أحمد فؤاد صوفي
14-06-2024, 12:15 PM
** قصـة مريـم العـذراء **
السيدة مريم العذراء هي أم نبي الله عيسى "عليه السلام" والتي ولدته دون أن يمسها رجل ، لتكون ولادته معجزة للناس ، وكلنا نعلم المنزلة الرفيعة للسيدة مريم ، ولكن كثير من الأحباب يرغبون بالاطلاع على قصتها عليها السلام كاملةً ، أين ولدت؟ وأين وكيف نشأت؟ وكيف خصها الله بمعجزة ولادتها لابنها المسيح عيسى ، نبي الله عليه السلام وهي عذراء؟ فيما يلي ستجدون ملخصاً لحياة هذه القديسة العظيمة:
1- خبر ولادة مريم عليها السلام وكيف كفلها نبي الله زكريا (ع):
في جو ساد فيه الظلم والاضطراب ، كانت الحياة التي يعيشها بنو إسرائيل بائسة ، فقد أفسدوا دينهم وحرّفوا عقيدتهم ، واستشرى الفساد بينهم بكل صنوفه ، وفى خضم ذلك كان يعيش عمران بن ماتان ، وزوجته حَنّة بنت فاقوذ، يعبدان الله وحده ولا يشركان به شيئًا ، وكان الزمان يمر بهما دون ولد يؤنسهما ، وفى يوم من الأيام جلست حنة بين ظلال الأشجار، فرأت عصفورة تطعم صغيرها ، فتحركت بداخلها غريزة الأمومة ، فدعت اللّه أن يرزقها ولدًا حتى تنذره لخدمة بيت المقدس: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35] .
وتقبل الله منها دعاءها ، ولكن حكمته اقتضت أن يكون الجنين أنثى، فكانت السيدة مريم:
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[آل عمران: 36].
يقول رسولنا (ص) في ذلك أنه : "كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها" [مسلم].
وأخذتها أمها إلى الهيكل؛ استجابة لنذرها، ودعت الله أن يتقبلها: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) [آل عمران: 37].
ونظراً لوفاة والد السيدة مريم (ع) ، فقد تكفلها زكريا (ع) زوج خالتها ، الذي اهتم بتربيتها الدينية والعبادية بشكل خاص ، حتى أنها صارت من أعلم الناس في عصرها ، ولما بلغت سن التكليف بنى زكريا (ع) لها غرفة في مكان عالٍ من المعبد في القدس لا يدخلها إلا زكريا (ع) ومريم (ع) ، وكان وجود أُنثى في خدمة المعبد وقتها غير مسموح به ، وبذلك كان وجودها هناك خاص واستثنائي.
لما بلغت مريم (ع) التسع سنوات ، بدأت بالصيام نهاراً وإحياء الليل بالعبادة والمناجاة ، وبلغت مكانة رفيعة من الإيمان والتقوى والورع ، وعُرفت بين الناس بذلك ، وبما يحصل معها من معجزات كرمها الله بها ، كما كان الحال عندما كان يدخل زكريا عليها ويجد عندها طعاماً حصلت عليه من الله عن طريق المعجزة.
وأنزل الله من لدنه ملائكة يقولون لها: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 42].
2- خبر حمل مريم (ع) بعيسى (ع) وولادته :
روى القرآن الكريم القصة في سورة مريم ، في الآيات 16 وحتى 33 ، حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (صدق الله العظيم)
الآيات الكريمة تبين عدة حقائق منها أن الله أوحى إلى مريم (ع) أنها ستحمل بعيسى (ع) ، وهو بحد ذاته تشريف لها بالوحي ، وتبين مدى إحراج موقفها أمام الناس ، لا سيما الحساد الذين كانوا يتربصون أي فرصة ليظهروا ما في قلوبهم من ضغينة ، حتى وصل بهم الحال أن يرموها بارتكاب الزنا والعياذ بالله ، ولكن الله سبحانه وتعالى حمى مريم ، بأن أمرها بالصيام عن الكلام ، بحيث أن كلام عيسى (ع) في المهد ، بكلام إلهي رائع ، وردّه على من تجرأ عليها ، كان قد أفحمهم وصعق قلوبهم وعقولهم وأزال كل شبهة عنها ، والآيات تظهر بوضوح علوّ مقام مريم (ع) عند الله سبحانه وتعالى ، وكيف أنه كان يحوطها بعنايته ورحمته.
