هائل سعيد الصرمي
29-09-2025, 10:05 PM
5-: كُوَةُ الأمانِ
كَانَ السُكُونُ يَمْلَأُ المَكَانَ وَالسَّمَاءُ صَافِيَةً كَصَفَاءِ السَّرَائِرِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ الِالْتِوَاءَ وَلَا الخَتْلَ. انْسَكَبَ الأُنْسُ وَالجَمَالُ.. فَتَلَقَّفَتْهُ المَشَاعِرُ النَّقِيَّةُ وَاسْتَقْبَلَتْهُ الحَنَايَا الظَّامِئَةُ بِحَفَاوَةٍ وَتَرْحَابٍ.. أَصَبْنَا مِنْهُ حَظًّا وَافِرًا، يَوْمَ كُنْتُ وَأَلِيفَةَ عُمْرِي عَلَى كُوَّةٍ فِي ذُرْوَةِ مَنْزِلٍ صَغِيرٍ نَرَى مِنْ خِلَالِهِ المَدِينَةَ الحَالِمَةَ، الَّتِي يَعْشَقُهَا الأُدَبَاءُ وَيَتَغَنَّى بِهَا الشُّعَرَاءُ، وَيَهْرَعُ إِلَيْهَا السُّيَّاحُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، إِنَّهَا مَدِينَةُ الحُبِّ وَالنَّقَاءِ، وَالبَهْجَةِ وَالصَّفَاءِ، مَدِينَةُ الجَمَالِ "جَمِيلَةٌ بِجَمَالِ أَهْلِهَا، طَيِّبَةٌ بِطِيبَتِهِمْ، حَالِمَةٌ بِحُلْمِهِمُ الكَبِيرِ، وَسُمِّيَتْ حَالِمَةً لِأَنَّهَا (مُعَلَّقَةٌ فِي الفَضَاءِ) فَهِيَ تَفُوقُ مَدِينَةَ البُنْدُقِيَّةِ العَائِمَةَ فِي المَاءِ، سِحْراً وَجَمَالاً. وَشَتَّانَ بَيْنَ الصُّعُودِ فِي الفَضَاءِ وَالغَوْصِ& فِي المَاءِ.
بَسَطْنَا مَخْمَلَ الحُبِّ عَلَى صَهْوَةِ الفَنَاءِ المِمْرَاحِ، فِي السَّطْحِ المُبْتَسِمِ كَابْتِسَامَةِ النُّجُومِ فِي اللَّيْلَةِ الحَالِكَةِ الظَّلَامِ، وَنَسَجْنَا خُيُوطَ المَسَرَّةِ بِالمُسَامَرَةِ وَالبَوْحِ الشَّجِيِّ، المُوَشَّى بِنَغَمِ الوِجْدَانِ، الطَّائِرِ فِي الفَضَاءِ كَالفَضَاءِ نَفْسِهِ، تَحْمِلُهُ أَجْنِحَةُ الشَّوْقِ المُفْعَمَةُ بِالكَلِمَاتِ المُعَبِّرَةِ عَنْ صِدْقِ المَشَاعِرِ وَالعَاطِفَةِ... وَلِكُلِّ عَاشِقَيْنِ نَغَمٌ خَاصٌّ وَلُغَةٌ خَاصَّةٌ لَا تُرْوَى وَلَا تُقَالُ...
اتَّخَذَ كُلٌّ مِنَّا مُتَّكَأً يَتَّكِئُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَدِيثِ الحُبِّ، بَدَأَ حَدِيثَ الجَمَالِ، كَانَ الجَوُّ يَبْعَثُ عَلَى الرَّاحَةِ، وَالمَكَانُ مُعَدٌّ لِلِاسْتِرْوَاحِ، بَدَأْنَا نُقَلِّبُ البَصَرَ وَنَتَمَلَّى السَّمَاءَ.. نُرَاقِبُ فِيهَا وَمَضَاتِ الشُّهُبِ البَاهِتَةِ، وَتَلَأْلُؤَ النُّجُومِ الخَافِتَةِ، الَّتِي حَجَبَهَا الضَّوْءُ المُنْسَابُ مِنْ شِفَاهِ القَمَرِ، وَقَدْ كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ مِنْ تَمَامِ اكْتِمَالِهِ بَدْرًا... وَكَانَ يَدْعُونَا لِمُنَاجَاتِهِ وَمُجَارَاتِهِ، فَهُوَ لِلْعَاشِقَيْنِ كَمَا هُوَ لِلْغُرَبَاءِ الوَاجِدِينَ، وَلِلْحَائِرِينَ كَمَا هُوَ لِلْمُدْنَفِينَ التَّائِهِينَ فِي أَزِقَّةِ الحُبِّ بَحْثًا عَنْ نَاكِصٍ مُهَاجِرٍ أَوْ هَائِمٍ زَائِغٍ؛ نَكَبَهُ الدَّهْرُ فَلَمْ يَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ... لِسَانُ شُعَاعِهِ حَفِيٌّ نَجِيٌّ! وَأَنِيسٌ شَجِيٌّ، وَدَلِيلٌ وَحَادٍ، يَا لَرَوْعَةِ المَسَاءِ فِي رِحَابِهِ، وَانْسِيَابِ الحُسْنِ مِنْ أَهْدَابِهِ.
