تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ** قصـة مريـم العـذراء **



أحمد فؤاد صوفي
14-06-2024, 12:15 PM
** قصـة مريـم العـذراء **
السيدة مريم العذراء هي أم نبي الله عيسى "عليه السلام" والتي ولدته دون أن يمسها رجل ، لتكون ولادته معجزة للناس ، وكلنا نعلم المنزلة الرفيعة للسيدة مريم ، ولكن كثير من الأحباب يرغبون بالاطلاع على قصتها عليها السلام كاملةً ، أين ولدت؟ وأين وكيف نشأت؟ وكيف خصها الله بمعجزة ولادتها لابنها المسيح عيسى ، نبي الله عليه السلام وهي عذراء؟ فيما يلي ستجدون ملخصاً لحياة هذه القديسة العظيمة:
1- خبر ولادة مريم عليها السلام وكيف كفلها نبي الله زكريا (ع):
في جو ساد فيه الظلم والاضطراب ، كانت الحياة التي يعيشها بنو إسرائيل بائسة ، فقد أفسدوا دينهم وحرّفوا عقيدتهم ، واستشرى الفساد بينهم بكل صنوفه ، وفى خضم ذلك كان يعيش عمران بن ماتان ، وزوجته حَنّة بنت فاقوذ، يعبدان الله وحده ولا يشركان به شيئًا ، وكان الزمان يمر بهما دون ولد يؤنسهما ، وفى يوم من الأيام جلست حنة بين ظلال الأشجار، فرأت عصفورة تطعم صغيرها ، فتحركت بداخلها غريزة الأمومة ، فدعت اللّه أن يرزقها ولدًا حتى تنذره لخدمة بيت المقدس: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35] .
وتقبل الله منها دعاءها ، ولكن حكمته اقتضت أن يكون الجنين أنثى، فكانت السيدة مريم:
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[آل عمران: 36].
يقول رسولنا (ص) في ذلك أنه : "كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها" [مسلم].
وأخذتها أمها إلى الهيكل؛ استجابة لنذرها، ودعت الله أن يتقبلها: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) [آل عمران: 37].
ونظراً لوفاة والد السيدة مريم (ع) ، فقد تكفلها زكريا (ع) زوج خالتها ، الذي اهتم بتربيتها الدينية والعبادية بشكل خاص ، حتى أنها صارت من أعلم الناس في عصرها ، ولما بلغت سن التكليف بنى زكريا (ع) لها غرفة في مكان عالٍ من المعبد في القدس لا يدخلها إلا زكريا (ع) ومريم (ع) ، وكان وجود أُنثى في خدمة المعبد وقتها غير مسموح به ، وبذلك كان وجودها هناك خاص واستثنائي.
لما بلغت مريم (ع) التسع سنوات ، بدأت بالصيام نهاراً وإحياء الليل بالعبادة والمناجاة ، وبلغت مكانة رفيعة من الإيمان والتقوى والورع ، وعُرفت بين الناس بذلك ، وبما يحصل معها من معجزات كرمها الله بها ، كما كان الحال عندما كان يدخل زكريا عليها ويجد عندها طعاماً حصلت عليه من الله عن طريق المعجزة.
وأنزل الله من لدنه ملائكة يقولون لها: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 42].
2- خبر حمل مريم (ع) بعيسى (ع) وولادته :
روى القرآن الكريم القصة في سورة مريم ، في الآيات 16 وحتى 33 ، حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (صدق الله العظيم)
الآيات الكريمة تبين عدة حقائق منها أن الله أوحى إلى مريم (ع) أنها ستحمل بعيسى (ع) ، وهو بحد ذاته تشريف لها بالوحي ، وتبين مدى إحراج موقفها أمام الناس ، لا سيما الحساد الذين كانوا يتربصون أي فرصة ليظهروا ما في قلوبهم من ضغينة ، حتى وصل بهم الحال أن يرموها بارتكاب الزنا والعياذ بالله ، ولكن الله سبحانه وتعالى حمى مريم ، بأن أمرها بالصيام عن الكلام ، بحيث أن كلام عيسى (ع) في المهد ، بكلام إلهي رائع ، وردّه على من تجرأ عليها ، كان قد أفحمهم وصعق قلوبهم وعقولهم وأزال كل شبهة عنها ، والآيات تظهر بوضوح علوّ مقام مريم (ع) عند الله سبحانه وتعالى ، وكيف أنه كان يحوطها بعنايته ورحمته.
