د. سلطان الحريري
25-10-2005, 02:30 AM
جرى الأدب العربي أجيالا طويلة في الطريق المتطورة التي تؤدي إلى النضج، وعمل له رجال من أبنائه عملا لم يعمل أحد منه في الأمم الأخرى، ثم اعترضت الدول الأجنبية طريقنا، فضعفت أمتنا ووقف عن التطور أدبنا، وانقضت ألف سنة على رقادنا، ثم وقفنا في هذا الجيل لنأخذ بيد أدبنا نحو النضج .. تلك كلمة تقرؤها فيما خلف أحمد شوقي من الكلام الرائع الأصيل، وهي صادقة تذكي المواهب، وتوضح واجب البيان، وتطلب إلينا جميعا أن نعمل للابتكار؛فما شأن الابتكار ؟ وما صفحاته؟ وأين تقع مرحلته الأولى الدقيقة؟ وكيف العمل إلى اجتيازها؟ لا شك أن أصعب أطوار البيان طفولته، حيث يظن المرء فيها أن الابتكار فوق المستطاع، وأنه خاص بأناس فوق الناس الذين نعرف، وأن المبتكرين من غير طينة البشر، لا نستطيع أن نتمثلهم بالوهم والأحلام، وأن لهم ألمعية لا تحاط بالأماني، وأن عواطفهم تسكن وراء المجهول. وليس بعيدا أن يمر في هذا الطور بالبال أن الابتكار شأن سهل وأنه ليس على المرء إلا أن يمسك بالقلم فينظم أبياتا معدودة في موضوع غير واضح ولا محدد، أو ينثر صحفا معدودة في موضوع غير واضح ولا محدد، حتى يكون قد أنتج ما لم يستطع أن ينتجه أهل البيان في الشعر والنثر.
كلا الأمرين مضحك مبك معا، والمهم أننا يجب أن نسير في مراحل الابتكار على ما سار عليه البلغاء.
إن أول ما عملوا له هو الرياضة على اكتشاف ما تنطوي عليه جوانحهم من حياة، واستعانوا على ذلك بالتأمل والاستغراق، واستعانوا على ذلك أيضا بقراءة آثار البلغاء التي تفتح نوافذ من نفوس قرائها، تطل على آفاقها القريبة البعيدة، وعنوا باللغة الدالة على ما يكتشفون من هذه الصفحات عناية خاصة، ثم راضوا أنفسهم على بيان الحياة وحدها دون غيرها؛ فلنأخذ بطريقهم، ولنكتشف ما أثارت فينا الأيام من فكر وعواطف وأخيلة، ثم لنطل منها على ما أثارت فينا الحياة مما هو خاص بغيرنا ولنكتشفه، ثم لنجمع من كل ذلك ما يصلح أن نكتشف به روح أمتنا مجتمعة، ثم لنصل من ذلك إلى روح الإنسانية جمعاء. وقد يظن الناس أن هذا صعب جدا، والحقيقة أن المرء قد اكتنز منذ درج وهو طفل، ومنذ وعيه الأول، في عقله الباطن والظاهر كنوزا من الحياة لا حدود لها ولا حصر، وكل ذلك مركوم في النفس طبقة فوق طبقة، أو متداخل بعضه في بعض أو يحيا معه في أوقاته كلها، وإذا كان من السهل الإشارة إلى هذه الكنوز فليس بالاستطاعة إيقاظها ورفع الحجب عنها في ثانية واحدة ، وكل هذه الكنوز المتشابكة منذ الطفولة إلى يومك الحاضر تستطيع بالتأمل واليقظة أن تخلص منها كلها إلى أبدع الصفحات وأوضحها. وقد يكتشف الإنسان حين ذلك أنه يستطيع عرض ما يقع تحت البصر، ثم عرض ما يجوز البصر إلى النفس، فينصهر فيها ثم يبدو أخيلة مادية ومعنوية، وتنكشف بعد ذلك صور لم نرها بصور قد رأيناها وتأملناها. فالتفاحة حلوة في الصحن على مائدة الطعام، مثيرة للنهم والازدراد والشم، وهائمة بالبصر على لألاء اللون، ولكنها إذا كانت على أمها الشجرة بين الورق الأخضر يلامسها ويلونها ويسترها، ثم يتكشف