تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سحابه



هائل سعيد الصرمي
17-09-2025, 11:35 PM
لفصل العاشر بعد التعديل
الْخُذْلَانُ لَا يُغَيِّرُ مَذَاقَهُ، وَإِنَّمَا يُبَدِّلُ سَاحَتَهُ، فَبَعْدَ أَنْ أَزْهَقَ الْأَرْوَاحَ فِي حَنَايَا الْأَمْوَالِ، هَا هُوَ الْآنَ يَتَسَلَّلُ إِلَى قُلُوبِ الْعُشَّاقِ بِنَفْسِ السُّمِّ، وَكَأَنَّ الْقَدَرَ لَمْ يَكْتَفِ بِمَأْسَاةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يُرِيَنَا أَنَّ الْبُؤْسَ يَرْتَدِي ثِيَابًا شَتَّى، وَأَنَّ الْحِكَايَةَ لَا تَنْتَهِي عِنْدَ خَسَارَةِ الرَّغِيفِ، فَمَا تَوَارَى اللَّيْلُ بِوَجَعِهِ حَتَّى طَلَّ الْفَجْرُ بِدَمٍ.
كَانَ الْمَكَانُ يَتَهَاوَى عَلَى صَمْتِهِ، وَفِي قَلْبِ ذَلِكَ الْفَضَاءِ الثَّقِيلِ، هَرَعَتْ سَيَّارَاتُ الشُّرْطَةِ وَالْإِسْعَافِ، يَقُودُهَا الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِقَلْبٍ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ، فَأَقْدَامُهُ تُسَابِقُهُ إِلَى حَقِيقَةٍ يَدْرِكُ أَنَّهَا أَبْشَعُ مِنْ كُلِّ مَا تَخَيَّلَتْهُ رُوحُهُ الْمُتَعَبَةُ. وَمَا هِيَ إِلَّا دَقَائِقُ حَتَّى كَانَ فِي صَمِيمِ الْمَشْهَدِ، حَيْثُ تَرْقُدُ الْحِكَايَةُ مَضْرُوبَةً بِقَدَرٍ لَا يَرْحَمُ. وَجَدَ أَمَامَهُ ضَحِيَّتَيْنِ: الْأُولَى، سُمَيَّةُ، تَفْتَرِشُ دِمَاءَهَا الزَّكِيَّةَ الَّتِي غَادَرَتْ حَيَاتَهَا فِي مَشْهَدٍ يَفْتِقُ قُلُوبَ الْمُحِبِّينَ، وَيُثِيرُ فِي نَفْسِ الْمُبْصِرِ سُخْطًا عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهَا الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ، قَدِ ارْتَسَمَتْ عَلَى مُحَيَّاهَا عَلَامَةُ اسْتِفْهَامٍ وَتَعَجُّبٍ، كَأَنَّهَا فُجِعَتْ بِحَيْرَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ فَجِيعَتِهَا بِمَوْتِهَا، وَكَانَتِ الضَّحِيَّةُ الثَّانِيَةُ زَوْجَهَا صَفْوَانَ، مَرْمِيًّا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهَا، وَهُوَ فِي حَالَةِ اِنْهِيَارٍ عَصَبِيٍّ أَسْقَطَ عَقْلَهُ إِلَى جَنَبَاتِ الْجُنُونِ، حَتَّى أَنَّ الضَّابِطَ الَّذِي حَضَرَ قَامَ بِتَحْرِيكِهِ يَمِينًا وَشَمَالًا، ظَنًّا مِنْهُ بِأَنَّهُ جَرِيحٌ لِشِدَّةِ مَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ إِعْيَاءٍ، فَلَمْ يَجِدْ بِهِ شَيْئًا.
عِنْدَهَا نَزَعَ الْمُسَدَّسَ مِنْ يَدِهِ، وَأَمَرَ بِحَمْلِهِ إِلَى سَيَّارَةِ الْإِسْعَافِ بِجِوَارِ ضَحِيَّتِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَ بِفِطْنَةِ الرَّجُلِ الحصيف أَنَّهُ الْقَاتِلُ، تَوَجَّهُوا إِلَى الْمُسْتَشْفَى وَقَبْلَ أَنْ يَضَعَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهَا فِي قِسْمِ الضَّحَايَا، تَوَجَّهَ بِالْجَانِي إِلَى الطَّبِيبِ الْمُخْتَصِّ وَكَلَّفَ حَارِسَيْنِ بِجِوَارِهِ وَأَوْصَى بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَبَذْلِ مَا يُمْكِنُ بَذْلُهُ لِإِنْقَاذِهِ.
قَامَ الطَّبِيبُ بِمَا يَلْزَمُ وَأَمَرَ بِنَقْلِ الْمَرِيضِ إِلَى غُرْفَةِ الْعِنَايَةِ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَأَحْلَامِ الْمَوْتِ.
ـ الضَّابِطُ لِلطَّبِيبِ: "هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَرِدَّ بَعْضَ عَافِيَتِهِ قَرِيبًا لِيَتَسَنَّى لَنَا التَّحْقِيقُ مَعَهُ؟"
ـ "لَا أَظُنُّ حَالَتَهُ الصِّحِّيَّةَ تَسْمَحُ بِذَلِكَ، فَهُوَ بَيْنَ أَيْدِي الْقَدَرِ، يَحْتَاجُ إِلَى فَتْرَةٍ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالرَّاحَةِ رُبَّمَا تَطُولُ أَوْ تَقْصُرُ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُحَدِّدَهَا قَبْلَ مُرُورِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَاعَةً."
ـ "إِذَنْ اهْتَمَّ بِشَأْنِهِ أَرْجُوكَ."
ــ "إِنْ شَاءَ اللَّهُ."
شَكَرَ الضَّابِطُ الطَّبِيبَ وَانْصَرَفَ بَعْدَ أَنْ أَضَافَ حَارِسًا ثَالِثًا جِوَارَ صَاحِبَيْهِ.
ظَلَّ الضَّابِطُ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْمَشْفَى يَوْمِيًّا تَقْرِيبًا، لِيَعْرِفَ مِنْ صَفْوَانَ تَفَاصِيلَ الْحَادِثِ. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مَعْلُومَاتٍ شِبْهَ مُفَصَّلَةٍ عَنْهُ وَعَنْ زَوْجَتِهِ وَخُصُوصًا مِنْ أَهْلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ تَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ وَأَبْلَغَهُمْ بِالْحَادِثِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِكُنْهِ الْجَرِيمَةِ وَلَا مَنِ الْمُجْرِمُ الَّذِي سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ بِهَذِهِ الْجَرِيمَةِ الشَّنْعَاءِ الَّتِي أَصَابَتْ صَفْوَانَ وَقَتَلَتْ سُمَيَّةَ... وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّ الْجَانِيَ صَفْوَانُ؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَدَى الْحُبِّ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ. ولانه شخص مسالم لا يتوقع منه فعل ذلك.
لَمْ تَتَحَسَّنْ حَالَةُ صَفْوَانَ إِلَّا بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ مِنْ تَارِيخِ جَرِيمَتِهِ.
ـ دَخَلَ عَلَيْهِ الضَّابِطُ مَرْوَانُ بَعْدَ تَحَسُّنِهِ وَطَلَبَ إِخْلَاءَ الْغُرْفَةِ، وَقَعَدَ أَمَامَهُ وَفَتَحَ مَحْضَرًا بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَ قَلَمًا كَانَ مُغْمَدًا فِي جَيْبِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ.
ــ "أَخْبِرْنِي بِكُلِّ مَا حَدَثَ؟"
ــ تَنَهَّدَ صَفْوَانُ نَهْدَةً عَمِيقَةً كَأَنَّهُ يَنْزِعُ أَنْفَاسَهُ الْمُتَعَبَةَ مِنْ أَعْمَاقِهِ، وَصَرَفَ وَجْهَهُ فِي اتِّجَاهٍ آخَرَ... ثُمَّ نَظَرَ نَحْوَ الضَّابِطِ وَعَيْنَاهُ تَتَرَقْرَقَانِ بِالدُّمُوعِ، وَالْعَرَقُ يَتَصَبَّبُ مِنْ جَبِينِهِ كَتَصَبُّبِ النَّبْعِ إِذَا انْفَكَّ عِقَالُهُ، وَبِمَرَارَةٍ أَشَدَّ مِنَ الْعَلْقَمِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: بَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، وَدِدْتُ لَوْ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَتَزَوَّجْ لَقَدْ لَطَّخَتْنِي بِدِمَائِهَا، أَلَمْ يَكُنْ خَيْرٌ لِي أَنْ أَتْرُكَهَا بَدَلًا عَنْ حَمْلِ وِزْرِهَا وَسَوْأَتِهَا، لَيْتَنِي هَبَاءٌ فِي وَادٍ سَحِيقٍ أَوْ حَبَّةُ رَمْلٍ فِي صَحْرَاءَ قَاحِلَةٍ، وَلَا أَتَعَرَّضَ لِهَذَا.