3- خبر ولادة ونشأة مريم عليها السلام:
رُوي أنّ حنّة زوجة عمران كانت عاقراً لا تلد، إلى أن طعنت في السن ، وفي يوم ما ، تحرّكت عاطفتها للولد وتمنّته فقامت تدعو ربها: ربّي إنّ لك عليّ نذراً إن رزقتني ولداً ، أن أخصصه وأتصدّق به على بيت المقدس ليكون من خدامه:(ربِّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنّك أنت السميع العليم) [آل عمران:35] ، واستجاب الله سبحانه لدعاء حنة ، فحملت، وأثناء حملها توفي زوجها عمران ، ثم ولدت فرزقت بنتاً ، والبنت بالطبع لا تقوم بالخدمة في المعبد كما يقوم الرجل، فأسفت حنّة ، واعتذرت لله عزّ وجل قائلة:
(ربّ إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران:36] ، لكن الله سبحانه وتعالى قبل هذا النذر، وجعله نذراً مباركاً وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: (فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً..) [آل عمران:37].
ولدت مريم يتيمة ، فقد توفي والدها عمران وهي في بطن أمها ، وأمها لا تستطيع وحدها على تربيتها لضعفها وكبر سنها ، ولما رآها الأحبار قذف الله في قلوبهم حبها وإجلالها ، فتنازعوا على من يكفلها ، فقال نبي الله زكريا -عليه السلام- وكان أكبرهم سنا: أنا آخذها، وأنا أحق بها؛ لأن خالتها زوجتي - يقصد زوجه أم النبي يحيي (ع) ، لكن الأحبار أَبَوْا ذلك ، طمعاً أن يكفلوها ، فقال لهم زكريا: نقترع عليها، بأن نلقي أقلامنا في نهر الأردن ، ومن يستقر قلمه في النهر يكفلها ، وكانت هذه العادة منتشرة آنذاك ، وكان كل شخص في الجوار يريد ان يكفلها لأن والدها عمران كان ذو مقام رفيع في قومه ، وهو معلمهم وكان يدرّسهم ، وكان الاتفاق أن صاحب آخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها ، فرمى الجميع أقلامهم ، فجرف النهر اقلامهم كلها إلا قلم زكريا ، فقد وقف تماماً على صفحة النهر ، فعمدوا إلى رمي أقلامهم مرة ثانية ، فحدث نفس ما حدث في المرة الأولى ، وبقي قلم زكريا واقفاً مكانه في النهر ، فرموا الأقلام للمرة الثالثة ، فوقف القلم في النهر مرة أخرى ، فكفلها زكريا (ع) ، وكان عُمْرُ مريم وقتئذ لا يتجاوز عامًا واحداً. (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران:44]
فآواها الله بمنه وكرمه عند زوج خالتها ، وهو نبي الله زكريا، وكان هذا من رحمة الله بها ورعايته لها ، وشبّت مريم وبيتها هو المسجد، وخلوتها فيه فقط ، وجعل لها زكريا خادمة في محرابها ظلت معها حتى كبرت ، وكان لا يدخل عليها حتى يستأذنها ويسلم عليها ، وكان يأتي إليها بالطعام والشراب ، غير أنه كلما دخل عليها قدمت له طبقًا ممتلئًا بالفاكهة ، فيتعجب زكريا من الفاكهة التي يراها، حيث يرى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول لها في دهشة: يا مريم من أين يأتي لك هذا؟ لأنه هو كافلها ، وهو لم يحضره لها ، فتقول له: رزقني به اللّه: (هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37]، فلما رأى زكريا ما رأى من قدرة ربه وعظمته في مريم ، دعا اللّه أن يعطيه ولدًا يساعده ويسعد به: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء* فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 38 -39].
وطوال تلك المدة كانت مريم ، وهي المنذورة المقيمة في المحراب ، فتاة عابدة قانتة في خلوة المسجد ، تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة والصوم ، حتى بلغت سن الشباب، فضربت مريم عندئذ على نفسها الحجاب، فكان تأتيها حاجتها من الطعام والماء من خلف الستار ، وبعد ذلك ابتعدت مريم عن الناس ، وأصبح لا يراها أحد ولا ترى أحداً: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) [مريم : 16-17].