3- خبر ولادة ونشأة مريم عليها السلام:
رُوي أنّ حنّة زوجة عمران كانت عاقراً لا تلد، إلى أن طعنت في السن ، وفي يوم ما ، تحرّكت عاطفتها للولد وتمنّته فقامت تدعو ربها: ربّي إنّ لك عليّ نذراً إن رزقتني ولداً ، أن أخصصه وأتصدّق به على بيت المقدس ليكون من خدامه:(ربِّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنّك أنت السميع العليم) [آل عمران:35] ، واستجاب الله سبحانه لدعاء حنة ، فحملت، وأثناء حملها توفي زوجها عمران ، ثم ولدت فرزقت بنتاً ، والبنت بالطبع لا تقوم بالخدمة في المعبد كما يقوم الرجل، فأسفت حنّة ، واعتذرت لله عزّ وجل قائلة:
(ربّ إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران:36] ، لكن الله سبحانه وتعالى قبل هذا النذر، وجعله نذراً مباركاً وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: (فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً..) [آل عمران:37].
ولدت مريم يتيمة ، فقد توفي والدها عمران وهي في بطن أمها ، وأمها لا تستطيع وحدها على تربيتها لضعفها وكبر سنها ، ولما رآها الأحبار قذف الله في قلوبهم حبها وإجلالها ، فتنازعوا على من يكفلها ، فقال نبي الله زكريا -عليه السلام- وكان أكبرهم سنا: أنا آخذها، وأنا أحق بها؛ لأن خالتها زوجتي - يقصد زوجه أم النبي يحيي (ع) ، لكن الأحبار أَبَوْا ذلك ، طمعاً أن يكفلوها ، فقال لهم زكريا: نقترع عليها، بأن نلقي أقلامنا في نهر الأردن ، ومن يستقر قلمه في النهر يكفلها ، وكانت هذه العادة منتشرة آنذاك ، وكان كل شخص في الجوار يريد ان يكفلها لأن والدها عمران كان ذو مقام رفيع في قومه ، وهو معلمهم وكان يدرّسهم ، وكان الاتفاق أن صاحب آخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها ، فرمى الجميع أقلامهم ، فجرف النهر اقلامهم كلها إلا قلم زكريا ، فقد وقف تماماً على صفحة النهر ، فعمدوا إلى رمي أقلامهم مرة ثانية ، فحدث نفس ما حدث في المرة الأولى ، وبقي قلم زكريا واقفاً مكانه في النهر ، فرموا الأقلام للمرة الثالثة ، فوقف القلم في النهر مرة أخرى ، فكفلها زكريا (ع) ، وكان عُمْرُ مريم وقتئذ لا يتجاوز عامًا واحداً. (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران:44]
فآواها الله بمنه وكرمه عند زوج خالتها ، وهو نبي الله زكريا، وكان هذا من رحمة الله بها ورعايته لها ، وشبّت مريم وبيتها هو المسجد، وخلوتها فيه فقط ، وجعل لها زكريا خادمة في محرابها ظلت معها حتى كبرت ، وكان لا يدخل عليها حتى يستأذنها ويسلم عليها ، وكان يأتي إليها بالطعام والشراب ، غير أنه كلما دخل عليها قدمت له طبقًا ممتلئًا بالفاكهة ، فيتعجب زكريا من الفاكهة التي يراها، حيث يرى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول لها في دهشة: يا مريم من أين يأتي لك هذا؟ لأنه هو كافلها ، وهو لم يحضره لها ، فتقول له: رزقني به اللّه: (هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37]، فلما رأى زكريا ما رأى من قدرة ربه وعظمته في مريم ، دعا اللّه أن يعطيه ولدًا يساعده ويسعد به: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء* فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 38 -39].