عَلَى رَفْرَفِ هَذَا الجَمَالِ البَدِيعِ كُنَّا نَتَبَادَلُ أَطْرَافَ الحَدِيثِ مُسْتَمْتِعِينَ بِحَدِيثِ القَمَرِ وَنَسِيمِ الصَّيْفِ وَدِفْئِهِ؛ فَقَدْ وَضَعَ خُطُوَاتِهِ الأُولَى عَلَى رُبُوعِنَا، مُنْذُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، نَعَمْ جَاءَ الصَّيْفُ عَلَى فَاقَةٍ، بَعْدَ شِتَاءٍ قَارِسٍ ذُقْنَا حَلَاوَتَهُ وَمُرَّهُ! كُنَّا مَسْرُورِينَ بِقُدُومِ الصَّيْفِ كَأَنَّمَا غَائِبٌ عَزِيزٌ عَلَيْنَا قَادِمٌ مِنْ بَعِيدٍ بَعْدَ طُولِ افْتِرَاقٍ، مُحَمَّلٌ بِالهَدَايَا الثَّمِينَةِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا الصُّدُورُ، وَتَهْفُو إِلَيْهَا القُلُوبُ، وَيَحْثُو السَّيْرَ خُطَاهُ نَحْوَهَا، طَلَبًا لِلْمَسَرَّةِ وَمَظَنَّةً فِي امْتِلَاكِ نَاصِيَةِ السَّعَادَةِ.
قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَهِيَ تَنْفُضُ عَنْ كَتِفِي بَعْضَ الغُبَارِ وَتَرْنُو بِبَصَرِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَدْ تَنَهَّدَتْ نَهْدَةً خَفِيفَةً أَحْسَسْتُ أَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِلَوْعَةٍ وَحُرْقَةٍ شَدَّتْ إِلَيْهَا انْتِبَاهِي.
أَلَا تَرَى كَيْفَ يَسْحَرُنَا الصَّيْفُ بِجَمَالِهِ، وَيَأْسِرُنَا بِصَفَائِهِ وَحُسْنِ بَهَائِهِ، وَكَمْ يُطْرِبُنَا السَّمَرُ بَيْنَ أَحْضَانِ مَسَائِهِ وَعُنْفُوَانِ ظَلَامِهِ.
قُلْتُ: بَلَى.
وفي تلك اللحظة، شعرَ حامدٌ أنَّ الكلماتِ العاديةَ لن تفيَ بالغرضِ، فمدَّ يدهُ وأمسكَ بيدِ أسماءَ، ثمَّ نظرَ في عينيها وقالَ لها بصدقٍ يُماثلُ صدقَ القمرِ في السماءِ: "أراد أن يختصر لها كل ما في قلبه، فخرجت الكلماتُ على شكل أبياتٍ مفعمةٍ بالشوق:"
إِنِّي أُحِبُّكِ فاملئي آفاقِي
وَتَقَبَّلِي وَصِلِي وَطَيِّبِ عِناقي
يَا زَهْرَةً مَلَأَتْ بِحُسْنِ أَرِيْجِهَا
نَبْضِي أَنَا، وَاسْتَوْطَنَتْ أَعماقِي
هَلْ تَقْبَلِينَ الغَوْصَ فِي لُجَجِ الْهَوَى
وَالْعَيْشَ بين حدائقِ الأشْوَاقِ؟
وبعدَ لحظةٍ من السكونِ، أردفتْ أسماءُ وهي تبتسمُ ابتسامةً ملؤها الرضا والحبُ، وكأنها تردُّ على سؤالِهِ بكلماتٍ تليقُ بعمقِ ما في قلبِها، فتركتْ يدَهُ برفقٍ والتفتتْ لتواجهَهُ: "كانت إجابتها تحمل عمقًا فلسفيًا، وكأنها أبياتٌ من قصيدةٍ لم تُكتب بعد:"
الحُبُّ لَيْسَ قَصِيدَةً غَزَلِيَّةً
تَنْثَالُ عَبْرَ مَشَاعِرِ الشُّعَرَاءِ
الحُبُّ لَيْسَ عِبَارَةً مَمْهُورَةً
بِالْعِشْقِ لِلْمَحْبُوبِ كَالْأَصْدَاءِ
الحُبُّ إِحْسَاسٌ جَمِيلٌ صَادِقٌ
يَسْرِي مَعَ الْأَنْفَاسِ كَالْأَحْيَاءِ
أَطْرَقْتُ هُنَيْهَةً!: ثُمَّ قُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ يَزْحَفُ فِي مَسَامَاتِ أَوْرِدَتِي مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، لَكِنَّهُ كَمَا يَزْحَفُ الرَّضِيعُ نَحْوَ الكِبَرِ! فَدُونَهُ أَوْدِيَةٌ وَمَفَاوِزُ يَقْطَعُهَا؛ كَيْ يَبْلُغَ الشَّبَابَ أَجَلَهُ، وَقَدْ أَرَّقَنِي كَمَا أَرَّقَكِ وَشَغَلَ بَالِي كَمَا شَغَلَ بَالَكِ، لَكِنِّي أُطَمْئِنُكِ بِأَنَّهُ فِي البَالِ وَأَنِّي أَبْحَثُ السُّبُلَ الَّتِي يَتَوَسَّعُ دَخْلُنَا فِي سَبْرِهَا، وَيَتَحَسَّنُ حَالُنَا بَعْدَ خَوْضِهَا، وَإِنْ أَعْيَتْنِي الحِيلَةُ، فَلَا يَأْسَ وَلَا قُنُوطَ مَعَ الإِصْرَارِ، وَلَعَلِّي عَنْ قَرِيبٍ أَصِلُ.