4- خبر نزول الملائكة وجبريل على مريم عليها السلام:
وهكذا كانت تهيئة مريم ، القانتة العابدة ، لمعجزة ولادة السيد المسيح عليه من الله السلام ، فقد بدأت الملائكة تحضر لمريم وتكلمها ، وهذا بالطبع اصطفاء آخر لمريم القديسة :
(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آية (43) آل عمران.
5- خبر حمل مريم عليها السلام بالمسيح وكيف وضعته:
وبينما مريم منشغلة في أمر صلاتها وعبادتها، جاءها جبريل بإذن ربها على هيئة رجل ليبشرها بالمسيح ولدًا لها (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم: 17]، ففزعت منه، وقالت: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) [مريم:18-21]. يقول المفسرون: إنها خرجت وعليها جلبابها، فأخذ جبريل بكمها، ونفخ في جيب درعها فحملت ، حتى إذا ظهر حملها استحيت، وهربت حياءً من قومها نحو المشرق عند وادٍ هجره الرعاة ، فخرج قومها وراءها يبحثون عنها ، ولا يخبرهم عنها أحد ، فلما أتاها المخاض تساندت إلى جذع نخلة تبكي وجلة خائفة: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم :22-23]. حينئذ أراد الله أن يسكّن خوفها فبعث إليها جبريل: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ، فَكُلِى وَاشْرَبِي وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 24 - 26].
ومع أنها تعلم أن حملها هو معجزة من الله ، ولكنه الخوف الإنساني ، الذي لا مفر منه ، ولم يكن بقربها أحد ليساعدها ويعتني بها ويواسيها في محنتها ، فاجتمعت كل هذه الهموم والمصاعب على السيدة العذراء، ومع تطاولها في عالم الإيمان والتقوى ، فقد وصل الأمر بها إلى أن تتمنّى الموت ، كما أشار القرآن الكريم: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم:23]. فقد كان وقع الأمر عليها شديداً لا يمكن تحمله ، والطبيعة الإنسانية لا شك ستكون حاضرة بقوة في مثل هذا الموقف العصيب ، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يترك من آمن به ولجأ اليه عندما تصيبه محنة ، وخاصة سيدتنا مريم ، التي اصطفاها الله عز وجل بهذه المعجزة ، فانطلق صوت من تحتها ، يطلب إليها أن تنظر تحتها ، لتجد عين ماء جارية.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم:24]
وأن تنظر لأعلى فتجد في النخل رُطباً (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم:25] ، وهكذا يحفظ الله المؤمنين بمعجزاته ، فهذا جدول ماء رقراق يفجّره الله لها ، وها هي الضعيفة من آثار الولادة ، تستطيع أن تهزّ جذع النخلة ، فيتساقط عليها الرطب جنيّاَ لتتغذى به.
6- خبر رجوع مريم عليها السلام بالمسيح إلى قومها بعد ولادته:
اطمأنت نفس مريم إلى كلام الله لها على لسان جبريل، وانطلقت إلى قومها وهي تحمل وليدها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) [مريم: 27]، أي جئت بشيء منكرٍ وأمرٍ عظيم:(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)[مريم: 28- 29]، لكن الله لا ينسى عباده المخلصين، فأنطق بقدرته المسيح وهو وليد لم يتعدّ عمره أيامًا معدودة: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:30-33] ، فَعَلَتِ الدهشةُ وجوهَ القوم، وظهرت علامات براءة مريم، فانشرح صدرها، وحمدت الله على نعمته.
