المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وقع الحسام



هائل سعيد الصرمي
05-10-2025, 09:34 PM
9-: الخَيْطُ الأَحْمَرُ
تَمَدَّدَ الليلُ كثوبٍ من حريرٍ أسودَ فوقَ جسدِ المدينةِ، ولم يكن هدوؤُهُ الساكنُ إلا وجهًا لصراعٍ خفيٍّ يتأرجحُ في أعماقِ الظلامِ. في مكتبِهِ، كان الضابطُ مروان يُحدقُ في شاشةِ حاسوبِهِ، وفي أعماقِ عينيهِ تلمعُ شرارةُ يقينٍ باردٍ. لقد تَلَقَّى رسالةً مُشَفَّرَةً جديدةً، وشعرَ بأنها قد تكونُ الخيطَ الذي يقودُهُ إلى نهايةِ الحقيقةِ.
كان سميرٌ يعرفُ أنَّ المنظمةَ تَمُدُّ يدَها إلى كلِّ شيءٍ، حتى مصادرِ الأخبارِ. لذلك، اتخذَ من عناوينِ المقالاتِ في الصحفِ اليوميةِ ملاذًا لرسائلِهِ. كان العنوانُ الجديدُ يُثيرُ الحيرةَ: "سُقوطُ الوَرْدَةِ الحمراءِ في ليلٍ حالكٍ".
توقفَ مروانُ وتأمَّلَ العبارةَ، كأنهُ يَفُكُّ رمزًا قديمًا. "الوَرْدَةُ الحمراءُ"... ألم يكنْ هذا اسمَ الشارعِ الذي وقعتْ فيهِ جريمةُ سُمَيَّةَ؟ وكان بيتُها يقعُ عليهِ. شعرَ مروانُ بخيطٍ شفافٍ يرتبطُ بينَ الجريمةِ واختفاءِ سميرٍ. لم يكنِ العنوانُ مُجردَ كلماتٍ، بل خريطةً مُشَفَّرَةً. أخذَ خريطةَ المدينةِ ووضعَ عدسةً مُكَبِّرَةً على الشارعِ. بحثَ عن أيِّ نقطةٍ غريبةٍ، حتى وجدَ مخزنًا قديمًا ومَهْجُورًا. لم يعرفْ لمن هو، ولم يكنْ متأكدًا من الأمرِ، لكنَّ حدسَهُ كان يدفعُهُ إلى الداخلِ.
قرَّرَ مروانُ أن يتحركَ بحذرٍ وسرِّيَّةٍ، فلم يستعنْ بأيِّ فريقٍ، خوفًا من أن يكونَ أحدُهم مُتعاونًا مع المنظمةِ. بمجردِ وصولِهِ، لاحظَ أنَّ قفلَ المخزنِ القديمِ مكسورٌ. دخلَ بهدوءٍ في الظلامِ الذي ابتلعَ المكانَ، وسارَ بينَ الصناديقِ القديمةِ. وصلَ إلى صندوقٍ صغيرٍ، لم يلتفتْ لما عليهِ من رموزٍ لمنظمةِ الوِدَادِ، بل كانت عيناهُ مُرَكَّزَتَيْنِ على محتواهُ. وعندما فتحَهُ، كانت المفاجأةُ مُدْوِيَةً: تقريرٌ طبيٌّ يحملُ اسمَ حُسامٍ، وإلى جانبِهِ مُذَكِّرَةٌ بخطِّ يدِهِ: "وصلتْ إليها الوَرْدَةُ الحمراءُ، وستسقطُ كلُّ الورودِ الأخرى". أدركَ مروانُ أنَّ الوباءَ لم يكنْ قدرًا، بل سلاحًا بشعًا. لقد كان حُسامٌ هو المصدرَ الأصليَّ للفيروسِ الذي انتقلَ بخيوطٍ خفيةٍ من ناهدٍ إلى سُمَيَّةَ، ثم من سُمَيَّةَ إلى صَفْوانَ، كسلسلةٍ منسوجةٍ بالدمِ والخيانةِ.
وبينما كان يُغادرُ المخزنَ، التقطتْ أذناهُ صوتًا خافتًا يأتي من أعماقِ المكانِ. كان صوتًا مليئًا باليأسِ. اتبعَهُ مروانُ بحذرٍ، ووصلَ إلى غرفةٍ صغيرةٍ مُختبئةٍ خلفَ الصناديقِ، وجدَ فيها سميرًا وفارسًا مُقَيَّدَيْنِ، وقد كان الجميعُ يعتقدُ أنهما هربا.