وَأَخَذْتُ بِأَطْرَافِ ثَوْبِهَا بِلُطْفٍ وَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى يَدِهَا بِرِفْقٍ وَحَنَانٍ أَفْصِحِي يَا قُرَّةَ العَيْنِ وَنُورَ البَصَرِ فَكُلِّي آذَانٌ صَاغِيَةٌ.
آه!! يَا حَامِدُ: كَمْ تُحَدِّثُنِي جَارَتِي عَنْ رِحْلَاتِهَا المُتَكَرِّرَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَأَوْلَادِهَا وَعَنْ نَفَقَاتِهَا الفَارِهَةِ، وَمُقْتَنَيَاتِهَا مِنَ المَتَاعِ، مَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرْوِيَهُ وَلَا أَصِفَهُ لَكَ، مِنْ كَثْرَتِهِ، حَتَّى يُدَاهِمُنِي الضِّيقُ مِمَّا تَقُولُ، فَكَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِنَا لِضِيقِ اليَدِ، وَلَا أَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ أَشْرِعَتِي مِثْلَ أَشْرِعَتِهَا وَلَا مَرْكَبِي مِثْلَ مَرْكَبِهَا، فَكُلٌّ حَسَبَ سَعَتِهِ، لَكِنِّي أَتَمَنَّى الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ الَّتِي لَا نَحْتَاجُ مَعَهَا لِأَحَدٍ، أَقْصِدُ مَا يَفِي بِالغَرَضِ المَأْمُولِ، دُونَ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.
سأذكر لك حكاية تذكرتُ الآن، يا أسماء، حكايةً سمعتُها عن رجلٍ فقيرٍ كانَ يعيشُ في قريةٍ ساحليةٍ صغيرة. كانَ صيّاداً بسيطاً، لا يملكُ من حطامِ الدنيا شيئاً سوى قاربٍ قديمٍ، وكانَ يعاني من ضيقِ الحالِ مثلي تماماً. في إحدى الليالي، بينما كانَ يرمي شباكَهُ في ظلامِ البحرِ، لمحَ وميضاً غريباً في الأفقِ البعيدِ. كانَ الوميضُ يلمعُ تارةً ويختفي تارةً أخرى، وكأنهُ نجمةٌ سقطتْ من السماءِ لتُشيرَ إلى شيءٍ ما. لم يتردد، وجدفَ بقاربهِ نحو الوميضِ حتى وصلَ إلى كهفٍ صخريٍّ على الشاطئ. وجدَ في داخلهِ صندوقاً صغيراً فارغاً، لكنَّ الوميضَ الذي كانَ يراهُ لم يكنْ سوى انعكاسِ نورِ القمرِ على قطعةِ زجاجٍ ملوَّنٍ كانتْ داخلَ الصندوقِ.
لم يجدْ الرجلُ كنوزاً، بل وجدَ شيئاً آخر. عادَ إلى بيتهِ واحتفظَ بقطعةِ الزجاجِ. بعدَ أشهرٍ، كانَ يجلسُ في بيتهِ المتواضعِ وهو يفكرُ في حلٍ لمشكلتهِ، فرأى ضوءَ القمرِ وهو ينعكسُ على قطعةِ الزجاجِ بطريقةٍ ساحرةٍ. تذكرَ أنَّ العديدَ من القواربِ تضيعُ في الضبابِ. فقامَ بتثبيتِ الفانوسِ الصغيرِ الذي كانَ يملكهُ خلفَ قطعةِ الزجاجِ، ووضعَهُ على أعلى نقطةٍ في منزلهِ. تحولَ منزلهُ الصغيرُ إلى منارةٍ تهتدي بها القواربُ التائهةُ. ومع الوقتِ، لم يعدْ الصيادُ فقيراً، فقدْ بدأَ الناسُ من قريتهِ والقرى المجاورةِ يُهدونَهُ السمكَ والمالَ عرفاناً منهم لجمالِ صنيعهِ الذي أنارَ لهم البحرَ في الليالي المظلمةِ. لم يبحثْ عن الكنزِ في الكهفِ، بل صنعَ كنزهُ الخاصَ الذي أنارَ لهُ حياتهُ وحياةَ غيرهِ".
