أحمد فؤاد صوفي
05-10-2025, 09:02 PM
*قِصَّةُ فَاطِمَة*
اِسْتَيْقَظَتْ فَاطِمَةُ بَاكِراً قَبْلَ مَوْعِدَهَا المُعْتَاد، فاليَومُ هوَ يَوْمُ عُطْلَة، وهُوَ لَيْسَ يَوْماً عَادِيَّاً
، فَقَدْ وَعَدَهَا وَالِدُهَا بِجَوْلَةٍ مُطَوَّلَةٍ وَسَطَ العَاصِمَة، لِتَشْتَرِيَ مَا تُرِيد، وتَتَفَرَّجَ على مَعَالِمِ المُجَمَّعَاتِ التِجَارِيَّةِ، ومَرْكَزِ الألعَابِ الجَدِيْد، فبَعْدَ عَشرَةِ أيَّامٍ سَوْفَ يَحِلُّ عيدُ ميلادِهَا الثَّاني عَشَر، وقد خَطَّطَتْ أنْ تَدْعُو جَمِيعَ أَصْحَابِهَا وأَقْرِبَائِهَا، وتَحْتَفِلَ مَعَهُمْ في أَكْبَرَ قَاعَةٍ لِلْاحْتِفَالاتِ في المَدِينَة، لِتَكُونَ لَيْلَةً مَشْهُودَةً مَلِيئَةً بِالْفَرَح، يُوَزَّعُ فيهَا كَثِيرٌ مِن الهَدَايَا.
فَاطِمَةُ هِيَ الأَصْغَرُ بَيْنَ إِخْوَتِهَا الذُّكُور، عَلَاقَتُهَا بِوَالِدِهَا عَلَاقَةٌ قَوِيَّة، فَهُوَ سَنَدُهَا ودَاعِمُهَا الدَّائِم، يَبْحَثُ دَوْمَاً عَمَّا يُرْضِيهَا، وفي نَفْسِ الوَقْت، فَقَدْ تَعَاوَنَ مَعَ وَالِدَتِهَا، في تَنْشِئَتِهَا مع إِخْوَتِهَا تَنْشِئَةٍ صَالِحَةٍ، مَبْنِيَّةٍ على المَحَبَّةِ والثِقَةِ المُتَبَادَلَة.
تعيش فَاطِمَةُ مَعَ عَائِلَتِهَا في فِيلَّا وَاسِعَةٍ فَخْمَة، فيها عَدَدٌ كَبيرٌ من الغُرَفِ وصَالَاتِ الاسْتِقْبَال، كَمَا يُوجَدُ فِيْهَا مَكَانٌ فَسِيحٌ لِسَيَّارَاتِ العَائِلَةِ والضُّيُوف، فَوَالِدُهَا هُوَ مِنْ أَغْنِيَاءِ البَلَد، يَمْتَلِكُ عَدَداً مِنَ الشَّرِكَاتِ النَّاجِحَةِ، ويَمْتَلِكُ مَعَهَا سمْعَةً عَالِيَةً بينَ أقْرَانِه.
اِسْتَيْقَظَ الوَالِدُ وتَحَرَّكَ صَوْبَ غُرْفَةِ اِبْنَتِهِ لِيُوقِظَهَا، ولَكِنَّهَ تَفَاجَأَ أَنَّهَا قَدْ اِسْتَيْقَظَتْ مُبَكَّرَاً وجَهَزَّتْ نَفْسَهَا، وهِيَ تَنْتَظِرُهُ في صَالَةِ الدَّوْرِ الأَرْضِي، قُرْبَ بَابِ الخُرُوج.