همسَ سميرٌ بصوتٍ مُرتعشٍ: "لا تقتربْ... إنهم قادمون." سمعَ مروانُ صوتَ خطواتٍ سريعةٍ تقتربُ. لم يكنْ لديهِ الوقتُ للهربِ، فاختبأَ بسرعةٍ خلفَ الصناديقِ القديمةِ. دخلَ رجلانِ مُلَثَّمَانِ إلى الغرفةِ، يحملانِ مسدَّسَيْنِ، ويتحدثانِ عن نقلِ سميرٍ وفارسٍ. شعرَ مروانُ أنَّ القَدَرَ يُديرُ لهُ ظهرَهُ.
في تلكَ اللحظةِ الحرجةِ، سقطتْ من جيبِ أحدِ الرجلينِ ورقةٌ صغيرةٌ. عندما انحنى لأخذِها، اندفعَ مروانُ من مخبئِهِ مُفَاجِئًا لهما. اندلعَ اشتباكٌ مُسَلَّحٌ، تمكَّنَ فيهِ مروانُ من إسقاطِ أحدِهما، بينما فَرَّ الآخرُ، تاركًا وراءَهُ دليلًا جديدًا.
في الفوضى، التقطَ مروانُ الورقةَ التي سقطتْ. كانت عبارةً عن قائمةِ أسماءٍ. كان الاسمُ الأولُ "الحاجُّ محمدٌ"، ثم "سُمَيَّةُ"، و"سميرٌ"، و"فارسٌ"، وبجانبِ كلِّ اسمٍ كانت كلمةٌ "يَسْقُطُ". لكنَّ الاسمَ الأخيرَ كان مختلفًا: "الضابطُ مروانُ"، وبجانبِهِ كلمةُ "يُنْهَى".
أدركَ مروانُ أنَّهُ لم يَعُدْ مُحَقِّقًا، بل هدفًا.
بعدَ أن أنقذَ الضابطُ مروانُ سميرًا وفارسًا وغادرَ المكانَ، لم يَعُدِ الخطرُ مُجردَ شُبهةٍ. القائمةُ التي وجدَها كانت دليلًا قاطعًا على أنَّهُ أصبحَ هو نفسُهُ هدفًا للمنظمةِ. وبينما كانت سيارةُ الإسعافِ تنقلُ سميرًا وفارسًا إلى المستشفى، كان مروانُ يُركِّزُ على الكلمةِ الأخيرةِ في القائمةِ: "يُنْهَى".
وفي المستشفى، كشفَ التاجرُ سميرٌ لمروانَ سرَّ علاقتهِ بفارسٍ، فقد كان فارسٌ عميلًا للمنظمةِ، مُكلَّفًا بنصبِ كمينٍ لسميرٍ وسحبِ أموالهِ. لكنَّ فارسًا خانَ المنظمةَ، وسحبَ مبلغًا لنفسِهِ وسلَّمَ لهم الفتاتَ، ولهذا اعتُبرَ مُتمرِّدًا وحُبِسَ إلى جانبِ سميرٍ. وتذكَّرَ سميرٌ أنَّ فاهِمًا التقطَ لهما صورةً في لقاءٍ سابقٍ كان قد تمَّ بينهما. كان هذا اللقاءُ قد حدثَ عندما كان كلاهما، سميرٌ وفارسٌ، تحتَ ضغطِ المنظمةِ لتنفيذِ مهامِّهما، كلٌّ حسبَ دوره، وهي نفسُ الصورةُ التي أصبحتْ لغزًا مُحَيِّرًا. أدركَ مروانُ أنَّ هذهِ الخيوطَ المنسوجةَ بالخيانةِ هي ما تشكِّلُ الخيطَ الأحمرَ لجريمةٍ أكبرَ.