7- هجرة السيدة مريم العذراء ووليدها إلى مصر ، ثم عودتها ، البعث بالرسالة ، رفع المسيح ، ووفاة مريم عليها السلام:
خاف أعداء الله - اليهود – على عروشهم وثرواتهم ، فبعث ملكهم جنوده ليقتلوا هذا الوليد المبارك ، فهاجرت به مريم إلى مصر، حيث مكثوا هنالك اثنتي عشرة سنة ، تَرَّبى فيها السيد المسيح، ثم عادت إلى فلسطين بعد موت الملك الطاغية ، واستقرت ببلدة الناصرة ، وظلت فيها حتى بلغ المسيح ثلاثين عامًا حيث بعثه اللّه بالرسالة ، فشاركته أمه أعباءها، وأعباء اضطهاد اليهود له وكيدهم به ، حتى إذا ما أرادوا قتله ، أنقذه الله من بين أيديهم ، وألقى شَبَهَهُ على أحد تلاميذه الخائنين وهو يهوذا ، الذي أخذه اليهود وصلبوه حياً ، بينما رفع اللَّه عيسى إليه مصداقًا لقوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم) [النساء: 157] ، وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [ النساء: 158] . وتوفيت مريم بعد رفع عيسى -عليه السلام- بخمس سنوات، وكان عمرها حينذاك ثلاثًا وخمسين سنة، ويقال بأن قبرها في أرض دمشق.
8- خبر تمييز الله تعالى لمريم عليها السلام عن نساء العالمين:
هي الوحيدة التي تحمل وتلد وهي عذراء ، وهذه معجزتها من الله للعالمين ، تذكيراً بأن الله هو الخالق الذي يخلق ما يشاء كيفما شاء سبحانه. (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم:12] وهي الوحيدة التي سميت سورة باسمها وذكرها الله باسمها في القرآن ، وهي كذلك سيدة نساء العالمين ، ويقول عنها رسول الله في الحديث الصحيح:(خير نساء العالمين: مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفاطمة) [ابن حبان].
هذه هي باختصار قصة واحدة من أفضل نساء الدنيا ، ســـيدتنا مريم ، عليها السلام.
ســـبحانك ربي ، تفعل ما تشـــاء ، كيفما تشـــاء ، تعاليت يا ذا الجلال والإكـــــرام.
-----------------------------------------------------انتهى--------

ناديه محمد الجابي
14-06-2024, 01:53 PM
+AA -


1- مريم بنت عمران، من قصتكِ تعلمتُ
أن الأسباب تجري على الناس ولا تجري على الله، وأنه سبحانه وضع للكون قانوناً ليحكمه به لا ليقيِّد قدرته، تعالى الله عن هذا علواً كبيراً،
فكما خلق آدم من غير أبٍ ولا أم، وخلق حواء من ضلع آدم، أي من أبٍ من غير أم، خلقَ ابنكِ من أمٍ من غير أب، لتكوني وابنكِ آية للناس على قدرته وعظمته سبحانه!
2- وأن دعاء الوالدين سهمٌ صائب، لهذا لا يجب أن ندعو للأولاد إلا بخير، فمذ كنتِ في المهد قالت أمكِ تدعو ربها لكِ: «وإني أعيذها بكَ وذريتها من الشيطان الرجيم»! فما وجد الشيطان إليكِ سبيلاً، وكانت ذريتكِ نبياً من أولي العزم من الرسل!
3- وأنَّ القلوب تُصقل في المحاريب، وعلى سجاجيد الصلاة، وأنها بقدر ما تلين بالتسبيح والدعاء، يربطُ الله عليها ليُغيِّر بها العالم «يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين»!
4- و أنّ المؤمن أول ما يفزعُ إلى الله، فعندما رأيتِ جبريل ماثلاً أمامكِ بهيئة بشر، كان أول كلام قلتهِ
«إني أعوذ بالرحمن منك»، لم يخطر لكِ زكريا الذي كفلكِ وساعدكِ ورباكِ، ولا الرهبان الذين ألقوا أقلامهم يوماً يقترعون، كل واحد منهم
يريد أن ينال شرف رعايتكِ، هكذا هو المؤمن دوماً، أولاً مع الله ثم يأتي الناس!
5- و أن الإنسان يبقى إنساناً مهما بلغَ من الإيمان عِتياً! كان أول ما قلتِه عندما وضعتِ ابنك:
«يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً»! مخطئ من يظن أن الإيمان يجعل الناس ملائكة لا يخافون
ولا يقلقون ولا يتألمون ولا يحزنون، الإيمان يهذبنا فقط، يجعلنا أكثر فهماً وإحساساً ومسؤولية، وما تمنيتِ الموت لحظتذاك إلا لأنك إنسان يعرف ما الذي ينتظره عند الناس!