عنها فيتراوح عليها الضوء والفيء ويتطاير الطير المغرد منها إلى أختها، وتجري الساقية من تحتها إن التفاحة في كونها وجوها تثير ما لا تثير في غير جوها من فكر وعاطفة وخيال، سباحة في إبداع الخالق المصور العظيم. ذلك وجه ما ينبت من البصر من بعض آفاق الانتباه، أما ما ينبت مع السمع فهو سهل أيضا: اسمع هتافا راضيا، أو نداء حانقا، أو عويلا جارحا؛ فستصير إلى صفحات تطوف بالسمع حينا وتمور بين خاطرك وخيالك حينا آخر، ثم تنتج أحلى البيان وأعذبه. فمن راض وعيه على الانتباه إلى ما يسمع من مثل هذه الأصوات وغيرها؛ اكتشف بها ما لم يسمع من الأصوات، واكتشف أيضا ما تثيره من أخيلة في كل مكان عهده أم لم يعهده، وقد يصغي فيستمع إلى صوت الأجيال وهو رابض بين هذا الجزء من الزمان.. تلك هي المرحلة الأولى للابتكار، وهي أدق وأعظم المراحل ؛ فمن تفتحت له أبوابها، ولازم معها العمل على الوصول إلى اللغة أداة البيان،استطاع أن يجمع من ذلك ما يصح أن يتمثل معه روح أمته، وصار من ذلك إلى الروح الإنسانية جمعاء، وبها عرف الله المصور والمبدع ، وإن من اجتاز هذه المرحلة ظفر بشيء كثير غيرها، ولم يضره بعد ذلك أكان بيانه شعرا أم نثرا، أو كان بيانه قصة أم رواية، فميوله ستوجهه نحو النوع الذي تريده له، وقد يجمع بين الجميع في آن معا، ولكن عليه أن يعمل على الابتعاد عن الميول الهدامة ليشارك في صياغة تاريخ الأمة المميز. وليس عليه أيضا أن يأخذ نفسه بالتشاؤم أو التفاؤل أخذا، فإنه إذا ما رجع إلى نفسه فستظهر نفسه بما تلبس، لا بما يلبس الآخرون من العرب أو الأجانب القدماء والمعاصرين. وليس عليه أيضا أن ياذ نفسه بالنقد والسخر والفكاهة أخذا، ولا أن يأخذ نفسه بالعطف وإرسال الدموع، فإن ذلك لا يتكلف تكلفا ولا يشار به إشارة، وإنما يمتزج بين الصفحات مزجا ويتسابق من خلال الصور والألفاظ تسابقا، ويخرجه الطبع طبعيا إن كانت له منه جذور في نفسه. وعليه أن يمزج المتعة التي هي مراد الأدب أصلا بالفائدة لتتداخل بين غصونه أشعة شفافة الألوان. ومن كان هذا شأنه، فلا يعتمد الجمال المقيد، ولا الجمال المطلق، بل عليه أن يدع بيانه يأخذ من كليهما، فنح أبناء الدنيا من ناحية، وما تؤدي إليه من خلال أعمالنا إلى الباقية، ولابد للبيان الأصيل أن يكون منسولا من الحياتين. وعلينا أن نجدد دائما بما يتلاءم مع قيمنا، فلا نقول كلاما ممسوخا، فنصير من الملحقين بأهل البيان وفي الماسخين ولا نكون مبينين. وبعد فما الابتكار ؟ أليس هو الأخذ بألوان الحياة المتغيرة المتجددة المبتكرة، وصياغتها صياغة فنية في الشعر والنثر ؟ .. وبعد أيضا، فأين مخزن هذه الألوان المختلفة من الحياة.. إنها مكنوزة في هذه النفوس التي تعيش في هذه البيئة، وهذا اليوم من هذا الجيل، وترافق الدهر ساعات العمر القصيرة، فتأخذ من الآخرة لتشرف على الدنيا.. فلنرجع إليها دائما نخلص من الاضطراب والتقليد، ونسير بالأدب العربي نحو النضج فنكون من المبتكرين.
كلا الأمرين مضحك مبك معا، والمهم أننا يجب أن نسير في مراحل الابتكار على ما سار عليه البلغاء.