وفي تلك اللحظة، مالَ حامدٌ على أسماءَ وهمسَ لها في أذنها بكلماتٍ شعريةٍ كأنها تُختصرُ بها كلُّ مشاعرِ الحبِّ والعزمِ، ثمَّ ألقى بيده على يدها وهو يقول:
قولي أحبُّكَ إنَّ الحبَّ يبعثُني
مِنَ الغيابِ ويُحيي الرُّوحَ والبدنَا
قولي أحبَّكَ لا بَخسًا ولا رهقًا
لأنَّ قولَكِ يَرفو جُرحَنا الهِتَنَا
قولي أحبُّكَ إنَّ القولَ يُفرِحُنا
ويَمسحُ الضَّيمَ والآهاتِ والإِحَنَا
فيضي بمكنون قلبي زنبقي وَطَني
كيما نعودُ إليهِ أو يعودُ لنا
قولي عَشِقتُكِ، سيري في مَنَاكِبِنا
كي يَستَظِلَّ فؤادي بالجَوَى زَمَنا
قولي بِصدقٍ، ولا تأسَي على زَمَنٍ
أدمى النفوسَ وما أبقى لنا وَطَنا
قولي أحبُّكَ إنَّ الرُّوحَ شاحِبَةٌ
تحتاجُ عَطفًا وتحنانًا وفيضَ مُنى
كي تَزهَرَ الرُّوحُ بوَحيٍ بالهوى، وخُذي
هذي الترانيمَ لا تُبقي لنا حَزَنَا
لا تَبخَلي بحديثِ القلبِ، إنَّ لهُ
سِحرًا يُضيءُ كقَطرِ النُّورِ إذ وسَنَا
بِالإِمْكَانِ تَحْقِيقُ كُلِّ طُمُوحِنَا يَا جَمِيلَتِي. فَكُونِي مُطْمَئِنَّةً!! سَنَبْدَأُ بِالتَّفْكِيرِ وَالعَمَلِ الجَادِّ لِلْوُصُولِ إِلَى تَحْسِينِ وَضْعِنَا مِنَ الغَدِ.
تَعْلَمِينَ أَنِّي وَأَخَوَاتِي وَرِثْنَا قِطْعَةَ أَرْضٍ، يُمْكِنُ بَيْعُهَا وَاسْتِثْمَارُ قِيمَتِهَا فِي مَشْرُوعٍ، خُصُوصًا وَقَدْ عَرَضَ عَلَيَّ صَدِيقِي مَاجِدٌ مَشْرُوعًا رَائِعًا يَدُرُّ رِبْحًا لَا بَأْسَ بِهِ، يَكُونُ العَمَلُ فِيهِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، لَقَدْ اسْتَحْسَنْتُهُ وَأَبْدَيْتُ تَحَمُّسِي لَهُ، لَكِنِّي لَمْ أُعْطِ نَفْسِي فُرْصَةً أُفَاتِحُ إِخْوَانِي بِبَيْعِ القِطْعَةِ مِنْ أَجْلِهِ.
أَمَّا الآنَ فَقَدْ قَوِيَتِ الفِكْرَةُ وَشُحِذَتِ الهِمَّةُ وَاسْتَبَانَ الطَّرِيقُ، وَعَزَمْتُ عَلَى المُضِيِّ وَهَذَا بِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ بِفَضْلِ حَدِيثِكِ الرَّقْرَاقِ العَذْبِ الَّذِي يُذِيبُ الصُّخُورَ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ.
مِنَ الغَدِ إِنْ شَاءَ اللهُ سَأَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ وَأُحَاوِلُ إِقْنَاعَهُمْ بِشَأْنِهَا، وَبِنَصِيبِي سَأَشْتَرِي مَرْكَبَةَ النُّهُوضِ وَلَوْلَبَ الصُّعُودِ، وَبِمُقَابِلِ عَمَلِي، سَأَنْفُضُ الفَاقَةَ كَمَا يَنْفُضُ الحَدِيدُ صَدَاهُ إِذَا أُضْرِمَ، فَأَعِينِينِي بِقُوَّةٍ، فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ وَأَخْشَى أَلَّا تَلِينَ قَنَاتُهُمْ فَهُمْ كَمَا تَعْلَمِينَ يَعُدُّونَهَا رَأْسَ مَالِهِمْ، وَمِعْقَدَ آمَالِهِمْ وَبَوَّابَةَ الوُلُوجِ إِلَى طُمُوحَاتِهِمْ.
ارْتَسَمَتْ أَسَارِيرُ الفَرَحِ عَلَى جَبِينِهَا، وَانْثَالَتْ بَسْمَةُ الرِّضَا مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهَا كَمَا يَنْثَالُ الغَيْثُ عِنْدَ ابْتِسَامِ الأُفُقِ الَّذِي خَلْخَلَ البَرْقُ غَيْمَاتِهِ حَالَ تَلَبُّدِهِ بِهِ.
ثُمَّ اسْتَدَارَتْ اسْتِدَارَةَ المُنْتَصِرِ مِنْ غَيْرِ زَهْوٍ وَأَخَذَتْ قُبْلَةً مِنْ فَمِهَا بِأَطْرَافِ بَنَانِهَا وَأَلْقَتْ بِهَا إِلَيَّ، فَتَلَقَّفْتُهَا مُدَاعِبًا كَأَنَّمَا هِيَ قِطْعَةُ ذَهَبٍ يَجِبُ احْتِضَانُهَا، وَرَدَدْتُ بِمِثْلِهَا.