وطوال تلك المدة كانت مريم ، وهي المنذورة المقيمة في المحراب ، فتاة عابدة قانتة في خلوة المسجد ، تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة والصوم ، حتى بلغت سن الشباب، فضربت مريم عندئذ على نفسها الحجاب، فكان تأتيها حاجتها من الطعام والماء من خلف الستار ، وبعد ذلك ابتعدت مريم عن الناس ، وأصبح لا يراها أحد ولا ترى أحداً: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) [مريم : 16-17].
4- خبر نزول الملائكة وجبريل على مريم عليها السلام:
وهكذا كانت تهيئة مريم ، القانتة العابدة ، لمعجزة ولادة السيد المسيح عليه من الله السلام ، فقد بدأت الملائكة تحضر لمريم وتكلمها ، وهذا بالطبع اصطفاء آخر لمريم القديسة :
(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آية (43) آل عمران.
5- خبر حمل مريم عليها السلام بالمسيح وكيف وضعته:
وبينما مريم منشغلة في أمر صلاتها وعبادتها، جاءها جبريل بإذن ربها على هيئة رجل ليبشرها بالمسيح ولدًا لها (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم: 17]، ففزعت منه، وقالت: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) [مريم:18-21]. يقول المفسرون: إنها خرجت وعليها جلبابها، فأخذ جبريل بكمها، ونفخ في جيب درعها فحملت ، حتى إذا ظهر حملها استحيت، وهربت حياءً من قومها نحو المشرق عند وادٍ هجره الرعاة ، فخرج قومها وراءها يبحثون عنها ، ولا يخبرهم عنها أحد ، فلما أتاها المخاض تساندت إلى جذع نخلة تبكي وجلة خائفة: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم :22-23]. حينئذ أراد الله أن يسكّن خوفها فبعث إليها جبريل: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ، فَكُلِى وَاشْرَبِي وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 24 - 26].
ومع أنها تعلم أن حملها هو معجزة من الله ، ولكنه الخوف الإنساني ، الذي لا مفر منه ، ولم يكن بقربها أحد ليساعدها ويعتني بها ويواسيها في محنتها ، فاجتمعت كل هذه الهموم والمصاعب على السيدة العذراء، ومع تطاولها في عالم الإيمان والتقوى ، فقد وصل الأمر بها إلى أن تتمنّى الموت ، كما أشار القرآن الكريم: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم:23]. فقد كان وقع الأمر عليها شديداً لا يمكن تحمله ، والطبيعة الإنسانية لا شك ستكون حاضرة بقوة في مثل هذا الموقف العصيب ، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يترك من آمن به ولجأ اليه عندما تصيبه محنة ، وخاصة سيدتنا مريم ، التي اصطفاها الله عز وجل بهذه المعجزة ، فانطلق صوت من تحتها ، يطلب إليها أن تنظر تحتها ، لتجد عين ماء جارية.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم:24]
وأن تنظر لأعلى فتجد في النخل رُطباً (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم:25] ، وهكذا يحفظ الله المؤمنين بمعجزاته ، فهذا جدول ماء رقراق يفجّره الله لها ، وها هي الضعيفة من آثار الولادة ، تستطيع أن تهزّ جذع النخلة ، فيتساقط عليها الرطب جنيّاَ لتتغذى به.
6- خبر رجوع مريم عليها السلام بالمسيح إلى قومها بعد ولادته:
اطمأنت نفس مريم إلى كلام الله لها على لسان جبريل، وانطلقت إلى قومها وهي تحمل وليدها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) [مريم: 27]، أي جئت بشيء منكرٍ وأمرٍ عظيم:(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)[مريم: 28- 29]، لكن الله لا ينسى عباده المخلصين، فأنطق بقدرته المسيح وهو وليد لم يتعدّ عمره أيامًا معدودة: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:30-33] ، فَعَلَتِ الدهشةُ وجوهَ القوم، وظهرت علامات براءة مريم، فانشرح صدرها، وحمدت الله على نعمته.