وَظَلَّ يُقَلِّبُ نَظَرَهُ وَيَجُولُ بِفِكْرِهِ صَامِتًا حَائِرًا لَا يَكَادُ يُبِينُ، لَاحَظَ الضَّابِطُ ذَلِكَ فِي امْتِقَاعِ لَوْنِهِ وَتَغَيُّرِ مَلَامِحِهِ، فَتَرَكَهُ بُرْهَةً وَلَمْ يُثْقِلْ عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ السُّؤَالِ، حَتَّى بَدَأَ يَسْتَرْسِلُ بِالْإِجَابَةِ مِنْ بِدَايَةِ تَعَرُّفِهِ عَلَى سُمَيَّةَ وَمَا صَاحَبَ ذَلِكَ مِنْ مَخَاوِفَ وَغَيْرَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ خَشْيَتَهُ وَخَوْفَهُ مِنْ غِوَايَةِ نَاهِدٍ لَهَا، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: "يَا لَلْأَسَفِ فَكُلُّ مَا كُنْتُ أَخَافُهُ حَدَثَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي ذَلِكَ إِلَّا فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ عِنْدَمَا أُصِبْتُ بِفَيْرُوسِ الْإِيدْزِ."
وَاعْتَرَفَ بِجِنَايَتِهِ، عِنْدَمَا أَجَابَ عَلَى سُؤَالِ "لِمَ قَتَلْتَهَا؟"
ـ "قَتَلَتْنِي فَقَتَلْتُهَا وَالْبَادِئُ أَظْلَمُ، وَكَمْ حَذَّرْتُهَا مِنْ صُحْبَةِ نَاهِدٍ، وَهَذِهِ نَتِيجَةُ صُحْبَةِ السُّوءِ."
وَاسْتَمَرَّ الضَّابِطُ يُدَوِّنُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ بِدِقَّةٍ وَلَمْ يَنْطِقْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، حَتَّى أَتَمَّ حَدِيثَهُ.
عِنْدَهَا أَغْلَقَ الْمَحْضَرَ بَعْدَ أَنْ وَقَّعَ صَفْوَانُ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مُسْرِعًا كَأَنَّهُ أَرَادَ أَمْرًا هَامًّا وَصَلَ إِلَى مَكْتَبِهِ وَتَنَاوَلَ مِلَفَّ الْقَضِيَّةِ وَبِهِ تَقْرِيرُ الطَّبِيبِ حَوْلَ وَفَاةِ سُمَيَّةَ وَبَعْضُ مَا جَمَعَهُ عَنْهَا مِنْ مَعْلُومَاتٍ، لَعَلَّهُ أَنْ يَجِدَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهَا تَحْمِلُ الْمَرَضَ أَمْ لَا... وَلَكِنْ دُونَ جَدْوَى لَمْ يَجِدْ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ.
وَاسْتَمَرَّ الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِالتَّحْقِيقِ يُرِيدُ أَنْ يَرْسُوَ عَلَى شَاطِئٍ وَاحِدٍ بَيْنَ مَا سَمِعَهُ عَنْ عِفَّةِ وَأَخْلَاقِ سُمَيَّةَ، وَبَيْنَ اتِّهَامَاتِ صَفْوَانَ لَهَا، كَأَنَّهُ لَمْ يَقْتَنِعْ بِمَا اتُّهِمَ بِهِ صَفْوَانُ زَوْجَتَهُ.
لِذَلِكَ قَرَّرَ التَّحْقِيقَ بِعُمْقٍ مَعَ كُلِّ أَصْحَابِهِمَا لِيَعْرِفَ عُمْقَ الْقَضِيَّةِ وَأَبْعَادَهَا وَبَدَأَ، بِنَاهِدٍ الَّتِي اتَّهَمَهَا صَفْوَانُ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَفْسَدَتْ سُمَيَّةَ وَأَغْوَتْهَا وَأَدْخَلَتْهَا فِي سُوقِ الْمُجُونِ... وَبَعْدَ أَنْ جَمَعَ الْمَعْلُومَاتِ عَنْهَا وَتَعَرَّفَ عَلَى سُلُوكِهَا... تَمَّ اسْتِدْعَاؤُهَا لِلتَّحْقِيقِ...
فِي مَكْتَبِهِ الْقَاسِي الْبُرُودَةِ، جَلَسَ الضَّابِطُ مَرْوَانُ كَتِمْثَالٍ نُحِتَ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهُ سِوَى نَاهِدٍ، يَتَحَسَّسُ نَبْضَ أَقْنِعَتِهَا الْمُتَسَاقِطَةِ. لَمْ يَعُدْ قِنَاعُ الثِّقَةِ يَقْوَى عَلَى الصُّمُودِ أَمَامَ نَظَرَاتِهِ الثَّاقِبَةِ، الَّتِي كَانَتْ كَسِهَامٍ تُخْتَرِقُ صَمْتَهَا وَتَبُوحُ بِأَسْرَارِهَا الْمُتَقَلِّبَةِ. تِلْكَ الِابْتِسَامَةُ الْخَبِيثَةُ، الَّتِي كَانَتْ ذَاتَ يَوْمٍ شَمْسًا لَا دِفْءَ لَهَا، بَدَأَتْ فِي الْغُرُوبِ تَدْرِيجِيًّا، تَتْرُكُ خَلْفَهَا ظِلًّا طَوِيلًا مِنَ الشَّكِّ.
قَالَتْ نَاهِدٌ بِصَوْتٍ يَعْكِسُ ثِقَةً مُتَصَنَّعَةً وَوَاهِيَةً: "لَا أَفْهَمُ لِمَ أَنَا هُنَا. صَفْوَانُ هُوَ الْقَاتِلُ، وَلَسْتُ أَنَا. الْجَمِيعُ يَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْتُ صَدِيقَةً لِسُمَيَّةَ. هَذَا إِهْدَارٌ لِلْوَقْتِ."
أَجَابَهَا الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِهُدُوءٍ يُشْبِهُ صَمْتَ مَا قَبْلَ الْعَاصِفَةِ: "الْجَمِيعُ يَعْلَمُ أَنَّكِ قَرِيبَةٌ مِنْ سُمَيَّةَ، لَكِنَّ هُنَاكَ أُمُورًا أُخْرَى لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ... مِثْلَ رَائِحَةِ الْبِنْزِينِ الَّتِي كَانَتْ تَفُوحُ مِنْ سَيَّارَةِ الـBMW الْمَسْرُوقَةِ الَّتِي وُجِدَتْ بِحَوْزَتِكِ، وَكَيْفَ أَدَّتْ خُطُوَاتُكِ إِلَى إِفْلَاسِ شَرِكَةِ الْوِدَادِ الَّتِي كُنْتِ طَرَفًا فِيهَا مَعَ شَرِيكِكِ حُسَامٍ."
تَقَلَّصَتْ مَلَامِحُ نَاهِدٍ، وَتَشَبَّثَتْ يَدَاهَا بِالْكُرْسِيِّ كَأَنَّهُ سَفِينَةٌ تُحَاوِلُ النَّجَاةَ فِي بَحْرٍ مُتَلَاطِمٍ. وَضَعَ الضَّابِطُ أَمَامَهَا مِلَفًّا، فَتَحَوَّلَ صَمْتُهَا إِلَى قَلَقٍ يَتَرَقَّبُ الْعَاصِفَةَ.
قَالَتْ بِنَبْرَةٍ مُهْتَزَّةٍ، تَخْفِي وَرَاءَهَا الْخَوْفَ: "هَذِهِ أُمُورٌ قَدِيمَةٌ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِجَرِيمَةِ الْيَوْمِ. لَا تَخْلِطِ الْأَوْرَاقَ."