تَحَرَّكَتِ السَّيَّارَةُ مُتَّجِهَةً إلى المَرْكَزِ التِّجَارِي وَسَطَ المَدِينَة، وبِالسِّرْعَةِ المُتَوَسِّطَة، فَالمَسَافَةُ تَحْتَاجُ إلى حَوَالي الأَرْبَعِينَ دَقِيقَة للوُصُول، فالفِيلَّا تَقَعُ في الْحَيِّ الفَخْمِ في أَطْرَافِ المَدِينَة الكَبِيرَة، والطَّريقُ إِلَى المَدِينَة يَخْتَرِقُ ضَوَاحِيَ مُتَعَدِّدَةً، وكَانَتْ فَاطِمَةُ تَتَفَرَّجُ وتُرَاقِبُ الأَشْجَارَ والفِيلَّات التِي تَمُرُّ مِنْ أَمَامِهِمْ، ولَكِنَّهُمْ مَرُّوا فَجْأَةً على مِنْطَقَةٍ لا تُشَابِهُ المَنَاطِقَ الْأُخْرَى، تَكَادُ أَبْنِيَتُهَا أَنْ تَقَعَ لِمَدَى قِدَمِهَا، وعَدَمِ صِيَانَتِهَا، تَفَاجَأَتْ فَاطِمَةُ مِنَ الْمَنْظَر، فَهِيَ لَمْ تَتَعَوَّدْ إِلَّا عَلى حَيَاةِ الْأَغْنِيَاء، ولَمْ تَتَخَيَّلْ حَيَاةً أُخْرَى لِلْفُقَرَاء، بِمَا لَا يَتَشَابَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَعَوَّدَتْ أَنْ تَرَاه.
*أَبِي .. مَا هَذَا الْمَكَان...!
*اَلْحَقِيقَةُ يَا ابْنَتِي.. هَذَا حَيُّ الْفُقَرَاء، وذَوِي الدَّخْلِ الْمُنْخَفِض...!
*وَالِدِي.. أَرْجُوك.. أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَنِي هُنَاك، أُرِيدُ أَنْ أَتَعَرَّفَ عَلَى هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ عَنْ قُرْب، أَرْجُوك، لَا تَرْفُضْ طَلَبِي.
*اِبْنَتِي.. هَلْ أَنْتِ جَادَّةٌ فِعْلاً، تَنْسينَ كُلَّ تَجْهيزاتِ عيدِ مِيلَادِك، وتَعُودِينَ لِحَيِّ الفُقَرَاء...!
*نَعَمْ أَبِي ... لَقَدْ قَرَأتُ عَنِ الفُقَرَاءِ في الْمَدْرَسَة، ولَكِنَّنِي لَمْ أَرَهُمْ يَوْمَاً، ولَمْ أٌشَاهِدْ مَسَاكِنَهُمْ مِنْ قَبْلُ أَبَدَاً.
اِسْتَغْرَبَ الوَالِدُ مِنْ طَلَبِ ابنَتِه، ولَكِنَّهُ حَوَّلَ طَرِيقَه صَوْبَ حَيِّ الفُقَرَاء، ذَلِكَ الحَيُّ الكَبِيرُ مُتَعَدِّد الطُرُقِ والأَزِقَّة، الْذِي يَتَّصِفُ بِازْدحام البشر، ولا يَتَّصِفُ بِالنَّظَافَةِ أَبَدَاً، فَالنَّاسُ هُنَاكَ هَمُّهُمُ أن يَجِدُوا مَا يَسُدُّوا بِهِ جُوعَهُمْ أوَلَّاً بِأَوَّل، وَانْشِغَالُهُمْ يَمْنَعُهُمْ عَنْ أَيِّ تَفْكِيرٍ آخَر.
ودَلَفَتْ السَّيَّارَةُ إلى مَنْطِقَةِ الحَيِّ الفَقِير، وصَارَ الْمَارَّةُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسْتَغْرِبين، فَلَيْسَ من الْمُعْتَادِ أن يَرَوْا في مِنْطَقَتِهِمْ سَيَّارَاتٍ بِتِلْكَ الْفَخَامَة.
تَوَقَّفَ الْوَالِدُ عِنْدَ مَقْهَىً شَعْبَيٍّ بَسِيْط، اِزْدَانَتْ وَاجِهَتُهُ بِحَبْلٍ مِنَ الْأَشْرِطَةِ الْمُلَوَّنَة، ويَقَعُ قُرْبَهُ مَحَلُّ الْحَّلَاق، ثُمَّ الْبَقَّالُ، ثُمَّ مَطْعَمٌ كَبِير، ومِنْ خَلْف هَذَا الْمَنْظَرِ تَتَكَدَّسُ مَنَازِلُ السَّكَن، التِي لَيْسَ لَهَا لَوْنٌ سِوَى لَوْنُ الْاِسْمَنْت، ويَخْرُجُ مِنْ شُقُوقِهَا جُذُورُ نَبَاتَاتٍ وأَغْصَان، وأَغْلَبُ الْبُيُوتِ تَتَكَوَّنُ مِنْ دَوْرٍ وَاحِدٍ وأَرْضِ دَار، والْقَلِيلُ مِنْهَا لَهُ دَوْرٌ عُلْوَي.
