة الخطوة من حيث الأولية. وهكذا صار عندنا في الصور الأولية لعروض الشعر العربي، عُقدة أولية من باب التواضع الإيقاعي، في مقابل خطوة أوّلية أصالة، لأنها أدنى وحدة صوتية نوعيّة وكميّة كما قلنا. ومن ثم قام العرب بترتيبهما ضمن ثلاثة أنساق عُقدية [(نسق الفتلة لا نعم)- (نسق القنطرة لا لا نعم)- (نسق العنقاء لا لا نعم)]؛ وذلك لصنع إيقاعات البحور الأولية العُقدية.

وسبب ظهور وحدة الجدلة ووحدة الربطة في سلاسل الشعر العربي، أنها ناتجة عن عمل القوانين الصوتية، التكافؤ والخبب، على وحدات الأنساق الصوتية الأولية بطبعها (الخطوة والعقدة الأوليّتان)؛ هذه المعبّر عنها بالزحاف في نظام الخليل. ولن نتحدث في هذه المقالة عن كيفية ذلك [راجع كتاب المنتج الجاهز لعروض قضاعة- المتاح على الانترنت]. فالخلاصة أن هذه الوحدات الصوتية الأربع هي مكوّنات صوتية بحتة [مدرَج صوتي]، وليست مكوّنات إيقاعية على ما توهّم البعض بسبب ارتهان الخليل للحرف الصوتي في التفسير والتأصيل. فحتى السبب الثقيل والوتد المفروق التي انفرد بها الخليل عن نظام قضاعة، هي مكوّنات صوتية بنظر الخليل حتى لو خالفناه الرأي بشأنها؛ لكن الجزء هو المكوّن الإيقاعي في نظامه وليس هيَ برفقة غيرها من المكونات الصوتية في نظامه.

وهذه الوحدات الصوتية التي قالتها قضاعة، كانت قد فرضت نفسها على الخليل، لأن الواقع إذا كان له وجود حقيقي، فلا بد له أن يرسل إشارات تدل الباحث المُجِد على وجوده، ولعله سيفرض نفسه على الباحث دون أن يشعر به (راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف). وهذا فعلياً هو ما حصل مع الخليل، فمع أنها فرضت وجودها عليه، لكنه لم يقتصر عليها في نظامه الصوتي العروضي، ولم يولها العناية التي تستحقها؛ وذلك بسبب ارتهانه للحرف الصوتي في التأصيل وفي التفسير كما قلنا وكما سنرى.

وهذه المسمّيات المستحدَثة لهذه الوحدات الأربع في نظام قضاعة (خُطوة، عُقدة، جدلة، ربـطة)، هي مسمّيات مَرنة جداً، بدل أسمائها غير المرنة في نظام الخليل بسبب كونها فيه أسماءً مركّبة (سبب خفيف، وتد مجموع، فاصلة صغرى، فاصلة كبرى). أمّا هذه الرموز المعطاة لها (لا، نعم، نعمم، نعملم)، فهي جرياً على ما سار عليه العرب صوتياً في رواية التنعيم، اللهم أننا أضفنا لها الرمزين الصوتيين المفقودين منها، والمختارين بعناية (نعمم، نعملم) ليدلّا على ما ذكرنا. فرواية التنعيم أشارت فقط للإيقاع الأولي العربي الخالي من الجدلات والربطات، أمّا الجدلة والربطة فهي تظهر فقط في الإيقاع الثانوي بفعل القوانين الصوتية التي عبّر الخليل عنها بالزحاف كما قلنا.

فالأصل في المدرَج الصوتي المستخدَم في تأصيل وتفسير القضايا الصوتية، مهما كان هذا المدرَج؛ أن يكون مجرداً عن اللغة [عن المعنى] (ظن عازم)، وذلك لتنحصر دلالته في التعبير عن الناحية الصوتية فقط. وهذه الرموز المذكورة تحقق ذلك تماماً، لأنها ستعمل كمسطرة صوتية بامتياز، على اعتبار أنّ السلاسل الصوتية تقوم على الوحدات الصوتية النوعية كما قلنا، وليس على الحرف الصوتي بكلا شقيه.

أمّا ما هي الدلالة الإيقاعية لهذه الوحدات الصوتية عند اجتماعها في السلسلة، فهنا لا بد من حضور مسطرة التنغيم (بالغين)، المركّبة على مسطرة التنعيم (بالعين). ويتمثّل التنغيم بوضع فواصل [ ، ] بين تسلسلات محددة في السلسلة، إبرازاً للقيمة الإيقاعية لهذه التسلسلات [مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا (المتقارب)]؛ فالتنغيم على ذلك يتضمن تلقائياً التنعيم المشار إليه. فأبو الطيب يرفض إلباس أنساق نظامه الإيقاعية وطوالعها هنداماً لغوياً كما فعل الخليل [فاعلن، مستفعلن، متَفاعلن، مفعولاتُ...الخ]، تأثراً منه بأبحاث علم الصرف ذو الطبيعة اللغوية (هندام فَعل الصرفية). أمّا التعبير برمز المتحرك والسابت ( / - 0 ) المنبثق عن شِقّـي الحرف الصوتي، المتحرك والساكن؛ فهذا أدعوه في نظامه قضاعة بـ (الترميز الصوتي).

وإذا ظن احد أنّ أجزاء نظام الخليل المرتدية هندماً لُغوياً، لها جاذبية موسيقية أكثر مما هي في أنساق عَروض قضاعة العريانة من الهندام اللغوي، جرياً على ما مضى عليه العرب (تقريباً)؛ فمن المستحسَن أن اذكّره بأن هذا الجاذبية الموهومة لها، إنما هي على مستوى السلاسل القياسية فقط. لكن أكثر المنظوم في شعر العرب، وفي نظام الخليل نفسه، هي سلاسل غير قياسية من حيث الطول ومن حيث دخول الزحاف عليها (معلولة ومزاحفة ومخرومة)، ما يؤدي لتمزّق الهندام اللغوي بفعل الزحافات والعلل؛ فتغيب بالتالي هذه الجاذبية الموهومة لهذا الهندام اللغوي.

فهذا الصنيع من الخليل [أي إلباسه لأجزاء نظامه الإيقاعية هنداماً لغوياً]، جعل تصوّر الإيقاع وما يطرأ عليه تصوّراً لُغوياً، لكن اللغة لا دخل لها بالإيقاع، فاللغة إنما تُسكب في القوالب الصوتية الإيقاعية. والعروض العربي على الأخص، هو ناحية موسيقية إيقاعية لا علاقة لها باللغة. ولذلك كان صنيع الخليل هذا، بسبب ارتهانه للحرف الصوتي في التأصيل وفي التفسير كما قلنا؛ هو أحد أوجه الصعوبة الكثيرة في نظام الخليل. ولذلك كان اعتماد صاحب عروض قضاعة لمسطرة التنغيم الإيقاعية المركّبة على مسطرة التنعيم الصوتية، العريانة من الهندام اللغوي، هو الحل الأمثل برأيه للخروج من هذا الإشكال وتداعياته السلبية على مبحث العَروض.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:15 AM
( 5 )

فالحرف الصوتي بكلا شِقّيه (المتحرك والساكن)، إنما هو مدرج صوتي وسيط بين المكونات الصوتية الدّنيا [الحروف بأنواعها والحركات بأنواعها]، وبين المدارج الصوتية الحقيقية الذي تقوم عليه السلاسل الصوتية، أي الوحدات الصوتية النوعية المذكورة آنفا (ظن عازم).

فأول ما تنتظم المكونات الصوتية الدّنيا في عضو النطق، فهي تنتظم ضمن المتحرك والساكن؛ وهذا الأمر قد أدركه اللغويون العرب (5)؛ ثم ينتظم الساكن والمتحرك في مدارج قضاعة (الوحدات الصوتية التي يقول بها عروض قضاعة)، لتؤلّف بعد ذلك التسلسلات والسلاسل الصوتية؛ وهذا الأمر الثاني هو الذي غاب عن اللغويين العرب وعن غيرهم بحسب تقديرنا. وإثبات ذلك بالتفصيل العميق قد ذكرناه في كتابنا الأم لعروض قضاعة، وفنّدنا ما سواه بالأدلة والبراهين الكثيرة.

(5): قال الأخفش (ت/ 211 هـ) تحت عنوان (هذا باب تفسير الأصوات): {اِعلَم أنّ الكلام أصوات مؤلفة، فأقل الأصوات في تأليفها الحركة، وأطول منها الحرف الساكن، لأن الحركة لا تكون إلّا في حرف ولا تكون حرفاً، والمتحرك أطول من الساكن لأنه حرف وحركة، وقولهم (ساكن): أي لا حركة فيه. **، وأقل ما ينفصل من الأصوات فلا يوصَل بما قبله ولا بما بعده، حرفان. الأول منهما متحرك لأنه لا يُبتدئ إلّا بمتحرك، والثاني ساكن لأن كل ما تقف عليه يسكن. ولا تصل إلى أن تُفرِد من الأصوات أقل من ذا. **، ولا تزيد أقل من ذا، لأنك إن زدت الحركة لم تقدر عليها في الانفصال لأنها تعتمد على ما بعدها}. (العروض للأخفش، ص 142). وراجع: (سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 32)، وراجع (الجامع في العروض، ص 56، لأبي الحسن العروضي). وراجع: (الحركة والسكون عند الصوتيين العرب وتكنولوجيا اللغة الحديثة. مجلة مَجمَع اللغة العربية بالقاهرة، العدد 88، 2000 م) - عبد الرحمن الحاج صالح - رئيس مجمع اللغة العربية السابق بالجزائر، رحمه الله).

والشّرْم الذي هو مصطلح من مصطلحات عروض قضاعة التي لا غنى عنها، هو وقوف الوحدة الصوتية الأخيرة في السلسلة على متحرّك. فالشّرْم لا ينتقصُ من حقيقة أيـّاً هذه الوحدات الصوتية النوعية الأربع. فمثلاً: لو جاءت التفعيلة المشوّهة فاعلاتكَ ( /0 //0 // ) نهاية السلسلة وليس في حشوها، وذلك كما في نهاية سلسلة المتوفر (فاعلاتكَ فاعلاتكَ فاعلاتكَ: لا نعم، نعمم نعم، نعمم نعم، //)، فهي على الحقيقة تنتهي بعقدة مشرومة؛ فساكن العقدة موجود على التقدير. وهذا بعكس متحركَـيّ فاعلاتكَ الأخيرين التي في الحشو، فهما ضمن وحدة الجدلة الصوتية. وهكذا يتضح بطلان هذه التفعيلة الوهمية جملةً وتفصيلا.

فهذا نفس ما حصل مع زحاف الكف على (فاعلاتنْ : لا نعم لا) في موضع العروضة في نظام الخليل، أي نهاية سلسلة الصدر (مثلاً لا حصراً)، فقد كان الكفّ يُوقفها على متحرك فتصير (فاعلاتُ: لا نعم / )، فكان تقدير الخليل لهذا المتحرك الأخير بأنه متحرك الخطوة التي غاب ساكنها بفعل الزحاف في نظامه، أي هي خطوة مشرومة وليس أيّ كائن صوتي آخر. وبالتالي فالشرم لم يُلغ حقيقة العروضة فاعلاتنْ التي نهايتها سبب خفيف (خطوة)، وليس مجردّ حرف متحرك قائم لوحده. أمّا وقوف (فاعلاتُ: لا نعم / ) وغيرها في نظام الخليل على متحرك في الحشو بسبب الزحاف، فهذا بسبب خطأ فكرة الجزء. فالجزء فكرة خاطئة حتى لو أدّت الـمَهمّة المنوطة بها في نظام الخليل. (6)

(6): ليس مستحيلاً أن تعثر على فكرة قد تكون خاطئة أو باطلة، ومع ذلك قد تجد لها مكاناً في تطبيق عملي ما. فمثال الفكرة الخاطئة التي وجدت لها سبيلاً في التطبيق العملي، هي فكرة الجزء في نظام الخليل. أمّا مثال الفكرة الباطلة التي وجدت لها سبيلاً في التطبيق العملي، فهي فكرة الوتد المفروق والسبب الثقيل في نظامه. بل أنّ بعض الأفكار الجزئية ضمن نظرية ما صحيحة بالمجمل، يبدو معها تطبيق النظرية العملي صحيحاً في الظاهر، لكن تكون الفكرة الجزئية ضمنها باطلة في الواقع. وهذا من نحو مفهوم (سهم الزمن) في نظرية النسبية في الفيزياء لأينشتاين [وليس مفهوم الزمن فيها فانتبه]، فهذه النظرية مبنية على فن المنطق، وبحسب القوانين الرياضية الفيزيائية فيها، فإنّ سهم الزمن حُر الاتجاه للمستقبل وللماضي، لكن سهم الزمن في الواقع العملي لا يسير إلّا للمستقبل.

وما قلناه تواً هو تفسير قولنا السابق من أن الوحدة الصوتية الأخيرة نهاية السلسلة، تنتهي بساكن على الحقيقة أو على التقدير. فهو على التقدير لأن سبب حصول الشرم هو سبب ذهني لُغوي [أو نَحوي]، وليس سبباً صوتياً بحتاً. فإنتاج عضو النطق للكلام ليس حدثاً مجرّداً عن العملية الذهنية المصاحبة للرغبة بالكلام، أي عن المعنى الذهني المراد تبليغه صوتياً. وتأدية معنى الكلام على وجهه الصحيح هو ما جلب الشرم ليس إلّا. وذلك كما في كلمة ( لِـمَ..؟ //) للسؤال عن السبب إنْ قامت وحدها فأدّت المعنى؛ فلا يمكنها تأدية المعنى المراد منها ذهنياً إن جاءت الميم ساكنة. ولذلك فكلمة ( لِـمَ..؟ //) في هذا المثال، لا تُضرب كمثل لُغوي على كائن السبب الثقيل، ذلك أنها إنما تمثّل عُقدة مشرومة.

فالوقوف على متحرك دون ضرورة، مرهق لعضو النطق ولعملية التنفس، ولذلك كان متنفسه الوحيد هو الشرم لأجل السبب الذهني اللُغوي المشار إليه. فما بالك بالوقوف على متحرك في حشو الكلام المتصل كسلاسل الشعر العربي، أو في حشو المفردة اللغوية المتصلة بطبيعتها، فهو ليس فقط مرهق لعضو النطق وللتنفس، بل هو يـمحق اتصال السلسلة كلياً.

ولأجل ذلك كان وقوف عضو النطق على الحرف غير المحرك في الحشو (على الساكن)، وقوفاً هيّناً عابراً وليس وقوفاً متمكّنـاً، هو أمر ضروري لعضو النطق وللتنفس معاً، وليس للسامع. ووقوفه على الحرف الساكن نهاية السلسلة هو الوضع الطبيعي وغيره استثناء، أي الشرم (7). حتى أنّ هذا قد رأيناه في أوجه الوقف في العربية، مع المدرج الوسيط نفسه نهاية السلسلة ونهاية المفردة اللغوية (أي الحرف الصوتي)، الذي نزعَ للوقوف على الشِق الساكن منه ما أمكنه ذلك (8)؛ فلا يقف العربي على الشق المتحرك منه، أي الشرم، إلّا بسبب ما قلناه فقط.

(7): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي بعنوان (ظاهرة الزحاف وتضليل مصطلح الساكن للعقل). فأبو الطيب يفرّق بين الحرف غير المتحرك فيما لو كان في حشو السلسلة أو في حشو المفردة اللغوية، عنه فيما لو كان نهاية السلسلة ونهاية المفردة اللغوية، حتى لو اشتركا بصفة عدم التحريك. فالذي في الحشو هو ساكت لأن الكلام متصل به، فمع الساكت عملية النطق مستمرة حتى آخر متحرك في الجملة (في السلسلة). أمّا الحرف غير المحرك نهاية السلسلة فهو ساكن على الحقيقة (أي كعلامة لآخر وحدة صوتية في السلسلة)؛ لأن إنتاج عضو النطق الكلام المؤدي لمعنى تام، قد انتهى في هذا الموضع، فسكنَ المتكلم عن متابعة الكلام. وقد انتبه ابن جنّي لهذا الفرق بينهما (ت/ 392 هـ)، لكنه مع الأسف لم يتابع هذا الاكتشاف فلم يستثمره؛ فكأنه كان ومضة في ذهنه ما لبثت أن انطفأت (الخصائص، ج 1، ص 57 - 58، 60). ولم نشأ في هذه المقالة أن نستخدم هذا التفصيل للحرف غير المحرك بحسب موضعه، أي الساكت والساكن، حرصاً منا على عدم تشتيت القارئ.

(8): راجع (الوقف ووظائفه عند النحويين والقرّاء، ص 13، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية- مجلس النشر العلمي- جامعة الكويت: الرسالة 159 - الحولية الحادية والعشرون، 2000 - 2001 م).

وبما أن هناك تلازم مصيري بين الحرف الصحيح وحركته، فلا حضور للحركة إلّا برفقة الحرف الصحيح؛ وأنه لا يمكن ابتداء الكلام إلّا بحرف متحرك في كل لغة وليس فقط العربية؛ ومن ظن غير ذلك فهو واهِم (راجع: الحركة والسكون عند الصوتيين العرب وتكنولوجيا اللغة الحديثة - عبد الرحمن الحاج صالح). وبما أن الحرف الصوتي إنما هو مدرج صوتي وسيط كما ظهر لنا. فإن الوحدات الصوتية الحقيقية (المدرج الصوتي الحقيقي) الواجبة الحضور للتعامل مع السلاسل الصوتية، يتوجب أن تنتهي بحرف غير محرك في الحشو (ساكن)، وتنتهي بحرف غير محرك نهاية السلسلة على الحقيقة أو على التقدير كما قلنا؛ وذلك سيراً على نفس هذا المبدأ. وهذا الكلام منطبق على الوحدات الصوتية التي ذكرها أبو الطيب واقتصر عليها في إقامة بيان نظام قضاعة، فجميعها في الحشو تنتهي بساكن، وتنتهي بساكن نهاية السلسلة على الحقيقة أو على التقدير.

وبناءً على كل هذا، فإنّه ليس هناك وجود حقيقي لكائن صوتي يقف على متحرك نهاية السلسلة الصوتية؛ ولا وجود لمثله أيضاً في حشو السلسلة تلقائياً..؟ لأنه في الحشو سيكون بداية وحدة صوتية. فإذا كان ولا بد من الوقوف على متحرك، أي لأجل أنّ المعنى سيذهب بالتسكين، فهذا -كما قلنا- يكون في نهاية المفردة اللغوية المفصولة عن سلسلتها، وفي نهاية السلسلة المتصلة حصراً (أي الشرم). وبذلك يتضح أن الوتد المفروق والسبب الثقيل هما كائنين باطلين على المستوى الصوتي؛ وهما كذلك باطلين على المستوى الإيقاعي كما رأينا وكما سنرى. ولنفس هذا السبب، ولأسباب أخرى، كانت معظم مقاطع الأصواتيين باطلة من وجهة النظر الصوتية الصحيحة (بحسب تقديري).

وإذا كنت قد أسهبت قليلاً في بيان حقيقة الوحدات الصوتية الأربع التي يقول بها عروض قضاعة، فهذا كي يعرف القارئ أن أبا الطيب القضاعي ليس عيالاً على غيره، فقوله بالوحدات الصوتية التي اقتصر عليها مسنود ببراهين صوتية وفكرية قوية. فإذا كان الخليل قد قال بها، فهذا لا يجعل من عروض قضاعة مجرّد نسخة مطوّرة عن عروض الخليل..؟ فعدا عن أنّ الخليل لم يُولِ هذه الوحدات الاهتمام الذي تستحقه بسبب ارتهانه للحرف الصوتي، وأنه خلط غيرها بها (9)، فإنه إذا اتّفق العِلمان الموجودان في الساحة العروضية بجدارة على بعض الأساسات، أي نظام الخليل ونظام قضاعة؛ فليس معنى هذا أنّ العِلمين قد خرجا من مشكاة واحدة؛ وإلّا فإنّ الخليل وأبي الطيب عيال على شيخ المدينة الذي كان يعلّم الغلام التنعيم، أليس كذلك..؟!

(9): كدليل واضح جداً على ارتهان الخليل للحرف الصوتي في قضية الوحدات الصوتية، أنّ الخليل مع أنه قال بوحدة السبب الخفيف الصوتية (وحدة الخطوة)، فقد كان المفترَض به طالما أنّ الزحاف متعلّق حصراً بالسبب الخفيف، وطالما أنّ مكوّنات الجزء الصوتية في نظامه هي الوتد والسبب وليس الحروف؛ أن يكون تعريفه للزحاف مبنياً على أساس ترتيب موقع السبب الخفيف نفسه في الجزء، مهما كان الجزء، وليس على موقع الحرف الساكن فيه. وذلك كأنْ يقول (الخبنُ هو حذف ساكن السبب الخفيف الأول في الجزء)، فهكذا سينطبق التعريف على الأجزاء: فاعلن وفعولن وفاعلاتن [فعِلن - فعولُ - فعلاتن]. وكأنْ يقول (الطي هو حذف ساكن السبب الخفيف الثاني في الجزء)؛ وهكذا سينطبق التعريف على الجزأين مستفعلن وفاعلاتن [مستعلن - فاعلاتُ].
لكن الخليل وبسبب ارتهانه للحرف الصوتي كما قلنا، فقد أسند تعريفه للزحاف على أساس عدد الحروف المؤلّفة للجزء، وعلى ترتيب الحرف الساكن بينها كما هو معروف، أهو الحرف الثاني، أم الرابع، أم الخامس، أم السابع. فالخبن في تعريفه هو حذف الثاني الساكن من الجزء، والطي هو حذف الرابع من الجزء، وهكذا البقية (القبض والكف، وكذلك الزحافات المركبة، الخبل والشكل). (العقد الفريد، ج 6/ 272). ومن احد الأدلة المهمة على ارتهان الخليل للحرف الصوتي في مبحث العروض، هو وأفراد طبقته، هو معاملته شواهد الشعر معاملة شواهد اللغة، وهذا النقطة يعرفها من تبـحّر بعمق في شواهد نظام الخليل، وفي كتب العروض القديمة، وأقوال الخليل المبثوثة فيها. لكن شواهد الشعر لا تعامل معاملة اللغة، لأنها تقوم على الوحدات الصوتية وليس على الحروف الصوتية كما قلنا، ولأن العروض العربي هو ناحية صوتية إيقاعية لا علاقة لها باللغة.