7- هجرة السيدة مريم العذراء ووليدها إلى مصر ، ثم عودتها ، البعث بالرسالة ، رفع المسيح ، ووفاة مريم عليها السلام:
خاف أعداء الله - اليهود – على عروشهم وثرواتهم ، فبعث ملكهم جنوده ليقتلوا هذا الوليد المبارك ، فهاجرت به مريم إلى مصر، حيث مكثوا هنالك اثنتي عشرة سنة ، تَرَّبى فيها السيد المسيح، ثم عادت إلى فلسطين بعد موت الملك الطاغية ، واستقرت ببلدة الناصرة ، وظلت فيها حتى بلغ المسيح ثلاثين عامًا حيث بعثه اللّه بالرسالة ، فشاركته أمه أعباءها، وأعباء اضطهاد اليهود له وكيدهم به ، حتى إذا ما أرادوا قتله ، أنقذه الله من بين أيديهم ، وألقى شَبَهَهُ على أحد تلاميذه الخائنين وهو يهوذا ، الذي أخذه اليهود وصلبوه حياً ، بينما رفع اللَّه عيسى إليه مصداقًا لقوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم) [النساء: 157] ، وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [ النساء: 158] . وتوفيت مريم بعد رفع عيسى -عليه السلام- بخمس سنوات، وكان عمرها حينذاك ثلاثًا وخمسين سنة، ويقال بأن قبرها في أرض دمشق.
8- خبر تمييز الله تعالى لمريم عليها السلام عن نساء العالمين:
هي الوحيدة التي تحمل وتلد وهي عذراء ، وهذه معجزتها من الله للعالمين ، تذكيراً بأن الله هو الخالق الذي يخلق ما يشاء كيفما شاء سبحانه. (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم:12] وهي الوحيدة التي سميت سورة باسمها وذكرها الله باسمها في القرآن ، وهي كذلك سيدة نساء العالمين ، ويقول عنها رسول الله في الحديث الصحيح:(خير نساء العالمين: مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفاطمة) [ابن حبان].
هذه هي باختصار قصة واحدة من أفضل نساء الدنيا ، ســـيدتنا مريم ، عليها السلام.
ســـبحانك ربي ، تفعل ما تشـــاء ، كيفما تشـــاء ، تعاليت يا ذا الجلال والإكـــــرام.
-----------------------------------------------------انتهى--------
السيدة مريم العذراء هي أم نبي الله عيسى "عليه السلام" والتي ولدته دون أن يمسها رجل ، لتكون ولادته معجزة للناس ، وكلنا نعلم المنزلة الرفيعة للسيدة مريم ، ولكن كثير من الأحباب يرغبون بالاطلاع على قصتها عليها السلام كاملةً ، أين ولدت؟ وأين وكيف نشأت؟ وكيف خصها الله بمعجزة ولادتها لابنها المسيح عيسى ، نبي الله عليه السلام وهي عذراء؟ فيما يلي ستجدون ملخصاً لحياة هذه القديسة العظيمة:
1- خبر ولادة مريم عليها السلام وكيف كفلها نبي الله زكريا (ع):
في جو ساد فيه الظلم والاضطراب ، كانت الحياة التي يعيشها بنو إسرائيل بائسة ، فقد أفسدوا دينهم وحرّفوا عقيدتهم ، واستشرى الفساد بينهم بكل صنوفه ، وفى خضم ذلك كان يعيش عمران بن ماتان ، وزوجته حَنّة بنت فاقوذ، يعبدان الله وحده ولا يشركان به شيئًا ، وكان الزمان يمر بهما دون ولد يؤنسهما ، وفى يوم من الأيام جلست حنة بين ظلال الأشجار، فرأت عصفورة تطعم صغيرها ، فتحركت بداخلها غريزة الأمومة ، فدعت اللّه أن يرزقها ولدًا حتى تنذره لخدمة بيت المقدس: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35] .
وتقبل الله منها دعاءها ، ولكن حكمته اقتضت أن يكون الجنين أنثى، فكانت السيدة مريم:
(فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[آل عمران: 36].
يقول رسولنا (ص) في ذلك أنه : "كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها" [مسلم].
وأخذتها أمها إلى الهيكل؛ استجابة لنذرها، ودعت الله أن يتقبلها: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا) [آل عمران: 37].