10: فَجْرٌ لمْ يَكْتَمِلْ
كَانَتِ السَّاعَةُ الثَّانِيَةَ فَجْرًا، لَكِنَّهَا كَانَتِ الْفَجْرَ الْأَوَّلَ فِي عَالَمِهِ الْجَدِيدِ. شَاشَةُ حَاسُوبِهِ كَانَتْ تَنْزِفُ ضَوْءًا أَزْرَقَ بَاهِتًا عَلَى وَجْهِهِ الْمُتْعَبِ، بَيْنَمَا كَانَتْ مِلَفَّاتُ الْقَضَايَا الْمَتْرُوكَةِ تَتَكَّوَّمُ أَمَامَهُ كَشَوَاهِدِ قُبُورٍ وَرَقِيَّةٍ. لَمْ يَعُدْ يَرَى فِيهَا أَسْمَاءً وَوَقَائِعَ، بَلْ صُوَرًا مُهَشَّمَةً لِضَحَايَا وَقَعُوا تَحْتَ لَعْنَةِ كَائِنٍ لَا يَمْلِكُ وَجْهًا. أَدْرَكَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الَّتِي كَانَ يَبْحَثُ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ سِوَى أَذْرُعٍ لِأُخْطُبُوطٍ مِنَ الظِّلِّ، يَتَنَفَّسُ عَبْرَ الثُّقُوبِ الَّتِي يَتْرُكُهَا الْمَالُ خَلْفَهُ، وَيَتَحَرَّكُ فِي عُرُوقِ الْمُدُنِ كَطَاعُونٍ صَامِتٍ. شَعَرَ بِأَنَّ كُلَّ خَيْطٍ يُمْسِكُهُ مِنْ اعْتِرَافِ نَاهِدٍ قَبْلَ مَوْتِهَا لَيْسَ خَيْطَ نَجَاةٍ، بَلْ قَيْدًا يَرْبُطُهُ إِلَى مَتَاهَةٍ بِلَا نِهَايَةٍ، وَأَنَّ الْمَعْرَكَةَ الَّتِي ظَنَّهَا قَدِ انْتَهَتْ، قَدْ بَدَأَتْ لِلتَّوِّ.
الخطرُ داخلَ الجدرانِ
وبينما كانت ناهدٌ في سجنِها، تستعدُّ للتحقيقِ، تَلَقَّتْ مكالمةً هاتفيةً من رقمٍ غريبٍ. كان الصوتُ هادئًا وباردًا، ولكنهُ كان يملكُ قوةً تجعلها ترتجفُ.
"أراكِ تُخفينَ بعضَ الأسرارِ يا ناهدُ، أليسَ كذلك؟ أعلمُ كلَّ شيءٍ عنكِ... وعن حُسامٍ. لا تُخبري الضابطَ بشيءٍ، وإلا سوفَ تندمين."
وبينما كانت ناهدٌ تتوسلُ، انقطعَ الخطُّ. تركَها الصوتُ في حالةٍ من الذعرِ، وأدركتْ أنَّ الخطرَ ليس خارجَ السجنِ، بل داخلَ جدرانِهِ.
وفي صباحِ اليومِ التالي، بينما كان مروانُ يستعدُّ لمواصلةِ تحقيقِهِ، تَلَقَّى اتصالًا من زميلٍ لهُ في قسمِ التحقيقاتِ. كان الصوتُ مليئًا بالذعرِ.
"الضابطُ مروانُ، يجبُ أن تأتي إلى هنا على الفورِ. ناهدٌ... لقد وُجدتْ ميتةً في زنزانتِها. يبدو أنها انتحرتْ."
شعرَ مروانُ بقلبهِ يخفقُ بقوةٍ. لم تكنْ ناهدٌ لتنتحرَ. لقد كانت خيوطُ المؤامرةِ تتسرَّبُ من يدِهِ. في لحظةٍ واحدةٍ أدركَ: "هذهِ ليستْ نهايةَ القضيةِ، بل هي بدايةُ حربٍ جديدةٍ."
ذهبَ مروانُ مُسرعًا إلى الزنزانةِ. بعدَ مُعَاينةٍ سريعةٍ للمكانِ، وجدَ في يدِ ناهدٍ المقبوضةِ ورقةً مَطْوِيَّةً لا تحملُ سوى كلمتينِ مكتوبتينِ بخطٍّ عَجُولٍ: "الخِتامُ... الرَّحْبِيُّ".