وهناك سبب آخر لأسهابنا في بيان حقيقة الوحدات الصوتية الأربع، وهو لكي يتأكد القارئ بأن هذه الوحدات الصوتية هي مكوّنات صوتية بحتة، وليست مكونات إيقاعية على ما ظنّ بعض قومنا بسبب هيمنة نظرية الخليل على الساحة العروضية، وارتهان الخليل للحرف الصوتي في التفسير والتأصيل كما قلنا. ونعيد هنا ما قلناه سابقاً، من أن إثبات هذه الأقوال بالتفصيل العميق، قد ذكرناه في كتابنا الأم لعروض قضاعة، وفنّدنا ما سواه بالأدلة والبراهين الكثيرة.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:22 AM
( 6 )

وبينما أنّ الشرم يمكن أن يقع لجميع الوحدات الصوتية في نهاية جملة النثر، لكنه في سلاسل الشعر العربي كتوجيه إيقاعي له، هو محصور بوحدة الخطوة نهاية الصدر، وفي غير قوالب الكامل والوافر التي يمكن في بعضها تموضع الخطوة نهاية الصدر؛ فهذين البحرين يرفضان شرم الخطوة لسبب ليس من السهل بيانه هنا. كما أنّ الشرم لا يقع للوحدة الصوتية نهاية سلسلة العجز حيث موضع القافية، مهما كانت هذه الوحدة؛ لأنه لا وقوف لقافية عربية على متحرك؛ فإشباع حركة الحرف المحرك في هذا الموضع واجبة، وبذلك يختفي واقع الشرم نهاية سلسلة العجز. ويميّـز عروض قضاعة الخطوة المشرومة نهاية سلسلة الصدر عن غير المشرومة، بكتابة رمز تنعيمها نفسه، إنما يوضع تحتها خط لبيان أنها جاءت مشرومة (هكذا للمتقارب التام مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا).

وإذا كان حصول الشرم في الشعر العربي ليس مستغرباً، لأنه ظاهرة عامة في الشعر وفي النثر كما رأينا. لكن نظام الخليل مرّة لا يستطيع توصيفه (10)؛ ومرّة دخل ضمن مفهوم الزحاف في نظامه (العروضة فاعلاتُ - مثلاً لا حصراً). ومرّة دخل ضمن مفهوم مكوّن صوتي في أحد أجزاء نظامه؛ وذلك كما في (مفعولاتُ /0 - /0 - /0/) الافتراضية نهاية سلسلة السريع التامة القياسية بزعم الخليل [مستفعلن مستفعلن مغعولاتُ ، ع.= 12]؛ فنهايتها خطوة مشرومة على الحقيقة، وهذه الخطوة المشرومة فيها قد كانت ضمن مكوّن الوتد المفروق الصوتي في نظامه..! (11). وكما في العقدة المشرومة نهاية (فاعلاتكَ) فيما لو جاءت نهاية السلسلة كما قلنا، فالعقدة المشرومة هنا هي مكوّن السبب الثقيل الصوتي في نظامه..!

(10): نظام الخليل لا يستطيع توصيف الشرم إذا تلبّس بالجزء المعلول المزاحِف الذي أصله القياسي ينتهي بوتد مجموع. وذلك كما في مستفعلن إذا أصابتها علة القطع في موضع العروضة (نهاية الصدر)، فصارت هكذا (مستفعلْ: لا لا لا)، ثم دخلها الخبن بعد ذلك فصارت على هذه الهيئة (متفْعلْ: نعم لا)، فيُلبسها العروضيون بعد ذلك هندام فعولن تحسيناً لصورتها. فإذا أصابها الشرم بعد كل ذلك صارت هكذا (متفْعلِ : نعم /) الشبيه تنعيمها بتنعيم فعولن المقبوضة (فعولُ نعم /). فهذا الشرم الواقع عليها وهي بهذه الحالة، لا يمكن توصيفه في نظام الخليل إطلاقاً..؟
فالزحاف في نظامه يُركّب على الصورة القياسية للجزء، والذي هو هنا الجزء مستفعلن السباعي؛ وليس على الصورة المزاحفة والمعلولة الناقصة الحروف عن مقدار الجزء السباعي، والتي هي هنا التفعيلة (متفْعلْ: نعم لا) ذات الخمسة حروف. فلا يجوز أن يقال أن (متفْعلِ : نعم /) قد أصابها زحاف القبض بداعي تشابه تنعيم (متفْعلْ: نعم لا) مع تنعيم الجزء الخماسي فعولن (نعم لا)؛ فالمتشابه هنا بينهما إنما هو الهندام اللغوي فقط. وهذا الأمر قد تفطّن له الدماميني عند تعقيبه على رأي أبو الحَكَم والصفاقسي، وذلك عندما ظنّا أنّ زحاف القبض قد جاء شذوذاً مع شرم الخطوة في صدر قالب مخلّع البسيط، لأن نظام الخليل لا يستطيع توصيف الشرم في هذه الحالة. (الغامزة ص 161)

(11): فالجزء (مفعولاتُ) نهاية سلسلة السريع القياسية، هو على الحقيقة عبارة عن عنقود مشروم (لا لا لا /)، أي أن الخطوة الرابعة في العنقود جاءت مشرومة، فالشرم لا يصيب إلّا نهاية السلسلة كما رأينا. فلما كان العنقود هو جرس سلسلة السريع القياسية بنظر الخليل؛ فهذا ما سوّغ لنا إضافة الشرم للعنقود (العنقود المشروم). والعنقود على ما أشرنا سابقاً (الجزء الأول من هذه المقالة)، هو مكوّن أصيل في العروض العربي، لكن لا مكان له في بنية نظام الخليل لأنه ثماني الأحرف، فهو ينشأ عن نسق العنقاء عند تطبيق علة القطع عليها (لا لا لا نعم- بالقطع تؤول إلى عنقود: لا لا لا لا). أمّا العنقود المشروم فهو سباعي الأحرف، لذلك وجد له مكاناً في بُنية نظام الخليل بفضل دائرة المشتبه التي صنعها الخليل على عينه كما قلنا.

وكل هذا الاضطراب في موضوع الشرم في نظام الخليل، بل وفي غير ذلك من دقائق نظامه، وعلى رأسها فكرة الجزء والزحاف والعلة؛ قد جاء بسبب أن الخليل عند تأصيله لنظامه وتعريف مبادئه وتفسير دقائقه، قد ارتهن بشدة في كل ذلك للحرف الصوتي بكلا شِقّيه كما قلنا؛ حتى مع قوله بالوحدات الصوتية التي قالتها قضاعة. وكان هذا منه جرياً على ما مضى عليه في مبحثَـيّ الصرف والنحو؛ هذه التي للحرف الصوتي مكان فيها حقاً..؟

فالباحث في هذين الميدانَين، النحو والصرف، ينصبّ اهتمامه على الحرف وحركته، ودلالة ذلك الصرفية والنحوية فقط؛ ولذلك كان الحرف الصوتي بشقيه، هو الأداة الصوتية الوحيدة المناسبة للبحث فيها على هذا المستوى. فالحرف الصوتي -كما قلنا- هو مدرج صوتي وسيط بين المكونات الصوتية الدّنيا [الحروف بأنواعها والحركات بأنواعها]، وبين المدارج الصوتية الحقيقية الذي تقوم عليه السلاسل الصوتية، أي الوحدات الصوتية النوعية المذكورة آنفا. ولو أنّ لعروض العرب علاقة من قريب أو من بعيد، بمخارج الحروف، أو بالإعراب والصرف؛ لأناخ أبو الطيب ناقته في صحراء البصرة، فلا طاقة له بدخول البصرة موطن الخليل العبقري..! نقول هذا بدليل أن تقطيع السلسلة بالأنساق أو بالأجزاء، لا تراعي هذه الأمور اللغوية.

ولكون أن الحرف الصوتي هو مدرج صوتي وسيط بين ما ذكرنا؛ فهذا يفسّر لنا أمرين في نظام الخليل العروضي، الأول هو استطاعة الخليل بواسطته إقامة نظامه العروضي بشكل مترابط شامل؛ فالوحدات الصوتية تلقائياً تتضمن في جوفها الحرف الصوتي بكلا شِقّيه. والأمر الثاني: أنه وبسبب ارتهان الخليل للحرف الصوتي كما رأينا، فقد كان هذا أحد أهم أوجه صعوبة نظام الخليل المعروف عنه؛ فصفة الترابط والشمول لا تعني بالضرورة أن النظام سيكون سهلاً تبعاً لذلك. والطُرق الرقمية لأنها مرتهنة للحرف الصوتي أيضاً، متابعة لما مضى عليه الخليل في نظامه؛ فلم تستطع هي الأخرى التخلّص من هذه الصعوبة نهائياً.

والسبب الجوهري في ذلك، أنّ الحرف الصوتي والوحدات الصوتية لا يلتقيان، فلا يمكن لأحدهما أن يسد عن الآخر تماماً، لا في التأصيل ولا في التفسير، وخاصة في التفسير؛ حتى وإن كان الحرف الصوتي متضمناً في هذه الوحدات تلقائياً كما قلنا. فبينما أنّ الوحدة الصوتية هي كيان صوتي مجرّد عن اللغة [مجرّد عن المعنى]، لكن الحرف الصوتي ذو الشقين فقط (المتحرك والساكن)، هو ذو طبيعة لغوية. لكن وحدة الخطوة تتألف من حرفين معاً، متحرك وساكن، والعقدة من ثلاثة حروف، متحركين وساكن،..الخ. وعلى ذلك، فلا يمكن لأحدهما أنّ يسد عن الآخر تماماً، لا في التأصيل ولا في التفسير. (12)

فعروض الشعر العربي هو سلاسل صوتية موسيقية بامتياز، ولذلك فإن التعامل معها يكون حصراً من خلال الوحدات الصوتية المؤلّفة لها، على مستوى إنقاص الأطوال منها (العلة)، وعلى مستوى عمل القوانين الصوتية عليها (الزحاف). وليس التعامل معها من خلال الحرف الصوتي، حتى وإن كان الحرف الصوتي متضمناً في هذه الوحدات تلقائياً، فأمكن بذلك توصيف التغيرات الحاصلة في الزحاف والعلة من خلال الحروف كما فعل الخليل. فاستعمال أداة الحرف الصوتي في توصيف ذلك، هو السبب الجوهري في صعوبة نظام الخليل بالإضافة لخطأ فكرة الجزء في ذاتها.

(12): سترى مصداق هذا الكلام بأوضح ما يكون، في مقالة لنا قادمة عن القافية العربية (في رابطة الواحة)، وسنرى فيها كيف أن التعاريف الثلاثة للقافية المنقولة عن الخليل (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 169) جميعها مضطربة. فمع أن القافية العربية منصهرة في الإيقاع القائم على الوحدات الصوتية وليس الحروف (منصهرة في الجرس)، لكنها مع ذلك تتألف من حروف لأن القافية ناحية لُغوية بسبب علقها بمفردات اللغة ذات المعنى؛ فالقافية كلمات لغوية عمادها حرف الرّوي الواجب التزامه في كل قوافي القصيدة.
لكن الخليل عند محاولته تعريف القافية تعريفاً مخصّصاً (التعاريف الثلاثة المنقولة عنه)، لم يعرفها على أساس الحروف فقط، إنما قد عرّفها على أساس الإيقاع القائم على الوحدات الصوتية، لكنه استخدم الحرف الصوتي في تعريفها. فالتعريف المشهور بينها، والذي عليه إجماع كبير، معرفاً بدلالة مفهوم الساكن والساكت في نظام قضاعة، حيث أنّ القافية تنتهي بساكن وما قبل ذلك سواكت؛ هو أنها: (الحروف والحركات بدءاً من ساكن القافية إلى أول متحرك قبل أول ساكت يَلِي ساكن القافية). فلأن الحرف الصوتي والوحدات الصوتية لا يلتقيان، فلا يمكن لأحدهما أن يسد عن الآخر تماماً كما قلنا، لذلك فقد اضطربت هذه التعاريف الثلاثة للقافية المنقولة عنه جميعها، فجميعها فشلت في الانطباق على جميع احتمالات القافية العربية.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:28 AM
( 7 )

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسماء الأنساق العقدية الثلاثة (الفتلة والقنطرة والعنقاء)، هي أسماء مخصّصة في عروض قضاعة؛ فإذا أطلقت فلا تشير إلّا لمفهومها المبيّن، أينما وقعت في السلسلة (في الحشو أو في موضع الجرس نهاية السلسلة). فانتبه لهذا لأننا بعد قليل سنتواجه مع قضية "شبيه النسق" ومع قضية (طوالع الأنساق). وكذلك هو حال أسماء الوحدات الصوتية الأربع، فهي أسماء مخصّصة أيضاً (الخطوة- العقدة- الجدلة- الربطة).

لكن عروض قضاعة يحتاج أن يطلق على تسلسلات معينة غير الأنساق في السلسلة، أسماءً معينة، الغاية منها هو تسهيل توصيف دقائق النواحي الصوتية والإيقاعية بأقل قدر من الكلام. وهي ثلاثة مسمّيات، واحد منها مخصّص، والاثنين الباقيين غير مخصّصين.

فالتسلسل المؤلف من عقدة متبوعة بخطوة (نعم لا) ليس بنسق. وأينما ورد هذا التسلسل في السلسلة العُقدية فإن عروض قضاعة يطلق عليه مسمّى "القِفْل" كمسمى مخصّص، والجمع "أقفال". ولا تخلو سلسلة عُقدية من قفل واحد على الأقل [كهذه: نعم، لا لا لا نعم ، ع.= 7]. ويمكن توصيف العقدة الأولى من القفل بأنها "عُقدة القفل"، وتوصيف الخطوة الداخلة في تأليف القفل بأنها خطوة القفل. فإذا وردت العقدة دون خطوة بعدها، فهذا ليس بقفل إنما هي تتمة النسق؛ لأن هذه الحالة لا تحصل إلّا في نهاية السلسلة عندما يحتل النسق آخر السلسلة (هكذا للمتقارب بطول الأثلم مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، فسلسلة المتقارب الثلماء هذه، تتضمن ثلاثة إقفال فقط).

فعلى الرغم من أنّ القفل ليس بنسق كما قلنا، لكن مصطلح القفل ضروري جداً في عروض قضاعة؛ ولن نخوض في أهميته هنا. لكن نشير هنا للضرورة، بأننا سنستخدم عبارة "عُقدة القفل" في بيان حدود الجرس في عروض قضاعة، فتذكّر ذلك. أو عند القول بأن المتقارب والطويل والمضارع يبتدئان بعقدة قفل، وكذلك الهزج ومعه الوافر، وكذلك بحر الأزد بديل المضارع في نظام قضاعة.

وتسلسل الخطوتان المتجاورتان (لا لا) أينما لزمت الإشارة لهما، فسنطلق عليها مسمّى (وَتـَر)، وذلك كمسمى عام نكرة (والجمع أوتار)، أي هو مسمّى غير مخصّص. فنقول مثلاً: (وتر القنطرة)، فنقصد الخطوتين التي قبل عقدة نسق القنطرة. ونقول: الوتر الثاني في جرس العنقود (لا لا لا لا)، حيث العنقود من جهة الوصف فيه ثلاثة أوتار. ونقول: جرس هذه السلسلة وتر (حيث الجرس موضعه نهاية السلسلة). ونقول: بحر الراقص لا يتألف من خطوات منفردة كما قلنا من قبل، إنما هو يتألف من أوتار من بدايته، وكل وتر منها هو نسق عود لاعُقدي.

وتسلسل الخطوات الثلاث المتجاورة (لا لا لا) أينما لزمت الإشارة لها، فسنطلق عليها مسمّى (سكة) كمسمّى عام نكرة أيضاً (والجمع سِكَك). فنقول مثلاً: (سكة العنقاء)، فنقصد الخطوات الثلاث التي قبل عقدة نسق العنقاء. ونقول: جرس هذه السلسلة سكة. ونقول: سكة العنقود الأولى (لا لا لا لا)، والعنقود من جهة الوصف فيه سكتين. وستدرك في المقولة القادمة أهمية هذه المصطلحات الثلاثة.

فعروض قضاعة يفرّق بين مفهوم التسلسل الصوتي ومفهوم السلسلة الصوتية، إذ بينما أنّ الشطر العربي يعتبر سلسلة صوتية مدرجية بامتياز، لكن أيّ تجزيء لها مهما كان طوله الكمّي، سيُعتبَر على أنه تسلسلات فيها. فالحشو هو تسلسل مهما بلغ طوله، لأنه جزء من السلسلة وليس كلها. والأنساق أيضاً تسلسلات مخصّصة، وأجزاء نظام الخليل هي أيضاً تسلسلات مخصصة في نظامه. والقفل أيضاً تسلسل مخصّص، أمّا الوتر والسكة فهي تسلسلات غير مخصصة.

فمصطلح التسلسل ذو فائدة عظيمة في الشرح، فهو سوف يجنّبنا سوء الفهم عند الحديث؛ فبدونه قد يظن القارئ أنّ الحديث يدور عن سلسلتين فيما لو كان التسلسل طويلاً كما هو حشو سلسلة الطويل القياسية، لكن وصفه بكون تسلسل سيزيل سوء الفهم المتوقع. والحد الأدنى لطول التسلسل يبلغ وحدتين كميّتين (ع. = 2)، أي احتوائها على متحركين اثنين فقط؛ وفعلاً هناك حشو يبلغ هذا الطول [كهذه: نعم، لا لا لا نعم ، ع.= 7، فعقدة القفل هي الحشو هنا فقط، والعقدة بقيمة وحدتين كميّتين]. وسيأتي الحديث بتفصيل عن الناحية الكمية بعد قليل.

وهذا يعني أنّ الخطوة وحدها لا ينطبق عليها مصطلح التسلسل، ذلك لأنها بمقدار وحدة كمية واحدة، فالخطوة هي وحدة صوتية نوعية وكمية في نفس الوقت كما قلنا. أمّا الوحدات الصوتية فوق الخطوة، كالعقدة مثلاً، فتدخل ضمن مصطلح التسلسل بمعناه العام؛ ذلك أنّ العقدة يمكن أن تُحل لخطوتين. لكن حيث أنّ مفهوم الوحدة الصوتية مفهوم صوتي خاص، فلا يشار للعقدة ولا لأيّ من الوحدات فوق العقدة بمصطلح التسلسل، إلّا على سبيل التجوّز بسبب ما ذكرنا، أي بالنظر لأصلها الأولي، أو بالنظر لعدد الوحدات الكمية فيها كما هو الحال مع العقدة.

هذا وقد يتخصّص مصطلح التسلسل الصوتي بإضافة أوصاف أخرى له، فوق حمله لمدلول التسلسل العام، وهذا من نحو: (تسلسل أولي- تسلسل ثانوي- تسلسل عُقدي - تسلسل لاعُقدي). كما قد يتخصص مصطلح التسلسل كلياً إذا عيّناه، ومنحناه من ثم مصطلح دال عليه دون سواه، كما في مسميات انساق قضاعة ومسمّى القفل. وكما في مسمّيات طوالع الأنساق كما سنرى بعد قليل، فالعنقود عبارة عن تسلسل مخصص كطالع لنسق العنقاء في موضع الجرس.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:38 AM
( 8 )

ومن الضروري هنا الإلمام ببعض الأشياء المهمة في هذا الموضع من هذه المقالة؛ والتي هي على علاقة ماسّة بالسر الدفين الذي ما زلنا نمهّد الطريق للحديث عنه بدون معوّقات؛ وهو أيضاً على علاقة ماسّة بأحكام اقتطاع سلاسل عربية من الدائرة العربية. وهذه الأشياء الضرورية تتلخص في أربعة أمور:

الأمر الأول: واقع أنّ هناك موضعاً مخصوصاً في نهاية إيقاع كلا الشطرين، أولاهُ شعراء العرب أهمية مخصوصة؛ هو واقع مدرك تماماً؛ أدركه الخليل وأدركه صاحب عروض قضاعة وآخرون كُثر. أمّا ما هي حدود هذا الموضع، وحدود التسلسل الذي سيكون قبله، أي الحشو؛ وما هي طبيعة هذه الأهمية لهذا الموضع المخصوص؛ فهنا يقع الاختلاف بين الأطراف؛ فكل واحد سينظر لحدوده وأهميته من خلال النظرية العروضية التي جاء بها.

فالخليل لكونه أقام نظامه على فكرة الجزء، فقد عبّر عن ذلك بفكرة العروضة والضرب والحشو. أمّا أبو الطيب فقد عبّر عن ذلك بفكرة الجرس والحشو، ذلك أنّ عروض شعر العرب برأيه إنما يقوم على الأنساق المغايرة في فكرتها لفكرة الجزء. ولذلك فقد يتفق أحياناً تحديد الجرس والحشو في عروض قضاعة، مع تحديد العروضة والحشو في نظام الخليل؛ وفي كثير من المواضع لا يلتقيان. فهم سيلتقيان دائماً فيما لو تطابق النسق مع الجزء تماماً، كما في البسيط والرجز ومعه الكامل والبندول فقط، وسيلتقيان في بعض الأحيان في غير ما ذكرنا من بحور، بحسب طبيعة العلة الداخلة على الضرب.

فالجرس في عروض قضاعة هو الخطوة أو التسلسل بعد آخر عُقدة قِفْل في السلسلة. وقد نضع بدل عقدة القِفل هذه، أي التي يقع بعدها الجرس؛ هذا الرمز (#)، وذلك من اجل تمييز موضع الجرس عن غيره في السلسلة. وهذا الرمز الجديد ليس إجبارياً؛ فالجرس بهذا التعريف الذي ذكرناه، يعتبر معيار ثابت لتحديده في كل سلسلة عُقدية مهما كانت، لكن هذا الرمز مع ذلك، له فوائد في مواضع مخصوصة كما سنرى. انظر هذه السلاسل كمثال:

أ) الرمل التام: لا نعم، لا لا نعم، لا لا #، لا (ع.= 12) = [فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن]. فالجرس هنا خطوة. أمّا العروضة [أو الضرب] في نظام الخليل، فهي التسلسل فاعلاتن، وهي عروضة تامة.

ب) المديد بطول الأثلم (المديد الأثلم): لا نعم، لا لا نعم، لا #، لا (ع.= 11)، = [فاعلاتن فاعلن فاعلاتن]. والجرس هنا أيضاً خطوة. أمّا العروضة [أو الضرب] فهي فاعلاتن، لكنها عروضة مجزوءة هذه المرة وليست تامة.