ونظراً لوفاة والد السيدة مريم (ع) ، فقد تكفلها زكريا (ع) زوج خالتها ، الذي اهتم بتربيتها الدينية والعبادية بشكل خاص ، حتى أنها صارت من أعلم الناس في عصرها ، ولما بلغت سن التكليف بنى زكريا (ع) لها غرفة في مكان عالٍ من المعبد في القدس لا يدخلها إلا زكريا (ع) ومريم (ع) ، وكان وجود أُنثى في خدمة المعبد وقتها غير مسموح به ، وبذلك كان وجودها هناك خاص واستثنائي.
لما بلغت مريم (ع) التسع سنوات ، بدأت بالصيام نهاراً وإحياء الليل بالعبادة والمناجاة ، وبلغت مكانة رفيعة من الإيمان والتقوى والورع ، وعُرفت بين الناس بذلك ، وبما يحصل معها من معجزات كرمها الله بها ، كما كان الحال عندما كان يدخل زكريا عليها ويجد عندها طعاماً حصلت عليه من الله عن طريق المعجزة.
وأنزل الله من لدنه ملائكة يقولون لها: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 42].
2- خبر حمل مريم (ع) بعيسى (ع) وولادته :
روى القرآن الكريم القصة في سورة مريم ، في الآيات 16 وحتى 33 ، حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (صدق الله العظيم)
الآيات الكريمة تبين عدة حقائق منها أن الله أوحى إلى مريم (ع) أنها ستحمل بعيسى (ع) ، وهو بحد ذاته تشريف لها بالوحي ، وتبين مدى إحراج موقفها أمام الناس ، لا سيما الحساد الذين كانوا يتربصون أي فرصة ليظهروا ما في قلوبهم من ضغينة ، حتى وصل بهم الحال أن يرموها بارتكاب الزنا والعياذ بالله ، ولكن الله سبحانه وتعالى حمى مريم ، بأن أمرها بالصيام عن الكلام ، بحيث أن كلام عيسى (ع) في المهد ، بكلام إلهي رائع ، وردّه على من تجرأ عليها ، كان قد أفحمهم وصعق قلوبهم وعقولهم وأزال كل شبهة عنها ، والآيات تظهر بوضوح علوّ مقام مريم (ع) عند الله سبحانه وتعالى ، وكيف أنه كان يحوطها بعنايته ورحمته.
3- خبر ولادة ونشأة مريم عليها السلام:
رُوي أنّ حنّة زوجة عمران كانت عاقراً لا تلد، إلى أن طعنت في السن ، وفي يوم ما ، تحرّكت عاطفتها للولد وتمنّته فقامت تدعو ربها: ربّي إنّ لك عليّ نذراً إن رزقتني ولداً ، أن أخصصه وأتصدّق به على بيت المقدس ليكون من خدامه:(ربِّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنّك أنت السميع العليم) [آل عمران:35] ، واستجاب الله سبحانه لدعاء حنة ، فحملت، وأثناء حملها توفي زوجها عمران ، ثم ولدت فرزقت بنتاً ، والبنت بالطبع لا تقوم بالخدمة في المعبد كما يقوم الرجل، فأسفت حنّة ، واعتذرت لله عزّ وجل قائلة:
(ربّ إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران:36] ، لكن الله سبحانه وتعالى قبل هذا النذر، وجعله نذراً مباركاً وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: (فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتاً حسناً..) [آل عمران:37].
