المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سجن بلا حراس. ( بعد التعديل )



المصطفى البوخاري
28-12-2024, 04:34 PM
على ألحانِ هديرِ أمطارٍ، يتسلّل ضوءُ قمرٍ خافتٍ من ستارِ نافذةِ غرفةٍ منسيّةٍ، رطبةٍ كليلِ شتاءٍ عصيبٍ، مظلمةٍ كغورِ محيطٍ هائج.
غرفةٌ تعكسُ طرازًا أثريًا بزخارفَ آشوريّةٍ، تآكلت نقوشُها تحت وطأةِ الزمن، تنبعثُ منها رائحةُ ماضٍ محترقٍ، ويتناثرُ من شقوقِ جدرانِها غبارٌ كأنفاسِ حممٍ بركانيّةٍ.
سقفُ الغرفةِ هرميٌّ بعبقريةِ بناءٍ فرعونيّةٍ، يئنُّ بزوالِ مجدٍ تصدّع بنيانُه، ويبكي ذكرياتِ هندسةٍ طوتها سطوةُ النسيان.
الغرفةُ غارقةٌ في الصمتِ، إلا من أصواتٍ متناثرة:
نافذةٌ مُهشّمةٌ تُصدرُ صريرًا كلّما داعبتها الرياحُ، بينما يتسلّل الضوءُ عبرَ كسورها ليخلقَ ظلالًا شعشعةً تُثيرُ الخوفَ في النفوس.
كان زجاجُها بالأمسِ شفافًا مصقولًا، ينشرُ نورًا دافئًا ويقي من العاصفة، تُرى منه أفقًا بألوانِ الطيف، زاهرًا ببريقِ أمل. لكنّ الزمنَ كسرَ بريقَها كما يكسرُ السيفُ أعناقَ الأحلام، فغدتْ رمزًا للكسرِ والانطفاءِ.
كانتِ الغرفةُ جنّةً مزخرفةً، تنبضُ بالحياةِ، وتزخرُ بالأنفاسِ، حتّى استسلمتْ لزحفِ زمنٍ نسجَ شِباكهُ في زواياها، فأسدلَ ظلامَهُ على أرجائها، وحوّلها إلى مقبرةٍ لروحٍ حرّةٍ، وسجنٍ لحياةٍ كانتْ طليقة.
صريرُ سريرٍ مهترئٍ، منزوٍ في ركنِ الغرفةِ الشماليّ، خشبٌ منخورٌ ومعدنٌ متهالكٌ، دعائمُهُ المتمايلةُ تتراقصُ معَ هبّاتِ الرياحِ المتدفّقةِ من النافذةِ المكسورة.
كلُّ صريرٍ منهُ يعكسُ سنواتٍ من الوحدةِ والإهمالِ. عقودٌ مرّت، والجسدُ الذي يتمدّدُ عليهِ الآنَ زارتهُ ذكرياتُ الماضي وأذَاهُ ألمُ الحاضر.
كان السريرُ في يومٍ ما من الخيزرانِ، فراشٌ من حريرٍ يحتضنُ أجسادًا دافئةً، ليُغلفهُ الهجرُ والحرمانُ، فأصبحَ شاهدًا على خلوةِ الأملِ وانطفائهِ.
في هذهِ الغرفةِ، أتمدّدُ على السريرِ بنظراتٍ شاردةٍ، أتأمّلُ ذكرياتِ ماضٍ مضى ووميضَ أملٍ اندثر. أشعرُ وكأنّني في بيداءٍ، قلوبُها عطشى، وحياتُها سرابٌ بعيد.
المروحةُ العتيقةُ في السقفِ ساكنةٌ بلا إحساسٍ، أصبحتْ هيكلًا مهجورًا، تتدلّى منها خيوطُ العناكبِ كستائرَ حزينةٍ، ترسمُ ظلالًا شبهَ متراقصةٍ، تتأرجحُ كأشباحٍ في سنا الغرفةِ، وكأنّها أطيافُ الماضي.
كانتْ يومًا ما تبثُّ نسيمًا عليلًا وتنثرُ بذورَ الحبِّ في زواياها، لكنّ شفراتِها الآن صامتةٌ كالأحلامِ الموءودة.
ومدفأةٌ بذكرياتٍ مؤلمةٍ، تتوسطُ الجدارَ الجنوبيّ للغرفة. افتقدتْ وهجَها، يغلفُها ظلامٌ رهيبٌ، تنتحبُ ماضٍ ساخنٍ، صارَ صقيعًا، لا لهبَ ولا نار، كشوقِ جسدٍ إلى دثار.
مدفأةُ أيّامٍ مضت، كان حطبُها من أشجارِ الزيتونِ، تنثرُ دفءَها على الأرجاءِ، تُسدلُ نعاسًا على الجفونِ، وتقصُّ قصصَ ليالٍ شتائيةٍ طويلةٍ، تُضيئُها حمرةُ الجمرِ وزرقةُ اللهب.
أمّا اليومَ فلمْ يتبقَّ منها سوى رمادٍ صامتٍ يتراكمُ في أعماقِها، كما يتراكمُ الغبارُ على كتبِ ذكرياتٍ مبتلعةٍ طوتها يدُ النسيانِ.
ألسنةٌ خبتْ، كأنّها مرآةٌ لعمرٍ أفولٍ، تعكسُ ظلامَ الحلمِ الذي انطفأ.
غرفةٌ بصمتٍ ثقيلٍ، كدقاتِ قلبٍ خافتةٍ تهمسُ في الأذنِ، نبضاتٌ فاترةٌ تخترقُ ذاكرةً ضبابيةً، تتصارعُ أعصابُها بينَ نورِ نافذةٍ مكسورةٍ وظلامِ غرفةٍ تتصدّع.
أنفاسٌ تتصاعدُ من الأعماقِ السحيقةِ، تستدلُّ بنورِ الضوءِ المتسرّبِ من الزجاجِ المحطّمِ، تشقُّ طريقَها بإصرارٍ في العتمةِ، شعاعُ أملٍ يهدي قلبًا يرجو النجاة.
أنفاسٌ حرّةٌ مقيّدةٌ، تحاولُ الهربَ في صمتٍ، من سجنٍ بلا حُرّاس.

ناديه محمد الجابي
28-12-2024, 07:14 PM
النص بعد التعديل وفي صورته الجديدة رائع الصياغة وجميل التعابير
نثرية حلقت بنابلغة متأنقة وحس شاعري ومهارة في التصوير
لك القدرة على جذب القارئ بأسلوبك السهل الممتنع الناطق شاعرية وألقا
وقد رسمت لوحة متقنة الصنع وأمسكت بناصية الفكرة بمهارة وتمكن
أبدعت حسا ونصا بشاعرية قول وألق شعور وبهاء تعبير .
دمت بألق وإبداع.
:v1::nj::0014:

أسيل أحمد
29-12-2024, 11:50 AM
نثرية رائعة بما حملت من ذكريات لعهد قديم عبرت عنهابأسلوب أدبي
وبحرف عميق لونه الوجع وبلغة شفيفة موحية
جميل ما نثرت بعفويته وصدقه ، وبأسلوب ممتع ومميز ولغة إيحائية راقية ومؤثرة
مسح حزن عميق في خلجاتك ولكنها خلجات فاتنة بصورها ومعانيها.
دام ألقك وإبداعك.