ج) المتقارب التام: نعم، لا نعم، لا نعم، لا #، لا (ع.= 12) = [فعولن فعولن فعولن فعولن]. والجرس هنا أيضاً خطوة. أمّا العروضة [أو الضرب] فهي فعولن، وهي عروضة تامة.

د) المتقارب الأثلم: نعم، لا نعم، لا #، لا نعم (ع.= 11) = [فعولن فعولن فعولن فعو]. الجرس هنا نسق فتلة. أمّا الضرب فهو (فعو)، وهو ضرب تام محذوف معتمَد.

هـ) البسيط الدارع: لا لا نعم، لا نعم، لا لا #؛ لا نعم (ع.=14) = [مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن]. تطابق هنا الجرس مع الضرب [أو مع العروضة]، فالجرس هنا نسق فتلة. أمّا الضرب فهو (فاعلن)، وهو ضرب تام.

و) الخفيف بطول الأصفر (الخفيف الأصفر): لا #، لا لا لانعم (ع.= 8) = [فاعلاتن مستفع لن]. الجرس هنا نسق العنقاء. أمّا الضرب [أو العروضة] فهو (مستفع لن)، وهو ضرب مجزوء.

ز) الطويل الدارع: نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا #، لا لا (ع.= 14) = [فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن]. الجرس هنا وتر، والمسمّى المخصص لجرس الوتر هنا هو " قَطيف"، ذلك أنه ناشئ عن نسق قنطرة حُذفت عقدتها. أمّا الضرب في نظام الخليل فهو (مفاعيلن)، وهو ضرب تام.

ح) المديد بطول الأخضر (المديد الأخضر): لا نعم، لا لا #، لا لا (ع.= 9)، = [فاعلاتن فاعلن فاعلْ]. قد توافق الجرس والضرب هنا بين نظام الخليل ونظام قضاعة. فالجرس والضرب هنا وتر (لا لا). فهو في نظام الخليل (فاعِلْ)، وهو ضرب مجزوء أبتر، والبتر علة مركبة من علة الحذف وعلة القطع، ذلك أن ضرب المديد المجزوء هو فاعلاتن في الأصل. والمسمّى المخصص لجرس الوتر هنا في نظام قضاعة هو "فَـتيل"، ذلك أنه ناشئ في هذا القالب عن نسق فتلة أصابتها علة القطع مباشرة بحسب توصيف الخليل لها من خلال الحرف الصوتي؛ أما تعريف القطع في نظام قضاعة، فهو حلّ عقدة النسق الذي احتل موضع الجرس لخطوتين، ثم حذف الأخيرة منهما. (13)

(13): قلنا أن التعامل مع السلاسل الصوتية يكون من خلال الوحدات الصوتية المؤلّفة لها، وليس من خلال الحرف الصوتي؛ حتى وإن كان الحرف الصوتي متضمناً في هذه الوحدات تلقائياً. والإنقاص من أطوال السلاسل يكون على هذا الأساس أيضاً، ومن نهايتها حصراً؛ وهذا هو مفهوم العلة الأساس في نظام الخليل. وعلى ذلك، فتعريف نظام قضاعة لعلة القطع هو: حلّ عقدة النسق الذي احتل موضع الجرس لخطوتين، ثم حذف الأخيرة منهما. ذلك أن عقدة النسق في أصلها الصوتي، إنما هي خطوتين مدموجتين ببعض على نحو ثابت لغاية إيقاعية كما قلنا. ويطلق نظام قضاعة على علة القطع مسمّى"الثقب" للتخلص من هذا الإرباك بين العلمَين. أمّا الخليل ولكونه قد ارتهن بشدة للحرف الصوتي كما قلنا، فإن تعريف علة القطع في نظامه جاء بدلالة الحرف الصوتي، فتعريفها فيه هو: (القطع هو حذف ساكن الوتد المجموع من آخر الجزء، وتسكّن ما قبله). [راجع منطوق علة القطع في نظام الخليل الذي قلناه في كل من: (العقد الفريد، ج 6، ص 273). (الجامع في العروض والقوافي، ص 111). (الغامزة، ص 108، للدماميني)].

ط) البسيط بطول الأحدب (المديد الأحدب): لا لا نعم، لا #، لا لا لا (ع.= 10)، = [مستفعلن فاعلن مستفعلْ]. الجرس هنا سكة، والمسمّى المخصص لجرس السكة هنا هو "قطاع"، ذلك أنه ناشئ عن نسق قنطرة أصابتها علة القطع مباشرة بحسب توصيف الخليل، والتي هي بتعريف قضاعة حلّ عقدة النسق الذي احتل الجرس لخطوتين ثم حذف الأخيرة منهما. أمّا الضرب فهو (مستفعلْ)، وهو ضرب مجزوء مقطوع.

ي) المنسرح التام (بتأصيل قضاعة): لا لا نعم، لا لا لا #، لا لا لا (ع.= 12)، = [المنسرح التام بتأصيل الخليل: مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن]. الجرس هنا سكة، والمسمّى المخصص لجرس السكة هنا هو "عُنق"، ذلك أنه ناشئ عن نسق عنقاء حُذفت عُقدتها. أمّا الضرب فهو (مستفعلن)، وهو ضرب تام. و(مستفعلن) الضرب هنا هي تفعيلة وهمية كما قلنا من قبل، وكما سنشرح بعمق لاحقاً.

ك) الخفيف التام (بتأصيل قضاعة): لا نعم، لا لا لا #، لا لا لا لا (ع.= 12)، = [الخفيف التام بتأصيل الخليل: فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن]. الجرس هنا عنقود، والعنقود معرَّف بنفسه؛ فهو ناشئ عن نسق عنقاء أصابتها علة القطع مباشرة بحسب توصيف الخليل، والتي هي بتعريف قضاعة حلّ عقدة النسق الذي احتل الجرس لخطوتين ثم حذف الأخيرة منهما. أمّا الضرب فهو (فاعلاتن : لا نعم لا)، وهو ضرب تام. وسنشرح لاحقاً كيفية مجيء فاعلاتن كضرب وعروضة للخفيف التام في نظام الخليل بدل جرس العنقود.

ل) الخفيف بطول الأثلم (الخفيف الأثلم): لا نعم، لا لا لا #، لا لا لا (ع.= 11)، = [الخفيف الأثلم بتأصيل الخليل: فاعلاتن مستفع لن فاعلا]. الجرس هنا سكة، والمسمّى المخصص لجرس السكة هنا هو "عُنق"، ذلك أنه ناشئ عن نسق عنقاء حُذفت عُقدتها، تماماً كما المنسرح التام. أمّا الضرب فهو (فاعلا)، وهو ضرب محذوف تام.

وقد تطابق تماماً تحديد عروض قضاعة لموضع الجرس، مع الموضع الذي أولاهُ شعراء العرب أهمية مخصوصة؛ خاصة إذا أخذت بعض الأحكام الإيقاعية التي راعاها العرب بالاعتبار، والتي جعلت بعض الأجراس في صورتها الثانوية تبدو أولية في الظاهر، لكنها على الحقيقة إيقاع ثانوي كما سنرى؛ وذلك كجرس المنسرح التام الذي هو عنق وليس فتلة كما افترضَ الخليل. وجرس الخفيف التام الذي هو عنقود وليس فاعلاتن. وجرس السريع بطول الأثلم الذي هو قطاع (11 وحدة كمية)، وأن السريع ليس مفصولاً عن الرجز كبحر كما قرّر الخليل. وسنعود لاحقاً فنشير إلي هذه الأمور لتفهم المقصود منها تماماً.

فالجرس ذو واقع حقيقي وليس افتراضي كما هو حال فكرة الضرب والعروضة. والسبب في هذا التطابق أنّ الجرس مرتبط بمفهوم الأنساق التي قام عليها عروض شعر العرب على الحقيقة. وفكرة الأنساق بعكس فكرة الأجزاء، تستمد شرعيتها من ذاتها ومن الدائرة أيضاً. والجرس هو من أهم أدلة صاحب عروض قضاعة على وجود واقع حقيقي للنسق، وليس مجرّد افتراض هدفه التسهيل. وشواهد هذا التطابق قد ملئت الكتاب الأم لعروض قضاعة، وكذلك كتاب المنتج الجاهز المتاح على الانترنت.

تناقض: قلنا أن الأستاذ خشان في طريقته الرياضية [الشمولية]، التي زعم بأنها تمثل فكر الخليل الرياضي الشمولي الذي لم يكشفه احد غيره..! يعامل السلسلة بمجملها على أنها هي نفسها الكيان الإيقاعي مهما كان طولها (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص: 22- 24، 236). لكن ناقض نفسه لـمّا قال بوجود منطقة العروضة ومنطقة الضرب، التي لها أحكام إيقاعية مخصوصة غير أحكام منطقة الحشو كما قال. (العَروض رقمياً، ص 8)
فعدا عن أن تحديده لحدود منطقة الضرب مخالف لتحديد الخليل، وفي هذا خروج عن منهج الخليل بعكس ما ادعى؛ فهذا تبعيض للسلسلة يجعلها تنقسم إلى حشو ونهاية إيقاع، فلم تعد بالتالي السلسلة هي الكيان الإيقاعي بمجملها، على ما مضى عليه في أصل طريقته الرقمية..! فهذا تناقض فظيع منه. والذي فرض هذا الواقع عليه وجعله يتناقض مع نفسه، أن نهاية إيقاع كلا الشطرين الذي أولاهُ شعراء العرب أهمية مخصوصة؛ هو واقع مدرك تماماً، ولذلك فلا بد أن يفرض هذا الواقع نفسه على الباحث العروضي.
والذي فات الأستاذ خشان هنا، طالما انه الخبير الوحيد بمنهج الخليل كما يدعي، أن الذي جلب واقع منطقة الضرب في طريقته الرقمية، أو جلب واقع العروضة في نظام الخليل، أو جلب واقع الجرس في نظام قضاعة، أن السلسلة الشعرية إيقاعياً، إنما تتألف من وحدات إيقاعية مكررة بانتظام، وليست تتألف إيقاعياً من وحدات صوتية مكررة بانتظام على ما مضى عليه في طريقته الرقمية؛ أي أنه ليست السلسلة هي الكيان الإيقاعي بمجملها على ما توهّم.
فالخليل رأي أن هذه الوحدات الإيقاعية المكررة بانتظام، هي الأجزاء بنظره، وصاحب عروض قضاعة يخالفه في ذلك فيرى أن هذه الوحدات الإيقاعية المكررة بانتظام هي الأنساق وطوالعها. ثم أن الخليل رأى بأن الجزء الأخير في السلسلة الذي يسميه العروضة (أو الضرب)، هو الموضع الذي أولاه شعراء العرب أهمية مخصوصة، ولذلك تعلق بها مبحث العلل في نظامه، وتعلق بها وكذلك الزحاف الذي جرى مجرى العلة في العروضة والضرب. وصاحب عروض قضاعة يرى أن النسق الأخير في السلسلة هو المعني بذلك، سواء ورد مكتملاً في هذا الموضع، أو ورد ناقصاً (طوالع الأنساق)، وأن أحكام التلوين في عروض قضاعة هي ما تنظم هذا الأمر. وهكذا يتأكد لنا زيادة عن ما قلناه، خطأ معظم الرقميين عندما عاملوا السلسلة بمجملها على أنها هي نفسها الكيان الإيقاعي، مهما كان طولها، ويتبين لنا تناقضهم كذلك.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:43 AM
( 9 )

والأمر الثاني الضروري الإلمام به في هذا الموضع، هو أن موضع الجرس كما حدّدناه أعلاه، قد يحتله نسق مكتمل كما رأينا في الأمثلة، فيكون الجرس هو النسق نفسه. أو قد يحتله بعض من النسق كما رأينا في الأمثلة أيضاً، وذلك نتيجة حذف عُقدة النسق نفسها أو أكثر من ذلك؛ وذلك عند إرادة الإنقاص من طول السلسلة المعينة، حيث الإنقاص من طولها منوط بنهايتها فقط كما قلنا.

أو قد نلجأ ولنفس السبب، إلى حذف وحدة صوتية نوعية واحدة فقط من عقدة النسق الذي احتل موضع الجرس، ويكون هذا بحلّ عقدة النسق نفسها في موضع الجرس لخطوتين، ثم حذف الخطوة الأخيرة منهما..؟ فعقدة النسق عقدة أولية، وهذه العقدة في أصلها الصوتي إنما هي خطوتين مدموجتين ببعض على نحو ثابت لغاية إيقاعية كما قلنا. والتعامل مع السلاسل الصوتية يكون من خلال الوحدات الصوتية كما قلنا، وليس من خلال الحروف.

وهذا الأمر الثاني ليس فقط يحصل عند إرادة الإنقاص من طول سلسلة معينة؛ بل هو يحصل كذلك عند اقتطاع سلسلة من الدائرة بطول محدّد. ذلك أن الدائرة بمنظور قضاعة ليس لها طول، إنما الطول هو للسلاسل المقتطعة منها كما قلنا.

ويطلق عروض قضاعة على القدر المتبقّي من النسق في موضع الجرس بعد الإنقاص منه، مهما كان هذا القدر، مسمّى (طالع النسق)، والجمع طوالع. وعلى ذلك، فالطالع جرس بالضرورة لكنه ليس جرس نسق. فنسق الفتلة كجرس لها طالعين: طالع الوتر، وطالع الخطوة. ونسق القنطرة كجرس لها ثلاثة طوالع: طالع السكة، وطالع الوتر، وطالع الخطوة. أمّا نسق العنقاء كجرس فلها أربعة طوالع: طالع العنقود، وطالع السكة، وطالع الوتر، وطالع الخطوة. وهذه الطوالع باستثناء فيما لو كانت خطوة؛ قد منحناها أسماءً تخصّصها في موضع الجرس، راجعة إلى جرس النسق الذي انقلبَ عنه الطالع (انظر الرسم الشارح لها).

1435
https://photos.app.goo.gl/rVW4dt5YRrnvJDqEA

أمّا الخطوة فهي اسم مخصص أصلاً كوحدة صوتية كما قلنا، حتى لو جاءت كطالع لنسق (أي في موضع الجرس). فإذا احتلت الخطوة موضع الجرس فتخصيصها أن يقال (جرس الخطوة).
وهذا الأمر، أي الطوالع، عدا عن علاقتها بالسر الدفين، فلها أهمية إيقاعية عظيمة قد لا تدركها الآن، لأننا لن نأتي على ذكرها في هذه المقالة؛ لكن يكفيك أن تعلم أنه بغياب مسمّى وواقع الطالع، فإن توصيف التفاصيل الإيقاعية المتعلقة بالإيقاع، خاصة إيقاع الأجراس؛ سيكون مرهقاً للعقل عند التفكير، وللنص عند التسطير.

أعود فأقول: فأسماء هذه الطوالع المخصّصة، ذات العدد المحدود بسبب أن انساق العرب العقدية هي ثلاثة فقط؛ لها علاقة بالسر الدفين عند شرحه؛ لأنها ستربط السلاسل من جهة أجراسها، بالدائرة الإيقاعية العربية بمفهوم قضاعة. فالدائرة هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب كما قلنا من قبل. هذا مع ملاحظة أن جرس الخطوة جرسٌ حيادي، فلا عمل للقوانين الصوتية (التكافؤ والخبب)، على جرس الخطوة، ذلك لأنها خطوة منفردة في هذا الموضع، فهي خطوة قِفل. وعند عُقدة القفل يتوقف عمل القانون الصوتي. أي يتوقف عمل الزحاف، فالزحاف لا يمس سواكن الأوتاد المجموعة.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 01:49 AM
( 10 )

والأمر الثالث الضروري الإلمام به في هذا الموضع: هو انه لعلك قد لاحظت توصيفات أطوال السلاسل التي وردت في الأمثلة السابقة عن الأجراس، والتي ورد بعضها سابقاً معنا في هذه المقالة (الأثلم- التام – الدارع- الأصفر – الأخضر- الأحدب). فأسماء الأطوال هو وسيلة عروض قضاعة في ربط ثلاث قضايا ببعض في العروض العربي. فهي سوف تربط الأنساق برفقة طوالعها في السلسلة، مع أحكام اقتطاع السلاسل الصوتية من الدائرة. فالسلسلة العربية المقتطعة لها طول محدّد لا يجب أن يقل عن طول الأحمر بحال (سبع وحدات كمية)، ولا بد أن يكون لها بداية محدّدة على الدائرة المعينة مربوطة بالبحر. وهذين الأمرين سيمكّنان من معرفة جرس السلسلة، هل جرسها نسق أم هو طالع؛ فكل هذا سيُربط إيقاعياً مع الدائرة بمفهوم قضاعة لها، وسيُربط من بداية كل بحر عليها.

فهل ستُقدّر أطوال السلاسل على أساس عدد حروفها المتحركة والساكنة..؟ أم على أساس عدد الوحدات الصوتية النوعية فيها..؟ الحقيقة أنه لا هذه ولا هذه، فتقدير الأطوال ومن ثم منحها مسميات مخصّصة؛ راجع لظاهرة " الـزّخَم"، المنبثقة بدورها عن ظاهرة الوضوح السمعي للحركات.

فظاهرة الوضوح السمعي للحركات في السمع قياساً على غيرها، قد لاحظها الجميع دون الحاجة للتجارب المِخبَرية الصوتية. لكنها متعلقة بالحركة مع حرفها الصحيح، وليس فقط بالحركة وحدها على ما ظنّ الأصواتيون، ذلك لأن هناك تلازم مصيري بين الحرف الصحيح والحركة على مستوى عضو النطق، وعلى مستوى المسموع من الأصوات؛ وإلّا لَـما كان الحرف الصوتي مدرجاً وسيطاً بامتياز. فهذا التلازم بينهما هو ما أنجب أهم شِقّ في الحرف الصوتي، وأهم مقطع عند الأصواتيين، ألا وهو المقطع القصير الذي هو الحرف المحرّك عند العرب؛ هذا الموجود في كل لغات العالم بشهادة الأصواتيين أنفسهم. (دراسة الصوت اللغوي- أحمد مختار، ص 299)

وهذا التلازم بين الحركة والحرف، والذي يطلق عليه العرب الحرف المحرّك؛ هو ما أدعوه في نظام قضاعة بـالزّخَم، تحريراً للذهن من الآراء المسبّقة عن الحرف المحرك. فالزخم هو الأساس والساكن متفرّع عنه، ولذلك هو الحاضر أولاً في عضو النطق ثم يتبعه الساكن. ولنفس السبب كان المساس بالزخم على مستوى السلاسل الصوتية فيه ضياع للصوت، فلا ظهور للصوت اللغوي بدون الزخم.(ظن عازم)

ولأجل أنّ الزخم لا يقيم وزنا للسواكن أبداً، لأنه الحرف المحرك فقط؛ فإنه تتوفر فيه صفة الثبات في قياس الأطوال، وهذا بعكس مقياس الطول على أساس عدد الحروف في التسلسل أو في السلسلة، والذي هو مقياس مخادع (14)..؟ فالسواكن هي التي دائماً عُرضة للحذف، سواء في صرف ونحو اللغة، أو في كيفية قراءة إملاء اللغة، أو في العروض. أمّا الزخم فيظل ثابتاً على الأغلب، إن لم يزد فلا ينقص، ذلك أنّ في حذفه ضياع للصوت، فلا ظهور للصوت اللغوي بدون الزخم كما قلنا.

(14): فــ فاعلاتن السالمة (/0 //0 /0)، وفعلاتن المخبونة (///0 /0)، وفاعلاتُ المكفوفة (/0 //0 /)، وفعلاتُ المشكولة (///0 /)، كلها بمقدار أربع وحدات كمية على أساس الزخم. لكن على أساس عدد الحروف، فإن فاعلاتن السالمة سبعة حروف، والمخبونة والمكفوفة ستة حروف، أمّا في المشكولة فهي خمسة حروف..! والعنقود سالماً أو مشروماً هو بمقدار أربع وحدات كمية أيضاً (#، لا لا لا لا)، (#، لا لا لا / = مفعولاتُ نهاية السريع). لكن على أساس عدد الحروف فالأول عدد حروفه ثمانية، أمّا العنقود المشروم فعدد حروفه سبعة..!

ولأجل ذلك، فالزخم مناسب جداً لقياس أطوال التسلسلات والسلاسل؛ بل لقياس أطوال الوحدات الصوتية النوعية نفسها؛ لأنه معنـيّ بالكمّ فقط، لا أكثر ولا أقل. أي هو معنيّ فقط بعدد الحروف المتحركة في كل ما ذكرنا. أمّا السلاسل الصوتية فهي تقوم على الوحدات الصوتية النوعية كما قلنا (الخطوة والعقدة والجدلة والربطة)، هذه التي علامتها البداية بمتحرك والانتهاء بساكن على الحقيقة أو على التقدير؛ فالشرم لا ينتقص من حقيقتها. كما أن الإنقاص من أطوال السلاسل يعتمد على هذه الوحدات النوعية كما رأينا، وليس على الزخم.

وهكذا يظهر لنا أنّ وحدة الخطوة (لا)، المحتوية على زخم واحد فقط؛ ليست هي فقط أدنى وحدة صوتية نوعية، بل هي أدنى وحدة صوتية نوعية وكمية في نفس الوقت كما قلنا من قبل. ويليها في الطول وحدة العقدة (نعم)، فهي تحتوي على زخمين، ذلك لأنها ناتجة عن دمج خطوتين ببعض كما قلنا من قبل أيضاً. والخليل العبقري قد انتبه لظاهرة الزخم (كما سنرى)، وعرفَ أنه مقياس طول فقط، بل واستعمله كذلك في السر الدفين الذي أفرز ظاهرة التقليب، والذي اقتربنا جداً من الحديث عنه.

ولأجل ذلك، قام صاحب عروض قضاعة بتفريع الوحدة الصوتية إلى نوعين، الوحدة الصوتية النوعية في مقابل الوحدة الصوتية الكمية. فالوحدة الصوتية الكمية راجعة للزخم، لأن الزخم معنـيّ بالكمّ كما قلنا؛ فهذا أيسر لنا في الاستخدام، فبدلاً من قول (هذه السلسلة بطول 11 زخم، أو فيها 11 متحرك)، سنقول: (هذه السلسلة بطول 11 وحدة كمية). أي أن ع.=11 هو تقدير لطولها، حيث (ع.) هي اختصار لعبارة (عدد الوحدات الكمية).