أَجَابَهَا الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِصَوْتٍ حَاسِمٍ، كَصَوْتِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا تَتَرَدَّدُ: "كُلُّ الْخُيُوطِ تُؤَدِّي إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ يَا نَاهِدُ. كُلُّ جَرِيمَةٍ، كُلُّ نَصْبٍ، وَكُلُّ كِذْبَةٍ لَهَا خَيْطٌ يَرْبُطُهَا بِالشَّبَكَةِ الَّتِي تَعْمَلِينَ لِصَالِحِهَا. سَأَطْرَحُ عَلَيْكِ سُؤَالًا وَاحِدًا فَقَطْ: أَيْنَ كُنْتِ لَيْلَةَ الْحَادِثَةِ؟"
أَصْمَتَتْ نَاهِدُ، وَأَخَذَتْ تُحَاوِلُ أَنْ تُرَتِّبَ أَكَاذِيبَهَا، لَكِنَّ ذَاكِرَتَهَا أَعْلَنَتِ الْخَرَابَ. وَضَعَ الضَّابِطُ أَمَامَهَا تَقْرِيرًا طِبِّيًّا، تَرَنَّحَتْ رُوحُهَا، وَارْتَجَفَ جَسَدُهَا، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ الْحِصَارَ اكْتَمَلَ.
قَالَ الضَّابِطُ مَرْوَانُ: "هَذَا التَّقْرِيرُ لَا يَخُصُّ سُمَيَّةَ. هَذَا تَقْرِيرُ فَحْصِ دَمٍ خَاصٌّ بِكِ. إِنَّهُ يُثْبِتُ أَنَّكِ مُصَابَةٌ بِفِيرُوسِ الْإِيدْزِ... الْآنَ، أَخْبِرِينِي كَيْفَ يُمْكِنُ لِسُمَيَّةَ أَنْ تَحْمِلَ دَاءً لَمْ يَكُنْ فِي جَسَدِهَا، بَيْنَمَا كَانَ هَدَفُكِ هُوَ تَلْوِيثَ حَيَاتِهَا فَقَطْ؟"
تَنَهَارُ نَاهِدُ تَمَامًا، يَذُوبُ قِنَاعُ الْقَسْوَةِ، وَتَنْكَشِفُ تَحْتَهُ رُوحٌ يَائِسَةٌ. الدُّمُوعُ تُبَلِّلُ وَجْهَهَا، وَكَلِمَاتُهَا تَخْرُجُ كَخَيْطٍ مُمَزَّقٍ مِنَ الْأَلَمِ.
قَالَتْ بِصَوْتٍ يَائِسٍ: "لَمْ... لَمْ أَقْتُلْهَا! لَمْ أَلْمَسْهَا! لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَنْتَهِي بِهَذِهِ الْمَأْسَاةِ!"
أَجَابَهَا الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِصَوْتٍ صَارِمٍ: "لَمْ تَقْتُلِيهَا بِيَدَيْكِ، وَلَكِنَّكِ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ لِصَفْوَانَ. أَخْبِرِينِي بِكُلِّ شَيْءٍ الْآنَ، مِنْ أَيْنَ حَصَلْتِ عَلَى الدَّمِ؟ وَمَنْ هُوَ حُسَامٌ؟"
تَسْتَسْلِمُ نَاهِدُ لِلْحَقِيقَةِ، وَتَبْدَأُ فِي الِاعْتِرَافِ، كَلِمَاتُهَا تَخْرُجُ كَأَسْرَارٍ دَفِينَةٍ، تَحْكِي عَنْ حُسَامٍ وَعَنْ مُنَظَّمَةِ الظِّلِّ الَّتِي لَا تُشَاهَدُ.
تَحَدَّثَتْ نَاهِدٌ بِمَرَارَةٍ: "لَقَدْ كَانَ حُسَامُ هُوَ الْعَقْلَ الْمُدَبِّرَ. هُوَ مَنْ وَرَّطَنِي... هُوَ مَنْ أَقْنَعَنِي أَنَّ الْأَمْرَ مُجَرَّدُ لُعْبَةٍ لِتَدْمِيرِ سُمْعَةِ سُمَيَّةَ... هُوَ مَنْ أَعْطَانِي الدَّمَ. لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَسْتَخْدِمُهُ فِي إِفْلَاسِ الشَّرِكَةِ. لَا تَعْلَمُ مَدَى قُوَّةِ هَذِهِ الْمُنَظَّمَةِ..."
تَوَقَّفَتْ نَاهِدُ عَنِ الْكَلَامِ، وَعَيْنَاهَا تَجَمَّدَتَا مِنَ الْخَوْفِ.
هَمَسَ الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ: "مَا هِيَ الْمُنَظَّمَةُ يَا نَاهِدُ؟"
أَجَابَتْ نَاهِدٌ بِصَوْتٍ خَافِتٍ جِدًّا: "إِنَّهُمْ... مُنَظَّمَةُ الظِّلِّ. هُمْ مَنْ وَرَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. هُمْ مَنْ أَوْقَعُوا الْحَاجَّ مُحَمَّدًا فِي قَضِيَّةِ النَّصْبِ. وَهُمْ مَنِ اخْتَطَفُوا سَمِيرًا وَفَارِسَ... كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَتْ خُطَّةً وَاحِدَةً..."
تَسْتَمِرُّ نَاهِدُ فِي الِاعْتِرَافِ بِتَفَاصِيلَ دَقِيقَةٍ، كَأَنَّهَا تُفْرِغُ كُلَّ مَا فِي دَاخِلِهَا مِنْ أَسْرَارٍ مُظْلِمَةٍ. ثُمَّ فَجْأَةً، يَرْتَفِعُ صَوْتُهَا بِشَكْلٍ هِسْتِيرِيٍّ.
تَصْرُخُ نَاهِدٌ فِي ذُعْرٍ: "سَيَقْتُلُونَنِي! إِنَّهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ! إِنَّهُمْ أَقْوَى مِنْكُمْ! اتْرُكْ هَذَا الْمِلَفَّ! سَيَقْتُلُونَنِي وَيَقْتُلُونَكَ!"
-الْحَقِيقَةُ تَقْتُلُ مَرَّتَيْنِ
بَعْدَ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتُ نَاهِدٍ الْهِسْتِيرِيُّ فِي الْغُرْفَةِ، يَسُودُ الصَّمْتُ الْمُطْلَقُ. يُدْرِكُ الضَّابِطُ مَرْوَانُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ الَّتِي ظَنَّهَا جَرِيمَةَ قَتْلٍ عَادِيَّةً هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ شَبَكَةٌ مِنَ الْخُيُوطِ الْمُتَشَابِكَةِ، يَنْسُجُهَا شَرٌّ لَا يُرَى. يَغَادِرُ الْغُرْفَةَ تَارِكًا نَاهِدًا تَحْتَ حِرَاسَةٍ مُشَدَّدَةٍ، بَيْنَمَا يَسِيطِرُ عَلَيْهِ شُعُورٌ ثَقِيلٌ بِأَنَّ الْمَعْرَكَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَمْ تَبْدَأْ بَعْدُ.