ولدت مريم يتيمة ، فقد توفي والدها عمران وهي في بطن أمها ، وأمها لا تستطيع وحدها على تربيتها لضعفها وكبر سنها ، ولما رآها الأحبار قذف الله في قلوبهم حبها وإجلالها ، فتنازعوا على من يكفلها ، فقال نبي الله زكريا -عليه السلام- وكان أكبرهم سنا: أنا آخذها، وأنا أحق بها؛ لأن خالتها زوجتي - يقصد زوجه أم النبي يحيي (ع) ، لكن الأحبار أَبَوْا ذلك ، طمعاً أن يكفلوها ، فقال لهم زكريا: نقترع عليها، بأن نلقي أقلامنا في نهر الأردن ، ومن يستقر قلمه في النهر يكفلها ، وكانت هذه العادة منتشرة آنذاك ، وكان كل شخص في الجوار يريد ان يكفلها لأن والدها عمران كان ذو مقام رفيع في قومه ، وهو معلمهم وكان يدرّسهم ، وكان الاتفاق أن صاحب آخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها ، فرمى الجميع أقلامهم ، فجرف النهر اقلامهم كلها إلا قلم زكريا ، فقد وقف تماماً على صفحة النهر ، فعمدوا إلى رمي أقلامهم مرة ثانية ، فحدث نفس ما حدث في المرة الأولى ، وبقي قلم زكريا واقفاً مكانه في النهر ، فرموا الأقلام للمرة الثالثة ، فوقف القلم في النهر مرة أخرى ، فكفلها زكريا (ع) ، وكان عُمْرُ مريم وقتئذ لا يتجاوز عامًا واحداً. (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)[آل عمران:44]
فآواها الله بمنه وكرمه عند زوج خالتها ، وهو نبي الله زكريا، وكان هذا من رحمة الله بها ورعايته لها ، وشبّت مريم وبيتها هو المسجد، وخلوتها فيه فقط ، وجعل لها زكريا خادمة في محرابها ظلت معها حتى كبرت ، وكان لا يدخل عليها حتى يستأذنها ويسلم عليها ، وكان يأتي إليها بالطعام والشراب ، غير أنه كلما دخل عليها قدمت له طبقًا ممتلئًا بالفاكهة ، فيتعجب زكريا من الفاكهة التي يراها، حيث يرى فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول لها في دهشة: يا مريم من أين يأتي لك هذا؟ لأنه هو كافلها ، وهو لم يحضره لها ، فتقول له: رزقني به اللّه: (هُوَ مِنْ عِنْدِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37]، فلما رأى زكريا ما رأى من قدرة ربه وعظمته في مريم ، دعا اللّه أن يعطيه ولدًا يساعده ويسعد به: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء* فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران: 38 -39].
وطوال تلك المدة كانت مريم ، وهي المنذورة المقيمة في المحراب ، فتاة عابدة قانتة في خلوة المسجد ، تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة والصوم ، حتى بلغت سن الشباب، فضربت مريم عندئذ على نفسها الحجاب، فكان تأتيها حاجتها من الطعام والماء من خلف الستار ، وبعد ذلك ابتعدت مريم عن الناس ، وأصبح لا يراها أحد ولا ترى أحداً: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا) [مريم : 16-17].
4- خبر نزول الملائكة وجبريل على مريم عليها السلام:
وهكذا كانت تهيئة مريم ، القانتة العابدة ، لمعجزة ولادة السيد المسيح عليه من الله السلام ، فقد بدأت الملائكة تحضر لمريم وتكلمها ، وهذا بالطبع اصطفاء آخر لمريم القديسة :
(يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آية (43) آل عمران.
5- خبر حمل مريم عليها السلام بالمسيح وكيف وضعته:
وبينما مريم منشغلة في أمر صلاتها وعبادتها، جاءها جبريل بإذن ربها على هيئة رجل ليبشرها بالمسيح ولدًا لها (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم: 17]، ففزعت منه، وقالت: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) [مريم:18-21]. يقول المفسرون: إنها خرجت وعليها جلبابها، فأخذ جبريل بكمها، ونفخ في جيب درعها فحملت ، حتى إذا ظهر حملها استحيت، وهربت حياءً من قومها نحو المشرق عند وادٍ هجره الرعاة ، فخرج قومها وراءها يبحثون عنها ، ولا يخبرهم عنها أحد ، فلما أتاها المخاض تساندت إلى جذع نخلة تبكي وجلة خائفة: (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم :22-23]. حينئذ أراد الله أن يسكّن خوفها فبعث إليها جبريل: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ، فَكُلِى وَاشْرَبِي وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 24 - 26].