نظرَ مروانُ حولَهُ بحذرٍ، فالكلمتانِ لم تكونا بلا مَعْنًى. بحثَ في بقيةِ أغراضِها القليلةِ، فعثرَ على مجموعةِ أوراقٍ مَبْعْثَرَةٍ بينَ طيَّاتِ معطفِها. وجدَ فيها القصيدةَ كاملةً، مكتوبةً بخطٍّ أنيقٍ ومُرَتَّبٍ، كأنها قد استذكرتْها كشاهدةٍ على خيانتِها وندمِها. عَرَفَ مروانُ على الفورِ أنها قصيدةٌ للشاعرِ الرَّحْبِيِّ، وشعرَ أنها لسانُ حالِها في لحظاتِها الأخيرةِ، تعترفُ فيها بالخطأِ الذي أوقعها في الجحيمِ:

وَهَلْ يُهْدَى لِدَرْبِ الحَقِّ بَاغٍ
إِذَا مَا عَمَّ فِي النَّفْسِ الظَّلَامُ
وَأَغْوَاهَا وَتَاهَ بِهَا اِغْتِرَارٌ
وَأَضْرَمَهَا وَأَغْرَاهَا العَرَامُ
وَأَرْكَسَهَا وَتَاهَ بِكُلِّ مَعْنًى
عَنِ الخَطِّ السَّوِيِّ هَوًى حَرَامُ
فَمَنْ رَامَ الوُصُولَ بِغَيْرِ هَدْيٍ
تُشَتِّتْهُ المَتَاهَاتُ العِظَامُ
وَيَطْوِي ظِلَّهُ التَّارِيخُ يَوْمًا
بِمَا صَنَعَتْ يَدَاهُ وَكَمْ يُلَامُ
وَكَمْ نَاسٌ أَضَرَّ بِهِمْ هَوَاهُمْ
وَسَاءَ بِهِمْ عَنِ الدَّرْبِ الخِتَامُ
وَقَدْ حَادُوا بِمَا اِقْتَرَفُوهُ ظُلْمًا
وَعَرَّشَ فِي مَسَالِكِهِمْ ظَلَامُ
فَبُعْدًا لِلْغَاوِيَةِ حَيْثُ كَانَتْ
وَهَلْ يَجْدِي وَقَدْ وَقَعَ الحُسَامُ

ناديه محمد الجابي
07-10-2025, 12:12 PM
أتمنى ان أتابع قصصك المثيرة
ولكنك كل مرة تنزل جرء لا يرتبط بالآخر
إذا كانت هذه رواية مكتملة فأنزلها لو سمحت من البداية
وبترتيب حتى نستطيع متابعتها.
ولك كل الشكر والتقدبر.
:011::002::wow:

هائل سعيد الصرمي
07-10-2025, 11:05 PM
انا اريد رأيك حتى اطور الرواية ثم انزلها بعد اكتماله

ربما هذا الجزء يعطيه صوره لا بأس عنها فهو اهم احداثها

أين يتكأ الخذلان (قطعة فنية)
الخُذْلَانُ لَا يُغَيِّرُ مَذَاقَهُ، وَإِنَّمَا يُبَدِّلُ سَاحَتَهُ.
ظلَّ بطعمِ الرمادِ، مهما حاولتَ أن تُقنِعهُ بأنَّ الفجرَ قادم.
كانَ المكانُ يتهَاوَى على صمتِهِ، والجدرانُ تتكئُ على تنهيدةٍ قديمةٍ أرهقها الانتظار.
هكذا بدأ الليل ينسحب، تاركًا وراءه فجرًا مخضبًا بالدماء، وكأن الشمس تحاول أن تُطلّ على مأساة لم تكتمل بعد، وعلى حقيقة بَدَّلتْ وجهَ السكون.
كَانَ الْمَكَانُ يَتَهَاوَى عَلَى صَمْتِهِ، وَفِي قَلْبِ ذَلِكَ الْفَضَاءِ الثَّقِيلِ، هَرَعَتْ سَيَّارَاتُ الشُّرْطَةِ وَالْإِسْعَافِ، يَقُودُهَا الضَّابِطُ مَرْوَانُ بِقَلْبٍ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ أَعْظَمَ مِنْ صَبْرِ أَيُّوبَ، فَأَقْدَامُهُ تُسَابِقُهُ إِلَى حَقِيقَةٍ يَدْرِكُ أَنَّهَا أَبْشَعُ مِنْ كُلِّ مَا تَخَيَّلَتْهُ رُوحُهُ الْمُتَعَبَةُ. وَمَا هِيَ إِلَّا دَقَائِقُ حَتَّى كَانَ فِي صَمِيمِ الْمَشْهَدِ، حَيْثُ تَرْقُدُ الْحِكَايَةُ مَضْرُوبَةً بِقَدَرٍ لَا يَرْحَمُ.