وَحَانَ مَوْعِدُ الخُلُودِ إِلَى النَّوْمِ، فَأَوَيْنَا وَالسَّعَادَةُ تَغْمُرُنَا، وَالحَنِينُ يَحُثُّ خُطَى عَقَارِبِ السَّاعَةِ مُسْتَعْجِلًا؛ كَيْ يَأْتِيَ الغَدُ؛ لِنَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ اللهُ لَنَا فِيهِ،
كَانَ السُكُونُ يَمْلَأُ المَكَانَ وَالسَّمَاءُ صَافِيَةً كَصَفَاءِ السَّرَائِرِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ الِالْتِوَاءَ وَلَا الخَتْلَ. انْسَكَبَ الأُنْسُ وَالجَمَالُ.. فَتَلَقَّفَتْهُ المَشَاعِرُ النَّقِيَّةُ وَاسْتَقْبَلَتْهُ الحَنَايَا الظَّامِئَةُ بِحَفَاوَةٍ وَتَرْحَابٍ.. أَصَبْنَا مِنْهُ حَظًّا وَافِرًا، يَوْمَ كُنْتُ وَأَلِيفَةَ عُمْرِي عَلَى كُوَّةٍ فِي ذُرْوَةِ مَنْزِلٍ صَغِيرٍ نَرَى مِنْ خِلَالِهِ المَدِينَةَ الحَالِمَةَ، الَّتِي يَعْشَقُهَا الأُدَبَاءُ وَيَتَغَنَّى بِهَا الشُّعَرَاءُ، وَيَهْرَعُ إِلَيْهَا السُّيَّاحُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، إِنَّهَا مَدِينَةُ الحُبِّ وَالنَّقَاءِ، وَالبَهْجَةِ وَالصَّفَاءِ، مَدِينَةُ الجَمَالِ "جَمِيلَةٌ بِجَمَالِ أَهْلِهَا، طَيِّبَةٌ بِطِيبَتِهِمْ، حَالِمَةٌ بِحُلْمِهِمُ الكَبِيرِ، وَسُمِّيَتْ حَالِمَةً لِأَنَّهَا (مُعَلَّقَةٌ فِي الفَضَاءِ) فَهِيَ تَفُوقُ مَدِينَةَ البُنْدُقِيَّةِ العَائِمَةَ فِي المَاءِ، سِحْراً وَجَمَالاً. وَشَتَّانَ بَيْنَ الصُّعُودِ فِي الفَضَاءِ وَالغَوْصِ& فِي المَاءِ.
بَسَطْنَا مَخْمَلَ الحُبِّ عَلَى صَهْوَةِ الفَنَاءِ المِمْرَاحِ، فِي السَّطْحِ المُبْتَسِمِ كَابْتِسَامَةِ النُّجُومِ فِي اللَّيْلَةِ الحَالِكَةِ الظَّلَامِ، وَنَسَجْنَا خُيُوطَ المَسَرَّةِ بِالمُسَامَرَةِ وَالبَوْحِ الشَّجِيِّ، المُوَشَّى بِنَغَمِ الوِجْدَانِ، الطَّائِرِ فِي الفَضَاءِ كَالفَضَاءِ نَفْسِهِ، تَحْمِلُهُ أَجْنِحَةُ الشَّوْقِ المُفْعَمَةُ بِالكَلِمَاتِ المُعَبِّرَةِ عَنْ صِدْقِ المَشَاعِرِ وَالعَاطِفَةِ... وَلِكُلِّ عَاشِقَيْنِ نَغَمٌ خَاصٌّ وَلُغَةٌ خَاصَّةٌ لَا تُرْوَى وَلَا تُقَالُ...
اتَّخَذَ كُلٌّ مِنَّا مُتَّكَأً يَتَّكِئُ عَلَيْهِ بَعْدَ حَدِيثِ الحُبِّ، بَدَأَ حَدِيثَ الجَمَالِ، كَانَ الجَوُّ يَبْعَثُ عَلَى الرَّاحَةِ، وَالمَكَانُ مُعَدٌّ لِلِاسْتِرْوَاحِ، بَدَأْنَا نُقَلِّبُ البَصَرَ وَنَتَمَلَّى السَّمَاءَ.. نُرَاقِبُ فِيهَا وَمَضَاتِ الشُّهُبِ البَاهِتَةِ، وَتَلَأْلُؤَ النُّجُومِ الخَافِتَةِ، الَّتِي حَجَبَهَا الضَّوْءُ المُنْسَابُ مِنْ شِفَاهِ القَمَرِ، وَقَدْ كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ مِنْ تَمَامِ اكْتِمَالِهِ بَدْرًا... وَكَانَ يَدْعُونَا لِمُنَاجَاتِهِ وَمُجَارَاتِهِ، فَهُوَ لِلْعَاشِقَيْنِ كَمَا هُوَ لِلْغُرَبَاءِ الوَاجِدِينَ، وَلِلْحَائِرِينَ كَمَا هُوَ لِلْمُدْنَفِينَ التَّائِهِينَ فِي أَزِقَّةِ الحُبِّ بَحْثًا عَنْ نَاكِصٍ مُهَاجِرٍ أَوْ هَائِمٍ زَائِغٍ؛ نَكَبَهُ الدَّهْرُ فَلَمْ يَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ... لِسَانُ شُعَاعِهِ حَفِيٌّ نَجِيٌّ! وَأَنِيسٌ شَجِيٌّ، وَدَلِيلٌ وَحَادٍ، يَا لَرَوْعَةِ المَسَاءِ فِي رِحَابِهِ، وَانْسِيَابِ الحُسْنِ مِنْ أَهْدَابِهِ.