تنبيه: انتبه أننا إذا قلنا (الوحدة الصوتية) مجرّدة عن الإضافة، فمقصودنا هو الوحدة الصوتية النوعية، لأنها الأساس. فإذا أردنا الإشارة إلى الفرع الثاني منها سنؤكد عليها بقولنا (الكمية). وانتبه كذلك أيضاً، إلى أننا إذا قلنا (قد جرى إنقاص وحدة كمية واحدة من نهاية هذه السلسلة)، فإنّ الإنقاص في الذهن يجب أن يتوجه للوحدات النوعية الأخيرة من السلسلة، إمّا بالحذف المباشر إن كانت خطوة أو بالقطع إن كانت عُقدة النسق؛ فالإنقاص يكون على أساس الوحدات النوعية كما قلنا ورأينا. لكن لأن الوحدة الكمية هي الأداة الموجّهة لقياس الأطوال، وناتج الإنقاص سينعكس على الأطوال؛ فهذا جوّز لنا أن نقول أنه قد جرى إنقاص وحدة كمية واحدة من السلسلة، فانتبه لذلك؛ وقل نفس الشيء في حالة الزيادة.

ومن التطبيقات الإيقاعية المهمة جداً لظاهرة الزخم التي استفاد منها نظام قضاعة، هو منح أطوال السلاسل الشعرية العربية الشرعية مسمّيات. وهذا الصنيع سيضرب لنا عدة عصافير بحجر واحد؛ لا داعي للخوض فيها كلها هنا، فقد ذكرناها في كتاب المنتج الجاهز. لكن من أهم فوائدها المتعلقة بكلامنا هنا، أن ذكر اسم الطول سيُغنينا عن تكرار استخدام عبارة (وحدة كمية)؛ فاسم الطول متضمن لذلك تلقائياً.

والفائدة الثانية لذلك، أنه حيث أن الدائرة إيقاع أولي كما قلنا؛ وأن الإيقاع الأولي هو منطلق القياس في السلاسل لأنه تعبير عن الناحية القياسية في عروض شعر العرب؛ فإنه إذا ربطنا اسم الطول بالبحر والدائرة، وذلك كقولنا (البسيط الأثلم- الخفيف الأصفر)، فهذا ربطٌ للقضايا الثلاث التي قلناها بداية حديثنا عن هذا الأمر الثالث. وبالتالي التخلّص من عبء مبحث العلل في نظام الخليل، فلا نحتاج من علل نظامه سوى لعلة القطع فقط، بتعريف قضاعة طبعاً [الثقب].

وهذه الأسماء الممنوحة للأطوال تصلح للتذكير مع اسم الطول، وتصلح للتأنيث مع طول السلسلة، كما هو مبين بجانب كل طول أدناه، مع الإشارة هنا إلى أن أدنى طول مسموح به في سلاسل شعر العرب، هو طول الأحمر البالغ سبع وحدات كمية.

14 وحدة كمية = طول الدارِع (سلسلة دَرْعاء - أو دارِعة )
- الطويل الدارع: نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو قَطيف]
- البسيط الدارع: لا لا نعم، لا نعم، لا لا #، لا نعم - [الجرس نسق فتلة]

13 وحدة كمية = طول الفارع (سلسلة فَـرْعاء - أو فارعِة )
- الطويل الفارع: نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا #، لا - [الجرس خطوة]
- البسيط الفارع: لا لا نعم، لانعم، لا لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو فَتيل]

12 وحدة كمية = طول الـتـام (سلسلة تامّة)
- الرمل التام: لا نعم، لا لا نعم، لا لا #، لا - [الجرس خطوة]
- البسيط التام: لا لا نعم، لا نعم، لا لا #، لا - [الجرس خطوة]

11 وحدة كمية = طول الأثـْـلَـم (سلسلة ثَـلـْماء)
- الرجز الأثلم: لا لا نعم، لا لا #، لا لا لا - [الجرس سكة، وهي قطاع]
- المنسرح الأثلم: لا لا نعم، لا لا لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو عَقيل]

10 وحدات كمية = طول الأحْدَب (سلسلة حَدْباء)
- المديد الأحدب: لا نعم، لا لا #، لا نعم - [الجرس نسق فتلة]
- المتقارب الأحدب: نعم، لا نعم، لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو فَتيل]

9 وحدات كمية = طول الأخضر (سلسلة خضراء)
- الكامل الأخضر: لا لا نعم، لا لا #، لا - [الجرس خطوة]
- المديد الأخضر: لا نعم، لا لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو فَتيل]

8 وحدات كمية = طول الأصفر (سلسلة صفراء)
- البسيط الأصفر: لا لا نعم، لا #، لا - [الجرس خطوة- وهو المسمّى المجتث بغير حق]
- الهزج الأصفر (والوافر الأصفر): نعم، لا لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو قَطيف]

7 وحدات كمية = طول الأحمر (سلسلة حمراء)
- الرجز الأحمر (والكامل الأحمر): لا لا #، لا لا نعم - [الجرس نسق قنطرة]
- المتقارب الأحمر: نعم، لا #، لا لا - [الجرس وتر، وهو فَتيل]

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 02:08 AM
كانت هذه المشاركة مكررة، لذلك تم حذفها.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 02:27 AM
( 11 )

والأمر الرابع الأخير، الضروري الإلمام في هذا الموضع: هو ضرورة التفريق بين النسق وشبيه النسق، وذلك لعلاقتها بأحكام الاقتطاع من الدائرة، وبالحكم على السلاسل أهي عربية أم لا. فنسق العنقاء لكونه أطول نسق في عروض الشعر العربي، فهو يتضمن في جوفه فتلة وقنطرة (لا لا لا نعم - لا لا لا نعم). ونسق القنطرة يتضمن في جوفه فتلة فقط (لا لا نعم)؛ أمّا نسق الفتلة فليس في جوفها شيء لأنه أقصر نسق عُقدي في العروض العربي. وأمّا نسق العنقاء فلا شبيه لها لأنها أطول نسق كما قلنا، فلا شيء أطول منها لتقع في جوفه.

فهذه التسلسلات التي في جوف الأنساق، هي أشباه انساق وليست انساق؛ وهما شبيهين اثنين فقط؛ ولذلك لم نستخدم معها كلمة نسق المخصّصة. وقد منحناهما في نظام قضاعة أسماء محددة لنُحرّر مسمّى النسق منها ونختصر الكلام بهما، وهما: الفُتيلة والقُنيطرة، الذين هما على جهة التصغير كدلالة على واقعهما بكونها أشباه انساق وليست انساق. نقول هذا مع أنّ شبيه النسق يعامَل في السلاسل معاملة النسق. لكن هذا التفريق ضروري لتعلقه بأحكام اقتطاع سلاسل عربية من الدائرة العربية كما قلنا؛ فالدائرة العربية ليس فيها أشباه انساق، لأنها تقتصر على الأنساق في تأليفها كما قلنا.

بعد هذا البيان، فإنه إذا كانت بعض سلاسل العرب الأولية، أي المقتطعة من هذه الدوائر؛ تبدو ظاهرياً وكأنها مؤلّفة من انساق غير منتظمة التكرار، وذلك كسلسلة الرمل التامة أو التي بطول الأثلم (لا نعم، لا لا نعم، لا لا نعم ، ع.= 11). حيث وردت بدايتها فتلة ثم قنطرتين؛ فهذا هو الظاهر، لكن الحقيقة غير ذلك. انظر الشكل أدناه ثم نتابع حديثنا.

1436
https://photos.app.goo.gl/oTpGUxo9qPE7G2ez6

فسلسلة الرمل التامة على الحقيقة مؤلّفة من نسقين مكرّران بانتظام، لأنها محقّقة لقضية السقوط الإيقاعي على دائرة الرجز؛ فالفتلة التي بدأت بها سلسلة الرمل ليست نسق، إنما هي شبيهة نسق الفتلة على الدائرة (فُتيلة). فالعرب أجازت في الدوائر العربية المجرّدة من العنقاء [أي ليس مع دائرة قحطان]، والمقتصرة في تأليفها على نسق واحد مكرر كدائرة الرجز؛ الاقتطاع بدايةً من شبيه نسق عليها إنما بشرط واحد، وهو أن يتبع شبيه النسق نسقين مكتملين يدلان على الدائرة التي جاء منها شبيه النسق هذا. وفعلاً هذا الذي كان في شواهد العرب، فقد تبع شبيهة نسق الفتلة بداية سلسلة الرمل التي بطول الأثلم، قنطرتين مكتملتين (لا نعم، لا لا نعم، لا لا نعم ، ع.= 11)، دلّا على دائرة الرجز التي قَدِمَ من الرمَل.

فالناحية الصوتية الممثلة بالتنعيم، هو غير الناحية الإيقاعية الممثلة بالتنغيم، فحتى لو تطابقت الفتلة والفُتيلة في التنعيم الصوتي؛ وحتى لو أنّ شبيه النسق يعامَل في السلاسل معاملة النسق كما قلنا؛ فهذا لا يلغي حقيقة كون الدائرة هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب كما قلنا. ذلك أنّ شبيه النسق في الإيقاع الأولي متعلّق فقط بالدائرة التي هي المرجع. فدائرة الرجز تقتصر في تأليفها على نسق القنطرة كما قلنا، ولا مكان لنسق الفتلة فيها؛ وبالتالي فالفتلة التي بدأت بها سلسلة الرمَل هي الفتلة التي في جوف القنطرة على دائرة الرجز، أي هي فُتيلة وليس فتلة. (15)

(15) ولذلك نظير في نظام الخليل، وذلك في الضروب المزاحفة المعلولة، أي في نهاية السلسلة الثانوية وليس في أولها؛ فدوائر الخليل إيقاع أولي وليس فيها أحكام اقتطاع كما قلنا. فـ (مستفعلن) في قالب مخلّع البسيط (أي البسيط الأحدب الذي جرسه قطاع)، إذا أصابتها علة القطع صارت هكذا (مستفعلْ: لا لا لا)، ثم إذا دخلها الخبن بعد ذلك صارت على هذه الهيئة (متفْعلْ: نعم لا)، الشبيه ترميزها الصوتي بترميز فعولن (نعم لا)، ولذلك ينقلها العروضيون إلى فعولن، ليس أنها بهذا النقل تصير هي الجزء فعولن الخماسي، إنما تحسيناً لصورتها بعد أن مزّق الزحاف والعلة هندامها الأصلي السباعي (متفْعلْ)، فصار الهندام الممزّق قبيحاً في اللفظ. وربما حصل هذا أيضاً في نظام الخليل، في الخرم بداية السلسلة الثانوية المبدوءة بعقد قفل؛ والخرم باطل في نظام قضاعة.

وبالتالي، فحتى تظل السلسلة تابعة للرمل إيقاعياً، فيجب عليها أن تحافظ على هذا الشرط المذكور، وهو فعلاً ما حدث في واقع الشعر. فلا يُعتَد بصنيع الخليل الذي جعل للرمل قوالب تنزل لطول الأصفر، فحاصر الرمل بذلك قوالبَ المديد من جهتين؛ فهذا تناقض إيقاعي فظيع حتى لو قسناه إيقاعياً بمقياس الجزء في نظام الخليل (16). فإيقاع الرمل لا يظهر إلّا عند طول الأثلم له فأعلى، وصولاً لطول التام القياسي. ما يعني أنّ أيّ سلسلة مشتركة بين الرمل والمديد دون طول الأثلم، فهي تتبع للمديد فوراً، لأن المديد يبتدئ على دائرة البسيط من نسق فتلة، وليس من شبيهة نسق الفتلة؛ والأنساق أوضح إيقاعياً من أشباهها؛ لأن الدائرة التي هي مرجع الانتظام في شعر العرب كما قلنا، تقوم على الأنساق وليس على أشباه الأنساق.

وبالتالي فشرط الاقتصار على نسقين، وشرط انتظام تكرار الأنساق الذي قلناه، ظلّ حاضراً في سلسلة الرمل الثلماء والتامة؛ فالناحية الصوتية هو غير الناحية الإيقاعية كما قلنا. ولذلك كان لكل بحر قاطع معين قرّره صاحب عروض قضاعة، لا يجب النزول دونه للبحر المعين؛ قد تم تحديده على أساس قضية السقوط الإيقاعي؛ التي هي القضية الأهم للشعر الموصوف بكونه عربي. فكثير من البحور يجوز لها النزول حتى طول الأحمر، لكن بعضها لا يجوز لها ذلك كالرمل، فقاطع بحر الرمل هو طول الأثلم الذي لا يجب النزول دونه وإلّا اختفى إيقاعه.

(16) في ظل اشتراك الرمل والمديد بذات التنعيم الأولي حتى طول الأخضر (9 وحدات كمية)، فإنه إذا نظرنا إلى خريطة توزّع قوالب الرمل والمديد في نظام الخليل، ضمن طول التام القياسي (الشواهد: 8 حتى 17 بحسب دراسة سليمان أبو ستة لشواهد الخليل، والموجودة على صفحتنا في الفيسبوك)؛ فسنجد أنّ قوالب المديد في نظامه محصورة بين طول الأخضر وطول الأثلم فقط، ويحيط بها من الجهتين قوالب للرمل - انظر الرسم.

1437
https://photos.app.goo.gl/tCkZsXqP1vTYkqvB8

وهذا تناقض إيقاعي فظيع حتى لو قسناه إيقاعياً بمقياس الجزء في نظامه؛ إذ كلما ارتفع طول السلسلة اختلف تنعيمها عن الأخرى المتشابكة معها في التنعيم؛ وبالتالي سيختلف إيقاعها عنها لا محالة؛ حتى بدلالة فكرة الجزء. بمعنى انه كان يتوجب على الخليل بدل هذا التناقض الإيقاعي الفظيع، أن يدع قوالب المديد تحمل عبء هذه القوالب القصيرة الطول بدل نسبتها للرمل. وبعد التفكير ملياً بهذا الأمر، اتضح لي أنّ الخليل فعل ذلك ليس عن جهل [وحاشاه]، إنما فعل ذلك لأمر تعلّق بسلامة نظامه وترابطه، وهو ما لن نخوض فيه هنا. نقول هذا حتى مع رفضنا لهذا الصنيع.

وسنجد أن نفس هذا الشرط الذي راعاه العرب في الرمل عند الاقتطاع من شبيه نسق على الدائرة، قد راعت العرب مثله عند الرغبة بتلوين جرس القطاع تلويناً مميزاً (أي جرس السكة المنقلب عن قنطرة)؛ لصنع قوالب جديدة للبحر؛ فيجوز لجرس القطاع (# لا لا لا) بحضور هذا الشرط، أن يصير بالتلوين (# لا نعم)، أو يصير (# نعمم). وهذا الأمر محصور بجرس القطاع فقط، لأن خطوة القطع الوحيدة [خطوة الثقب الوحيدة] التي تصرّف العرب بها لصنع تلوين بهذا الشرط، هي تلك التي في القطاع (الخطوة الأخيرة فيه). والتلوين في عروض قضاعة مشروحاً بمصطلحات الخليل، هو الزحاف المطبّق على تسلسل الجرس فقط.

فقد راعت العرب هذا الشرط في الرجز الأثلم الذي جرسه قطاع ملّون [لا لا نعم، لا لا #، لا نعم، ع.=11 - الجرس قطاع ملّون]. إذ قد سبق القطاع الملّون بما ذكرنا، قنطرتين مكتملتين دلّا على دائرة الرجز التي قَدِمَ من هذا القالب، أي على بحر الرجز. وهكذا فإن هذا القطاع الملّون بما ذكرنا، في قوالب الرجز الأثلم، خاصة هذا (# لا نعم)، هو ليس نسق فتلة، إنما هو فُتيلة أصلها قطاع ملوّن. ما يعني أنّ هذا القالب وإن بدا في الظاهر كإيقاع أولي، لكنه على الحقيقة إيقاع ثانوي، فالإيقاع الثانوي هو الذي عَمِل فيه الزحاف. وبالتالي فشرط الاقتصار على نسقين، وشرط انتظام تكرار الأنساق الذي قلناه، ظلّ حاضراً في هذا القالب أيضاً؛ فالناحية الصوتية هو غير الناحية الإيقاعية كما قلنا.

لكن الخليل قام بفصل قوالب الرجز الأثلم التي تصرّفت بخطوة القطع، عن بحر الرجز موضعها الطبيعي، في بحر منفصل أسماه السريع؛ لأن في ذلك تهديد خطير لبُنية نظامه..؟ فهذا الصنيع سيصهر العلة بالزحاف في نظامه، ونظامه لا يطيق ذلك؛ لأنه يهدد فكرة الجزء الخماسي والسباعي في الصميم، هذه التي اقتصر عليها الخليل في إقامة نظامه. وحتى تستحق هذه القوالب التبعية لبحر آخر [السريع] غير بحر الرجز، أي حتى يكون هذا الفصل لها عن الرجز فصلاً ناجزاً؛ فيجب أن يتبع السريع لدائرة في نظامه، وأن يكون عليها ممثّلا لسلسلة قياسية كي يستحق لَقب (بحر)، فدوائر الخليل ذات طول محدد قياسي كما قلنا. وبضربة حظ وجد السريع له مكاناً في دائرة المشتبه التي صنعها الخليل على عينه كما قلنا، فكانت نهايته سلسلة هي الجزء الافتراضي مفعولاتُ. فالقطاع الملون بما ذكرنا، إذا نشأ عن مفعولاتُ، فلن يؤدي لصهر العلة بالزحاف في نظامه. (17)

(17): ونفس هذا الشرط الملاحظ في قوالب الرجز الأثلم، التي تصرفت بخطوة القطع في القطاع [السريع]، سنلاحظه في احد قوالب البسيط الأحدب الذي جرسه قطاع [لا لا نعم، لا #، لا لا لا - ع.=10]، والذي لا مكان له في نظام الخليل إطلاقاً عند تلوين قطاعه بما ذكرنا، وهذا مثال عليه:
ما زِلتُ في حُبِّـهِ مُنْصِفاً ... مَنْ لَمْ يَزَلْ وَهْوَ لِيْ ظالِـمُ
لا لا نعم، لا #، لا نعم (ع.=10) ... لا لا نعم، لا #، لا نعم (ع.=10)
فالجرس هنا ليس نسق فتلة، إنما هو فُتيلة أصلها قطاع ملوّن؛ وهو استخدام صحيح لهذا التلوين للقطاع في هذا القالب من البسيط، إذ قد سبق القطاع الملوّن بما ذكرنا، نسقين مكتملين دلّا على دائرة البسيط التي جاء منها شبيه النسق هذا، أي على بحر البسيط؛ وهما نسق القنطرة ونسق الفتلة في الحشو. ما يعني أنّ هذا القالب وإن بدا في الظاهر كإيقاع أولي، لكنه على الحقيقة إيقاع ثانوي؛ وبالتالي فشرط الاقتصار على نسقين، وشرط انتظام تكرار الأنساق الذي قلناه، ظلّ حاضراً في هذا القالب أيضاً؛ فالناحية الصوتية الممثلة بالتنعيم، هو غير الناحية الإيقاعية الممثلة بالتنغيم كما قلنا.
أقول: فقالب البسيط الأحدب هذا، هو قالب عربي في الصميم، لكن لا مكان له في نظام الخليل إطلاقاً؛ فاغتنمَ الدكتور عمر خلّوف هذه الفرصة، ومن قبله حازم القرطاجني؛ فجعلاه بحراً مستقلاً أسماه خلّوف "البحر اللاحق". وهو عندهما لا ينتمي لدائرة لأنهما لا يؤمنان بفكرتها. (بحور لم يؤصلها الخليل - البحر اللاحق، ص 153).
وبعد هذا الذي قدمناه، فأظن أنه قد خاب سعيهما، فاللاحق قالب عربي يتبع للبسيط وليس بحراً قائماً بنفسه. فلا تنسى أن عروض قضاعة قام على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب. وهذا بعكس نظام الخليل الذي قام على قدر ما وصل للخليل من قوالب شعر العرب، فهذه القوالب هي ما شكلّت نظامه ككل، بحيث إذا استدرَك عليه قالب لا مكان له فيه، تضعضع نظامه ووصف هذا القالب بالشذوذ كما هو معروف.

وعليه، فإنه إذا كانت بعض سلاسل العرب في الإيقاع الثانوي، هذا الذي ينشأ بسبب الزحاف، أي في المنظوم من الشعر؛ ستبدو وكأنها مؤلفة من ثلاثة انساق، أو أن ظاهرها يوحي بعدم انتظام الأنساق؛ فهذا لا يعول عليه؛ لأن صلاحية السلسلة للاستخدام في النظم، أي في كونها عربية أم لا؛ إنما يتوقف على الإيقاع الأولي لها وليس الإيقاع الثانوي، فالإيقاع الأولي هو أصل الإيقاع العربي، والدائرة التي هي مرجع الانتظام هي إيقاع أولي بالضرورة. ومع ذلك فالعرب أيضاً راعت هذا الأثر في الإيقاع الثانوي كما رأينا في قوالب الرجز الأثلم التي تصرّفت بخطوة القطع في القطاع، أي قوالب السريع بمصطلحات الخليل.

نتيجة: وعلى ذلك، فأشباه الأنساق، أي الفُتيلة والقُنيطرة حصراً؛ إمّا أن تكون في بداية السلسلة، وهذا حصراً سيكون بسبب أحكام الاقتطاع من الدائرة؛ وهنا يمكن حضور الفُتيلة والقُنيطرة. وإمّا ستكون أشباه الأنساق نهاية السلسلة، وفي هذه الحالة لن تحضر سوى الفُتيلة؛ ذلك أن هذا حصراً سيكون في الإيقاع الثانوي للسلسلة (في المنظوم من الشعر)، وسيكون بسبب تطبيق التلوين على بعض طوالع الأنساق، كطالع القطاع وبعض طوالع العنقاء، أي العُنق والعنقود.

أمّا الدوائر المؤلفة من نسقين وغير المحتوية على عنقاء، كدائرة البسيط حصراً، فلا يجوز الاقتطاع منها بدايةً من شبيه نسق عليها. ذلك أنّ هذا سيجعل السلسلة المقتطعة تتألف من انساق غير منتظمة التكرار، فلا تعود السلسلة بالتالي عاكسة لإيقاع الدائرة القادمة منها، أي غير محققة لقضية السقوط الإيقاعي على الدائرة التي هي مرجع الانتظام كما قلنا. وذلك كسلسلة الممتد غير العربية على دائرة البسيط. انظر رسم دائرة البسيط مفرودة ثم نتابع حديثنا.