جَلَسَ الْوَالِدُ وابْنَتُهُ إلى طَاوِلَةٍ خَارِجِيَّةٍ في الْمَقْهَى الشَّعْبِي، وَاسْتَدْعَى الْوَالِدُ صَاحِبَ الْمَقْهَى لِيَجْلِسَ مَعَهُم.
*اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ .. تُرِيدُ اِبْنَتِي أَنْ تَسْتَفْسِرَ مِنْكَ عَنْ مِنْطَقَتِكُم، وتَتَعَرَّفَ عَلَيْهَا أَكْثَر...!
*أَهْلَاً وسَهْلَاً، اِسْأَلِي يَا ابْنِتِي مَا تَشَائِين.
اِسْتَغْرَقَ السُّؤَالُ والْجَوَابُ مَا يُقَارِبُ السَّاعَةَ الْكَامِلَة، وطَلَبَتْ فَاطِمَةُ مِنْ وَالِدِهَا أَنْ يَعُودَا إلى الْمَنْزِل.
*وحَفْلَةُ عِيدِ مِيْلَادِك، مَاذَا سَتَفْعَلِينَ بِهَا...!
*كَلَّا يَا وَالِدِي، لَا أُرِيدُ حَفْلَةً لِعِيدِ مِيلَادي، ولا أَحْتَاجُ أَنْ أَشْتَرِي أَيَّ شَيْءٍ جَدِيد.
*إِذَنْ، مَاذَا تُرِيْدِيْن...!
*وَالِدِي، تَكَالِيفُ عِيدِ الْمِيْلَادِ سَتَكُونُ تَكَالِيفَ عَالِيَة، أُرِيْدُ أن أَسْتَعْمِلَ نَفْسَ الْمَبْلَغ، وأُجَهِّزُ به سِلَالاً غِذَائِيَّة، أُوَزِّعُهَا بِنَفْسِي فِي هَذِهِ الْبُيُوت، هَلْ تُسَاعِدُنِي فِي ذَلِك!
ولَمْ يَسْتَطِعِ الْوَالِدُ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَلَى هَذِه الْبَادِرَةِ الْمٌشْرِقَة، وجَلَسَتْ فَاطِمَةُ فِي الْبَيْتِ مَعَ وَالِدَتِهَا، تَسْتَشِيرُهَا فِيمَا تَفْعَلُه، وكَانَ أُخْوَتُهَا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَهَا، يَسْتَمِعُونَ بِإِعْجَابٍ وَاسْتِغْرَابٍ إلى خِطَّةِ شَقِيقَتِهِمُ الصُّغْرَى، وبِسِرْعَةٍ وحَمَاسٍ تَمَّ الْاِتِّفَاقُ على الْتَفَاصِيل، وأَبْدَى الأُخْوَةُ اسْتِعْدَادَهُمْ لِلْمُشَارَكَة، وتَوْزِيعِ السِّلَالِ مَعَ شَقِيقَتِهِمْ عَلَى الْبُيُوت، وَقَامَ الْوَالِدُ بِالاتِّفَاقِ مَعَ سَيَّارَةِ نَقْلٍ لَيَحْمِلُوا عَلَيْهَا السِّلَالَ الْغِذَائِيَّةِ الْكَثِيرَة.
تَمَّ الْأَمْرُ بِسُهُولَةٍ ويُسْر، وتَمَّ تَوْزِيعُ مَا يُقَارِبُ الْمَائَتَيْ سَلَّةٍ غِذَائِيَّةٍ، تَحْوِي كُلٌّ مِنْهَا الْأَرُزَّ وَالسُّكَّرَ وَالزَّيْتَ وَالشَّايَ ولَوَازِمَ أُخْرَى كَثِيرَةً، ولَمْ يُقَصِّرْ أَحَدٌ مِنَ الْعَائِلَةِ فِي حَمْلِ السِّلَالِ وطَرْقِ الْأَبْوَاب، وتَسْلِيمِ كُلِّ سَلَّةٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وفُوجِئَتِ الْعَائِلَاتُ بِالْأَمْر، ولَكِنَّهُمْ كَانُوا مُمْتَنِّينَ وَسُعَدَاءَ لِهَذِهِ الْمُبَادَرَةِ الْكَرِيْمَة.