عَلَى رَفْرَفِ هَذَا الجَمَالِ البَدِيعِ كُنَّا نَتَبَادَلُ أَطْرَافَ الحَدِيثِ مُسْتَمْتِعِينَ بِحَدِيثِ القَمَرِ وَنَسِيمِ الصَّيْفِ وَدِفْئِهِ؛ فَقَدْ وَضَعَ خُطُوَاتِهِ الأُولَى عَلَى رُبُوعِنَا، مُنْذُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، نَعَمْ جَاءَ الصَّيْفُ عَلَى فَاقَةٍ، بَعْدَ شِتَاءٍ قَارِسٍ ذُقْنَا حَلَاوَتَهُ وَمُرَّهُ! كُنَّا مَسْرُورِينَ بِقُدُومِ الصَّيْفِ كَأَنَّمَا غَائِبٌ عَزِيزٌ عَلَيْنَا قَادِمٌ مِنْ بَعِيدٍ بَعْدَ طُولِ افْتِرَاقٍ، مُحَمَّلٌ بِالهَدَايَا الثَّمِينَةِ الَّتِي تَنْشَرِحُ لَهَا الصُّدُورُ، وَتَهْفُو إِلَيْهَا القُلُوبُ، وَيَحْثُو السَّيْرَ خُطَاهُ نَحْوَهَا، طَلَبًا لِلْمَسَرَّةِ وَمَظَنَّةً فِي امْتِلَاكِ نَاصِيَةِ السَّعَادَةِ.
قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَهِيَ تَنْفُضُ عَنْ كَتِفِي بَعْضَ الغُبَارِ وَتَرْنُو بِبَصَرِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَدْ تَنَهَّدَتْ نَهْدَةً خَفِيفَةً أَحْسَسْتُ أَنَّهَا مَمْزُوجَةٌ بِلَوْعَةٍ وَحُرْقَةٍ شَدَّتْ إِلَيْهَا انْتِبَاهِي.
أَلَا تَرَى كَيْفَ يَسْحَرُنَا الصَّيْفُ بِجَمَالِهِ، وَيَأْسِرُنَا بِصَفَائِهِ وَحُسْنِ بَهَائِهِ، وَكَمْ يُطْرِبُنَا السَّمَرُ بَيْنَ أَحْضَانِ مَسَائِهِ وَعُنْفُوَانِ ظَلَامِهِ.
قُلْتُ: بَلَى.
وفي تلك اللحظة، شعرَ حامدٌ أنَّ الكلماتِ العاديةَ لن تفيَ بالغرضِ، فمدَّ يدهُ وأمسكَ بيدِ أسماءَ، ثمَّ نظرَ في عينيها وقالَ لها بصدقٍ يُماثلُ صدقَ القمرِ في السماءِ: "أراد أن يختصر لها كل ما في قلبه، فخرجت الكلماتُ على شكل أبياتٍ مفعمةٍ بالشوق:"
إِنِّي أُحِبُّكِ فاملئي آفاقِي
وَتَقَبَّلِي وَصِلِي وَطَيِّبِ عِناقي
يَا زَهْرَةً مَلَأَتْ بِحُسْنِ أَرِيْجِهَا
نَبْضِي أَنَا، وَاسْتَوْطَنَتْ أَعماقِي
هَلْ تَقْبَلِينَ الغَوْصَ فِي لُجَجِ الْهَوَى
وَالْعَيْشَ بين حدائقِ الأشْوَاقِ؟
وبعدَ لحظةٍ من السكونِ، أردفتْ أسماءُ وهي تبتسمُ ابتسامةً ملؤها الرضا والحبُ، وكأنها تردُّ على سؤالِهِ بكلماتٍ تليقُ بعمقِ ما في قلبِها، فتركتْ يدَهُ برفقٍ والتفتتْ لتواجهَهُ: "كانت إجابتها تحمل عمقًا فلسفيًا، وكأنها أبياتٌ من قصيدةٍ لم تُكتب بعد:"
الحُبُّ لَيْسَ قَصِيدَةً غَزَلِيَّةً
تَنْثَالُ عَبْرَ مَشَاعِرِ الشُّعَرَاءِ
الحُبُّ لَيْسَ عِبَارَةً مَمْهُورَةً
بِالْعِشْقِ لِلْمَحْبُوبِ كَالْأَصْدَاءِ
الحُبُّ إِحْسَاسٌ جَمِيلٌ صَادِقٌ
يَسْرِي مَعَ الْأَنْفَاسِ كَالْأَحْيَاءِ
أَطْرَقْتُ هُنَيْهَةً!: ثُمَّ قُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ يَزْحَفُ فِي مَسَامَاتِ أَوْرِدَتِي مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، لَكِنَّهُ كَمَا يَزْحَفُ الرَّضِيعُ نَحْوَ الكِبَرِ! فَدُونَهُ أَوْدِيَةٌ وَمَفَاوِزُ يَقْطَعُهَا؛ كَيْ يَبْلُغَ الشَّبَابَ أَجَلَهُ، وَقَدْ أَرَّقَنِي كَمَا أَرَّقَكِ وَشَغَلَ بَالِي كَمَا شَغَلَ بَالَكِ، لَكِنِّي أُطَمْئِنُكِ بِأَنَّهُ فِي البَالِ وَأَنِّي أَبْحَثُ السُّبُلَ الَّتِي يَتَوَسَّعُ دَخْلُنَا فِي سَبْرِهَا، وَيَتَحَسَّنُ حَالُنَا بَعْدَ خَوْضِهَا، وَإِنْ أَعْيَتْنِي الحِيلَةُ، فَلَا يَأْسَ وَلَا قُنُوطَ مَعَ الإِصْرَارِ، وَلَعَلِّي عَنْ قَرِيبٍ أَصِلُ.