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، يَتَجَاهَلُ مَرْوَانُ كُلَّ إِرْهَاقِهِ وَيَصِلُ إِلَى مَكْتَبِهِ. تَتَرَاكَمُ أَمَامَهُ مِلَفَّاتُ قَضَايَا قَدِيمَةٍ: مِلَفُّ الْحَاجِّ مُحَمَّدٍ، وَمِلَفُّ سَمِيرٍ، وَمِلَفُّ اخْتِفَاءِ فَارِسٍ. يَجْمَعُهَا كُلَّهَا عَلَى مَكْتَبِهِ، وَيَرْبُطُ الْخُيُوطَ بَيْنَهَا فِي ذِهْنِهِ. يُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ لَمْ تَكُنْ صُدَفًا، بَلْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ مُخَطَّطٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، يَذْهَبُ مَرْوَانُ إِلَى السِّجْنِ وَهُوَ يَحْمِلُ مَعَهُ تَسْجِيلَ اعْتِرَافِ نَاهِدٍ. فِي غُرْفَةِ الْمُقَابَلَةِ، يَجِدُ صَفْوَانَ مُنْهَارًا، تَائِهًا بَيْنَ الْجُدْرَانِ الْأَرْبَعَةِ. لَا يَرَى فِيهِ مَرْوَانُ الْمُجْرِمَ، بَلْ يَرَى فِيهِ ضَحِيَّةً أُخْرَى لِلشَّكِّ وَالْوَهْمِ. يَضَعُ الضَّابِطُ جِهَازَ التَّسْجِيلِ عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَيُشَغِّلُهُ. يَمْلَأُ صَوْتُ نَاهِدٍ الْغُرْفَةَ، وَهِيَ تَعْتَرِفُ بِكُلِّ شَيْءٍ: التَّلَاعُبُ، الْغِيرَةُ، وَكَيْفَ وَضَعَتِ المخدر فِي الْعَصِيرِ. وكيف حقنت سميه بدم فيه فيروس الإدز
يَتَحَوَّلُ صَفْوَانُ إِلَى رَمَادٍ. يَنْهَارُ جَسَدُهُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، وَتَنْسَابُ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهِ بِصَمْتٍ. لَمْ يَعُدْ يَرَى أَمَامَهُ الْخَائِنَةَ سُمَيَّةَ، بَلْ يَرَى نَفْسَهُ الْقَاتِلَ الَّذِي دَمَّرَ كُلَّ شَيْءٍ بِجَهْلٍ. يُدْرِكُ أَنَّ الْحُبَّ الَّذِي كَانَ يَحْمِيهِ، هُوَ نَفْسُهُ الَّذِي قَتَلَهُ. يُغَادِرُ مَرْوَانُ الْغُرْفَةَ تَارِكًا صَفْوَانَ مَعَ حَقِيقَتِهِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي سَتَبْقَى سِجْنًا أَبَدِيًّا لَهُ.
يَعُودُ مَرْوَانُ إِلَى مَكْتَبِهِ فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنَ اللَّيْلِ. تُضِيءُ شَاشَةُ حَاسُوبِهِ، وَيَظْهَرُ عَلَيْهَا مِلَفٌّ جَدِيدٌ بِعُنْوَانِ "مُنَظَّمَةُ الظِّلِّ". يُقَرِّرُ أَنْ يَبْدَأَ مُطَارَدَةً جَدِيدَةً، مُطَارَدَةً لَيْسَتْ لِمُجْرِمٍ وَاحِدٍ، بَلْ لِشَبَكَةٍ مِنَ الْأَشْبَاحِ الَّتِي تَتَحَكَّمُ فِي مَصَائِرِ الْآخَرِينَ.
-تَشَظَّى الْيَقِينُ فِي قَلْبِ صَفْوَانَ، وَدَارَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَأَظْلَمَتْ فِي عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ فِي لَيْلٍ دَامِسٍ مُوحِشٍ حَالِكِ الظُّلْمَةِ، وَالْمَكَانُ أَشَدُّ ضِيَاءً، فَالشَّمْسُ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ... وَقَدْ تَحَرَّكَتْ كُلُّ ذَرَّاتِ جِسْمِهِ وَارْتَعَشَ كَالْمَحْمُومِ الَّذِي أَجْهَدَتْهُ الْحُمَّى فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ مَشَاهِدَ زَوْجَتِهِ وَرِقَّتِهَا وَحُسْنِ تَوَدُّدِهَا لَهُ، وَمَشَاهِدَ أُخْرَى مُفْزِعَةً، كَانَ آخِرُهَا وَهِيَ تَسْتَغِيثُهُ وَتَسْأَلُهُ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ! لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَحَمَّلَ تِلْكَ الْمَشَاهِدَ الْمُؤَثِّرَةَ وَلَا بَشَاعَةَ مَا اقْتَرَفَ.
وَبَيْنَمَا كَانَتِ الْغُرْفَةُ تَدُورُ بِهِ كَرَحَى، وَتَدُقُّ نَبَضَاتُ قَلْبِهِ كَمِطْرَقَةٍ، اسْتَعْرَضَ فِي ذِهْنِهِ صُوَرًا لِسُمَيَّةَ. صُوَرًا لَمْ يَمْنَحْهَا حَقَّهَا فِي الْمَاضِي، لَكِنَّهَا الْآنَ تَنْهَشُهُ نَدَمًا وَوَجَعًا. كَانَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَرَارَةٍ: "لَقَدْ قَتَلْتُ بَرَاءَتِي بِيَدِي... قَتَلْتُ الْحُبَّ الَّذِي جَعَلَ لِحَيَاتِي مَعْنًى." شَعَرَ بِأَنَّ جِسْمَهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى رَمَادٍ، وَأَنَّ رُوحَهُ تُشْعَلُ بِأَلْفِ نَارٍ. لَمْ يَعُدْ يَرَى الضَّابِطَ أَمَامَهُ، بَلْ رَأَى الْجَدَّارَ الَّذِي وَقَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِيقَةِ زَوْجَتِهِ. كَانَ الْجَهْلُ سِتْرًا، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ كَانَتْ سَيْفًا قَاطِعًا قَتَلَ الْقَاتِلَ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ.
ففِي السَّجْنِ، لَمْ تَكُنْ قُضْبَانُهُ هِيَ زِنْزَانَةُ صَفْوَانَ الْحَقِيقِيَّةَ. زِنْزَانَتُهُ كَانَتْ صَوْتَ سُمَيَّةَ الْأَخِيرَ وَهِيَ تَهْمِسُ: "بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ؟" كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ سِلْسِلَةً تُقَيِّدُ رُوحَهُ، وَجُدْرَانًا تُحَاصِرُ وِجْدَانَهُ. لَمْ يَجِدْ صَفْوَانُ النَّوْمَ سَبِيلًا لِلْهُرُوبِ، فَالْأَحْلَامُ كَانَتْ تُعِيدُ إِلَيْهِ الْحَادِثَ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهِ، وَبِدَايَةَ كُلِّ صَبَاحٍ كَانَتْ تَزْفِرُ الْحَقِيقَةَ الْقَاسِيَةَ، أَنَّهُ قَتَلَ الْبَرَاءَةَ وَلَمْ يَقْتُلِ الْخِيَانَةَ. لَمْ يَعُدِ الْأَكْلُ لَهُ مَذَاقًا، وَلَا النَّظَرُ إِلَى السَّمَاءِ لَهُ مَعْنًى، كَانَ يُعَاقِبُ نَفْسَهُ بِصَمْتٍ أَبْلَغَ مِنْ أَيِّ حُكْمٍ.
-بين يدي القدر:
زَارَهُ الضَّابِطُ مَرْوَانُ فِي السِّجْنِ، لَيْسَ لِيَسْتَكْمِلَ تَحْقِيقًا، بَلْ لِيَرَى نِهَايَةَ الْحِكَايَةِ. وَجَدَهُ قَدِ انْهَارَ شَبَحًا مِنْ رَجُلٍ. تَرَسَّمَتْ عَلَى وَجْهِهِ تَقَاطِيعُ النَّدَمِ وَالْوَجَعِ، وَكَأَنَّهُ حَفَرَ فِي نَفْسِهِ قَبْرًا لِحَيَاتِهِ.
ـ قَالَ الضَّابِطُ: "لَمْ تَقْتُلْهَا يَا صَفْوَانُ، لَقَدْ قَتَلَكَ شَكُّكَ."
نَظَرَ صَفْوَانُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْنِ مُطْفَأَتَيْنِ، فَقَالَ بِصَوْتٍ مُتَأَلِّمٍ: "لَقَدْ كُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنَّ الْحُبَّ يَعْنِي الثِّقَةَ، لَكِنَّهُ يَعْنِي الْعَمَلَ عَلَى هَدْمِ الشَّكِّ. لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّنِي أَقْتُلُ خَائِنَةً، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ أَنَّنِي قَتَلْتُ حُبًّا كَانَ يَتَوَسَّلُ إِلَيَّ أَنْ أخبره بما في وجهي من تغير. إِنَّ نَدَمِي لَيْسَ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ، بَلْ عَلَى الْخَطَأِ فِي قِرَاءَةِ الْقُلُوبِ."
ـ قَالَ الضَّابِطُ بِحِكْمَةٍ: "أَشَدُّ الْعِقَابِ لَيْسَ سِجْنًا بَيْنَ الْجُدْرَانِ، بَلْ سِجْنًا بَيْنَ نَدَمٍ وَأَلَمٍ لَا يُفَارِقُ. فَالْجَرِيمَةُ تُعَاقَبُ مَرَّةً، وَالْخَذْلَانُ والندم الَّذِي تَبِعَهَا يَقْتُلُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ."