1438
https://photos.app.goo.gl/bgteSvcgM13vgKCm8

فسلسلة الممتد بسبب هذه المخالفة في أحكام الاقتطاع، سوف تبتدئ بنسقَيّ فتلة على الحقيقة، ثم نسق قنطرة ثم نسق فتلة [لا نعم، لا نعم، لا لا نعم؛ لا #، لا – ع.=14]؛ فليس هناك انتظام في تكرار الأنساق فيها على شرط العرب، انعكاساً لَـما هو حال انتظام تكرار الأنساق في دائرة البسيط. أي أن سقوط سلسلة الممتد على دائرة البسيط إنما هو سقوط نظري لم يترافق معه السقوط الإيقاعي؛ والمعوّل عليه في انتماء السلسلة لنظام العرب، هو السقوط الإيقاعي للسلسلة على الدائرة العربية المستعملة كما قلنا، باعتبارها مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب.

أمّا الاقتطاع من عُقدة القفل على الدائرة العربية [أي من عُقدة النسق على الدائرة]، فهو اقتطاع صحيح على طول الخط، أي سواء كانت الدائرة العرب أحادية النسق أم ثنائية النسق؛ طبعاً إذا كانت السلسلة بطول مناسب يسمح بظهور بتكرار انساق الدائرة في السلسلة المقتطعة، ولو بالحد الأدنى. وذلك كما في الطويل والمستطيل، والهزج ومعه والوافر، وبحر الأزد على دائرة قحطان. ذلك لأن عُقدة القفل التي يبتدئ بها الإيقاع ليست نسق ولا شبيه نسق، وهي فقط بقيمة وحدتين كميتين، وسوف تتابع بعدها الأنساق تلقائياً بانتظام في السلسلة المقتطعة كما هو انتظامها في الدائرة، إذا كانت بطول مناسب كما قلنا.

وعلى ذلك، فالمستطيل القادم من دائرة البسيط هو بحر صحيح الإيقاع عربياً، بعكس الممتد كما قلنا. أمّا لماذا لم يستخدمه العرب المستطيل في النظم، فهذا يُبحث له عن سبب آخر. أي أنّ هذه قضية أخرى منفصلة عن قضية كونه صحيح الإيقاع على ما ظهر لنا. ولذلك قام عروض قضاعة بتسمية المستطيل بمسمّى جديد هو "بحر عدنان"، ليخرجه من حيز النكرة لـمّا كان مهملاً، إلى حيز المُعرّف. فعروض قضاعة قام على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب كما قلنا.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 02:37 AM
( 12 )

أمّا اقتطاع سلسلة قياسية من شبيه نسق على دائرة قحطان العربية، فلم يشترط العرب عند الاقتطاع منها بدايةً من شبيه نسق، ذلك الشرط في الدوائر المجرّدة من العنقاء؛ ذلك أن العنقاء هي العلامة المميزة لبحور العنقاء عن غيرها، فحضورها هو العلامة الإيقاعية لهذه البحور العنقاوية عن غيرها، خاصة في ظل أن دائرة الفراغ ودائرة السراب، المحتوية على عنقاء أيضاً؛ هي دوائر مهملة وجوباً كما قلنا.

والمنسرح والخفيف الذين هما أهم بحرين عنقاوين لكون أن نظم العرب جرى عليها؛ يبتدئ إيقاعهما من أشباه انساق على دائرة قحطان. فالمنسرح يبتدئ من قنيطرة على دائرة قحطان، أمّا بحر الخفيف فيبتدئ من فُتيلة على هذه الدائرة؛ مع أن دائرة قحطان تقتصر على نسق العنقاء في تأليفها. انظر الشكل.

1439
https://photos.app.goo.gl/ae6iU1XqkRxFYcg36

وإذ تلاحظ، فإن إمكانية الاقتطاع من الدوائر تتوجه للأنساق حصراً، فإذا كانت الدائرة أحادية النسق، كدائرة الرجز والبندول ودائرة قحطان، فإن جميع إمكانيات الاقتطاع ستنحصر بهذا النسق الواحد؛ وستكون الدوائر أحادية النسق دوائر ممتلئة بالبحور الصحيحة على شرط العرب في انتظام الأنساق بالضرورة. فلاحظ كيف أنه بظهور دائرة قحطان للوجود، فقد اختفت بظهورها كل البحور المهملة المزعومة في دائرة المشتبه، بل واختفت كذلك كل السلاسل التي أفرزتها ولا عنقاء فيها، فإنه إذا لم تحضر العنقاء في السلاسل فهي لا تنتمي إيقاعياً لدائرة عنقاوية إطلاقاً.

أمّا إذا كانت الدائرة ثنائية النسق كدائرة البسيط، فإن حصر إمكانيات الاقتطاع ستشمل إمكانيات الاقتطاع من كلا هذين النسقين، وليس من نسق واحد فيها (راجع الصور السابقة وتأكد من ذلك بنفسك). ولا يمكن للدائرة ثنائية النسق أن تكون دوائر ممتلئة بالبحور الصحيحة على شرط العرب في انتظام الأنساق بالضرورة..؟ لأن الاقتطاع من شبيه النسق مع كون الدائرة ثنائية النسق، فهذا سيُخِل بانتظام تكرار الأنساق على شرط العرب (سلسلة الممتد كمثال).

هذا مع ملاحظة أن قاطع بحر المنسرح هو طول الأثلم، فلا يجب النزول دونه وإلّا اختفى إيقاع المنسرح في الإيقاع الثانوي له، وليس كما فعل الخليل به فجعله يصل لطول الأحمر (منهوك المنسرح). فلا يمكن لإيقاع المنسرح أن يظهر دون طول الأثلم إلّا بشرط واحد، وهو التزام الشاعر بإيراد عنقاء المنسرح متروكة في كل أبيات قصيدته، أي دون زحاف (ظن ثاقب). فبغير ذلك سوف يتشابك المنسرح مع البسيط صاحب الأولوية في المرور الإيقاعي عن المنسرح في طول الأحدب فما دون. والعرب قد حرصت أشد الحرص على منع التداخل الإيقاعي بين البحور، بعكس ما ظن البعض. (ظن عازم)

لكن التزام إيراد عنقاء المنسرح متروكة فيما ذكرنا، لا تطيقه قرائح العرب، فالإيقاع الثانوي، أي المزاحِف، إنما هو وجه من السلسلة مكافئ صوتياً وإيقاعياً لوجه الإيقاع الأولي، الذي هو أصل الإيقاع العربي كما قلنا. فدافع حضور الإيقاع الثانوي في شعر العرب، هو أن اللغة مهما كانت ثرية ومِطواعة كالعربية، لكنها لا تطيق الانسكاب في الإيقاع الأولي في كل أشطر القصيدة، خاصة وأن نظم العرب المعتد بنظمهم، هو نظم قريحة وليس نظم عَقل. ولذلك كان طول الأثلم هو قاطع بحر المنسرح الذي لا يجب النزول دونه، وفعلاً قد جاءت الشواهد عن العرب بذلك، فهناك قالب مستدرَك على الخليل في المنسرح وصل طول عجزه لطول الأثلم، ولا شيء غير ذلك. انظر الشاهد عليه:

1440
https://photos.app.goo.gl/LJVsnff7Xb785Rdx8

وكذلك ملاحظة أن قاطع بحر الخفيف هو طول الأصفر، وليس كما فعل الخليل لـمّا جعله يصل لطول الأحمر، فوصوله لطول الأحمر سيقلب إيقاعه إلى البندول كما قلنا من قبل. وقاطع بحر الأزد بديل المضارع، هو طول الأخضر. أمّا بحر قحطان بديل المقتضب، فهو بلا قاطع، أي يمكنه النزول حتى طول الأحمر فيظل إيقاعه حاضراً، فطول الأحمر لا يجب النزول دونه في سلاسل الشعر العربي لأيّ سبب كان، ولذلك وصفنا قاطع بحر قحطان بكونه "بلا قاطع".

وفي دائرة البسيط فإن بحر البسيط والمديد بلا قواطع. أمّا بحر الطويل وبحر عدنان (المستطيل سابقاً)، فقاطعهما هو طول الأخضر. وفي دائرة الرجز فإن بحر الرجز ومعه الكامل، وكذلك الهزج ومعه الوافر، فهي بلا قواطع، مع ملاحظة بسيطة تخص صدر الكامل الأحمر تتعلق بأحكام المهاد التي راعها العرب (راجع كتاب المنتج الجاهز لعروض قضاعة). أمّا الرمل فقاطعه طول الأثلم على ما قدّمنا. وفي دائرة البندول فإن بحر البندول وبحر المتقارب بلا قواطع.

نتيجة: على ما ظهر لنا في مفهوم الدائرة العربية الحقيقي الذي يطرحه صاحب عَروض قضاعة، حيث الأنساق منتظمة التكرار فيها؛ وأن نفس هذا الانتظام ظل حاضراً في السلاسل المقتطعة منها كما رأينا (أحكام الاقتطاع من الدائرة العربية)؛ فهذا ما جعل الأرقام الممنوحة للأسباب والأوتاد في الطُرق الرقمية، تظهر بتكرار منتظم أيضاً، سواء على مستوى الدائرة أو على مستوى السلاسل العربية المستعملة.
وهذا بدوره هو ما أدخل شُبهة الرياضيات على خط العروض العربي. فظن القوم لأجل ذلك أن عروض الشعر العربي موزون بطريقة رياضية، أو أن مجموعات البحور تسير في متواليات رياضية؛ أو أن الذائقة العربية في وزن الشعر هي ذات صفات رياضية دقيقة مطردة. والحاصل أنهم عبّروا عن هذا الانتظام بالأرقام فقط، وبعضهم زاد على ذلك فغالى عندما زعم بأنّ عقلية الخليل لا بد وأن تكون عقلية رياضية بسبب ذلك، لكونه ترجم هذا الانتظام من خلال فكرة التقليب بزعمهم، أسوة بما فعله بمعجم العين. لكن التعبير عن العروض العربي رقمياً، أي العروض الرقمي كيفما كان صنفه ومنهجه؛ هو خطأ شنيع كما قلنا؛ وهو ما سنتعرض له بتفصيل في مقالة قادمة كما قلنا.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 02:46 AM
( 13 )

أعظم دليل لنا على أن الدائرة التي ينتمي لها بحرَيّ الخفيف والمنسرح، هي دائرة قحطان العربية، وليس دائرة المشتبه الغير عربية؛ هو ظاهرة التشعيث في الخفيف التام. فعلى ما قلنا في الجزء الأول من هذه المقالة، أن أهم بحرين عَنقاوَين هما المنسرح والخفيف، وذلك لكونهما حيّين على ألسِنة الشعراء. أمّا باقي السلاسل القياسية الحيّة فيها، فهي إنما هي تتمة ديكور لدائرة المشتبه حتى لا يُفتضح أمرها فيما لو كانت كل بحورها التسعة مهملة ما عدا الخفيف والمنسرح. هذا عدا عن أنّ بعضها لا يمت للسلاسل العنقاوية بصلة كما رأينا.

فجرس سلسلة بحر الخفيف القياسية بتأصيل الخليل هو خطوة على الحقيقة (لا نعم، لا لا لا نعم، لا #، لا ، ع.=12)، جلبتها له دائرة المشتبه ثلاثية النسق غير العربية. أمّا جرس الخفيف التام بتأصيل قضاعة على دائرة قحطان العربية، فهو جرس العنقود. والعنقود على ما أشرنا سابقاً، هو مكوّن أصيل في العروض العربي. فاقتطاع سلسلة قياسية تامة للخفيف على دائرة قحطان، بدءاً من فتلة العنقاء على هذه الدائرة، هو من جلب جرس العنقود للخفيف التام. فتمام طول التام لها قد وقع على منتصف عُقدة العنقاء في هذه الدائرة، فتم حلّ عقدة العنقاء وحذف الخطوة الأخيرة منها (القطع- الثقب)، وهكذا نشأ العنقود نشوءاً طبيعياً كجرس للخفيف التام، فالعنقود طالع للعنقاء كما قلنا.

ومع أن العنقود كائن إيقاعي صحيح في عروض العرب (18)، لكنه مع ذلك عثرة إيقاعية يتوجب التخلص منها قبل استخدام جرس العنقود في المنظوم من الشعر (19). وقد تخلّص العرب من عثرة العنقود بثلاث طرق لا مزيد عليها. الطريقة الأولى والثانية للتخلص من عثرة العنقود، هي بتلوين العنقود تلويناً إلزامياً يمنع من ظهور عثرته الإيقاعية. وذلك بإمضاء الزحاف الذي يحذف سواكن الأسباب الخفيفة، على السكة الأولى فقط في جرس العنقود؛ وبذلك يتحول العنقود بالتلوين إمّا إلى (لا نعم لا)، وإمّا إلى (نعمم لا) (= فاعلاتن، فعلاتن). والتلوين في عروض قضاعة مشروحاً بمصطلحات الخليل، هو الزحاف المطبّق على تسلسل الجرس فقط.

أمّا إمضاء الزحاف على السبب الخفيف الأول فقط من العنقود، للتخلص من علة العكرة، فيصير هكذا (نعم لا لا)؛ فهذا كسر وزن حتى لو كان مبرراً صوتياً، ولذلك لم تقدم عليه العرب. أمّا الطريقة الثالثة للتخلص من خطوة العنقود، فهي تحويل العنقود إلى عُنق خالٍ من العثرة [لا لا لا]؛ وهذا هو التشعيث في نظام الخليل الداخل على الضرب فاعلاتن في الخفيف التام بتأصيل الخليل.

وعلى ذلك، فالتشعيث على الحقيقة هو حذف خطوة القطع في العنقود (الخطوة الرابعة في العنقود)، وبالتالي فهو إمضاء للخفيف على أصل إيقاعه الأولي في دائرة قحطان (ظن عازم)، فالإيقاع الأولي هو أصل الإيقاع العربي كما قلنا. وهذا أعظم دليل على ما قلناه، لأن التشعيث بهذا التأصيل لبحر الخفيف على دائرة قحطان، متوافق مع حقيقة الإيقاع العربي، ومتوافق مع حقيقة أن الإنقاص من أطوال السلاسل يكون حصراً من نهايتها. وهذا بعكس ما هو حال التشعيث في نظام الخليل، المتعارض ليس فقط مع حقيقة الإيقاع العربي، بل هو متعارض حتى مع بُنية نظام الخليل.

(18): لأن العنقود مكون أصيل في عروض العرب كما قلنا، فقد تواجه الخليل مع العنقود وجهاً لوجه، فقد ظهر في مسطرة نظامه (وليس بُنية نظامه فانتبه)، وذلك عند تقرير الخليل للنوع الخامس في بحر الخفيف، فألزمه الخليل الخبن ليتخلص من عثرة العنقود. وهو الضرب المقصور المخبون، الذي شاهده عند الخليل: كُلُّ خَطبٍ إن لَم تَكو ... نُوا غَضِبتُم يَسيرُ [لا نعم، لا لا لا نعم (ع.= 8) ... لا نعم، لا نعم، لا (ع.= 7)]. فتنعيم عجز هذا الشاهد قبل إلزامه الخبن، قد ظهر فيه جرس العنقود، هكذا: لا نعم، لا لا لا لا : فاعلاتن مستفع لْ، أمّا بعد أن ألزم الخليل (مستفع ل) المقصورة الخبن، من اجل التخلص من عثرة العنقود، يصير هكذا: فاعلاتن متفع لْ : لا #، لا نعم لا. ولم يكن من ضمن خيارات إزالة عثرة العنقود من هذا القالب، هو تحويله لعنق خال من العثرة، لأن طول السلسلة سينزل لطول ست وحدات كمية، وهذا مرفوض في شعر العرب، فاقل طول مسموح به هو طول الأحمر كما قلنا.
نقول هذا مع أنّ هذا القالب من الخفيف مرفوض بتقرير قضاعة، فعجز هذا القالب هو إيقاع البندول وليس إيقاع الخفيف، فقاطع بحر الخفيف هو طول الأصفر الذي لا يجب النزول دونه كما قلنا، وإلّا انمحق إيقاع الخفيف. فهذا القالب للخفيف شاذ ومفقود في شعر العرب، فالعرب لم تخلط بين الإيقاعات على ما ظن البعض.

(19): تذكير: قلنا في الجزء الأول من هذه المقالة، أنّ العثرة هي حالة تواجد أربعة أسباب خفيفة أو أكثر في حشو السلسلة (أربع خطوات)، (مثل هذه: نعم، لا لا لا لا نعم، لا لا نعم).أو هي تواجد خمس خطوات فأكثر في موضع الجرس (مثل هذه السلسلة: نعم، لا لا نعم، لا لا لا لا لا). والعنقود نفسه عثرة، فهو أربع خطوات احتلت الجرس، لكنه عثرة إيقاعية وليس عثرة أصلية. فالعنقود سينتج عن نسق العنقاء (لا لا لا نعم) عند تطبيق علة القطع على العنقاء في موضع الجرس كما قلنا. تماماً كما آلت مستفعلن إلى مستفعل بعلة القطع في نظام الخليل (لا لا نعم تؤول بالقطع إلى لا لا لا)، وكما آلت فاعلن إلى فاعلْ بعلة القطع في نظامه (لا نعم تؤول بالقطع إلى لا لا).

فالتشعيث في نظام الخليل، والذي هو علة جرت مجرى الزحاف، المطبّق على الضرب فاعلاتن في الخفيف التام (في النوع الأول منه)، مناقض لبُنية نظامه؛ فالتشعيث بتعريف الخليل قد تصرّف بالوتد في حشو الجزء وليس في نهايته (20). والأوتاد بتقرير نظامه كقاعدة أصلية صارمة فيه، لا يتم التصرف بها من خلال العلل إلّا لو وقعت نهاية جزء الضرب أو نهاية جزء العروضة. فإمّا ستقوم العلة بالتصرف بالوتد المجموع مباشرة من خلال علة القطع، أي في الأجزاء المنتهية بوتد مثل مستفعلن وفعولن ومتَفاعلن. وإمّا ستتصرف العلة بالأوتاد المجموعة من خلال علة البتر المركّبة من علة الحذف وعلة القطع، وهذا يكون في الأجزاء المنتهية بخطوة يسبقها وتد مجموع، مثل فعولن وفاعلاتن. فعلة الحذف ستحذف الخطوة الأخيرة من جزء الضرب، وعلة القطع ستتصرف بعد ذلك بالوتد المجموع.

(20): يعرّف ابن عبد ربه التشعيث فيقول: {التشعيث هو دخول القطع في الوتد من (فاعلاتن) التي من الضرب الأول من الخفيف، فيعود (مفعولن) [لا لا لا]} (العقد الفريد، ج 6، 319). ويعرّفه الدماميني: {التشعيث عبارة عن تغيير يلحق فاعلاتن المجموع الوتد [من بحر الخفيف التام حصراً]، فيصيّره على وزن مفعولن}. وقد اختلف أتباع نظام الخليل في كيفية حصول التشعيث على أربعة مذاهب: أحدها أنّ لامه حذفت فصار فاعاتن [لا لا لا]، وهذا مذهبُ الخليل. (الغامزة، ص 126). والخلاصة أنّ كلا العِلمين، عروض الخليل وعروض قضاعة، متّفقين على وجود واقع التشعيث، إنما مختلفين في تأصيله وتفسيره. فتفسير قضاعة للتشعيث هو الأصوب بسبب ما ذكرنا، وبسبب أن دائرة المشتبه دائرة فاسدة عربياً.

فحتى علة الحذف في صدر المتقارب التام في نظامه، هذه التي جرت مجرى الزحاف أيضاً؛ فقد تصرّفت علة الحذف بحذف الخطوة من آخر الجزء فعولن (نعم لا)، هذه الواقعة آخر جزء العروضة وآخر سلسلة الصدر في نفس الوقت، فلم يقع عمل علة الحذف في حشو الجزء فعولن في نظامه، كما حصل مع علة التشعيث في حشو الجزء فاعلاتن..! ولذلك فصلَ الخليل علة التشعيث لوحدها وحصرها ببحر الخفيف، وذلك كي لا تدمر مبحث العلل برمته في نظامه. ومَن أمضى علة التشعيث على غير جرس العنقود بالقياس، أي على الضرب فاعلاتن أينما وقع، كما هو الحال مع ضرب المجتث المجزوء (مستفع لن فاعلاتن)، فهو قد ارتكب خطئاً شنيعاً. (21)

(21): لم يقل الخليل بالتشعيث في المجتث إطلاقاً (يقين)، لكن استحسنه بعض العروضيين القدماء وبعض المعاصرين. فمن القدماء أبو الحسن العروضي وأبو الحسن الربعي النحوي وابن السرّاج الشنتريني (كتاب العروض للربعي، ص 60)، (المعيار للشنتريني، ص 79). ومن المعاصرين صفاء خلوصي وعمر خلّوف (فن التقطيع الشعري والقافية، ص 173) (كُن شاعراً، ص 122)].

والخليل يعرف أن العنقود مكوّن أصيل في العروض العربي (ظن عازم)، فهو قد ظهر في مسطرة نظامه على ما أشرنا من قبل. والذي نرجحه هو أن الخليل قد عرف بأن جرس الخفيف التام عنقود (ظن ثاقب)؛ فبوجوده ستظل سلسلة الخفيف القياسية تامة الطول (12 وحدة كمية)، لكنه لا يستطيع اعتماده لكونه ثماني الأحرف..! ولذلك فلا مكان له لا في بُنية نظامه، ولا في دوائر نظامه. فسلسلة الخفيف القياسية التامة بتأصيل قضاعة، لا يمكن تقطيعها بفكرة الجزء في نظام الخليل.

فقام الخليل كحل منه لهذا المعضل، باعتماد الطريقة الأولى في إزالة عثرة العنقود كصورة قياسية لنهاية الخفيف التام، هذه المتمثلة بعقد الوتر الثاني من العنقود (# لا نعم لا)، فهذه الطريقة الثانية هي ذات صورة أولية في الظاهر، وسوف يستطيع الجزء فاعلاتن ذي السبعة الأحرف التلبّس بها؛ فهذا ما يطيقه نظامه (ظن ثاقب). وعلى ذلك، فالصورة القياسية التي قالها الخليل للخفيف، إنما هي صورة ثانوية لصورتها الأولية الحقيقة التي جرسها عنقود؛ فهي صورة ثانوية حتى لو بدت في الظاهر كصورة أولية. وهذا هو نفس ما حصل لصورة السريع في الاستعمال الشعري، هذا التي أصبح فيها القطاع بسبب التلوين على هيئة الفتلة.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 02:56 AM
( 14 )

والدليل الآخر لنا على أن الدائرة التي ينتمي لها بحرَيّ الخفيف والمنسرح، هي دائرة قحطان العربية، وليس دائرة المشتبه الغير عربية، هو تأصيل الخليل لسلسلة المنسرح القياسية. فجرس سلسلة المنسرح التامة بتأصيل الخليل على دائرة المشتبه، هو نسق فتلة على الحقيقة، وليس جرسها قنطرة ممثّلة بـ (مستفعلن)..؟ فـ (مستفعلن) الأخيرة في المنسرح التام هي تفعيلة باطلة لكونها تبتدئ بسبب خفيف وهمي؛ وهذا هو دليلنا على أنّ المنسرح لا ينتمي لدائرة المشتبه إنما ينتمي لدائرة قحطان العربية. فجرس المنسرح التام بتأصيل قضاعة على دائرة قحطان هو جرس سكة، وهو جري العُنق كطالع للعنقاء كما قلنا. لكن سلسلة المنسرح بهذا التأصيل الصحيح لجرسها، أي على دائرة قحطان، لا يمكن تقطيعها بفكرة الجزء في نظام الخليل.