وَجَدَ أَمَامَهُ ضَحِيَّتَيْنِ: الْأُولَى، سُمَيَّةُ، تَفْتَرِشُ دِمَاءَهَا الزَّكِيَّةَ الَّتِي غَادَرَتْ حَيَاتَهَا فِي مَشْهَدٍ يَفْتِقُ قُلُوبَ الْمُحِبِّينَ، وَيُثِيرُ فِي نَفْسِ الْمُبْصِرِ سُخْطًا عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهَا الْفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ، قَدِ ارْتَسَمَتْ عَلَى مُحَيَّاهَا عَلَامَةُ اسْتِفْهَامٍ وَتَعَجُّبٍ، كَأَنَّهَا فُجِعَتْ بِحَيْرَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ فَجِيعَتِهَا بِمَوْتِهَا. وَكَانَتِ الضَّحِيَّةُ الثَّانِيَةُ زَوْجَهَا صَفْوَانَ، مَرْمِيًّا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهَا، وَهُوَ فِي حَالَةِ انْهِيَارٍ عَصَبِيٍّ أَسْقَطَ عَقْلَهُ إِلَى جَنَبَاتِ الْجُنُونِ، حَتَّى أَنَّ الضَّابِطَ الَّذِي حَضَرَ قَامَ بِتَحْرِيكِهِ يَمِينًا وَشَمَالًا، ظَنًّا مِنْهُ بِأَنَّهُ جَرِيحٌ لِشِدَّةِ مَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ إِعْيَاءٍ، فَلَمْ يَجِدْ بِهِ شَيْئًا.
عِنْدَهَا نَزَعَ الْمُسَدَّسَ مِنْ يَدِهِ، وَأَمَرَ بِحَمْلِهِ إِلَى سَيَّارَةِ الْإِسْعَافِ بِجِوَارِ ضَحِيَّتِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَ بِفِطْنَةِ الْحَصِيفِ أَنَّهُ الْقَاتِلُ. تَوَجَّهُوا إِلَى الْمُسْتَشْفَى وَقَبْلَ أَنْ يَضَعَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهَا فِي قِسْمِ الضَّحَايَا، تَوَجَّهَ بِالْجَانِي إِلَى الطَّبِيبِ الْمُخْتَصِّ وَكَلَّفَ حَارِسَيْنِ بِجِوَارِهِ وَأَوْصَى بِالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَبَذْلِ مَا يُمْكِنُ بَذْلُهُ لِإِنْقَاذِهِ. قَامَ الطَّبِيبُ بِمَا يَلْزَمُ وَأَمَرَ بِنَقْلِ الْمَرِيضِ إِلَى غُرْفَةِ الْعِنَايَةِ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْيَقَظَةِ وَأَحْلَامِ الْمَوْتِ.
في زاوية الغرفة، كان “مروان” يُطالع الفراغ بعينينِ تتهجّدانِ بالأرق.
كلُّ شيءٍ حوله مائلٌ نحو الذبول؛ حتى الضوء المسكوب من نافذةٍ صغيرةٍ بدا كأنّه يحاول أن يتذكّر نفسه.
الساعةُ تمضغُ الوقت بمللٍ واضح، والعقربُ الطويل يتعثّر فوقَ رقمٍ لم يعد يعني شيئًا.
اقترب الطبيب، وفي صوتهِ ما يشبهُ الرثاءَ الحنون:
ـ الحالة مستقرة إلى حدٍّ ما… لكن، لا نقدر نقول إنه تجاوز الخطر بعد.
رفع “مروان” عينيه ببطءٍ كأنّهُ يُعيد ترتيب العالم من جديد.
ـ طيب… يعني؟ في أمل؟
هزّ الطبيب رأسه بأسفٍ ناعم، وقال بلغةٍ يغلّفها الغيم:
ـ هو الآن بين أيدي القدر… كل اللي نقدر نسويه إننا ننتظر.
كانت الكلمات تتساقط بينهما كأوراقٍ ذابلةٍ في ربيعٍ منسيّ،
فتنهد مروان، واستند إلى الجدار وكأنه يحمل الكون على كتفيه.
في الخارج، كانت أصوات الممرّ تتداخل مع دقّات قلبه؛
ضحكةُ ممرّضةٍ، خطواتُ عجلةِ سريرٍ تُدفع على عجل،
وصفيرُ جهازٍ يذكّر بأنَّ الحياة ما زالت تُفاوض الموت على مهلةٍ قصيرة

ـ مَرْوَانُ: هَلْ فِي أَمَلْ يِسْتِرِدّ بَعْضَ عَافِيَتِهِ قَرِيبًا عَشَانْ نِقْدَرْ نِحَقِّقْ مَعَهُ؟
الطبيب بصوته الأجش:
ـ: لَا أَظُنُّ حَالَتَهُ الصِّحِّيَّةَ تَسْمَحْ بِذَلِكْ، هُوَ بَيْنِ أَيْدِي الْقَدَرْ. يَحْتَاجْ لِفَتْرَةِ عِنَايَةٍ وَرَاحَةٍ، يُمْكِنْ تَطُولْ وَيُمْكِنْ تِقْصَرْ، وَمَا أَقْدَرْ أُحَدِّدْ قَبْلَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَاعَة.