غَادَرَ الضَّابِطُ مَرْوَانُ السِّجْنَ وَقَدِ ازْدَادَ إِيمَانُهُ بِأَنَّ بَعْضَ الْجَرَائِمِ لَيْسَتْ سِوَى صَرْخَةِ رُوحٍ مُعَذَّبَةٍ. كَانَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ وَهُوَ يُفَكِّرُ فِي حَالِ صَفْوَانَ وَمَكْرِ نَاهِدٍ: "مَنْ هُوَ الْقَاتِلُ الْحَقِيقِيُّ؟ هَلْ هُوَ مَنْ سَحَبَ الزِّنَادَ، أَمْ مَنْ بَثَّ سُمَّ الشَّكِّ فِي الْقَلْبِ؟ الْقَانُونُ يَحْكُمُ عَلَى الْفِعْلِ، لَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْكُمُ عَلَى الْبَاعِثِ، وَفِي كُلَيْهِمَا يَبْقَى الْخُذْلَانُ أَقْسَى مِنْ أَيِّ حُكْمٍ."
لم يكن ما سيحدث بعد ذلك مجرد استكمال لتحقيق، بل كان رحلةً في أعماق النفس البشرية. فقد سجل الضابط مروان تفاصيل ذلك اللقاء الأخير في تقريره، محاولًا فهم كيف يمكن للخوف أن يُشظّي روحًا ويحولها إلى أداة جريمة، في قصة كان القاتل فيها ضحيةً والضحية فيها سببًا، في صراع لم يكن ينتهي إلا بالتشظي والندم.
شَظَايَا الرُّوح
1. فَخٌّ مِنْ نَسْجِ الْوَهْمِ
لَمْ تَبْتَدِئْ حِكَايَةُ صَفْوَانَ عِنْدَ لَحْظَةِ اخْتِنَاقِ صَوْتِ سُمَيَّةَ تَحْتَ وَطْأَةِ خَنَاجِرِ الْغَدْرِ، بَلْ فِي مَهْدِهِ الْأَوَّلِ، فِي لُجَّةِ رُوحٍ خَائِرَةٍ، تَلَفَّعَتْ بِظِلَالِ الْوَسْوَسَةِ، وَأَلِفَتْ أَنْ تَسْتَشْرِفَ الوساوس مِنْ كُلِّ نُورٍ. فِي بَيْتٍ تَشَبَّعَ هَوَاؤُهُ بِتَنَاقُضٍ مُقْلِقٍ: أُمٌّ رَقِيقَةُ الْقَلْبِ، نَسَجَتْ لَهُ مِنْ فَرَطِ الْحَنَانِ دِثَارًا يَلُفُّ زَلَّاتِهِ كَالْعُذْرِ الْغَائِبِ، وَأَبٌ صَارِمُ الْعِبَارَةِ، تُصَاحِبُ كَلِمَاتَهُ رَنِينَ الْحَقِيقَةِ الْبَارِدَةِ الَّتِي ارْتَعَدَ لَهَا فُؤَادُ صَفْوَانَ. أَمَّا أُخْتُهُ، لِينَا، فَكَانَتْ قُطْرَةَ نَدًى عَلَى وَرَقَةِ زَهْرٍ، تَفِيضُ بَرَاءَةً لَمْ يَسْتَطِعْ قَلْبُهُ الْمُرَقَّطُ بِالْغَيْرَةِ فَهْمَهَا، أَوْ مُعَانَقَةَ صَفَائِهَا.
مُنْذُ صَغْرِهِ، لَمْ يَمْتَلِكْ صَفْوَانُ ذَاكَ الْيَقِينَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِهِ الْآخَرُونَ. كَانَتِ الْغَيْرَةُ لَهِيبًا يُوقِدُهُ فِي أَرْجَاءِ رُوحِهِ، لَا يَهْدَأُ إِلَّا لِيَعُودَ أَشَدَّ ضَرَاوَةً. رَأَى فِي كُلِّ نَظْرَةٍ، وَفِي كُلِّ اِبْتِسَامَةٍ، شَرَرَةَ خِيَانَةٍ مُتَوَقَّعَةً، لَمْ تَكُنْ صِفَةً عَابِرَةً، بَلْ فَلْسَفَةً قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ هَشَاشَةِ الثِّقَةِ، وَسُهُولَةِ الْاِنْكِسَارِ الْبَشَرِيِّ. كَانَ قَلْبُهُ يُحَدِّثُهُ أَنَّ الْبَشَرَ لَا يَحْمِلُونَ إِلَّا أَقْنِعَةَ الْوَفَاءِ، وَأَنَّ مَا تَحْتَهَا لَيْسَ إِلَّا ضَعْفًا يَتَرَبَّصُ بِالْفُرَصِ. وَلَمْ يَكُنْ "رَجُلًا صَارُوخًا"، بَلْ كَانَ "حَارِسًا" عَلَى عَالَمِهِ الضعيف الَّذِي تَهَدَّدَهُ كُلُّ مُحِيط
وَمَعَ سُمَيَّةَ، تَحَوَّلَ هَذَا الشَّكُّ إِلَى عِمْلَاقٍ يَلْتَهِمُ كُلَّ جَمِيلٍ. لَمْ يَكُنْ حُبُّهُ لَهَا دِفَاعًا يَدْحَضُ ظُنُونَهُ، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، كُلَّمَا اِزْدَادَ الْحُبُّ عُمْقًا، اِزْدَادَتْ مَخَاوِفُهُ مِنَ الْفِقْدَانِ. كَانَتْ سُمَيَّةُ فِي عَيْنَيْهِ تُحْفَةً نَادِرَةً، جَوْهَرَةً مَهْدُودَةً، يَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ لَمْسَةٍ وَعَيْنٍ. وَصَارَ يَرَى فِي أَيِّ كَلِمَةٍ وَدُودَةٍ، أَوْ اِبْتِسَامَةٍ عَفْوِيَّةٍ منها، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُسْلَبُ مِنْهُ. وَهَمَسَ الْغُولُ الْقَابِعُ فِي أُذُنِهِ: "الْخِيَانَةُ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَاحْمِ نَفْسَكَ مِنَ هَذَا الْمَصِيرِ الْمُرِّ". وَكَأَنَّ الْحِمَايَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِتَدْمِيرِ مَنْ تُحِبُّ. هُنَاكَ وَقَفَتْ نَاهِدٌ وَنَسَجَتْ خُيُوطَ فِخَاخِهَا، تُدَاعِبُ وَتَرَ الشَّكِّ فِي رُوحِ صَفْوَانَ، وَتَقْتَرِبُ مِنْ سُمَيَّةَ بِهَدْوءٍ مَكَّارٍ، كَذِئْبٍ يَتَرَبَّصُ. أَدْرَكَتْ حَذَرَهُ مِنْهَا، فَلَمْ تُقَابِلْهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ، بَلْ بَثَّتْ سَمَّهَا فِي أَصْدِقَاءَ كَانُوا مَزِيجًا مِنْ سُمَيَّةَ وَصَفْوَانَ، وَصَارَتْ نُقْطَةُ الضَّعْفِ مَرْتَعًا خَصْبًا لِشَيْطَانٍ يَنْفُثُ فِي عَقْلِهِ: "أَنْتَ لَا تَقْتُلُ سُمَيَّةَ، بَلْ تَقْتُلُ الْخِيَانَةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَالْمُتَوَقَّعَةَ"، فَتَحَوَّلَ إِلَى مَرِيضٍ يَرَى نَفْسَهُ مُنْقِذًا لِوَهْمٍ، لَا قَاتِلًا لِحَقِيقَةٍ.
2. بَيْنَ الْيَقِينِ وَالْاِنْكِسَارِ
يحكي تقرير مرون يقول :لَمْ يَكُنِ الْقَرَارُ سَهْلًا، بَلْ صِرَاعًا مُمِيتًا لَيَالِيَ طِوَالًا. اِنْحَبَسَ صَفْوَانُ فِي غُرْفَتِهِ كَطَائِرٍ مَذْعُورٍ، تَخْبِطُهُ الْجُدْرَانُ بِصُوَرِ سُمَيَّةَ، تَتَرَاءَى لَهُ بنوعين الخيانة والبراءة انها الآن بَرِيئَةً في نظره.