عَادَتِ الْعَائِلَةُ إلى الْمَنْزِل، وهُمْ يَشْعُرُونَ بِإِرْهَاقٍ شَدِيد، يُحِيطُ بِهِ سَعَادَةٌ غَامِرَة، وأَسْرَعَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى غُرْفَتِهِ لَأَخْذِ قِسْطٍ مِنَ الرَّاحَة.
في مَسَاءِ الْيَوْمِ نَفْسِه، فُوجِئَتِ الْعَائِلَةُ على وَسَائِلِ الْتَوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِي المُخْتَلَفَة، بِعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْتَقَارِيرِ الَّتِي تَنْقُلُ تَفَاصِيلَ زِيَارَتِهِمْ لِلْعَائِلَاتِ الْفَقِيرَة، وكَيْفَ كَانُوا يُوَزِّعُونَ السِّلَالَ الْغِذَائِيَّة، وَلِأَنَّهُمْ حِيْنَهَا كَانُوا مَشْغُولِيْنَ بِعَمَلِهِمْ لِلْغَايَة، فَلَمْ يَتَنَبَّهُوا إِلَى أَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ، يَقُومُ بِتَصْوِيرِهِم، وَيَجْرِي خَلْفَهُمْ مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْت، وَزَادَ اسْتِغْرَابُهُمْ مِنْ عَدَدِ زُوَّارِ الْمَوَاقِع، وعَدَدِ الْتَهَانِي والْتَعْلِيقَاتِ الْهَائِل، الَّذِي تَجَاوَزَ عَشَرَاتِ الآلافِ فِي سَاعَاتٍ قَلِيْلَة.
اِنْتَشَرَتْ أَخْبَارُ الْعَائِلَةِ وَأَصْبَحَتْ عَلَى كُلِّ لِسَان، وَتَنَاقَلَتْ وَسَائِلُ الْتَوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِي تَفَاصِيلَ مَا حَصَل، وَبَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَة، اِشْتُهِرَ اِسْمُ فَاطِمَةُ الَّتِي صَارَتْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ الْفَتَيَاتِ فِي سِنِّهَا.
وبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَة، وعِنْدَ دُخُولِ فَاطِمَةُ بَابَ مَدْرَسَتِهَا، فُوجِئَتْ بِالتِّرْحَابِ وَالتَّصْفِيقِ مِنَ الْهَيْئَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ ومِنْ جَمِيعِ الْطَالِبَات، وفُوجِئَتْ بِوُجُودِ مَنْدُوبٍ مِنَ الْوَزَارَةِ جَاءَ خِصِّيْصَاً لِيُشَارِكَ الْمَدْرَسَةَ فِيْ تَكْرِيمِ طَالِبَتِهِمُ الْمُمَيَّزَة، الّتِي تَنَاسَتْ نَفْسَهَا، وتَنَاسَتْ عِيدَ مِيلَادِهَا، وَاهْتَمَّتْ بِفُقَرَاءِ بَلَدِهَا.
كَانَ شُعُورُ الْمَحَبَّةِ طَاغِيَاً، وَبَعْدَ كَلِمَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ مُدِيْرَةِ الْمَدْرَسَة، قَامَ مَنْدُوبُ الْوَزَارَةِ بِتَسْلِيمِ فَاطِمَةَ دِرْعَ الشَّرَف، اِعْتِرَافَاً مِنَ الْجَمِيعِ بِفَضْلِهَا وَبِأَهَمِيِّةِ مَا قَامَتْ بِه، وقَدْ تَمَّ تَصْوِيرُ الْحَدَث، وعُرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ عَلَى الْتِلْفَاز.
الَّلهُمَّ، سَاعِدْنَا أَنْ نَرَى الْخَيْرَ فَنَتَّبِعُه، وأَنْ نَعْلَمَ الْشَرَّ فَنَجْتَنِبُه، أَنْتَ كَفِيلُنَا فِي الدُّنْيَا والْآخِرَة، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك.