وَأَخَذْتُ بِأَطْرَافِ ثَوْبِهَا بِلُطْفٍ وَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى يَدِهَا بِرِفْقٍ وَحَنَانٍ أَفْصِحِي يَا قُرَّةَ العَيْنِ وَنُورَ البَصَرِ فَكُلِّي آذَانٌ صَاغِيَةٌ.
آه!! يَا حَامِدُ: كَمْ تُحَدِّثُنِي جَارَتِي عَنْ رِحْلَاتِهَا المُتَكَرِّرَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَأَوْلَادِهَا وَعَنْ نَفَقَاتِهَا الفَارِهَةِ، وَمُقْتَنَيَاتِهَا مِنَ المَتَاعِ، مَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرْوِيَهُ وَلَا أَصِفَهُ لَكَ، مِنْ كَثْرَتِهِ، حَتَّى يُدَاهِمُنِي الضِّيقُ مِمَّا تَقُولُ، فَكَأَنَّهَا تُعَرِّضُ بِنَا لِضِيقِ اليَدِ، وَلَا أَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ أَشْرِعَتِي مِثْلَ أَشْرِعَتِهَا وَلَا مَرْكَبِي مِثْلَ مَرْكَبِهَا، فَكُلٌّ حَسَبَ سَعَتِهِ، لَكِنِّي أَتَمَنَّى الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ الَّتِي لَا نَحْتَاجُ مَعَهَا لِأَحَدٍ، أَقْصِدُ مَا يَفِي بِالغَرَضِ المَأْمُولِ، دُونَ إِسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ.
سأذكر لك حكاية تذكرتُ الآن، يا أسماء، حكايةً سمعتُها عن رجلٍ فقيرٍ كانَ يعيشُ في قريةٍ ساحليةٍ صغيرة. كانَ صيّاداً بسيطاً، لا يملكُ من حطامِ الدنيا شيئاً سوى قاربٍ قديمٍ، وكانَ يعاني من ضيقِ الحالِ مثلي تماماً. في إحدى الليالي، بينما كانَ يرمي شباكَهُ في ظلامِ البحرِ، لمحَ وميضاً غريباً في الأفقِ البعيدِ. كانَ الوميضُ يلمعُ تارةً ويختفي تارةً أخرى، وكأنهُ نجمةٌ سقطتْ من السماءِ لتُشيرَ إلى شيءٍ ما. لم يتردد، وجدفَ بقاربهِ نحو الوميضِ حتى وصلَ إلى كهفٍ صخريٍّ على الشاطئ. وجدَ في داخلهِ صندوقاً صغيراً فارغاً، لكنَّ الوميضَ الذي كانَ يراهُ لم يكنْ سوى انعكاسِ نورِ القمرِ على قطعةِ زجاجٍ ملوَّنٍ كانتْ داخلَ الصندوقِ.
لم يجدْ الرجلُ كنوزاً، بل وجدَ شيئاً آخر. عادَ إلى بيتهِ واحتفظَ بقطعةِ الزجاجِ. بعدَ أشهرٍ، كانَ يجلسُ في بيتهِ المتواضعِ وهو يفكرُ في حلٍ لمشكلتهِ، فرأى ضوءَ القمرِ وهو ينعكسُ على قطعةِ الزجاجِ بطريقةٍ ساحرةٍ. تذكرَ أنَّ العديدَ من القواربِ تضيعُ في الضبابِ. فقامَ بتثبيتِ الفانوسِ الصغيرِ الذي كانَ يملكهُ خلفَ قطعةِ الزجاجِ، ووضعَهُ على أعلى نقطةٍ في منزلهِ. تحولَ منزلهُ الصغيرُ إلى منارةٍ تهتدي بها القواربُ التائهةُ. ومع الوقتِ، لم يعدْ الصيادُ فقيراً، فقدْ بدأَ الناسُ من قريتهِ والقرى المجاورةِ يُهدونَهُ السمكَ والمالَ عرفاناً منهم لجمالِ صنيعهِ الذي أنارَ لهم البحرَ في الليالي المظلمةِ. لم يبحثْ عن الكنزِ في الكهفِ، بل صنعَ كنزهُ الخاصَ الذي أنارَ لهُ حياتهُ وحياةَ غيرهِ".