6-و أن الدنيا دار أسباب، ولو أغنى الله أحداً عنها لأغناكِ وأنتِ في قمة ضعفكِ واضعة مولودك ترزحين تحت وطأة النفاس، ولكنه قال لكِ «هزي إليكِ بجذع النخلة تساقط عليكِ رطباً جنياً»، يعرف سبحانه أنكِ لا تقدرين على هزّ نخلة، ولكنه أراد أن يعلمنا من خلالكِ أن نسعى بقدر ما نستطيع، على أننا نؤمن أن السعي لا يزيد في الرزق ولا القعود ينقصه، ولكن الدنيا ليستْ سائبة، إنها محكومة بقانون!
7- أننا أحياناً نصمتُ لا ضعفاً، ولا عجزاً، وإنما لأن البعض لا يجدي معهم الكلام مهما قلنا، فالناس أحياناً لا يسمعون إلا ما يريدون، ولأنكِ تعرفين هذا قلتِ لهم: «إني نذرتُ للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً»!
8-و أن أواجه مشاكلي بهدوء واتزان، وأن لا أقلب الدنيا رأساً على عقب، وأنه إذا واجهتني مشكلة في الحياة أ
9-و أن الفرَجَ يأتي من حيثُ لا نحتسب، وأن قانون الدنيا الخالد، كُن مع اللهِ في الرخاء يكن معك في الشدة، وقدِّمْ لله ما يُحب يُقدِّم لكَ ما تحب، لم يكن أحد على ظهر الأرض بمن فيهم أنتِ يتصور أن وليداً عمره يوم واحد سيترافع عنكِ أمام محكمةِ الناس، وسيُخرس كل الألسنة، ويتلو بيان عفتكِ وطهركِ!
10-و أن الإنسان لن يكون حُراً إلا إذا كان عبداً لله! وأن العقيدة هوية، والتوحيد جنسية، وإفراد الله بالعبودية جواز السفر الوحيد إلى الجنة، كانوا ينتظرون أن يعرفوا هوية ابنك وجنسيته، فأعلنها لهم «إني عبد الله»!

باارك الله فيك على الموضوع القيم وجمال تقديمه
جعل الله ما كتبت في ميزان حسناتك.

أحمد فؤاد صوفي
14-06-2024, 09:00 PM
الأديبة الكريمة/ نادية محمد الجابي ... المحترمة ،،،
للحق أقول أن تعليقك قد يكون أجمل من مشاركتي، فهو أحاط بالتفاصيل وغلفها بالإدراك الداخلي المميز، وإن قراءته سعادة ،،،
والآن عندما يقرأ الزائر المشاركة مع التعليق ، يكون قد استوعب القصة وتفاصيلها ومقاصدها بالكامل ،،،
بارك الله بك وبعملك ورفعك ووفقك دوماً إلى ما يريده ويرضاه ،،،
تقبلي من أخيك التحية والاحترام ،،،

أسيل أحمد
15-06-2024, 06:28 PM
نزلت هذه السورة للرد على اليهود -أخزاهم الله- فيما اقترفوه من القول الشنيع في حق مريم وابنها عيسى عليهما السلام،
فكان فيها بيان نزاهة آل عمران، وقداستهم في الخير.
وقد اشتملت السورة على ثلاثة مقاصد أسياسية، هي: إثبات وحدانيته سبحانه. وتنـزيه سبحانه عن الولد. وإثبات البعث يوم القيامة.
بارك الله فيك وجزاك الجنة.

أحمد فؤاد صوفي
17-06-2024, 09:11 AM
نزلت هذه السورة للرد على اليهود -أخزاهم الله- فيما اقترفوه من القول الشنيع في حق مريم وابنها عيسى عليهما السلام،
فكان فيها بيان نزاهة آل عمران، وقداستهم في الخير.
وقد اشتملت السورة على ثلاثة مقاصد أسياسية، هي: إثبات وحدانيته سبحانه. وتنـزيه سبحانه عن الولد. وإثبات البعث يوم القيامة.
بارك الله فيك وجزاك الجنة.

ما شاء الله ، تعليقات بمنتهى العمق والجمال ،،،
بارك الله بك ورفعك ووفقك لما يرضاه ،،،
تحياتي واحترامي ،،،