------------------
اِسْتَيْقَظَتْ فَاطِمَةُ بَاكِراً قَبْلَ مَوْعِدَهَا المُعْتَاد، فاليَومُ هوَ يَوْمُ عُطْلَة، وهُوَ لَيْسَ يَوْماً عَادِيَّاً
، فَقَدْ وَعَدَهَا وَالِدُهَا بِجَوْلَةٍ مُطَوَّلَةٍ وَسَطَ العَاصِمَة، لِتَشْتَرِيَ مَا تُرِيد، وتَتَفَرَّجَ على مَعَالِمِ المُجَمَّعَاتِ التِجَارِيَّةِ، ومَرْكَزِ الألعَابِ الجَدِيْد، فبَعْدَ عَشرَةِ أيَّامٍ سَوْفَ يَحِلُّ عيدُ ميلادِهَا الثَّاني عَشَر، وقد خَطَّطَتْ أنْ تَدْعُو جَمِيعَ أَصْحَابِهَا وأَقْرِبَائِهَا، وتَحْتَفِلَ مَعَهُمْ في أَكْبَرَ قَاعَةٍ لِلْاحْتِفَالاتِ في المَدِينَة، لِتَكُونَ لَيْلَةً مَشْهُودَةً مَلِيئَةً بِالْفَرَح، يُوَزَّعُ فيهَا كَثِيرٌ مِن الهَدَايَا.
فَاطِمَةُ هِيَ الأَصْغَرُ بَيْنَ إِخْوَتِهَا الذُّكُور، عَلَاقَتُهَا بِوَالِدِهَا عَلَاقَةٌ قَوِيَّة، فَهُوَ سَنَدُهَا ودَاعِمُهَا الدَّائِم، يَبْحَثُ دَوْمَاً عَمَّا يُرْضِيهَا، وفي نَفْسِ الوَقْت، فَقَدْ تَعَاوَنَ مَعَ وَالِدَتِهَا، في تَنْشِئَتِهَا مع إِخْوَتِهَا تَنْشِئَةٍ صَالِحَةٍ، مَبْنِيَّةٍ على المَحَبَّةِ والثِقَةِ المُتَبَادَلَة.
تعيش فَاطِمَةُ مَعَ عَائِلَتِهَا في فِيلَّا وَاسِعَةٍ فَخْمَة، فيها عَدَدٌ كَبيرٌ من الغُرَفِ وصَالَاتِ الاسْتِقْبَال، كَمَا يُوجَدُ فِيْهَا مَكَانٌ فَسِيحٌ لِسَيَّارَاتِ العَائِلَةِ والضُّيُوف، فَوَالِدُهَا هُوَ مِنْ أَغْنِيَاءِ البَلَد، يَمْتَلِكُ عَدَداً مِنَ الشَّرِكَاتِ النَّاجِحَةِ، ويَمْتَلِكُ مَعَهَا سمْعَةً عَالِيَةً بينَ أقْرَانِه.
اِسْتَيْقَظَ الوَالِدُ وتَحَرَّكَ صَوْبَ غُرْفَةِ اِبْنَتِهِ لِيُوقِظَهَا، ولَكِنَّهَ تَفَاجَأَ أَنَّهَا قَدْ اِسْتَيْقَظَتْ مُبَكَّرَاً وجَهَزَّتْ نَفْسَهَا، وهِيَ تَنْتَظِرُهُ في صَالَةِ الدَّوْرِ الأَرْضِي، قُرْبَ بَابِ الخُرُوج.