لكن من قبل كَانَ عَقْلُهُ سَاحَةَ مَعْرَكَةٍ بَيْنَ صَوْتِ الْحُبِّ الَّذِي يَصْرُخُ بِالْبَرَاءَةِ، وَصَوْتِ الشَّكِّ الَّذِي يَزْمَجِرُ بِالْخِيَانَةِ. وَلَمْ يَكُنْ شُجَاعًا، انه "يُقَدِّمَ" ضَحِيَّتَهُ لِلْقَدَرِ، لِيَظْهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَرِيءِ، وَهُوَ غَارِقٌ فِي مُسْتَنْقَعِ الْجُرْمِ.
وَكان رقيقا شاعراً وَيُحِبُّ الْعَاطِفَةَ الْجَيَّاشَةَ، لَكِنَّ شِعْرَهُ وحبه لَمْ يَكُنْ إِلَّا عِطْرًا زَائِفًا لم يمنعه عن الجريمه أو التحقق من ظنونه لقد كان وَحْشًا كاسراً. وهُوَ الَّذِي تَغَنَّى بِالْحُبِّ، هُوَ نَفْسُهُ مَنْ حَوَّلَ عُشَّهُ إِلَى قَفَصٍ، وَحُبَّهُ إِلَى شَكٍّ. وَلَمَّا لَفَحَهُ خَبَرُ مَرَضِهِ بالإدز، اِنْتَفَخَتْ تِلْكَ الْقَنَاعَةُ لِتُصْبِحَ "الْحَقِيقَةَ" الَّتِي لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ. أَصْبَحَ الْمَرَضُ بِرْهَانَهُ الْقَاطِعَ عَلَى "خِيَانَةِ" سُمَيَّةَ. وَتَحَوَّلَتِ الْجَرِيمَةُ فِي عَقْلِهِ إِلَى "تَطْهِيرٍ" وَ"اِنْتِقَامٍ". لَمْ تَكُنْ لَحْظَةَ ضَعْفٍ، بَلْ لَحْظَةَ "يَقِينٍ"، شَعَرَ فِيهَا أَنَّهُ يَحْقُقُ عَدَالَتَهُ الْخَاصَّةَ. فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، عِنْدَمَا "قَدَّمَ" سُمَيَّةَ لِلْمَوْتِ، لَمْ يَرَ فِي عَيْنَيْهَا ذَاكَ الْفَزَعَ الَّذِي رَآهُ الضَّابِطُ. كَانَ عَقْلُهُ مُغْلَقًا، أَسْوَدَ، وَلَمْ يَسْمَعْ إِلَّا صَدَى هَمَسَاتِ شَكِّهِ . كَانَ يُؤْمِنُ أَنَّهُ يَكْسِرُ أَغْلَالَ الْخِيَانَةِ الَّتِي قَيَّدَتْهُ، وَأَنَّهُ يَمْنَحُ نَفْسَهُ الْحُرِّيَّةَ. كَانَتْ لَحْظَةَ سُقُوطٍ مُدَوٍّ، حِينَ تَنَازَلَ عَنْ إِنْسَانِيَّتِهِ تَحْتَ سِتَارِ "الْيَقِينِ".
3. زِنْزَانَةُ الذَّاتِ.. حَيْثُ يُصْبِحُ الْجَسَدُ سِجْنًا
لَمْ يَجِدْ صَفْوَانُ ذَاكَ "الْيَقِينَ" الَّذِي سَعَى إِلَيْهِ. بَدَلًا مِنْ سَلَامٍ زَائِفٍ، اِصْطَلَى بِنَارِ جَحِيمٍ حَقِيقِيٍّ. اِرْتَفَعَتْ حَرَارَةُ جَسَدِهِ حَتَّى كَادَتْ تَأْكُلُهُ، وَكَأَنَّ النَّارَ الَّتِي أَشْعَلَهَا فِي قَلْبِ سُمَيَّةَ قَدِ اِنْتَقَلَتْ إِلَى جَسَدِهِ وَرُوحِهِ، فَاحْتَرَقَتْ بِهَا أَوْصَالُهُ. لَمْ تَكُنْ حُمَّى عَادِيَةً، بَلْ لَهِيبَ ذَنْبٍ لَا يَنْطَفِئُ.
صَارَ صَفْوَانُ غَرِيبًا عَنْ نَفْسِهِ. نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا شَبَحًا، ووَجْهًا شَاحِبًا، بِعَيْنَيْنِ تَائِهَتَيْنِ لَا تَعْرِفَانِ السَّكِينَةَ. كَانَ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا خَفِيَّةً وَيَرَى ظِلَالًا تَهْمِسُ لَهُ بِكَلِمَاتِ سُمَيَّةَ الْأَخِيرَةِ. فَقَدَ الشَّهِيَّةَ لِلْحَيَاةِ، وَصَارَ النَّوْمُ رَفَاهِيَةً لَا يَسْتَحِقُّهَا. كُلَّمَا أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ، تَعَشْعَشَتْ صُورَةُ سُمَيَّةَ أَمَامَهُ، لَيْسَتْ خَائِنَةً، بَلْ بَرِيئَةً، وَعَلَى وَجْهِهَا عَلَامَةُ اِسْتِفْهَامٍ تَسْأَلُهُ فِي صَمْتٍ مُدَوٍّ: "بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ؟"
لَمْ يَتْرُكْهُ هَذَا الْعَذَابُ لَحْظَةً. أَصْبَحَ يَرَى فِي عُيُونِ كُلِّ مَنْ حَوْلَهُ إِدَانَةً غَيْرَ مَنْطُوقَةٍ. وَيَخْشَى لَمْسَ أَيِّ شَيْءٍ، حَتَّى كَادَ يَشْعُرُ أَنَّ جُرْمِهِ قَدِ اِنْتَقَلَتْ إِلَى كُلِّ مَا يَمَسُّهُ. صَارَ يَكْرَهُ نَفْسَهُ، وَيَكْرَهُ فَلْسَفَتَهُ الْمَرِيضَةَ الَّتِي قَادَتْهُ إِلَى هَذِهِ الْهَاوِيَةِ. وَصَارَ جَسَدُهُ زِنْزَانَةً، وَعَقْلُهُ جَلَّادًا لَا يَرْحَمُ.
4. مِرْآةُ الْعَلَاقَاتِ.
تَحَوَّلَتْ عَلَاقَاتُ صَفْوَانَ الْأُسَرِيَّةُ بَعْدَ الْجَرِيمَةِ إِلَى أَدَاةِ تَعْذِيبٍ مُتَجَدِّدٍ:
أُمُّهُ: لَمْ تَعُدِ الْأُمُّ الْحَنُونَةُ مَصْدَرَ دِفْءٍ، بَلْ نَبْعَ عَذَابٍ لَا يُطَاقُ. حِينَ زَارَتْهُ، رَأَى فِي عَيْنَيْهَا الدَّامِعَتَيْنِ حَنَانًا لَا يَسْتَحِقُّهُ، وَشَفَقَةً تُمَزِّقُ مَا تَبَقَّى مِنْهُ. كُلُّ لَمْسَةٍ مِنْ يَدَيْهَا كَانَتْ كَلَسْعَةِ نَارٍ، وَكُلُّ كَلِمَةِ عَدْلٍ كَخَنْجَرٍ يَطْعَنُهُ. لَقَدْ كَانَتْ بَرَاءَتُهَا تَفْضَحُ جُرْمَهُ.
أَبُوهُ: كَانَ الْأَبُ، ذُو الْكَلِمَةِ الْفَصْلِ، يُمَثِّلُ السَّلْطَةَ وَالْحَقِيقَةَ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ صَفْوَانُ النَّظَرَ فِي عَيْنَيْهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرَى فِيهِمَا قَاضِيًا لَا يَرْحَمُ. لَقَدْ صَارَ صَوْتُ أَبِيهِ فِي مُخَيِّلَتِهِ يُدَمِّرُ مَا تَبَقَّى مِنْ كَرَامَتِهِ.