وأحكام المهاد في عروض قضاعة، والتي هي أحكام بين الشطرين التي التزم بها العرب بصرامة، تمنع حضور العنق على حاله الأولي في المنظوم من الشعر، لأن هذا يتسبب بعلة العكرة لمهاده، فالعكرة كعلة مهاد هي تواجد أربع خطوات بين طرفَـيّ المهاد التكافؤي. لكن لحسن الحظ يمكن إزالتها من مهاد المنسرح التام بتلوين العنق تلويناً إلزامياً يمنع من ظهور علة العكرة، أي بإمضاء الزحاف الذي يحذف سواكن الأسباب الخفيفة، على ساكن السبب الخفيف الثاني في جرس العنق (# لا لا لا). وبذلك يتحول العنق بالتلوين إلى (# لا نعم). أو بإمضاء الزحاف على السببين الخفيفين الأولين، وبذلك يتحول العنق بالتلوين إلى (# نعمم)؛ وكلاهما خياران جائزان للعنق (تلوين ثنائي)؛ وهذا فعلياً هو ما ورد لعروضة المنسرح التامة بتقرير الخليل في شعر العرب. (22)

أمّا إمضاء الزحاف على السبب الخفيف الأول فقط من العنق، من اجل التخلص من علة العكرة، فهذا كسر وزن حتى لو كان مبرراً صوتياً، تماماً كما حصل مع العنقود الذي يرفض هذا الصنيع. فالعنقاء حشواً وجرس، وكذلك طوالعها جميعاً (ما عدا طالع الخطوة لها طبعاً)، لا يجوز إيقاعياً التصرف بالسبب الخفيف الأول فيها منفرداً (ظن عازم)، وتفسير ذلك إيقاعياً في منتهى القوة، لكن لا مجال للخوض فيه هنا. ولو كانت مصطلحات عروض قضاعة المعنية بهذه التفاصيل حاضرة الآن، لكان التعبير عن هذه الفقرة سيكون أدق وأسهل.

(22): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها: (اهتمام شعراء العرب بمنطقة بين الشطرين - أحكام الـمِهاد). وأحكام المهاد هي ما فسرت لنا أيضاً، لماذا كان التشعيث في الخفيف التام لا يصيب العروضة، إنما يصيب الضرب فقط. فالسبب في ذلك أن العنقود المعذور، أي العنقود الذي تحوّل لعنق خالٍ من العثرة، ما زال يتسبب لمهاد الخفيف التام بعلة العُكرة التي لا حلّ لها. فالخفيف يبتدئ بفتيلة كما قلنا، وخطوة هذه الفُتيلة في أول العجز مع الخطوات الثلاث للعنقود المعذور في جرس الصدر، هي أربع خطوات هي ما بين طرفَـيّ مهاد الخفيف التام. وبذلك ستطل علة العكرة برأسها في مهاد الخفيف التام، وهذا مرفوض. ولذلك لم يحضر التشعيث في العروضة إنما حضر في الضرب، فالعجز في مأمن من علل المهاد لأنه لا مِهاد للعجز. وفي ظل أنّ العجز في مأمن من علل المهاد، فإن الخَيارات الثلاثة لإزالة عثرة العنقود الإيقاعية في الضرب، أي بما في ذلك التشعيث؛ جميعها نهايتها خطوة، هي اللازمة لاتحاد القافية المتلبّسة بوحدة الخطوة بها. فانظر كيف أنّ التأصيل الصحيح للخفيف على دائرة قحطان، قد حلّ كل الإشكالات دفعة واحدة.

والذي نرجحه بأن الخليل قد عرف بأن جرس المنسرح التام عنق (ظن ثاقب)، لكنه لا يستطيع اعتماده لكون أن سلسلة المنسرح بهذا التأصيل لا يمكن تقطيعها بفكرة الجزء في نظامه. فقام الخليل باعتماد جرس العنق الملوّن الذي على هيئة الفتلة (# لا نعم)، كصورة قياسية لنهاية المنسرح التام، لأنه ذو صورة أولية في الظاهر. ومن ثم قام الخليل بإضافة السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صناعة الوتد المفروق إلي هذا العنق الملوّن بما ذكرنا، للحصول على تفعيلة سباعية؛ وكان من نتيجة ذلك تولّد التفعيلة الأخيرة الباطلة (مستفعلن) في المنسرح التام. وبغير ذلك كان يتوجب عليه أن يصنع تفعيلة تساعية لتستوعب عنقاء المنسرح بوتدها المجموع، ومن ثم يتبعها الجزء فاعلن؛ لكن نظام الخليل لا يطيق التجزيء التساعي على ما شرحنا في الجزء الأول من هذه المقالة. (23)

(23): الخليل يعرف أن (مستفعلن) الأخيرة في المنسرح التام ليست بجزء حقيقي في نظامه (ظن جازم)، فهي مفروضة كتفعيلة سباعية على سلسلة المنسرح التامة غصباً..؟ فجرس المنسرح التام بتأصيل الخليل هو فتلة وليس قنطرة (مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن ، لا لا نعم، لا لا لا نعم، لا نعم ، ع.=12). فالقنطرة الحقيقية في نظامه هي تلك المتموضعة مكان جزء في السلسلة المعينة، وقد ارتدت هندام مستفعلن فيه، كما في أول المنسرح نفسه وفي الرجز وفي البسيط. لكن بداية هذه التفعيلة الوهمية هو السبب الخفيف الوهمي الذي تخلّف عن صناعة كائن الوتد المفروق على أنقاض الوتد المجموع للعنقاء كما قلنا (في الجزء الأول من هذه المقالة). فما إن تحضر مفعولاتُ في نظام الخليل إلّا وستكون مستفعلن الوهمية هذه في إثرها، فهذا حصل في المنسرح والمقتضب؛ إلّا في نهاية السريع التام فلا شيء بعدها. أي أن (مستفعلن) الأخيرة في المنسرح التام ليست قنطرة حقيقة حتى يحق لها ارتداء هندام (مستفعلن).

وعلى ذلك، فهي تفعيلة سباعية باطلة، فلا يجوز عليها سوى الطيّ فقط. أمّا الخبن والخبل المركب الذين سوف يتصرفان بالسبب الخفيف الوهمي بدايتها، فلا يجوزان عليها. فهي ليست قنطرة حقيقية كاملة الأهلية حتى يجوز عليها الخبن والخبل، فهي ليست مثل مستفعلن الأولى في المنسرح نفسه، وفي البسيط والرجز. والدليل على أنّ الخليل يعرف هذا، أننا قد وجدناه قد أدخلها في مبدأ المعاقبة الصارم في نظامه، هذا الذي يفيد المنع القطعي؛ إقفالاً لهذه الثغرة؛ وهو ما لم يفعله مع غيرها في البحور الأخرى المرتدية نفس هندام مستفعلن.

فالمعاقبة في نظامه تتعامل مع السببين الخفيفين المتجاورين، إمّا في داخل الجزء نفسه أو بين حدود الأجزاء. ففي الجزء نفسه هو كما في (مستفعلن: لا لا نعم ، مفعولاتُ: لا لا لا /، مفاعيلن: نعم لا لا). وإمّا يقع السببين المتجاورين بين حدود الأجزاء، كما هو في (المديد والرمل والخفيف والمجتث: (فاعلاتن فاعلن: لا نعم لا لا نعم)، (فاعلاتن فاعلاتن: لا نعم لا لا نعم لا)، أو كما في: (فاعلاتن مستفع لن)، (مستفع لن فاعلاتن)]. فالمعاقبة [أو التعاقب]: تعني أنه ممنوع زحاف كلا السببين المتجاورين في السلسلة معاً، إنما يجوز فقط زحاف أحدهما أو تركهما معاً دون زحاف [وقد أُخِذَ مسمّى المعاقبة من تعاقُب الرجلين على الدابة في السفر، فهما لا يجتمعان عليها معاً، وقد ينزلان عنها]. وقد صنع الخليل للأجزاء المنخرطة في المعاقبة ألقاباً تخصها؛ لا تسمن ولا تغني من جوع، بل أنها متشابكة مع مصطلحات قائمة في نظامه. (العِقد الفريد ج 6/ 277)، (الجامع، ص 105).

فقد أدخل الخليل هذه التفعيلة الوهمية (مستفعلن الأخيرة في المنسرح التام) في مبدأ المعاقبة الصارم في نظامه، وذلك ليمنع أسوأ الأسوأ بحقها وهو خبلها، ومبقياً على السيئ حاضراً معها ممثلاً بالخبن. فزحاف الخبل المركّب من الخبن والطي هو أسوأ الأسوأ، لأن ما سينتج عن ذلك هو خمسة متحركات بسبب هذا السبب الخفيف الوهمي الذي ابتدأت به، والشعر العربي يخلو من خمسة متحركات. وكان حقها لو كانت تفعيلة كاملة الأهلية، أن تكون مشمولة بمبدأ المكانفة في نظامه كما الباقيات في البسيط والرجز وأول المنسرح نفسه، فيجوز عليها الخبن والطي والخبل دون محاذير، فما ينتج عن خبلها هو أربع متحركات فقط، لأنها كاملة الأهلية بعكس هذه.

فالمكانفة في نظامه مع أنها تتعامل أيضاً مع السببين الخفيفين المتجاورين، اللهم أنها محصورة بالسببين الخفيفين المتجاورين داخل الجزء نفسه فقط؛ وهما جزأين اثنين فقط: الجزء (مفعولات) في المنسرح، والجزء (مستفعلن) أينما ورد في البحور، ما عدا (مستفعلن) الواقعة عروضة في المنسرح التام، فهذه أدخلها الخليل ضمن مبدأ المعاقبة بسبب ما ذكرنا. والمكانفة على النقيض من المعاقبة، فهي أنه يجوز لك جميع احتمالات الزحاف مع هذين السببين المتجاورين. وعلى ذلك، فالمكانفة مبدأ غير صارم في المنع، لأنه لا منع معه؛ فهو يبيح لك جميع الاحتمالات دون محاذير.

والمعاقبة والمكانفة وكذلك مراتب الزحاف في نظامه، هي من نفس الجنس؛ فهذه هي طريقة الخليل في ردم الهوة بين الزحاف في الواقع النظري في نظريته، وبين واقع الزحاف في واقع الشعر الحقيقي. وعروض قضاعة يرى أن الخليل لم يوفّق تماما في ردم هذه الهوة، بل انه استخدم المعاقبة في التغطية على بطلان هذه التفعيلة الوهمية كما رأينا، وفي غير ذلك مما هو ليس موضوعنا هنا.

وسبب صنيع الخليل هذا، أي إدخاله (مستفعلن) الأخيرة في المنسرح التام ضمن مبدأ المعاقبة، وأباحته لخبنها فقط دون خبلها؛ فهو أن حياة الوتد المفروق قد أصبحت معلقة بهذا السبب الخفيف الوهمي الذي تخلّف عن صناعته، بحيث أنّ موت أحدهما يعني موت أخيه المرافق له، واستمرار حياة أحدهما تعني استمرار حياة الآخر. لذلك وجدنا الخليل يصر على اعتبار هذا السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صناعة الوتد المفروق، هو سبب خفيف حقيقي يجوز عليه الزحاف؛ مع انه ليس كذلك وهو يعرف هذا (ظن عازم)؛ لذلك فقد منع زحاف الخبل المركب عليها الذي هو أسوأ الأسوأ بحقها، وأبقى على السيئ حاضراً معها ممثلاً بالخبن. (شاهد الخبن عليها للخليل: مَنازِلٌ عَفاهُنّ بِذي الأرا ..... كِ كلُّ وابلٍ مُسبِلٍ هَطِلِ: متفْعلن معولاتُ متفْعلن). وهذا شاهد باطل بتقرير قضاعة.

فإصرار الخليل هذا ليس جهلاً منه بحقيقة هذا السبب الخفيف الوهمي التي كشفناها نحن [وغيرنا]، إنما لأن نظامه لن يترابط ولن يتصف بالشمولية إلّا بهذا الافتراض. فإنه إذا منع الخليل هذا السبب الخفيف الوهمي من الزحاف، مع بقاء ادعاءه بأنه سبب خفيف حقيقي؛ فلن يجد حُجة مقنعة لسبب عدم مزاحَفة العرب له حسب ادعاءه؛ الأمر الذي سيُـفقِد نظامه مصداقيته وترابطه وشموليته، وهي صفات حرص الخليل على تحلّـي نظامه بها كمقدمة ضرورية لعلم يتزيّا بزِيّ القوانين. فقانون هذا الشيء في نظامه، أنّ السبب الخفيف يجوز عليه الزحاف، حشواً على الأخص، وعلى الجواز لا على الوجوب؛ فيُفترض بالقانون إن زعم صاحبه أنه قانون، أن لا يـتخلف عمل القانون في أيّ موضع له فيه مكان إعمال، أليس كذلك..؟ ولذلك وجدنا الخليل لم يفعل هذا الأمر فقط مع هذه التفعيلة الوهمية، بل فعله كذلك في كل موضع وجد فيه هذا السبب الخفيف الوهمي، أي في (مستفع لن) الخفيف والمجتث، بالإضافة لهذه التفعيلة الوهمية في المنسرح. (الشواهد ذوات الأرقام: 135 - 144 - 145 - 146 - 167 - 168 ، بحسب دراسة سليمان أبو ستة لشواهد الخليل، والموجودة على صفحتنا في الفيسبوك).

ولا تظن أني أبالغ في هذا الأقوال عن الخليل التي في هذه الهوامش [وفي غيرها وفيما هو قادم]، فمن يعرف عبقرية الخليل كما عرفها أبو الطيب القريني القضاعي لـمّا أبحر في نظامه، بالتوازي مع الإبحار في ماهية عَروض شعر العرب دون رأي مسبّق؛ فلن يستغرب من طريقة تفكير الخليل المميزة التي تراعي أدق التفاصيل؛ فالخليل قد حرص بشدة على صناعة نظام عروضي مترابط شامل، قليل الثغرات ما أمكنه ذلك؛ ولا علاقة للرياضيات بذلك. والثغرات التي لم يستطع الخليل إقفالها في نظامه، لم يستطع غيره إقفالها. بل أنّ طريقة الخليل في إقفال ثغرات نظامه، لم يستطع الآخرون أن يأتوا بطريقة أفضل من طريقة الخليل في إقفالها، طالما أنهم ظلوا أسارى أساسات نظامه.

فمثلاً: لم يستطع الباحث العروضي الأسير لأساسات نظام الخليل، أن يخترع بديلاً عن حل السبب الثقيل الذي اخترعه الخليل للفصل بين هذه البحور الأربعة المشترك كل اثنين منها بإيقاع أولي واحد، أي الرجز والكامل من جهة، والهزج والوافر من جهة (ظن عازم). فهو إن لم يحوّل السبب الثقيل لسبب خفيف للفصل بينها كما فعل الخليل، فسوف يفعل العكس من ذلك؛ أي سيحوّل السبب الخفيف إلى ثقيل بتحريك الساكن؛ والنتيجة واحدة، فهذه أذني وهذه أذني. لكن نظام قضاعة غير المرتهن لأساسات نظام الخليل، قد فصل بينها دون حضور كائن السبب الثقيل المتوهَّم كما قلنا؛ ويتعذر الحديث عن ذلك في هذه المقالة.

والوتد المفروق الذي تخلّص منه البعض أو دعوا للتخلص منه، هذا الذي قاله الخليل لإجبار العنقاء على الخضوع للتقطيع السباعي، بدل التقطيع التساعي الذي يمكنه استيعاب العنقاء لكن نظامه لا يطيقه كما قلنا؛ لكنهم لم يأتوا ببديل عن الوتد المفروق يحقّق لهم صفة الترابط والشمولية في نظرياتهم المقترحة، أو حتى في محاولاتهم تطوير نظرية الخليل بدونه. والذين هاجموا وأهملوا فكرة الدائرة في نظامه، ما زالوا يستخدمون مخرجاتها دون أن يشعروا، ومن ذلك فكرة "مجزوء البحر".

والدليل التوثيقي على حرص الخليل هذا، سنجده في هذه الرواية التي نقلها تلميذه النّضر بن شُمَيل عنه، قال: {جاءه رجل من أصحاب يونس يسأله عن مسألة، فأطرق الخليل يفكر وأطال، حتّى انصرف الرجل فعاتبناه، فقال: ما كنتم قائلين فيها..؟ قلنا: كذا وكذا. قال: فإن قال كذا وكذا. قلنا: نقول كذا وكذا. فلم يزل يغوص حتى انقطعنا وجلسنا نفكر، فقال: إنّ المجيب يفكر قبل الجواب، وقبيحٌ أن يفكرَ بعده. وقال: ما أُجيب بجواب حتّى أعرف ما عليّ فيه من الاعتراضات والمؤاخذات}. (شَذَراتُ الذهب في أخبار من ذَهَب. ، ج 2، ص 322؛ تحقيق: محمود الأرناؤوط. دار ابن كثير، دمشق - بيروت، ط 1، 1986 م)

وفي الختام نشير إلى أن لعروض قضاعة طريقته الخاصة المميزة والممتعة، في الاستدلال على البحر أو على أيـّاً من قوالبه؛ بل والحكم على أية سلسلة أهي عربية أم غير عربية. وهذه الطريقة تحمل مسمّى "عملية الترتيب" في عروض قضاعة. وعملية الترتيب قامت على فحوى القوانين الصوتية والإيقاعية التي تحكم عروض العرب بمنظور قضاعة، خاصة ما ذكرناه هنا عن شرط العرب في انتظام تكرار الأنساق، سواء على مستوى الدائرة أو على مستوى السلاسل المقتطعة منها. وبالتأكيد ستحضر أحكام الاقتطاع في عملية الترتيب، وستحضر كذلك طوالع الأنساق المعرّفة فيها، لأن الجرس إيقاعياً غير منفصل عن إيقاع السلسلة في الحشو، والسلسلة العربية غير منفصلة عن الدائرة العربية. وستحضر كذلك قواطع البحور وأحكام المهاد وأحكام التلوين. فالاستدلال على البحر أو على قالب فيه، هو عملية إيقاعية وليست عملية رياضية.

واعلم أنّ هناك تفاصيل أخرى كثيرة لم نذكرها عن طبيعة إيقاع شعر العرب من منظور أبي الطيب القضاعي، لكنها جميعاً مترجمة في علم عروض قضاعة، وبأدوات نظام قضاعة؛ لكن ما ذكرناه هنا كتمهيد هو أكثر من كاف للحديث عن السر الدفين؛ ضامنين بعد هذه الجولة التمهيدية القوية، أن القارئ الجاد سوف يجد كلامنا عن السر الدفين مقنعاً تماماً بإذن الله.

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 03:01 AM
( 15 )

بوصولنا لهذه المقولة الخامسة عشر، فقد أصبح المجال متاحاً لنا بكل حرية، أن نتحدث عن السّر الدفين الذي جعل نظرية الخليل العروضية شاملة ومتينة. والذي أفرز بالمعيّة - ودون تقصّد من الخليل- ظاهرة التقليب بكلا نوعيها؛ هذه الظاهرة التي فُـتِن بها البعض. وهذا السر الدفين يكمن في ثلاثة أمور مجتمعة (ظن عازم):

الأول: هو أنّ السلسلة لا تستحق لَـقب (بـحر) في شعر العرب، فيكون لها بعد ذلك قوالب متفرّعة عنها تابعة للبحر المعين؛ إلّا لو حقّقت أحد طولين كما قلنا من قبل: إمّا طول التام القياسي [12 وحدة كمية]، وإمّا طول الدارع الاستثنائي الخاص بالبسيط والطويل [14 وحدة كمية] (ظن عازم). والخليل قد أدرك هذا بحكم اطلاعه الواسع على شعر العرب. كما أن العرب قبل الخليل كانت تعرف بوجود بحور للشعر العربي، قال عبيد بن الأبرص (جاهلي):


سَلِ الشّعراءَ هل سَبَحوا كَسَبحي ... بحورَ الشّعر أو غاصوا مغاصي
لساني بالـقَريضِ وبالـقـــوافي ... وبالأشعـار أَمـْـهَرُ في الغَــواص

والأمر الثاني: هو في كون عروض العرب ودوائرهم الإيقاعية كما رأينا، مؤلفة من انساق منتظمة التكرار في صورة أولية، بحيث لا يزيد التكرار عن نسقين كما قلنا. وهذا الأمر هو من جلب ميزة كون الإيقاع القياسي العربي هو إيقاع أولي بالضرورة؛ فمهما قلّبت الأنساق وراء بعضها فلن يكون الناتج سوى إيقاع أولي. أمّا قضية أنّ السلسلة قد تبتدئ بعقدة قِفل [بوتد مجموع]، فهذا راجع لأحكام الاقتطاع من الدائرة العربية كما رأينا.

فالإيقاع المنتظم عموماً، يستلزم تكراراً لمقادير معينة بانتظام، سواء لوحدها، أو تكراراً لمقادير معينة مختلفة عن بعضها إنما يجري تكرارها بانتظام وراء بعضها. وقياس هذا المقادير في الشعر العربي ذو الأنساق المنتظمة التكرار في صورتها الأولية، المحققة بهذا التكرار المنتظم لأعلى طراز إيقاعي ممكن؛ لا يمكن أن يكون على أساس طبيعة النغمة أو على أساس ما يستغرقه مقدار كل نسق من زمن، كما هو الحال في الموسيقى.