تَحَرَّكَتِ السَّيَّارَةُ مُتَّجِهَةً إلى المَرْكَزِ التِّجَارِي وَسَطَ المَدِينَة، وبِالسِّرْعَةِ المُتَوَسِّطَة، فَالمَسَافَةُ تَحْتَاجُ إلى حَوَالي الأَرْبَعِينَ دَقِيقَة للوُصُول، فالفِيلَّا تَقَعُ في الْحَيِّ الفَخْمِ في أَطْرَافِ المَدِينَة الكَبِيرَة، والطَّريقُ إِلَى المَدِينَة يَخْتَرِقُ ضَوَاحِيَ مُتَعَدِّدَةً، وكَانَتْ فَاطِمَةُ تَتَفَرَّجُ وتُرَاقِبُ الأَشْجَارَ والفِيلَّات التِي تَمُرُّ مِنْ أَمَامِهِمْ، ولَكِنَّهُمْ مَرُّوا فَجْأَةً على مِنْطَقَةٍ لا تُشَابِهُ المَنَاطِقَ الْأُخْرَى، تَكَادُ أَبْنِيَتُهَا أَنْ تَقَعَ لِمَدَى قِدَمِهَا، وعَدَمِ صِيَانَتِهَا، تَفَاجَأَتْ فَاطِمَةُ مِنَ الْمَنْظَر، فَهِيَ لَمْ تَتَعَوَّدْ إِلَّا عَلى حَيَاةِ الْأَغْنِيَاء، ولَمْ تَتَخَيَّلْ حَيَاةً أُخْرَى لِلْفُقَرَاء، بِمَا لَا يَتَشَابَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَعَوَّدَتْ أَنْ تَرَاه.
*أَبِي .. مَا هَذَا الْمَكَان...!
*اَلْحَقِيقَةُ يَا ابْنَتِي.. هَذَا حَيُّ الْفُقَرَاء، وذَوِي الدَّخْلِ الْمُنْخَفِض...!
*وَالِدِي.. أَرْجُوك.. أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَنِي هُنَاك، أُرِيدُ أَنْ أَتَعَرَّفَ عَلَى هَذِهِ الْمِنْطَقَةِ عَنْ قُرْب، أَرْجُوك، لَا تَرْفُضْ طَلَبِي.
*اِبْنَتِي.. هَلْ أَنْتِ جَادَّةٌ فِعْلاً، تَنْسينَ كُلَّ تَجْهيزاتِ عيدِ مِيلَادِك، وتَعُودِينَ لِحَيِّ الفُقَرَاء...!
*نَعَمْ أَبِي ... لَقَدْ قَرَأتُ عَنِ الفُقَرَاءِ في الْمَدْرَسَة، ولَكِنَّنِي لَمْ أَرَهُمْ يَوْمَاً، ولَمْ أٌشَاهِدْ مَسَاكِنَهُمْ مِنْ قَبْلُ أَبَدَاً.
اِسْتَغْرَبَ الوَالِدُ مِنْ طَلَبِ ابنَتِه، ولَكِنَّهُ حَوَّلَ طَرِيقَه صَوْبَ حَيِّ الفُقَرَاء، ذَلِكَ الحَيُّ الكَبِيرُ مُتَعَدِّد الطُرُقِ والأَزِقَّة، الْذِي يَتَّصِفُ بِازْدحام البشر، ولا يَتَّصِفُ بِالنَّظَافَةِ أَبَدَاً، فَالنَّاسُ هُنَاكَ هَمُّهُمُ أن يَجِدُوا مَا يَسُدُّوا بِهِ جُوعَهُمْ أوَلَّاً بِأَوَّل، وَانْشِغَالُهُمْ يَمْنَعُهُمْ عَنْ أَيِّ تَفْكِيرٍ آخَر.
ودَلَفَتْ السَّيَّارَةُ إلى مَنْطِقَةِ الحَيِّ الفَقِير، وصَارَ الْمَارَّةُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا مُسْتَغْرِبين، فَلَيْسَ من الْمُعْتَادِ أن يَرَوْا في مِنْطَقَتِهِمْ سَيَّارَاتٍ بِتِلْكَ الْفَخَامَة.
تَوَقَّفَ الْوَالِدُ عِنْدَ مَقْهَىً شَعْبَيٍّ بَسِيْط، اِزْدَانَتْ وَاجِهَتُهُ بِحَبْلٍ مِنَ الْأَشْرِطَةِ الْمُلَوَّنَة، ويَقَعُ قُرْبَهُ مَحَلُّ الْحَّلَاق، ثُمَّ الْبَقَّالُ، ثُمَّ مَطْعَمٌ كَبِير، ومِنْ خَلْف هَذَا الْمَنْظَرِ تَتَكَدَّسُ مَنَازِلُ السَّكَن، التِي لَيْسَ لَهَا لَوْنٌ سِوَى لَوْنُ الْاِسْمَنْت، ويَخْرُجُ مِنْ شُقُوقِهَا جُذُورُ نَبَاتَاتٍ وأَغْصَان، وأَغْلَبُ الْبُيُوتِ تَتَكَوَّنُ مِنْ دَوْرٍ وَاحِدٍ وأَرْضِ دَار، والْقَلِيلُ مِنْهَا لَهُ دَوْرٌ عُلْوَي.