إن أول ما عملوا له هو الرياضة على اكتشاف ما تنطوي عليه جوانحهم من حياة، واستعانوا على ذلك بالتأمل والاستغراق، واستعانوا على ذلك أيضا بقراءة آثار البلغاء التي تفتح نوافذ من نفوس قرائها، تطل على آفاقها القريبة البعيدة، وعنوا باللغة الدالة على ما يكتشفون من هذه الصفحات عناية خاصة، ثم راضوا أنفسهم على بيان الحياة وحدها دون غيرها؛ فلنأخذ بطريقهم، ولنكتشف ما أثارت فينا الأيام من فكر وعواطف وأخيلة، ثم لنطل منها على ما أثارت فينا الحياة مما هو خاص بغيرنا ولنكتشفه، ثم لنجمع من كل ذلك ما يصلح أن نكتشف به روح أمتنا مجتمعة، ثم لنصل من ذلك إلى روح الإنسانية جمعاء. وقد يظن الناس أن هذا صعب جدا، والحقيقة أن المرء قد اكتنز منذ درج وهو طفل، ومنذ وعيه الأول، في عقله الباطن والظاهر كنوزا من الحياة لا حدود لها ولا حصر، وكل ذلك مركوم في النفس طبقة فوق طبقة، أو متداخل بعضه في بعض أو يحيا معه في أوقاته كلها، وإذا كان من السهل الإشارة إلى هذه الكنوز فليس بالاستطاعة إيقاظها ورفع الحجب عنها في ثانية واحدة ، وكل هذه الكنوز المتشابكة منذ الطفولة إلى يومك الحاضر تستطيع بالتأمل واليقظة أن تخلص منها كلها إلى أبدع الصفحات وأوضحها. وقد يكتشف الإنسان حين ذلك أنه يستطيع عرض ما يقع تحت البصر، ثم عرض ما يجوز البصر إلى النفس، فينصهر فيها ثم يبدو أخيلة مادية ومعنوية، وتنكشف بعد ذلك صور لم نرها بصور قد رأيناها وتأملناها. فالتفاحة حلوة في الصحن على مائدة الطعام، مثيرة للنهم والازدراد والشم، وهائمة بالبصر على لألاء اللون، ولكنها إذا كانت على أمها الشجرة بين الورق الأخضر يلامسها ويلونها ويسترها، ثم يتكشف عنها فيتراوح عليها الضوء والفيء ويتطاير الطير المغرد منها إلى أختها، وتجري الساقية من تحتها إن التفاحة في كونها وجوها تثير ما لا تثير في غير جوها من فكر وعاطفة وخيال، سباحة في إبداع الخالق المصور العظيم. ذلك وجه ما ينبت من البصر من بعض آفاق الانتباه، أما ما ينبت مع السمع فهو سهل أيضا: اسمع هتافا راضيا، أو نداء حانقا، أو عويلا جارحا؛ فستصير إلى صفحات تطوف بالسمع حينا وتمور بين خاطرك وخيالك حينا آخر، ثم تنتج أحلى البيان وأعذبه. فمن راض وعيه على الانتباه إلى ما يسمع من مثل هذه الأصوات وغيرها؛ اكتشف بها ما لم يسمع من الأصوات، واكتشف أيضا ما تثيره من أخيلة في كل مكان عهده أم لم يعهده، وقد يصغي فيستمع إلى صوت الأجيال وهو رابض بين هذا الجزء من الزمان.. تلك هي المرحلة الأولى للابتكار، وهي أدق وأعظم المراحل ؛ فمن تفتحت له أبوابها، ولازم معها العمل على الوصول إلى اللغة أداة البيان،استطاع أن يجمع من ذلك ما يصح أن يتمثل معه روح أمته، وصار من ذلك إلى الروح الإنسانية جمعاء، وبها عرف الله المصور والمبدع ، وإن من اجتاز هذه المرحلة ظفر بشيء كثير غيرها، ولم يضره بعد ذلك أكان بيانه شعرا أم نثرا، أو كان بيانه قصة أم رواية، فميوله ستوجهه نحو النوع الذي تريده له، وقد يجمع بين الجميع في آن معا، ولكن عليه أن يعمل على الابتعاد عن الميول الهدامة ليشارك في صياغة تاريخ الأمة المميز. وليس عليه أيضا أن يأخذ نفسه بالتشاؤم أو التفاؤل أخذا، فإنه إذا ما رجع إلى نفسه فستظهر نفسه بما تلبس، لا بما يلبس الآخرون من العرب أو الأجانب القدماء والمعاصرين. وليس عليه أيضا أن ياذ نفسه بالنقد والسخر والفكاهة أخذا، ولا أن يأخذ نفسه بالعطف وإرسال الدموع، فإن ذلك لا يتكلف تكلفا ولا يشار به إشارة، وإنما يمتزج بين الصفحات مزجا ويتسابق من خلال الصور والألفاظ تسابقا، ويخرجه الطبع طبعيا إن كانت له منه جذور في نفسه. وعليه أن يمزج المتعة التي هي مراد الأدب أصلا بالفائدة لتتداخل بين غصونه أشعة شفافة الألوان. ومن كان هذا شأنه، فلا يعتمد الجمال المقيد، ولا الجمال المطلق، بل عليه أن يدع بيانه يأخذ من كليهما، فنح أبناء الدنيا من ناحية، وما تؤدي إليه من خلال أعمالنا إلى الباقية، ولابد للبيان الأصيل أن يكون منسولا من الحياتين. وعلينا أن نجدد دائما بما يتلاءم مع قيمنا، فلا نقول كلاما ممسوخا، فنصير من الملحقين بأهل البيان وفي الماسخين ولا نكون مبينين. وبعد فما الابتكار ؟ أليس هو الأخذ بألوان الحياة المتغيرة المتجددة المبتكرة، وصياغتها صياغة فنية في الشعر والنثر ؟ .. وبعد أيضا، فأين مخزن هذه الألوان المختلفة من الحياة.. إنها مكنوزة في هذه النفوس التي تعيش في هذه البيئة، وهذا اليوم من هذا الجيل، وترافق الدهر ساعات العمر القصيرة، فتأخذ من الآخرة لتشرف على الدنيا.. فلنرجع إليها دائما نخلص من الاضطراب والتقليد، ونسير بالأدب العربي نحو النضج فنكون من المبتكرين.