ـ مَرْوَانُ: إِذَنْ اهْتَمْ بِشَأْنِهِ أَرْجُوكَ.
ــ الطَّبِيبُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
شَكَرَ الضَّابِطُ الطَّبِيبَ وَانْصَرَفَ بَعْدَ أَنْ أَضَافَ حَارِسًا ثَالِثًا جِوَارَ صَاحِبَيْهِ.
ظلَّ مروان يَتَرَدَّدُ عَلَى الْمَشْفَى ، لِيَعْرِفَ تَفَاصِيلَ الْحَادِثِ من صفوان. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مَعْلُومَاتٍ شِبْهَ مُفَصَّلَةٍ عَنْهُ وَعَنْ زَوْجَتِهِ وَخُصُوصًا مِنْ أَهْلَيْهِمَا بَعْدَ أَنْ تَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ وَأَبْلَغَهُمْ بِالْحَادِثِ. لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا بِكُنْهِ الْجَرِيمَةِ وَلَا مَنِ الْمُجْرِمُ الَّذِي سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ بِهَذِهِ الْجَرِيمَةِ الشَّنْعَاءِ الَّتِي أَصَابَتْ صَفْوَان وَقَتَلَتْ سُمَيَّةَ... وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنَّ الْجَانِيَ هو صَفْوَان؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمَدَى الْحُبِّ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّهُ شَخْصٌ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ فِعْلُ ذَلِكَ.
لَمْ تَتَحَسَّنْ حَالَةُ صفوان إِلَّا بَعْدَ عِدَّةِ أَيَّامٍ.
دَخَلَ عَلَيْهِ مروان بَعْدَ تَحَسُّنِهِ وَطَلَبَ إِخْلَاءَ الْغُرْفَةِ، وَقَعَدَ أَمَامَهُ وَفَتَحَ مَحْضَرًا بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَ قَلَمًا كَانَ مُغْمَدًا فِي جَيْبِ كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ.
ـ مَرْوَانُ: يَا صَفْوَانْ، قُلِّي كُلَّ شَيءٍ حَصَلْ؟
تَنَهَّدَ صفوان نَهْدَةً عَمِيقَةً كَأَنَّهُ يَنْزِعُ أَنْفَاسَهُ الْمُتَعَبَةَ مِنْ أَعْمَاقِهِ، وَصَرَفَ وَجْهَهُ فِي اتِّجَاهٍ آخَرَ... ثُمَّ نَظَرَ نَحْوَ مروان وَعَيْنَاهُ تَتَرَقْرَقَانِ بِالدُّمُوعِ، وَالْعَرَقُ يَتَصَبَّبُ مِنْ جَبِينِهِ كَتَصَبُّبِ النَّبْعِ إِذَا انْفَكَّ عِقَالُهُ، وَبِمَرَارَةٍ أَشَدَّ مِنَ الْعَلْقَمِ، قَالَ في نفسه: بَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا، وَدِدْتُ لَوْ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ وَلَمْ أَتَزَوَّجْ لَقَدْ لَطَّخَتْنِي بِدِمَائِهَا، أَلَمْ يَكُنْ خَيْرٌ لِي أَنْ أَتْرُكَهَا بَدَلًا من حَمْلِ وِزْرِهَا وَسَوْأَتِهَا، لَيْتَنِي هَبَاءٌ فِي وَادٍ سَحِيقٍ أَوْ حَبَّةُ رَمْلٍ فِي صَحْرَاءَ قَاحِلَةٍ، وَلَا أَتَعَرَّضَ لِهَذَا.
وَظَلَّ صفوان يُقَلِّبُ نَظَرَهُ وَيَجُولُ بِفِكْرِهِ صَامِتًا حَائِرًا لَا يَكَادُ يُبِينُ. لَاحَظَ مروان ذَلِكَ فِي امْتِقَاعِ لَوْنِ صفوان وَتَغَيُّرِ مَلَامِحِهِ، فَتَرَكَهُ بُرْهَةً وَلَمْ يُثْقِلْ عَلَيْهِ بِتَكْرَارِ السُّؤَالِ، حَتَّى بَدَأَ صفوان يَسْتَرْسِلُ بِالْإِجَابَةِ مِنْ بِدَايَةِ تَعَرُّفِهِ عَلَى سُمَيَّةَ وَمَا صَاحَبَ ذَلِكَ مِنْ مَخَاوِفَ وَغَيْرَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ خَشْيَتَهُ وَخَوْفَهُ مِنْ غِوَايَةِ نَاهِدٍ لَهَا، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: "يَا لَلْأَسَفِ فَكُلُّ مَا كُنْتُ أَخَافُهُ حَدَثَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي ذَلِكَ إِلَّا فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ عِنْدَمَا أُصِبْتُ بِفَيْرُوسِ الْإِيدْزِ."