ومع أنها تعلم أن حملها هو معجزة من الله ، ولكنه الخوف الإنساني ، الذي لا مفر منه ، ولم يكن بقربها أحد ليساعدها ويعتني بها ويواسيها في محنتها ، فاجتمعت كل هذه الهموم والمصاعب على السيدة العذراء، ومع تطاولها في عالم الإيمان والتقوى ، فقد وصل الأمر بها إلى أن تتمنّى الموت ، كما أشار القرآن الكريم: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) [مريم:23]. فقد كان وقع الأمر عليها شديداً لا يمكن تحمله ، والطبيعة الإنسانية لا شك ستكون حاضرة بقوة في مثل هذا الموقف العصيب ، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يترك من آمن به ولجأ اليه عندما تصيبه محنة ، وخاصة سيدتنا مريم ، التي اصطفاها الله عز وجل بهذه المعجزة ، فانطلق صوت من تحتها ، يطلب إليها أن تنظر تحتها ، لتجد عين ماء جارية.
(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم:24]
وأن تنظر لأعلى فتجد في النخل رُطباً (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم:25] ، وهكذا يحفظ الله المؤمنين بمعجزاته ، فهذا جدول ماء رقراق يفجّره الله لها ، وها هي الضعيفة من آثار الولادة ، تستطيع أن تهزّ جذع النخلة ، فيتساقط عليها الرطب جنيّاَ لتتغذى به.
6- خبر رجوع مريم عليها السلام بالمسيح إلى قومها بعد ولادته:
اطمأنت نفس مريم إلى كلام الله لها على لسان جبريل، وانطلقت إلى قومها وهي تحمل وليدها (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) [مريم: 27]، أي جئت بشيء منكرٍ وأمرٍ عظيم:(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)[مريم: 28- 29]، لكن الله لا ينسى عباده المخلصين، فأنطق بقدرته المسيح وهو وليد لم يتعدّ عمره أيامًا معدودة: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم:30-33] ، فَعَلَتِ الدهشةُ وجوهَ القوم، وظهرت علامات براءة مريم، فانشرح صدرها، وحمدت الله على نعمته.
7- هجرة السيدة مريم العذراء ووليدها إلى مصر ، ثم عودتها ، البعث بالرسالة ، رفع المسيح ، ووفاة مريم عليها السلام:
خاف أعداء الله - اليهود – على عروشهم وثرواتهم ، فبعث ملكهم جنوده ليقتلوا هذا الوليد المبارك ، فهاجرت به مريم إلى مصر، حيث مكثوا هنالك اثنتي عشرة سنة ، تَرَّبى فيها السيد المسيح، ثم عادت إلى فلسطين بعد موت الملك الطاغية ، واستقرت ببلدة الناصرة ، وظلت فيها حتى بلغ المسيح ثلاثين عامًا حيث بعثه اللّه بالرسالة ، فشاركته أمه أعباءها، وأعباء اضطهاد اليهود له وكيدهم به ، حتى إذا ما أرادوا قتله ، أنقذه الله من بين أيديهم ، وألقى شَبَهَهُ على أحد تلاميذه الخائنين وهو يهوذا ، الذي أخذه اليهود وصلبوه حياً ، بينما رفع اللَّه عيسى إليه مصداقًا لقوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُم) [النساء: 157] ، وقوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [ النساء: 158] . وتوفيت مريم بعد رفع عيسى -عليه السلام- بخمس سنوات، وكان عمرها حينذاك ثلاثًا وخمسين سنة، ويقال بأن قبرها في أرض دمشق.
8- خبر تمييز الله تعالى لمريم عليها السلام عن نساء العالمين:
هي الوحيدة التي تحمل وتلد وهي عذراء ، وهذه معجزتها من الله للعالمين ، تذكيراً بأن الله هو الخالق الذي يخلق ما يشاء كيفما شاء سبحانه. (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم:12] وهي الوحيدة التي سميت سورة باسمها وذكرها الله باسمها في القرآن ، وهي كذلك سيدة نساء العالمين ، ويقول عنها رسول الله في الحديث الصحيح:(خير نساء العالمين: مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفاطمة) [ابن حبان].
هذه هي باختصار قصة واحدة من أفضل نساء الدنيا ، ســـيدتنا مريم ، عليها السلام.
ســـبحانك ربي ، تفعل ما تشـــاء ، كيفما تشـــاء ، تعاليت يا ذا الجلال والإكـــــرام.
-----------------------------------------------------انتهى--------