جَلَسَ الْوَالِدُ وابْنَتُهُ إلى طَاوِلَةٍ خَارِجِيَّةٍ في الْمَقْهَى الشَّعْبِي، وَاسْتَدْعَى الْوَالِدُ صَاحِبَ الْمَقْهَى لِيَجْلِسَ مَعَهُم.
*اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ .. تُرِيدُ اِبْنَتِي أَنْ تَسْتَفْسِرَ مِنْكَ عَنْ مِنْطَقَتِكُم، وتَتَعَرَّفَ عَلَيْهَا أَكْثَر...!
*أَهْلَاً وسَهْلَاً، اِسْأَلِي يَا ابْنِتِي مَا تَشَائِين.
اِسْتَغْرَقَ السُّؤَالُ والْجَوَابُ مَا يُقَارِبُ السَّاعَةَ الْكَامِلَة، وطَلَبَتْ فَاطِمَةُ مِنْ وَالِدِهَا أَنْ يَعُودَا إلى الْمَنْزِل.
*وحَفْلَةُ عِيدِ مِيْلَادِك، مَاذَا سَتَفْعَلِينَ بِهَا...!
*كَلَّا يَا وَالِدِي، لَا أُرِيدُ حَفْلَةً لِعِيدِ مِيلَادي، ولا أَحْتَاجُ أَنْ أَشْتَرِي أَيَّ شَيْءٍ جَدِيد.
*إِذَنْ، مَاذَا تُرِيْدِيْن...!
*وَالِدِي، تَكَالِيفُ عِيدِ الْمِيْلَادِ سَتَكُونُ تَكَالِيفَ عَالِيَة، أُرِيْدُ أن أَسْتَعْمِلَ نَفْسَ الْمَبْلَغ، وأُجَهِّزُ به سِلَالاً غِذَائِيَّة، أُوَزِّعُهَا بِنَفْسِي فِي هَذِهِ الْبُيُوت، هَلْ تُسَاعِدُنِي فِي ذَلِك!
ولَمْ يَسْتَطِعِ الْوَالِدُ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَلَى هَذِه الْبَادِرَةِ الْمٌشْرِقَة، وجَلَسَتْ فَاطِمَةُ فِي الْبَيْتِ مَعَ وَالِدَتِهَا، تَسْتَشِيرُهَا فِيمَا تَفْعَلُه، وكَانَ أُخْوَتُهَا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَهَا، يَسْتَمِعُونَ بِإِعْجَابٍ وَاسْتِغْرَابٍ إلى خِطَّةِ شَقِيقَتِهِمُ الصُّغْرَى، وبِسِرْعَةٍ وحَمَاسٍ تَمَّ الْاِتِّفَاقُ على الْتَفَاصِيل، وأَبْدَى الأُخْوَةُ اسْتِعْدَادَهُمْ لِلْمُشَارَكَة، وتَوْزِيعِ السِّلَالِ مَعَ شَقِيقَتِهِمْ عَلَى الْبُيُوت، وَقَامَ الْوَالِدُ بِالاتِّفَاقِ مَعَ سَيَّارَةِ نَقْلٍ لَيَحْمِلُوا عَلَيْهَا السِّلَالَ الْغِذَائِيَّةِ الْكَثِيرَة.
تَمَّ الْأَمْرُ بِسُهُولَةٍ ويُسْر، وتَمَّ تَوْزِيعُ مَا يُقَارِبُ الْمَائَتَيْ سَلَّةٍ غِذَائِيَّةٍ، تَحْوِي كُلٌّ مِنْهَا الْأَرُزَّ وَالسُّكَّرَ وَالزَّيْتَ وَالشَّايَ ولَوَازِمَ أُخْرَى كَثِيرَةً، ولَمْ يُقَصِّرْ أَحَدٌ مِنَ الْعَائِلَةِ فِي حَمْلِ السِّلَالِ وطَرْقِ الْأَبْوَاب، وتَسْلِيمِ كُلِّ سَلَّةٍ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وفُوجِئَتِ الْعَائِلَاتُ بِالْأَمْر، ولَكِنَّهُمْ كَانُوا مُمْتَنِّينَ وَسُعَدَاءَ لِهَذِهِ الْمُبَادَرَةِ الْكَرِيْمَة.