وَاعْتَرَفَ صفوان بِجِنَايَتِهِ، عِنْدَمَا أَجَابَ عَلَى سُؤَالِ "لِمَ قَتَلْتَهَا؟"
صوت صفوان يتغير، يصبح حاداً كحد السكين:
ـ: قَتَلَتْنِي فَقَتَلْتُهَا.
وَاسْتَمَرَّ مروان يُدَوِّنُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ صفوان بِدِقَّةٍ وَلَمْ يَنْطِقْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، حَتَّى أَتْمَمَ صفوان حَدِيثَهُ. عِنْدَهَا أَغْلَقَ مروان الْمَحْضَرَ بَعْدَ أَنْ وَقَّعَ عَلَيْهِ صفوان، وَخَرَجَ مُسْرِعًا كَأَنَّهُ أَرَادَ أَمْرًا هَامًّا.
وَصَلَ مروان إِلَى مَكْتَبِهِ وَتَنَاوَلَ مِلَفَّ الْقَضِيَّةِ وَبِهِ تَقْرِيرُ الطَّبِيبِ حَوْلَ وَفَاةِ سُمَيَّةَ وَبَعْضُ مَا جَمَعَهُ عَنْهَا مِنْ مَعْلُومَاتٍ، لَعَلَّهُ أَنْ يَجِدَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهَا تَحْمِلُ الْمَرَضَ أَمْ لَا... وَلَكِنْ دُونَ جَدْوَى لَمْ يَجِدْ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ.

مروان أخذ الملف وذهب بنفسه للنائب:العام ـ مَرْوَانُ بعد سلمه الملف واخبره بهول القضيه وانها معقده وانه يريده ان يكون معه في الصوره وسيحتاج لأذن نيابه لاقتحام بعض بيوت العصابه المتورطه لان تعقيدات القضيه وما خلفها من تشابك وشبكات يتطلب ان تكون النيابه في الصورة منذ التحقيقات الأولى : مروان يَا حَضْرَةَ النَّائِبْ، لَمْ يَتَوَقَّفْ تَحْقِيقِي عِنْدَ اعْتِرَافِ صَفْوَانَ. قَلْبِي كَانَ يِهْمِسْ لِي بِشَيءٍ لَا يِقُولُهُ الْقَانُونُ، وَعَقْلِي يِرْفُضْ أَنْ يِصَدِّقْ إِنَّ قِصَّةَ عفةٍ مِثْلَ قِصَّةِ سُمَيَّةَ تِنْتَهِي بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ الشَّنْعَاءِ. لِذَلِكَ، قَرَّرْتُ أُحَقِّقْ بِعُمْقٍ مَعَ كُلِّ أَصْحَابِهِمَا عَشَانْ أَعْرِفْ عُمْقَ الْقَضِيَّةِ وَأَبْعَادَهَا. وَبَدَأْتُ، بِنَاهِدٍ الَّتِي اتَّهَمَهَا صَفْوَانُ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَفْسَدَتْ سُمَيَّةَ وَأَغْوَتْهَا وَأَدْخَلَتْهَا فِي سُوقِ الْمُجُونِ... وَبَعْدَ أَنْ جَمَعْتُ الْمَعْلُومَاتِ عَنْهَا وَتَعَرَّفْتُ عَلَى سُلُوكِهَا... تَمَّ اسْتِدْعَاؤُهَا لِلتَّحْقِيقِ...


في الغرفة المقابلة، كانت ناهد تجلس على مقعدٍ معدني بارد،
تشدّ أطراف عباءتها، وتُخفي ارتجاف يديها خلف هدوءٍ مُفتعل.
الضوء المتدلّي من السقف يلمس وجهها كأنّه مصباح اعترافٍ أكثر منه مصباح تحقيق.
جلس المحقّق “سنان” قبالتها، صوته هادئ لكن عينيه تغوصان في ما وراء الإجابات.
قال بلهجةٍ بيضاء قريبة من العاميّة:
ـ طيب ناهد، خلينا نحكي بهدوء… متى آخر مرّة شفتيه؟

تردّد صداها في الغرفة، كأنّ الجدران تُعيد السؤال نيابةً عنه.