وفي تلك اللحظة، مالَ حامدٌ على أسماءَ وهمسَ لها في أذنها بكلماتٍ شعريةٍ كأنها تُختصرُ بها كلُّ مشاعرِ الحبِّ والعزمِ، ثمَّ ألقى بيده على يدها وهو يقول:
قولي أحبُّكَ إنَّ الحبَّ يبعثُني
مِنَ الغيابِ ويُحيي الرُّوحَ والبدنَا
قولي أحبَّكَ لا بَخسًا ولا رهقًا
لأنَّ قولَكِ يَرفو جُرحَنا الهِتَنَا
قولي أحبُّكَ إنَّ القولَ يُفرِحُنا
ويَمسحُ الضَّيمَ والآهاتِ والإِحَنَا
فيضي بمكنون قلبي زنبقي وَطَني
كيما نعودُ إليهِ أو يعودُ لنا
قولي عَشِقتُكِ، سيري في مَنَاكِبِنا
كي يَستَظِلَّ فؤادي بالجَوَى زَمَنا
قولي بِصدقٍ، ولا تأسَي على زَمَنٍ
أدمى النفوسَ وما أبقى لنا وَطَنا
قولي أحبُّكَ إنَّ الرُّوحَ شاحِبَةٌ
تحتاجُ عَطفًا وتحنانًا وفيضَ مُنى
كي تَزهَرَ الرُّوحُ بوَحيٍ بالهوى، وخُذي
هذي الترانيمَ لا تُبقي لنا حَزَنَا
لا تَبخَلي بحديثِ القلبِ، إنَّ لهُ
سِحرًا يُضيءُ كقَطرِ النُّورِ إذ وسَنَا
بِالإِمْكَانِ تَحْقِيقُ كُلِّ طُمُوحِنَا يَا جَمِيلَتِي. فَكُونِي مُطْمَئِنَّةً!! سَنَبْدَأُ بِالتَّفْكِيرِ وَالعَمَلِ الجَادِّ لِلْوُصُولِ إِلَى تَحْسِينِ وَضْعِنَا مِنَ الغَدِ.
تَعْلَمِينَ أَنِّي وَأَخَوَاتِي وَرِثْنَا قِطْعَةَ أَرْضٍ، يُمْكِنُ بَيْعُهَا وَاسْتِثْمَارُ قِيمَتِهَا فِي مَشْرُوعٍ، خُصُوصًا وَقَدْ عَرَضَ عَلَيَّ صَدِيقِي مَاجِدٌ مَشْرُوعًا رَائِعًا يَدُرُّ رِبْحًا لَا بَأْسَ بِهِ، يَكُونُ العَمَلُ فِيهِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، لَقَدْ اسْتَحْسَنْتُهُ وَأَبْدَيْتُ تَحَمُّسِي لَهُ، لَكِنِّي لَمْ أُعْطِ نَفْسِي فُرْصَةً أُفَاتِحُ إِخْوَانِي بِبَيْعِ القِطْعَةِ مِنْ أَجْلِهِ.
أَمَّا الآنَ فَقَدْ قَوِيَتِ الفِكْرَةُ وَشُحِذَتِ الهِمَّةُ وَاسْتَبَانَ الطَّرِيقُ، وَعَزَمْتُ عَلَى المُضِيِّ وَهَذَا بِفَضْلِ اللهِ ثُمَّ بِفَضْلِ حَدِيثِكِ الرَّقْرَاقِ العَذْبِ الَّذِي يُذِيبُ الصُّخُورَ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ.
مِنَ الغَدِ إِنْ شَاءَ اللهُ سَأَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ وَأُحَاوِلُ إِقْنَاعَهُمْ بِشَأْنِهَا، وَبِنَصِيبِي سَأَشْتَرِي مَرْكَبَةَ النُّهُوضِ وَلَوْلَبَ الصُّعُودِ، وَبِمُقَابِلِ عَمَلِي، سَأَنْفُضُ الفَاقَةَ كَمَا يَنْفُضُ الحَدِيدُ صَدَاهُ إِذَا أُضْرِمَ، فَأَعِينِينِي بِقُوَّةٍ، فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ وَأَخْشَى أَلَّا تَلِينَ قَنَاتُهُمْ فَهُمْ كَمَا تَعْلَمِينَ يَعُدُّونَهَا رَأْسَ مَالِهِمْ، وَمِعْقَدَ آمَالِهِمْ وَبَوَّابَةَ الوُلُوجِ إِلَى طُمُوحَاتِهِمْ.
ارْتَسَمَتْ أَسَارِيرُ الفَرَحِ عَلَى جَبِينِهَا، وَانْثَالَتْ بَسْمَةُ الرِّضَا مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهَا كَمَا يَنْثَالُ الغَيْثُ عِنْدَ ابْتِسَامِ الأُفُقِ الَّذِي خَلْخَلَ البَرْقُ غَيْمَاتِهِ حَالَ تَلَبُّدِهِ بِهِ.
ثُمَّ اسْتَدَارَتْ اسْتِدَارَةَ المُنْتَصِرِ مِنْ غَيْرِ زَهْوٍ وَأَخَذَتْ قُبْلَةً مِنْ فَمِهَا بِأَطْرَافِ بَنَانِهَا وَأَلْقَتْ بِهَا إِلَيَّ، فَتَلَقَّفْتُهَا مُدَاعِبًا كَأَنَّمَا هِيَ قِطْعَةُ ذَهَبٍ يَجِبُ احْتِضَانُهَا، وَرَدَدْتُ بِمِثْلِهَا.
وَحَانَ مَوْعِدُ الخُلُودِ إِلَى النَّوْمِ، فَأَوَيْنَا وَالسَّعَادَةُ تَغْمُرُنَا، وَالحَنِينُ يَحُثُّ خُطَى عَقَارِبِ السَّاعَةِ مُسْتَعْجِلًا؛ كَيْ يَأْتِيَ الغَدُ؛ لِنَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ اللهُ لَنَا فِيهِ،