أُخْتُهُ لِينَا: كَانَتْ لِينَا بَرَاءَةً مُطْلَقَةً. وَبَعْدَ الْجَرِيمَةِ، لَمْ يَسْتَطِعْ صَفْوَانُ مُوَاجَهَتَهَا، فَقَدْ رَأَى فِيهَا صُورَةَ سُمَيَّةَ. عُزْلَتُهُ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ كَرَاهِيَةً، بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُدَنِّسَ نَقَاءَهَا بِظُلْمَتِهِ.
لَمْ تَقْتَصِرْ عُزْلَتُهُ عَلَى عُشِّهِ الْأُسَرِيِّ، بَلْ اِمْتَدَّتْ لِتَطَالَ أَصْدِقَاءَهُ: حَامِدًا، فَاهِمًا، وَرَؤُوفًا. هَؤُلَاءِ الرِّفَاقُ الَّذِينَ شَارَكُوهُ ضَحِكَاتِهِ، أَصْبَحُوا مَرَايَا تَعْكِسُ خَوْفَهُ وَشُعُورَهُ بِالْخِزْيِ.
حَامِدٌ: كَانَ أَكْثَرَهُمْ حِكْمَةً. وَالْآنَ، رَأَى صَفْوَانُ فِي نَظْرَتِهِ الْهَادِئَةِ بَحْرًا مِنَ الشُّكُوكِ الْمَكْبُوتَةِ. صَارَ يَرَاهُ مُحَقِّقًا صَامِتًا يَنْطِقُ بِعَيْنَيْهِ.
فَاهِمٌ: كَانَ نَبْضَ الْمَجْمُوعَةِ. وَالْآنَ، صَارَتْ ضَحِكَاتُهُ الصَّاخِبَةُ صَدًى مُزْعِجًا يُذَكِّرُهُ بِأَيَّامِ صِدْقِ الضَّحِكِ. رَأَى فِيهِ كُلَّ الْبَرَاءَةِ الَّتِي فَقَدَهَا.
رَؤُوفٌ: كَانَ شُجَاعًا فِي مَشَاعِرِهِ. لَكِنَّ صَمْتَهُ كَانَ أَشَدَّ قَسْوَةً مِنْ أَيِّ صُرَاخٍ. شَعَرَ صَفْوَانُ أَنَّ رَؤُوفًا يَرَى فِيهِ وَحْشًا.
5. لُعْبَةُ الْقِطِّ وَالْفَأْرِ.. بَيْنَ الضَّابِطِ وَصَدَى الشُّكُوكِ
دَلَفَ الضَّابِطُ مَرْوَانُ إِلَى الْمُسْتَشْفَى، بِعَيْنَيْنِ حَادَّتَيْنِ تَخْتَرِقَانِ جُدْرَانَ الْوَهْمِ الَّتِي بَنَاهَا صَفْوَانُ. كَانَ يَبْحَثُ عَنِ الشُّرُوخِ فِي الرُّوحِ، لَا عَنِ الْأَدِلَّةِ.
"أَخْبِرْنِي يَا صَفْوَانُ، كَيْفَ كَانَتْ عِلَاقَتُكُمَا بِسُمَيَّةَ؟" سَأَلَ الضَّابِطُ بِهُدُوءٍ.
"كَانَتْ... كَانَتْ كُلَّ حَيَاتِي." أَجَابَ صَفْوَانُ، وَعَيْنَاهُ تَتَجَنَّبَانِ النَّظَرَ.
"وَهَلْ كَانَتِ الثِّقَةُ رُكِيزَةَ هَذَا الْحُبِّ؟" رَمَى مَرْوَانُ سُؤَالَهُ كَحَجَرٍ، يَنْتَظِرُ تَمَوُّجَاتٍ فِي بَحْرِ صَفْوَانَ الرَّاكِدِ.
صَمَتَ صَفْوَانُ، وَشَرِدَ وَجْهُهُ، وَكَأَنَّ كَلِمَةَ "الثِّقَةِ" قَدْ أَشْعَلَتْ فِي أَعْمَاقِهِ لَهِيبًا.
"أَهْيَأُ أَسَاسُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنْ مَا الَّذِي يَهْدِمُهَا؟" قَالَ مَرْوَانُ، يُمْسِكُ بِزِمَامِ الْحِوَارِ النَّفْسِيِّ.
"الْخِيَانَةُ.. الْخِيَانَةُ هِيَ مَا يَهْدِمُهَا." اِرْتَفَعَ صَوْتُ صَفْوَانَ، وَعَيْنَاهُ تَتَوَهَّجَانِ بِغَضَبٍ قَدِيمٍ.
"وَهَلِ الْخِيَانَةُ دَائِمًا مَا تَكُونُ وَاضِحَةً، أَمْ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَوْهَامًا يَزْرَعُهَا الشَّكُّ؟"
كَانَتْ حِوَارَاتُهُمَا رَقْصَةً خَطِرَةً بَيْنَ عَقْلٍ يَبْحَثُ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَعَقْلٍ يَسْعَى لِلتَّبْرِيرِ. كُلَّمَا حَاوَلَ صَفْوَانُ التَّمَاسُكَ، زَرَعَ مَرْوَانُ شَكًّا جَدِيدًا فِي جِدَارِ يَقِينِهِ الْكَاذِبِ.
6. اِنْهِيَارُ الْجُدْرَانِ..
وَجَاءَتْ لَحْظَةُ الْحَقِيقَةِ كَالصَّاعِقَةِ الَّتِي شَقَّتِ الرُّوحَ. عِنْدَمَا بَدَأَ صَوْتُ نَاهِدٍ يَتَرَدَّدُ فِي غُرْفَةِ التَّحْقِيقِ، يَرْوِي تَفَاصِيلَ الْمَكِيدَةِ، وَيَفْضَحُ زَيْفَ الصُّورَةِ، وَيُثْبِتُ بَرَاءَةَ سُمَيَّةَ، تَشَظَّتْ كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ كِيَانِ صَفْوَانَ.
تَوَقَّفَ التَّسْجِيلُ، وَصَمَتَ مَرْوَانُ، لَكِنَّ الْغُرْفَةَ لَمْ تَعُدْ صَامِتَةً لِصَفْوَانَ. بَلْ ضَجَّتْ بِأَصْوَاتِ سُمَيَّةَ وَهِيَ تَتَوَسَّلُ، وَتَسْأَلُ: "بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ؟"
دَارَتْ بِهِ الدُّنْيَا، وَالْغُرْفَةُ أَشَدُّ إِضَاءَةً، لَكِنَّهَا أَظْلَمَتْ فِي عَيْنَيْهِ كَلَيْلٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ. أَدْرَكَ، فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ خَائِنَةً، بَلْ قَتَلَ الْبَرَاءَةَ نَفْسَهَا، قَتَلَ الْخَيْرَ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ مَلَكُهُ. هَمَسَ لِنَفْسِهِ: "لَقَدْ قَتَلْتُ بَرَاءَتِي بِيَدِي.. قَتَلْتُ الْحُبَّ الَّذِي جَعَلَ لِحَيَاتِي مَعْنًى." كَانَ الْجَهْلُ سِتَارًا، وَعِنْدَمَا سَقَطَ، كَانَ الثَّمَنُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِقَتْلِهِ لِسُمَيَّةَ، وَمَرَّةً بِقَتْلِهِ لِرُوحِهِ بِوَعْيِهِ بِحَجْمِ الْجُرْمِ.
• زِنْزَانَةُ النَّدَمِ الْأَبَدِيِّ..
فِي السِّجْنِ، لَمْ تَكُنْ قُضْبَانُهُ هِيَ زِنْزَانَةَ صَفْوَانَ. كَانَتْ زِنْزَانَتُهُ هِيَ صَدَى صَوْتِ سُمَيَّةَ الْأَخِيرِ: "بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ؟" لَمْ يَجِدْ فِيهِ مَكَانًا لِلْعِقَابِ الْجَسَدِيِّ، بَلْ مَسَاحَةً لِلْعِقَابِ الرُّوحِيِّ الَّذِي لَا يَنْتَهِي.
في زاوية الغرفة المظلمة، عادت إليه ذكرى قاسية من الماضي، كشبح ينهش روحه، ذكرى لم تكن سوى لحظات عاشها معها. كانت سمية بالنسبة له كل هذه الكلمات: تقول له ذاكرته عنها فتحرقه.
لم تقُل كثيراً: “أُحبُّك”، لكنها كانت تضعُ لي في الصحنِ ما أُحبّ.