فالموسيقى صوت ساذج يصدر عن آلات الموسيقى، أمّا الشعر فهو مؤلف من أصوت لغوية تصدر عن أعضاء نطق الإنسان؛ فلا الآلات الموسيقية تستطيع إنتاج أصوات لغوية، ولا أعضاء نطق الإنسان تستطيع إنتاج أصوات الموسيقى. فالفرق بين الموسيقى والقوالب الشعرية فرقٌ كبير، حتى لو اتحدا في الأثر الحاصل في نفس وذهن المتلقي، على اعتبار انه يجمعهما مفهوم الإيقاع العام، الأمر الذي سوّغ لنا ولغيرنا استعارة كلمة (موسيقى) لإطلاقها على الإيقاع اللغوي.

والأمر الثالث: هو استناد الخليل على معيار الزخم، وذلك عند تقديره للكـمّ الواجب الوجود في أجزاء نظامه الخماسية والسباعية، انطلاقاً من الأنساق العُقدية الثلاثة التي أقام العرب عليها نظام عروضهم على الحقيقة.

فلا بد من مقياس آخر غير مقياس الموسيقى، نقيس به هذه المقادير الإيقاعية المنتظمة في العروض العربي، يصلح مع الأصوات اللغوية المحمولة على الوحدات الصوتية، وتتوفر فيه صفة الثبات. فصاحب عروض قضاعة استدل على الأنساق العقدية الثلاثة التي قام عليها عروض شعر العرب، فكان انتظام تكرارها على شرط العرب، هو مقياس الإيقاع في نظام قضاعة، استناداً منه على مفهوم الوحدات الصوتية النوعية ومفهوم الدائرة الذي قاله.

أمّا الخليل ففضّل استعمال المعيار الكمّي المستند على الزخم السابق بيانه. وصاحب عروض قضاعة وإن كان يعترض على صنيع الخليل هذا، لأن شعر العرب يقوم على الوحدات النوعية وليس الكمية، ذلك الزخم هو مقياس طول فقط ولا علاقة له بالناحية الإيقاعية القائمة على الوحدات النوعية. لكن مع ذلك، فمعيار الزخم في قياس الناحية الكمية يتصف بصفة الثبات على أشرنا من قبل. فالخليل حتى مع قياسه لطول الجزء بعدد الحروف (السباعي والخماسي)؛ لكنه قد انتبه لظاهرة الزخم، وعرف أنها تصلح فقط كمقياس طول كما سنرى بعد قليل.

فنسق الفتلة الذي هو أقصر نسق من بين الأنساق العقدية الثلاثة، هو بمقدار ثلاث وحدات كمية [ثلاثة متحركات: /0 //0 = لا نعم، ع.= 3]، وهذا المقدار سنسميه مقدار القبضة بغض النظر عن نسق الفتلة؛ وذلك لغاية سنعرفها بعد قليل. أمّا نسق القنطرة الذي هو النسق الثاني من انساق العرب، فهو بمقدار أربع وحدات كمية [أربعة متحركات: /0 /0 //0 = لا لا نعم ، ع.= 4]، وهذا المقدار سنسميه مقدار الكـتلة، بغض النظر عن نسق القنطرة. وسنؤجل الحديث عن أطول نسق في نظام عروض العرب، أي نسق العنقاء الذي هو بطول خمس وحدات كمية [خمس متحركات: /0 /0 /0 //0 = لا لا لا نعم ، ع.= 5].

فأجزاء نظام الخليل جميعها، ما عدا جُزئَـيّ الوافر والكامل في نظام الخليل (متَفاعلن: نعمم نعم – مفاعلَتن: نعم نعمم)، قد راعت مقدار الكـتلة ومقدار القبضة الكميّـيـَن كما سنرى، فالجزء السباعي مهما كان تأليفه [فاعلاتن- مستفعلن- مفاعيلن]، هو بمقدار كتلة. أمّا الجزء الخماسي مهما كان تأليفه [فاعلن- فعولن]، فهو بمقدار قبضة. بل أنّ جُزئَـيّ الوافر والكامل إذا أرجعناهما لأصلهما الأولي، أي إلى (متْفاعلن: لا لا نعم – مفاعلْتن: نعم لا لا)، فسيكونان منضبطان على مقدار الكـتلة؛ وقد عرفنا من قبل سبب قول الخليل بهما.

فالزخم ظاهرة لا تصلح سوى لقياس الأطوال كمّياً كما قلنا من قبل، سواء لقياس أطوال السلاسل أو لقياس أطوال التسلسلات؛ والجزء سواء كان خماسياً أم سباعياً هو تسلسل. فالزخم تتوفر فيه صفة الثبات في قياس الأطوال، لكونه لا يقيم وزناً للسواكن كما رأينا، وهذا بعكس مقياس الطول على أساس عدد الحروف الذي هو مقياس مخادع كما قلنا من قبل.

والخليل قد انتبه لمعيار الزخم كمقياس طول يتصف بالثبات، حتى مع ارتهانه للحرف الصوتي في التأصيل؛ فقد نقل صاحب العمدة لأبي على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (ت/ 463 هـ)، تحت عنوان (علة تسمية بحور الشعر)، قال: {ذكر الزجّاج [ت/ 311 هـ]، أنّ ابن دريد أخبره عن أبي حاتم عن الأخفش قال: سألت الخليل بعد أن عمل كتاب العروض: لِمَ سمّيتَ الطويل طويلاً..؟ قال: لأنه طال بتمام أجزائه، **، قلت: فالكامل..؟ قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر [أي في كلا الشطرين]} (العُمدة لابن رشيق القيرواني، ج 1، ص 136). والمقصود هنا بالحركة هو الحرف المتحرك، أي الزخم، فالحركة بعرف اللغويين العرب لا تنفصل عن الحرف الصحيح في النطق. والتعبير بالحركة عن الحرف المحرك هو عُرف سائر عند اللغويين العرب، خاصة العروضيون منهم.

معلومة: قد انتبه العروضيون بعد الخليل لظاهرة الزخم كأداة للقياس الكمي، قدماء ومحدثون؛ طبعاً كملاحظة عامة منهم لم تدفعهم للخوض العميق في حقيقتها. فمن القدماء السكاكي (ت/ 626 هـ)، فقد قال أثناء حديثه عن سبب ترتيب ذكر الدوائر، أي بأيّها يُبتدئ بالذكر، قال: {**، ثم لزم تقديم المؤتلفة منهن على أُختيها [يقصد تقديم دائرة السبب الثقيل على دائرة المشتبه ودائرة المتقارب]، لكون كل واحد من بحريها أتم من بحور أُختيها عدد حركات، لاشتمال كل واحد منهما على ثلاثين حركة، واشتمال كل واحد من أولئك على أربع وعشرين [أي في كلا الشطرين]}. (مفتاح العلوم، ص 564). وهناك من المحدثين الذين لاحظوا هذه الظاهرة، نكتفي منهم بالدكتور مصطفى حركات (أوزان الشعر، ص 61).

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 03:12 AM
( 16 )

أقول: فهذا السر الدفين يكمن في ثلاثة أمور مجتمعة، هي ما ذكرناها. وبناءً على هذه الأمور الثلاثة مجتمعة، فإن مجموع الوحدات الكمية لثلاث كُـتل مجتمعة، هو سلسلة تامة الطول [ 4 + 4 + 4 = 12 وحدة كمية]. ومجموع الوحدات الكمية لأربع قبضات مجتمعة، هو سلسلة تامة الطول أيضاً [3 + 3 + 3 + 3 = 12 وحدة كمية]. ومجموع الوحدات الكمية لكـتلتين وقبضتين مكرران بانتظام، هو سلسلة دارعة الطول [ (هكذا: 4 + 3 + 4 + 3= 14 وحدة كمية)، (أو هكذا: 3 + 4 + 3 + 4 = 14 وحدة كمية)].

وعلى ذلك، فدائرة الرجز التي تقتصر على نسق القنطرة في تأليفها، والذي هو بمقدار كتلة. وحيث أنّ ثلاث كتل تشكّل سلسلة تامة الطول كما قلنا، فقد كان الجزء السباعي حصراً، هو اللازم لتجزيء سلاسلها التامة، مهما كانت بداية الاقتطاع من دائرة الرجز، ومهما كان الجزء السباعي. بما في ذلك جُـزئَـيّ الكامل والوافر، فأصلهما الأولي بمقدار كـتلة كما قلنا؛ وقد عرفنا سبب حضور السبب الثقيل فيهما من قبل. فدائرة السبب الثقيل هي نفسها دائرة الرجز، إنما على الإيقاع الثانوي الخببي كما قلنا. والمتوفر الباطل هو ذاته الرمل إنما على أُمضيَ عليه الإيقاع الثانوي الخببي بسبب دائرة السبب الثقيل الوهمية.

1441
https://photos.app.goo.gl/7PymyXFsojDPiEE2A

ودائرة البندول التي تقتصر على نسق الفتلة في تأليفها، والذي هو بمقدار قبضة، وحيث أنّ أربع قبضات تشكّل سلسلة تامة الطول كما قلنا، فقد كان الجزء الخماسي حصراً، هو اللازم لتجزيء سلاسلها التامة، مهما كانت بداية الاقتطاع منها، ومهما كان الجزء الخماسي [فاعلن- فعولن].

1442
https://photos.app.goo.gl/HbUiv6KdZ7iPCQrL8

ودائرة البسيط الثنائية النسق، تتألف من نسق قنطرة ونسق فتلة مكرران بانتظام. أي مقدار كـتلة متبوع بمقدار قبضة بانتظام، وكتـلتان وقبضتان تشكّلان سلسلة دارعة الطول [14 وحدة كمية]. لذلك كان الجزء السباعي مع الخماسي حصراً، هما اللازمان حصراً لتجزيء سلاسلها الدارعة القياسية، الحية منها والمهملة؛ مهما كانت بداية الاقتطاع منها، ومهما كان الجزء السباعي والخماسي.

1443
https://photos.app.goo.gl/njgYxvhnfe4QR1dL8

1444
https://photos.app.goo.gl/q9oZM2gNEnXmvJ4B6

وكان من نتائج هذا السر الإيقاعي الدفين في هذه الدوائر الثلاث غير العنقاوية [والتي هي أربع دوائر بعُرف الخليل عند إدخال دائرة السبب الثقيل الوهمية ضمنها]، هو أنه كيفما كان تقطيعها على أساس مقدار الكتلة ومقدار القبضة؛ فالجزء تلقائياً سيحتوي على وتد مجموع واحد فقط وسببين على الأكثر. وهذه الأمر هو سبب ترابط نظامه في هذه الدوائر، فقد عَـمِل الوتد الواحد في الجزء بسبب ذلك، كثابت معيارِي دائم دار معه وحوله جميع نظام الخليل في بحور هذه الدوائر [الجزء- الدائرة - الزحاف- مراتب الزحاف- العلة- العروضة- الضرب- التام- المجزوء- المنهوك- المعاقبة- المراقبة- المكانفة- الاعتماد- الخرم- التشعيث]. وهذا هو تفسير حضور ظاهرة التقليب في نظام الخليل دون تقصّد منه لذلك. وبسبب هذا السّر أيضاً، فقد توافق الجزء (مستفعلن) والجزء (فاعلن) المستعملين في تجزيء البسيط مثلاً، مع نسق القنطرة ونسق الفتلة في نظام قضاعة.

وإذا كان الخليل قد جعل المديد دارع الطول في صورته القياسية، مع أنّ شواهده التي وصلت للخليل لم تصل حتى لطول التام القياسي، إنما وصلت لطول الأثلم [11 وحدة كمية]؛ فهذا أمر ألزمته به دوائره المحددة الطول كما قلنا. فدائرة الطويل التي ينتمي لها المديد في نظامه، هي بطول 14 وحدة كمية حتى تستوعب الطويل والبسيط؛ وحتى ينضم لها المديد فيجب أن يكون بنفس هذا الطول. (24)

(24): أمّا الذي جلب تنوّع القوالب للبحر الواحد في شعر العرب وعلم عروضهم، فكانت هذه القوالب دون طول القياسي لسلسلة البحر، فهو بشكل أساس يتمثل في سببين، الأول: أن الصورة الشعرية المراد سكبها في القالب الشعري، قد لا تحتاج إلى تراكيب لغوية كثيرة، فيلزمها قوالب قصيرة الطول لأجل ذلك. وبحيث لا يزيد الفرق في الطول بين الشطرين عن وحدة كمية واحدة (قاعدة التوازن). والسبب الثاني: هو حاجة قرائحهم اللاهثة وراء القافية إلى أجراس متعددة في البحر الواحد، وذلك كي يمكن للقافية المعينة أن تلتحم بها. فليست كل القوافي يمكنها الاتحاد بالجرس مهما كان نوعه، ثم أن العرب تمنع اجتماع قافية الخطوة مع قافية غيرها، حتى لو أمكن ذلك. ولذلك، فالقافية التي لا تلتحم إلّا بخطوة، يلزمها جرس خطوة أو جرس منتهي بخطوة؛ وهذا قد يستلزم إنقاصاً من الأطوال بشكل ملزم إن لم تتوفر السلسلة القياسية على هذا الجرس. والقافية التي لا تلتحم إلّا بعقدة، يلزمها جرس نسق لأن نهاية النسق عقدة، أو يلزمها طالع ملوّن يكون على هيئة العقدة، وهو جرس القَطيف المعقود حصراً (لا لا تصير نعم) كما في النوع الأول من الطويل؛ فالقطيف يحتمل ذلك بعكس الفَتيل والعَقيل. وقس على ذلك القافية التي لا تلتحم إلّا بجدلة.

وهذه الدوائر المذكورة أعلاه مع بحورها المستعملة، والتي استقامت بالتجزيء السباعي والخماسي بسبب ما ذكرنا، عليها جُلّ شعر العرب في العصور المستهدفة بصنع نظرية عروضية عربية (94 %)، أي الجاهليون ومَن هُم في حكمهم حتى عصر بين الدولتين. أمّا البحور العنقاوية، أي المحتوية على نسق العنقاء؛ وعلى الأخص المنسرح والخفيف؛ فقد استأثرا بنسبة ضئيلة من إنتاج العرب الشعري في تلك العصور (4 %).(25)

(25): هذا التقدير الإحصائي هو بحسب إحصاء الموسوعة الشعرية- الإصدار الثالث: الصادرة عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة عام 1998م ((http://www.cultural.org.ae). الذي يعتمد فيه الإحصاء على عدد الأبيات. وهو نفس التقدير الإحصائي الوارد في إحصاء دراسة محمد العلَمي لدواوين أهم وأشهر شعراء هذه العصور المستهدفة، البالغ مجموعها في دراسته 191 ديواناً (عروض الشعر العربي- قراءة نقدية توثيقية؛ وهو جزأين: جزء الدواوين وجزء المعطيات. دار الثقافة- الدار البيضاء- المغرب، ط1، 2008 م). ومع الإشارة لأن محمد العلَمي يعتمد في إحصاءه على عدد القطع؛ حتى لو كان البيت يتيماً فيعتبر في إحصاءه قطعة.

فنسبة النظم كما على بحر الخفيف بحسب إحصاء الموسوعة الشعرية، قد بلغ 4 % ، فجاء بذلك في المرتبة السادسة. أمّا المنسرح بحسبها، فقد جاء في المرتبة السابعة بنسبة 2 %. ومن ضمنها تلك المشطورات الحمراء في المنسرح التي يرفضها نظام قضاعة. أمّا بحر الخفيف في إحصاء دراسة محمد العلَمي، فقد ظل الخفيف محافظاً على المرتبة السادسة وبنفس النسبة. أمّا المنسرح فيها فقد تراجع للمرتبة الثامنة ( 1.3 %). والمقتضب والمضارع ليس عليهما نظم في كلا الإحصاءين (صفر %)؛ أمّا المجتث، والذي هو قالب أصفر للبسيط حتى لو ادّعى الخليل وغيره خلاف ذلك؛ فقد بلغت نسبة النظم عليه بحسب الموسوعة 0.01 %، فاحتل المرتبة العاشرة. وظل محافظاً على هذه المرتبة في إحصاء العلَمي، لكن نسبة النظم عليه من حيث عدد القطع فقد بلغ 0.04 %. (انظر الصورة المرفقة لمزيد من التفاصيل)

1445
https://photos.app.goo.gl/APnxYqV67VumdaF79

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 03:32 AM
( 17 )

وحيث أن الدائرة هي روح نظام الخليل كما رأينا، فلا مفرّ من حضور دائرة عنقاوية في نظامه بالضرورة، أي دائرة تشتمل على نسق العنقاء..؟ ذلك أنّ الخفيف والمنسرح المحتويان على عنقاء، هما بحرين حَييّن على ألسِنة الشعراء في هذه العصور المستهدفة بصنع نظرية عروضية عربية، تضبط وتميز النظم العربي عن غيره؛ لكن نسق العنقاء بطول خمس وحدات كمية [لا لا لا نعم ، ع.= 5]..! فهذا المقدار الكمي الجديد الذي جلبه نسق العنقاء، لن يستقيم على مقدار الكتلة الذي كان يفرز جزءاً سباعياً بلازمة الوتد المجموع في السلاسل القياسية لبحور تلك الدوائر الخالية من العنقاء. فلن يمكن المحافظة على لازمة الوتد المجموع هنا، إلّا إذا تم اختراع جزء تُساعي يستغرق نسق العنقاء كلها كما قلنا..!

وتأليف دائرة عنقاوية هندسية تامة في نظام الخليل، تقتصر على جزء تُساعي يستوعب نسق العنقاء كاملاً، أي بما يشبه دائرة قحطان الأحادية النسق في عروض قضاعة، فهذا لا يمكن تحقيقه في نظام الخليل؛ فثلاثة عنقاوات في دائرة هندسية مغلقة سيجعلها تصل لطول 15 وحدة كمية..! لكن الدائرة في نظام الخليل ليست كدوائر نظام قضاعة التي لا طول لها، ودوائر نظامه لا تتوفر على آلية اقتطاع منها هو ما يحكمها كما هو الحال في نظام قضاعة. فدوائر نظام الخليل هي دائرة هندسية محددة الطول مسبّقاً في نظامه كما قلنا، فهي يجب أن تكون إمّا تامة الطول كناحية قياسية، وإمّا دارعة الطول كناحية استثنائية، وذلك حتى تظفر السلسلة عليها بلَقب (بحر)، سواء حَـيّ أو مهمل. ولاحظ هنا أننا لم نختبر بعد، هل سيكون للمنسرح والخفيف تامين مكان على مثل هكذا دائرة تقتصر على جزء تساعي يستوعب نسق العنقاء كاملاً..!

ولو اكتفينا في نظام الخليل بنسقَيّ عنقاء، في تأليف مثل هذه الدائرة الأحادية النسق هندسياً، حيث هذا هو أقل قدر يتوجب توفيره في الدوائر الأحادية النسق، لصنع دائرة هندسية متصفة بكونها دائرة إيقاعية عند الاستمرار في الدوران، لكن هذا لا يفيد الخليل أيضاً..؟ ذلك لأن طولها سيكون اقل من طول التام، فنسقَيّ عنقاء هما بطول الأحدب، أي بطول عشر وحدات كمية فقط..! ولا يمكن للخليل القبول بهذا الاحتمال أيضاً، لأن السلسلة لا تستحق لَـقب (بـحر)، كما دل على ذلك واقع شعر العرب، إلّا لو حقّقت أحد طولين كما قلنا من قبل (التام القياسي أو الدارع الاستثنائي).

ومع أنّ دائرة الفراغ المؤلّفة من نسق العنقاء ونسق الفتلة، ودائرة السراب المؤلفة من نسق العنقاء ونسق القنطرة، هما دائرتين مهملتين وجوباً كما قلنا، لكنها تظل دوائر عربية لكونها ثنائية النسق على شرط العرب في الدوائر. ومع ذلك، فهي لن تُسعف الخليل في استيعاب الخفيف والمنسرح تامين عليهما، والذين هما أهم بحرين عنقاوين كما قلنا من قبل. فلا يمكن لهاتين الدائرتين المهملتين أن تؤلف كل منهما دائرة هندسية تامة الطول بحسب مفهوم الخليل عن الدائرة..؟

فحتى يستقيم في نظام الخليل تأليف دائرة إيقاعية عنقاوية هندسية ثنائية النسق على شرط العرب، أي تحويل دائرة الفراغ ودائرة السراب لدوائر هندسية في نظامه، فإمّا أن تكتفي بالحد الأدنى لها، أي بنسقيها الاثنين المؤلفين لها، وذلك حتى تظل صفة الدائرة الإيقاعية حاضرة عند الاستمرار في الدوران. أو تكرر هذين النسقين المؤلفان لها مرتان وبانتظام، تماماً كما حصل في دائرة الطويل في نظام الخليل [دائرة البسيط]؛ فبغير ذلك لن يستقيم تأليفها كدائرة إيقاعية هندسية ثنائية النسق عند الاستمرار في الدوران. وكلا هذين الاحتمالين لا يفيدان الخليل، فهي ستقل عن طول التام في الاحتمال الأول لكل منهما ، وسترتفع عن طول التام في الاحتمال الثاني لكل منهما.

وهكذا لم يتبقّ للخليل إلّا احتمال ثالث لا غير، ألا وهو تأليف دائرة إيقاعية هندسية ثلاثية النسق، أي من الأنساق الثلاثة المؤلفة لشعر العرب، وبالحد الأدنى لتكرارها في الدائرة الإيقاعية الهندسية. فمجموع الوحدات الكمية لهذه الأنساق الثلاثة يبلغ طول التام تماماً [(نسق العنقاء ع.=5 ) + (نسق القنطرة ع.=4 ) + ( نسق الفتلة ع.=3 )، المجموع: 5 + 4 + 3 = 12 وحدة كمية (طول التام)].

لكن هناك احتمالين أيضاً لصناعة دائرة ثلاثية النسق كما قلنا من قبل (في الجزء الأول من هذه المقالة)؛ ذلك لأنها بحضور الثلاثة انساق لن تكون حرّة الدوران حتى لو أرادت. فالدائرة الثلاثية التي ستأتي فيها القنطرة بعد العنقاء وبعدهما الفتلة، ويستمر الدوران على هذا المنوال؛ فهذه الدائرة لن تفيد الخليل في استيعاب الخفيف والمنسرح تامين (جرّب بنفسك). أمّا الدائرة الثلاثية التي ستأتي فيها الفتلة بعد العنقاء وبعدهما القنطرة، ويستمر الدوران على هذا المنوال؛ فهذه التي يحتاجها الخليل، لأنها سوف تستوعب الخفيف والمنسرح تامين بعد تعديل جرسيهما كما قلنا (26)؛ وهذه هي دائرة المشتبه. فإذا كنت تشك بأن الخليل لم يفكر بكل هذا الذي قلته، فاعلم انك لا تعرف الخليل كما عرفه أبو الطيب القضاعي.