عَادَتِ الْعَائِلَةُ إلى الْمَنْزِل، وهُمْ يَشْعُرُونَ بِإِرْهَاقٍ شَدِيد، يُحِيطُ بِهِ سَعَادَةٌ غَامِرَة، وأَسْرَعَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى غُرْفَتِهِ لَأَخْذِ قِسْطٍ مِنَ الرَّاحَة.
في مَسَاءِ الْيَوْمِ نَفْسِه، فُوجِئَتِ الْعَائِلَةُ على وَسَائِلِ الْتَوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِي المُخْتَلَفَة، بِعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْتَقَارِيرِ الَّتِي تَنْقُلُ تَفَاصِيلَ زِيَارَتِهِمْ لِلْعَائِلَاتِ الْفَقِيرَة، وكَيْفَ كَانُوا يُوَزِّعُونَ السِّلَالَ الْغِذَائِيَّة، وَلِأَنَّهُمْ حِيْنَهَا كَانُوا مَشْغُولِيْنَ بِعَمَلِهِمْ لِلْغَايَة، فَلَمْ يَتَنَبَّهُوا إِلَى أَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ، يَقُومُ بِتَصْوِيرِهِم، وَيَجْرِي خَلْفَهُمْ مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْت، وَزَادَ اسْتِغْرَابُهُمْ مِنْ عَدَدِ زُوَّارِ الْمَوَاقِع، وعَدَدِ الْتَهَانِي والْتَعْلِيقَاتِ الْهَائِل، الَّذِي تَجَاوَزَ عَشَرَاتِ الآلافِ فِي سَاعَاتٍ قَلِيْلَة.
اِنْتَشَرَتْ أَخْبَارُ الْعَائِلَةِ وَأَصْبَحَتْ عَلَى كُلِّ لِسَان، وَتَنَاقَلَتْ وَسَائِلُ الْتَوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِي تَفَاصِيلَ مَا حَصَل، وَبَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَة، اِشْتُهِرَ اِسْمُ فَاطِمَةُ الَّتِي صَارَتْ قُدْوَةً لِجَمِيعِ الْفَتَيَاتِ فِي سِنِّهَا.
وبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَة، وعِنْدَ دُخُولِ فَاطِمَةُ بَابَ مَدْرَسَتِهَا، فُوجِئَتْ بِالتِّرْحَابِ وَالتَّصْفِيقِ مِنَ الْهَيْئَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ ومِنْ جَمِيعِ الْطَالِبَات، وفُوجِئَتْ بِوُجُودِ مَنْدُوبٍ مِنَ الْوَزَارَةِ جَاءَ خِصِّيْصَاً لِيُشَارِكَ الْمَدْرَسَةَ فِيْ تَكْرِيمِ طَالِبَتِهِمُ الْمُمَيَّزَة، الّتِي تَنَاسَتْ نَفْسَهَا، وتَنَاسَتْ عِيدَ مِيلَادِهَا، وَاهْتَمَّتْ بِفُقَرَاءِ بَلَدِهَا.
كَانَ شُعُورُ الْمَحَبَّةِ طَاغِيَاً، وَبَعْدَ كَلِمَةٍ قَصِيرَةٍ مِنْ مُدِيْرَةِ الْمَدْرَسَة، قَامَ مَنْدُوبُ الْوَزَارَةِ بِتَسْلِيمِ فَاطِمَةَ دِرْعَ الشَّرَف، اِعْتِرَافَاً مِنَ الْجَمِيعِ بِفَضْلِهَا وَبِأَهَمِيِّةِ مَا قَامَتْ بِه، وقَدْ تَمَّ تَصْوِيرُ الْحَدَث، وعُرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ عَلَى الْتِلْفَاز.
الَّلهُمَّ، سَاعِدْنَا أَنْ نَرَى الْخَيْرَ فَنَتَّبِعُه، وأَنْ نَعْلَمَ الْشَرَّ فَنَجْتَنِبُه، أَنْتَ كَفِيلُنَا فِي الدُّنْيَا والْآخِرَة، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك.
------------------