ما قالتْ كلامًا معسولًا كثيراً، لكنها كانتْ تقبضُ على خاصِرةِ الرِّضا، وتُربّتُ على كتفِ الضوء..كانتْ تُؤثِرُني على نفسها، وتُقدّمُ لي سكينتَها، ولا تُبقي لها إلا فتاتَ التأمّل، وأنا أرتدي جلبابَ الذهولِ والدهشةِ برضا وإعجاب.
لم تكن تُدلّلُني بالكلام، بل كانتْ تُخبّئُ في أفعالِها حبًّا،
لو جُمع، لكان عزاءَ العُمرِ، ونداءَ الخلود.
لم تقُل لي يومًا: “حبيبي”، لكنها كانت تُزيحُ عتباتِ الطريقِ قبل أن أسير،
وتنفضُ التعبَ عنّي قبل أن يستشري، وقبل أن أتكلم.
كانتْ تعرفُ موعدَ حزني دون بوحٍ ولا وقت،
وتعرفُ جوعَ قلبي قبل أن يجوعَ فمي.
تقرأني مثلَ كتابٍ مفتوحٍ أمام عينيها الحانيتين، برقةٍ غارقةٍ في حبٍّ سماويٍّ عريض، لا منتهى له.
تترك لي كلماتها مرسومةً بلا صوت، وتملأ محبرتي بالضوء ليعانقها قلمي في هدوء.
لم تكتبْ لي رسالة، لكنها كانت تُنقّطُ لي الحروف،
وترسمُ لي الكلماتِ على المائدة، وتَبري لي الأقلامَ لأحتضنَ الورقَ دون ضجيج،
وتسنُّ لي الألفاظَ خلفها، كما لو كانت تُمهّدُ لي الطريقَ إلى البوحِ دون أن تَجرَح الصمت.
كانتْ سماءً حين تكفهرّ السماء، وأرضًا صلبةً حين تمورُ الأرض، ووطنًا حين يغيبُ الوطن،
وموردًا عذبًا أستسقي منه كلّما هزّ الظمأُ وحشةَ قلبي، كأرضٍ سُقيَت فاهتزت وربت، وأنبتت من كلّ زوجٍ بهيج.
كانتْ هي مائدةَ الحياةِ ومأدبتَها: رغيفَ الخبزِ الساخن، وكوبَ الماءِ البارد، وقطعةَ الحلوى التي تُشبه نهايةَ يومٍ ناجٍ من الانهيار.
كانتْ تمشي على أطرافِ الوقتِ بأصابعِ الحياء كي لا تُزعجَ يومي،
وتُصلّي بصمتٍ كي لا توقِظَ عصافيرَ غفوتي ونومي،
وتُخفي خطواتِها في المطبخِ كما يُخفي القمرُ خطواته،
كي لا ينهضَ السكونُ في صمتي،
تغفو كالمساء، وتصحو كالمطر.
وإذا اشتكيتُ بردًا – بل، قبل أن أشتكي –
كانت ترفعُ لي بُردتَها القديمة،
ولحافَها الممهور بكلماتٍ تُشبه تكبيرةَ العيد،
دون أن تذكرَ أنها لم تَعُد تملكُ غيرَهما. وإذا بُحتُ بألم،
جفّفته كما يُجفَّفُ المطرُ عن كتابٍ كريمٍ تبلّل بزخّاته.
كانت تُسلّمني الطمأنينة،
وتعود إلى صمتٍ يشبه صلاةً طويلة.
لم تكن تُحبُّني بالكلام،
كانتْ تُحبُّني بتقشُّفِ الأنبياء، وكرمِ الأمنيات، وصبرِ الجبال، وحنينِ العشّاق.
كانت تبثّ فيّ سكينةً خفيّة، وتذوب في هدوءٍ لا يُرى.
أعطتني عمرَها على جُرعات، وسحبتْ من نفسها كلَّ ضوءٍ كي لا أعيشَ في العتمة.
تركتْ لي الحياةَ بألوانِها، وأقامتْ في ظلالِ التخفّي، بلا لونٍ يُشبه اسمَها في السجلاّتِ القديمة.
لو جمعتُ حبّها من فُتاتِ الأفعال، لصنعتُ به مدينةً تسكنُها طمأنينةُ العائدين من الغياب، يتقاطرون من أزقّةِ المهاجرِ بلا موعدٍ مضروب.
ولو نسجتُ من صمتِها وِشاحًا، لارتداه الشتاءُ حياءً من دفئِها.
عادَ صفوانُ من تيههِ في الذكرى إلى واقعه الأليم. كانت كل كلمةٍ من ذلك الماضي خنجرًا يطعن يقينه الكاذب. لقد كانت كل هذا الحب الذي قتله بيديه.
زَارَهُ الضَّابِطُ مَرْوَانُ فِي السِّجْنِ. وَجَدَهُ شَبَحًا مِنْ رَجُلٍ، تَرَكَّضَتْ عَلَى وَجْهِهِ تَقَاطِيعُ النَّدَمِ وَالْوَجَعِ، وَكَأَنَّهُ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا.
"لَمْ تَقْتُلْهَا يَا صَفْوَانُ، لَقَدْ قَتَلَكَ شَكُّكَ." قَالَ الضَّابِطُ، وَعَيْنَاهُ تَخْتَرِقَانِ رُوحَ صَفْوَانَ الْمَكْسُورَةَ.
نَظَرَ صَفْوَانُ إِلَيْهِ بِعَيْنَيْنِ مُطْفَأَتَيْنِ، ثُمَّ هَمَسَ بِصَوْتٍ مُتَحَشْرِجٍ: "لَمْ أَكُنْ أَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَةٍ.. كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ دَلِيلٍ يُبَرِّرُ خَوْفِي. وَلَمْ أَجِدْ إِلَّا خَيَالًا صَنَعْتُهُ بِيَدِي. إِنَّ نَدَمِي لَيْسَ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ، بَلْ عَلَى الْخَطَأِ فِي قِرَاءَةِ الْقُلُوبِ... عَلَى أَنَّنِي سَمَحْتُ لِوَحْشِ الشَّكِّ أَنْ يَصِيرَ سَيِّدِي."
قَالَ الضَّابِطُ بِحِكْمَةٍ: "أَشَدُّ الْعِقَابِ لَيْسَ سِجْنًا بَيْنَ الْجُدْرَانِ، بَلْ سِجْنًا بَيْنَ نَدَمٍ وَأَلَمٍ لَا يُفَارِقُ. فَالْجَرِيمَةُ تُعَاقَبُ مَرَّةً، وَالْخِذْلَانُ الَّذِي تَبِعَهَا يَقْتُلُ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ.
وَبَيْنَمَا كانَ صَفْوَانُ يُوَاجِهُ عَذَابَهُ الأَبَدِيَّ دَاخِلَ زِنْزَانَةِ النَّدَمِ، كانَ الضَّابِطُ مَرْوَانُ خَارِجَهَا يُوَاجِهُ سُؤَالًا أَكْبَرَ. لَمْ يَعُدْ يَبْحَثُ عَنْ قَاتِلٍ، بَلْ عَنْ العَقْلِ المُدَبِّرِ الَّذِي اسْتَخْدَمَ شَكَّ صَفْوَانَ كَأَدَاةٍ. كَانَتْ نِهَايَةُ قَضِيَّةِ سُمَيَّةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَانُونِ، وَلَكِنَّهَا كَانَتِ البِدَايَةَ الحَقِيقِيَّةَ لِمُطَارَدَةِ مُنَظَّمَةِ الظِّلِّ الَّتِي نَسَجَتْ خُيُوطَ هذِهِ الجَرِيمَةِ مِنْ بَعِيدٍ وسنعرف ماذا سيكون من أمرها مع مروان فيما سبأتي.

ناديه محمد الجابي
18-09-2025, 05:14 PM
الفصل العاشر بعد التعديل..
فأين أجد الفصول الأولى حتى أستطيع متابعة القصة؟؟؟
:002::011::002:

محمد ذيب سليمان
29-09-2025, 04:38 PM
شكرا لك .. لكن موقع هذا النص في القصة والرواية
سيتم نقلها الى هناك

هائل سعيد الصرمي
08-10-2025, 06:12 PM
مازلت احبرها واتلقى الملاحظات وعن قريب اطبعها
لكن سارسل لك الرابط