(26): سبق لنا وأن أشرنا بأن الخليل قام باعتماد جرس العنق الملوّن الذي على هيئة الفتلة (# لا نعم)، كصورة قياسية لنهاية المنسرح التام، لأنه ذو صورة أولية في الظاهر. فهو وإن كان قد عرف بأن جرس المنسرح التام عنق (لا لا لا)، لكنه لا يستطيع اعتماده لكون أن سلسلة المنسرح بهذا التأصيل لا يمكن تقطيعها بفكرة الجزء في نظامه. وسبق لنا وأن أشرنا أيضا ًبأن الخليل وإن كان قد عرف بأن جرس الخفيف التام عنقود، وأن العنقود مكوّن أصيل في العروض العربي، لكنه لا يستطيع اعتماده لكونه ثماني الأحرف، فلا مكان له لا في بُنية نظامه ولا في دوائر نظامه لأجل ذلك. فقام الخليل باعتماد الطريقة الأولى في إزالة عثرة العنقود كصورة قياسية لنهاية الخفيف التام، هذه المتمثلة بعقد الوتر الثاني من العنقود (# لا نعم لا)، فهذه الطريقة الثانية هي ذات صورة أولية في الظاهر، وسوف يستطيع الجزء فاعلاتن ذي السبعة الأحرف التلبّس بها؛ فهذا ما يطيقه نظامه.

وهكذا يكون قد اكتمل هيكل دائرة المشتبه العام بنظر الخليل، لكنها ما زالت بحاجة لبعض التعديل كي تحقق غرض الخليل..؟ فلكون أن دائرة المشتبه ثلاثية النسق، فهي ستؤلّف ثلاثة مقادير كميّة بلازمة الوتد المجموع، وهي: مقدار الكتلة الذي يستطيع استيعاب جزء سباعي بوتد مجموع، ومقدار القبضة الذي يستطيع استيعاب جزء خماسي بوتد مجموع، وآخراً مقدار العنقاء ذي الخمس وحدات كمية، والذي يستلزم جزء تُساعي بلازمة الوتد المجموع. أي يمكن أن يكون تقطيع المنسرح على أساس هذه المقادير الكمية هكذا: كتلة ثم مقدار العنقاء ثم قبضة (مستفعلن مفعولاتِلُن فاعلن: لا لا نعم، لا لا لا نعم، لا نعم ، ع.= 12). ويمكن أن يكون تقطيع الخفيف على أساس المقادير الكمية هكذا: (قبضة ثم مقدار العنقاء ثم كتلة : فاعلن مفعولاتِلُن فاعلاتن: لا نعم، لا لا لا نعم، لا نعم لا ، ع.= 12). بمعنى أنه مع أنّ نسق الفتلة القادر على تمثيل الجزء الخماسي حاضر في دائرة المشتبه، فلو قال الخليل به لحضر القول بالجزء التساعي المختوم بوتد مجموع لا محالة، وهو ما لا يريده الخليل.

فكينونة الجزء السباعي والجزء الخماسي بحد ذاتها، هي أكثر أهمية للخليل من كينونة الجزء التساعي (ظن عازم). فبسبب من السر الدفين الذين قلناه، فقد ظل شرط صحة الجزء بلازمة الوتد المجموع، منضبطاً في الأجزاء الخماسية والسباعية في تلك البحور في الدوائر السابقة التي عليها جُلّ شعر العرب [94 %]؛ أمّا المنسرح الذي لم ينضبط على هذا الأساس على الأخص، لكون أن عنقاءه رفضت الاختباء بين الأجزاء كما رأينا، فقد استأثر هوَ والخفيف بنسبة ضئيلة من نَظم شعراء العرب كما قلنا [4 %]..! ونظام الخليل – كما قلنا من قبل- لن ينعم بالترابط وصفة الشمولية إذا تضمّن جزءاً تُساعياً. فهو لن ينعم بذلك إلّا إذا اقتصرَ على الجزء السباعي والخماسي فقط، ودون تشابك بينهما كما قلنا (ظن عازم). فهذا هو المنطق السليم في ظل الأساسات التي انطلق منها الخليل.

فإذا تم حقن عُقدة العنقاء بالوتد المفروق، وهذا ما فعله الخليل، فهكذا سوف يتم إخضاع دائرة المشتبه لمقياس مقدار الكتلة، إذ سوف تتألف كمياً من ثلاثة مقادير متساوية جميعها بمقدار كتـلة، ومجموع الوحدات الكمية لثلاث كُـتل مجتمعة هو سلسلة تامة الطول كما قلنا. وحينها سوف تنصاع دائرة المشتبه للتقطيع السباعي على ما يريد الخليل تماماً.

أي أنه بتموضع الوتد المفروق على عقدة العنقاء، فقد جرى إنقاص طول العنقاء من خمس وحدات كمية إلى أربع، فتحولت بذلك إلى مقدار كـتلة؛ وذلك بإضافة السبب الخفيف الوهمي المتخلّف عن صناعة الوتد المفروق، والذي هو بمقدار وحدة كمية واحدة؛ إلى مقدار القبضة بعده، هذا المتمثل بنسق الفتلة، فارتفع مقدار القبضة بذلك من ثلاث وحدات كمية إلى أربع، أي صار بمقدار كتلة. والقنطرة بطبيعة الحال هي بمقدار كتلة. وهكذا يصير عندنا ثلاث كـتل في دائرة المشتبه، بعضها سيحصل على وتد مجموع، وبعضها سيحصل على وتد مفروق؛ وذلك بحسب مرورها تحت مطرقة الوتد المفروق المغروس في دائرة المشتبه، هذا المتموضع على عُقدة العنقاء فيها على ما شرحنا من قبل؛ انظر الرسم:

1446
https://photos.app.goo.gl/uvMLd2WWLnFn3YSC6

1447
https://photos.app.goo.gl/imQvsEZ7BAwrocek6

ابو الطيب البلوي القضاعي
18-04-2023, 03:43 AM
( 18 )

ومع أن سبك الخليل لبنيان دائرة المشتبه كدائرة سباعية الأجزاء، محقونة بكائن الوتد المفروق، لم يمر بدون تضحيات وثغرات كما رأينا؛ لكن هذا أفضل ما استطاع الخليل صنعه في ظل الأساسات التي انطلق منها. فبعد أن حقن الخليل عُقدة العنقاء بالوتد المفروق، قد تم له إخضاع دائرة المشتبه لمقياس مقدار الكتلة كما رأينا، حتى لو نتج عن هذا ثغرات؛ فالذي هو مدار اهتمام الخليل الرئيس بهذا الصنيع، أنه قد ظل شرط صحة الجزء حاضراً في السلاسل القياسية التي ستفرزها دائرة المشتبه أيضاً، أي احتواءه على وتد واحد وسببين على الأكثر؛ فهذا ما يحقق الترابط في نظامه في ظل أن التقطيع التساعي سيمحق هذا الترابط كما قلنا. فالوتد المفروق هو ما سيحضر في بعض أجزاء هذه الدائرة بدل الوتد المجموع، أي في الأجزاء الثلاثة الذي وقعت تحت مطرقة الوتد المفروق المغروس في دائرة المشتبه.

فلأجل هذا السر الدفين الذي قلناه المتعلّق بالجزء أسّ نظامه، الذي جعله يحتفظ بشرط صحته على طول الخط في كل دوائر نظامه بلا استثناء؛ فهذا ما جعل نظامه يدور حول معيار ثابت أمّن له الترابط بقوة، أي الوتد الواحد في الجزء. وهو نفس السر الذي أفرز ظاهرة التقليب مصادفة في كل نظام الخليل، هذه الظاهرة التي فُـتن بهما البعض كما رأينا.

ولأجل أن الخليل قد استوعب في نظامه 98 % من قوالب الشعر التي وردت عن العرب، فهذا ما جعل نظامه محققاً لصفة الشمولية. ولأجل أن الخليل قد حرص بشدة على إقفال ثغرات نظامه ما أمكنه ذلك كما قلنا، فهذا ما جعل نظامه منيعاً في وجه محاولات اختراقه وتحطيمه. فالثغرات التي في نظام الخليل المترابط الشامل، إنما سيراها الباحث المتعمّق عند النظر لنظامه من خارجه كما فعل أبو الطيب؛ أمّا إذا نظر إليها من داخل نظامه فهي متوافقة تماماً مع أساسات نظامه.

فلأجل كل ذلك، وليس لأجل عامل الرياضيات المتوهّم في نظرية الخليل، ولا لأجل عقلية الخليل الرياضية على ما توهم البعض، فقد تمتع نظام الخليل بالترابط والشمولية، الذين هما أهم صفتين في النظرية المتينة. ونتيجة لذلك لم يستطع احد أن يأتي بنظرية عروضية عربية أقوى من نظرية الخليل طالما أنهم ظلوا أسارى لأساسات نظامه. الأمر الذي جعل نظريته هي المهيمنة باستحقاق على الساحة العروضية طيلة 1300 سنة تقريباً؛ حتى جاءت قضاعة بنظريتها في هذا الزمن، والتي خرجت فيها على أساسات نظرية الخليل، فتفوقت عليها بجدارة على ما أزعم، ولله الحمد والمنّة.

معلومة: أوّل من ألمحَ لهذا السر الدفين الذي قلناه، هو ابن السرّاج (ت/ 316 هـ) بعد تـمعّنه في دوائر الخليل، لكنه لم يدرك السبب الحقيقي الكامن وراءه، أي تلك الأمور الثلاثة معاً. فقد قال: {فالدائرة الأولى [دائرة الطويل]، تُكال وتوزن بسبب مضموم إلى وتد، وبسببين مجموعين مع وتد؛ وإنما يُفصَل بين الجنسين اللذين في دائرة واحدة، بالتقديم في الأوتاد والأسباب والتأخير، **. والدائرة الثانية [دائرة الوافر]، يكيلها ويزنها وتد وفاصلة؛ وإنما يختلف الوافر والكامل بتقديم الوتد وتأخيره، **} الخ. (العروض لابن السراج، ص 295). أقول (أبو الطيب): فلا يمكن تصوّر أنّ هذه الملاحظة الدقيقة قد انتبه لها ابن السرّاج، دون أن يدرك السبب الكامن وراء حصولها؛ وتفوت على الخليل العبقري..! فدوائر نظامه قد صُنعت على هذا الأساس الذي قلناه (ظن عازم)، ليستمد الجزء شرعيته منها بعد ذلك.

فحتى تستوعب أنّ هذه هي حقيقة ترابط وشمولية نظام الخليل، دون غباش في الرؤية ودون أوهام الرياضيات؛ انظر بعينَـيّ صانع النظام وليس بعينَـيّ مستخدِم النظام. وأبو الطيب القضاعي لكونه صنع نظاماً عروضياً قوياً مترابطاً شاملاً، قهر به ترابط وشمولية نظام الخليل؛ فهو الأقدر من غيره على بيان ذلك كما قلنا بداية هذه المقالة، فلا يفل الحديد إلّا الحديد..! فالظن بأنّ الخليل قد فاته كل ما قلناه عن طريقة تفكيره خلال مخاض صنع نظامه، لهو اتهام لعبقريته التي أنا عليها من أول الشاهدين. فقد أنبأتنا صفحات الكتاب الأم لعروض قضاعة عن طريقة تفكير الخليل المميزة والعبقرية التي لا علاقة لها بالرياضيات. والذي أكد لنا ذلك توثيقياً هو تلميذه الـنّضر بن شُـمَيل على ما قدّمنا.

وعلى ما قلناه في رد على مشاركة الأستاذ سليمان أبو ستة في الفيسبوك، التي ألحقناها كمشاركة إضافية نهاية الجزء الأول من هذه المقالة، والتي لها علاقة بكلامنا في الفقرات السابقة؛ أنه مع جواز انتقاد النظرية المقدّرة بدرجة ظن مقبولة إلى متوسطة، كنظرية الخليل، وذلك ببيان أوجه قصورها وثغراتها، وبدافع قوي من صعوبة استخدام مسطرة نظرية الخليل في قياس الشعر عروضياً؛ لكن ذلك ليس مبرّراً عقلياً كافياً للدعوة إلى نبذها وتجاهلها، في ظل عدم توافر نظرية بديلة أقوى منها تسدّ محلها في الساحة العروضية. فترابط مكونات النظرية وشموليتها للشيء المبحوث، هو أحد أهم ركائز قوة النظرية، ونظرية الخليل محقّقة لكلا الأمرين، حتى لو شابها بعض القصور في ذلك.

فالداعي لنبذ النظرية المحقّقة لذلك، ملزمٌ عقلياً واجتماعياً بإيجاد نظرية بديلة عنها أقوى منها. فإذا لم يقدر الناقد على ذلك، فعليه الخضوع لها تماماً أو على مضض؛ أو عليه الخضوع لها مع بعض التعديل الذي يراه ضرورياً عليها، والذي بالتأكيد لن يمس هذا التعديل نواتها. فإذا لم يمضِ الحال على هذا الأساس العقلي السليم، لفرط أمر العلوم التي أكثرها يقوم على الظن. وهذا فعلاً هو ما حصل مع نظرية الخليل، فمع تذمرهم منها لأكثر من سبب، حتى مع وجود شُبهة الرياضيات المتوهّمة فيها، لكنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بنظرية أقوى من نظريته.

وهكذا يتأكد لنا بأن الجزء هو أسّ منهج الخليل ومنتهاه، والدائرة هي روح نظامه؛ وكل من يقفز عن ذلك فقد خرج على منهج الخليل حتى لو ادعى عكس ذلك. ومن الأدلة القوية على ذلك غير دليل السر الدفين، هي فكرة المجزوء في نظامه المربوطة بالدائرة. فهذه الفكرة إنما اخترعها الخليل ليحافظ بها على فكرة الجزء من الانهيار..؟

فما هي هذه العلة الجهنمية التي ستحذف جزءاً كاملاً، بل قد تتخطاه لتحذف وحدات من الجزء الذي قبله..! ففي هذا ليس فقط تهديد لترابط ومتانة مبحث العلة في نظامه المركّب بدوره على فكرة الجزء؛ بل فيه تهديد خطير لفكرة الجزء نفسها، ما يهدد بانهيارها وانهيار نظامه بانهيارها. لكن بحضور فكرة المجزوء فهذا سيحافظ على فكرة الجزء من الانهيار، لأنها فكرة المجزوء هي إحدى طرق نظامه المهمة في التعبير عن مقدار النقص المجحف من طول الشطر، فهي سوف تستوعب هذا النقص الكبير الذي بمقدار جزء كامل، بل وستأمّن الإنقاص من الطول أكثر من طول الجزء، فالعلل في نظام الخليل تدخل على الصورة التامة وعلى الصورة المجزوءة على السواء.

ولو لم تحضر فكرة المجزوء، لكان الضرب المرفّل في الكامل المجزوء، مستحقاً لتفعيلة تساعية الحروف..! فعلة الترفيل في نظام الخليل التي تضيف سبباً خفيفاً على الجزء، هي أخطر علةّ على نظامه، اضطر الخليل لها اضطراراً ملحّـاً، ولذلك تحاشى الخليل تكرار استعمالها مع أنه قد وُجِد لها أمكنة في نظامه لكن الخليل عدَل عنها تجنباً لها لخطورتها. فهي علة خطيرة لأنها ستؤدي لتشابك الجزء الخماسي بالسباعي فيما لو أضيفت للجزء الخماسي، وستؤدي لأن تطل التفعيلة التساعية برأسها فيما لو أضيفت للجزء السباعي. ونظام الخليل لن ينعم بالترابط وصفة الشمولية إلّا إذا اقتصرَ على الجزء السباعي والخماسي فقط، ودون تشابك بينهما كما قلنا.

وما ذكرناه هنا عن الكيفية التي أقامة الخليل بها نظامه فكان مترابطاً شاملاً، المسنود ببراهين وأدلة قوية مترابطة، لهو نسفٌ لادعاء كل من ظن أن الخليل أقام نظامه على أساس رياضي، بل هو نسف لفكرة أن للرياضيات علاقة بأبحاث اللغة والعروض من جذورها.

إضافة: بسبب أنّ دائرة المشتبه قد صنعها الخليل على عينه كما رأينا، فإن ظاهرة التماثل بين الأجزاء في صور البحور القياسية في دائرة المشتبه، قد ظهرت فيها ظاهرة التماثل مشوّهة؛ هذه الظاهرة التي يسميها محمد العلمي "العلاقة التكوينية". (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 121). وهذا بعكس ظهورها واضحة - وبالمصادفة البحتة- في الدوائر غير العنقاوية، بسبب السر الدفين الذي حافظ على لازمة الوتد المجموع فيها.
والزمخشري (ت/ 538 هـ) هو أوّل من تحدث عن ظاهرة التماثل على ما ألمحنا في الجزء الأول من هذه المقالة، فقد قال: {فهذه هي الأصول التي بنيت أوزان العرب عن آخرها عليها [أي الأجزاء الثمانية لفظاً، العشرة حكماً]، لا يشذ منها شيء عنها. ولكل واحد من هذه الأصول فروع تتشعب منه [أي ما يجري عليها بالزحاف فيكون لها صورة أخرى]، **}. (القسطاس ص 30). وفي صفحة ص 128 وهو الشاهد لنا، يقول: {وقد سلكوا في تركيب بحور الشعر من هذه الأجزاء الثمانية أربعة طرق: أحدها أنهم كرّروا الجزء الواحد بعينه كما هو، من غير أن يصحبوه غيره. وذلك في جميعها ما خلا واحدا وهو (مفعولات)، فـ (فعولن) ثمان مرات يسمى المتقارب. ***}. وبخصوص ظاهرة التماثل في بحور دائرة البسيط، قال: {والثالث: أنهم أَزْوَجوا بين خماسي وسباعي، **}.
وقد حاول الزمخشري أن يطبق ظاهرة التماثل على بحور دائرة المشتبه بطريقة فـجّة، هذه الدائرة التي صنعها الخليل على عينه كما رأينا. قال: {والثاني: أنهم أزوجوا بين جزأين، كأنّ كل واحد منهما هو الآخر. وذلك إزواجهم بين (مستفعلن) و(مفعولات)، لأنهما على نسق واحد في تقدم السببين، وتأخر الوتد؛ لا فرق بينهما إلّا أنّ وتد ذلك مجموع، ووتد هذا مفروق. وهذا بمنزلة تكريرهم الجزء الواحد كما هو. فـ (مفعولات) وإن فارق سائر الأجزاء في أن لم يكرر وحده، فقد كـرّر مع جزء لا يكاد يباينه. فـ (مستفعلن مستفعلن مفعولات) مرتين يسمّى السريع. و(مستفعلن مفعولات مستفعلن) مرتين يسمّى المنسرح. **}. (القسطاس: ص 47 - 50).

تبرير: قد استغرب بعض القوم من كون الكتاب الأم لعروض قضاعة يبلغ حجمه 830 صفحة..! وبسبب حجم الخط الصغير نسبياً في الكتاب الأم، فهو حجم مرجح للارتفاع فوق ذلك إذا طبعته دار نشر (قريباً بإذن الله). فعلى ضوء عمق الأفكار المطروحة في هذه المقالة بجزأيها، لعل هذا الاستغراب سيزول. فلعلك قد أدركت على ضوء ذلك أنّ أبا الطيب قد استوعب نظام الخليل كما لم يفعل ذلك احد قبله، فلم أترك شاردة ولا واردة تخالف أقوال صاحب عروض قضاعة، صوتياً وعروضياً؛ إلّا وناقشناها في الكتاب الأم. وقد استوعبت فيه أهم الآراء المطروحة في الساحة الصوتية والعروضية. فالكتاب الأم لعروض قضاعة هو مرجع جامعي للمتخصصين فقط، فلكل علم مرجع ومراجع. أمّا كتاب (المنتج الجاهز لعروض قضاعة) المتاح على الانترنت (250 صفحة)، فهو مدخل للكتاب الأم فقط، الهدف منه هو اطلاع العامة وأهل الاختصاص على حقيقة نظرية قضاعة التي قهرت نظرية الخليل وقهرت مقطع الأصواتيين.


*******


انتهت هذه المقالة والحمد الله رب العالمين. والتي هي الجزء الثاني المكـمّـل لمقالتنا الأولى التي بعنوان (هل عقلية الخليل عقلية رياضية..؟) في رابطة الواحة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..


أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي/ صاحب علم عروض قضاعة
18- 4 - 2023

ابو الطيب البلوي القضاعي
19-06-2023, 12:46 AM
https://www.mediafire.com/file/fwgrbp20f505fep/%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D8%25B1_%25D8%25A 7%25D9%2584%25D8%25AF%25D9%2581%25D9%258A%25D9%258 6_%25D9%2581%25D9%258A_%25D8%25AA%25D8%25B1%25D8%2 5A7%25D8%25A8%25D8%25B7_%25D9%2586%25D8%25B8%25D8% 25A7%25D9%2585_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AE%25D9 %2584%25D9%258A%25D9%2584_%25D8%25A7%25D9%2584%25D 8%25B9%25D8%25B1%25D9%2588%25D8%25B6%25D9%258A.pdf/file
تفضل بتحميل هذه المقالة بكلا جزئيها، منسقة ومنقّحة كملف pdf
الحجم 3 ميجابايت- موقع Mediafire

1448

ابو الطيب البلوي القضاعي
07-10-2023, 05:25 AM
تحديث الرابط السابق الذي تم الغاءه:

عقلية الخليل الرياضية المفترضة، والسر الدفين pdf
(https://www.mediafire.com/file/247qqpsbt8tsnp8/%25D8%25B9%25D9%2582%25D9%2584%25D9%258A%25D8%25A9 _%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AE%25D9%2584%25D9%258 A%25D9%2584_%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B1%25D9%25 8A%25D8%25A7%25D8%25B6%25D9%258A%25D8%25A9_%25D8%2 5A7%25D9%2584%25D9%2585%25D9%2581%25D8%25AA%25D8%2 5B1%25D8%25B6%25D8%25A9%25D8%258C_%25D9%2588%25D8% 25A7%25D9%2584%25D8%25B3%25D8%25B1_%25D8%25A7%25D9 %2584%25D8%25AF%25D9%2581%25D9%258A%25D9%2586.pdf/file)

ابو الطيب البلوي القضاعي
10-05-2024, 04:59 PM
تحديث الرابط: قم بتحميلها من موقع مكتبة نور، بالاضافة لعدة كتب لي منشورة هناك.
https://www.noor-book.com/u/%D8%A7%D8%A8%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%8A/books