أجابت بصوتٍ خافتٍ فيه بقايا رجفة:
ـ قبل أسبوع تقريبًا… بس ما كنت أتوقّع اللي صار.
ابتسم مروان ابتسامةً بلا دفء، وقال:
ـ ما كنتِ تتوقّعين، ولا كنتِ تعرفين؟
هنا التقت نظراتهما كشرارتين، وانكشفت مساحة الصمت بينهما.
بدت ناهد كمن تتحسّس نبض أقنعتها المتساقطة،
كأنّ كلّ جملةٍ تخرج منها تسقط معها طبقة من السكون المصنوع بعناية.
سحب سنان ملفًا من أمامه، فتحه ببطءٍ
وصوت الورق بدا كأنّه يُفصح عن أسرارٍ كانت تتنفس منذ زمن بعيد.
قال وهو يقلّب الصفحات:
ـ انتي قلتِ ما كنتِ تعرفي، بس فيه رسائل بينك وبينه… الرسائل تتكلم غير كذا.
أطرقت برأسها، وارتجفت شفتاها قبل أن تنطق:
ـ كنت أحاول أساعده… كان ضايع، وأنا… يمكن كنت أصدق إنه ممكن يتغير.
تنهّد سنان وأشاح بنظره، كأنه يسمع اعترافاً من نفسه لا منها.
في داخله مرّت جملة خاطفة:
"كم من البشر يحاولون إنقاذ غيرهم ليغرقوا معهم؟”
عاد بنبرةٍ أكثر رفقًا:
ـ طيب، إحنا ما جينا نحاكم مشاعرك… بس نحتاج الحقيقة، وبس.
صمتت لحظة، ثم قالت بصوتٍ مثقّلٍ بالحسرة:
ـ الحقيقة؟ أحيانًا الحقيقة تكون أوحش من الكذب.
رفع رأسه نحوها، وفي عينيه بريق استغرابٍ حزين.
قال بهدوءٍ جريح:
ـ جربيني، قولي لي وش اللي أوحش؟
أجابت بعد تنهيدةٍ طويلةٍ مرّة الطعم:
ـ إنك تعرف إنك كنت جزء من اللعبة، بس متأخر جدًا.
هنا سقط الصمت بينهم كخاتمٍ على جرحٍ قديم،
واتّسع وجه ناهد بشحوبٍ نازفٍ،
كأنّها أنفقت كلّ ما تبقّى من شجاعتها في تلك الجملة الأخيرة.
خارج الغرفة، كان الليل يهبط على المدينة بخطواتٍ متردّدة،
ورائحة القهوة القديمة تتسلّل من غرفة الحرس،كأنها تحاول أن تذكّر الجميع بأنّ الحياة تمضي رغم التحقيقات
كان الهواء في ممرّ المبنى ثقيلاً، كأنّه يحمل على كتفيه كلّ ما لم يُقل في غرفة التحقيق.
خرج سنان من عند ناهد بخطواتٍ بطيئةٍ تُعلن عن حيرةٍ لا تشبه الحيرة العادية.
كان وجهه غارقًا في صمتٍ متعب،
وعيناه تُعيدان عرض المشهد مرةً بعد مرة، كأنّه يريد أن يفهم أيّ لحظةٍ بالتحديد جعلته يتحوّل من محقّقٍ إلى شاهدٍ على نفسه.
عند الباب الخارجي لمحطة الشرطة، كان مروان ينتظر.
تقدّم نحوه بخطواتٍ متوترة، وسأله بصوتٍ منخفضٍ كأنّه يخشى أن يسمعه أحد:
ـ ها، وش صار؟ قالت شي؟
تنفّس سنان بعمق، وقال بعد لحظة صمتٍ طويلة:
ـ قالت أكثر مما توقعت… بس ما أعرف إذا اللي قالته حقيقة، ولا وجع.
تأمله مروان طويلاً، ثم قال بصوتٍ يحمل شيئًا من السخرية المُرة:
ـ في فرق؟ مرات الوجع هو الحقيقة الوحيدة اللي تبقى.
ابتسم سنان ابتسامةً مشوبةً بالانكسار، ثم أضاف:
ـ يمكن… بس اللي قالتـه عن “الظلّ” غريب. قالت في ناس يتحركون ورا كل شي، مثل خيوطٍ خفيّة تشدّ المشاهد بدون ما تبان.
تقول إنهم يسمّون نفسهم “منظمة الظل”.
تغيّر وجه مروان فجأة، كأنّ الكلمة أيقظت في ذاكرته بابًا كان مغلقًا منذ زمن.
تمتم وهو ينظر إلى الفراغ:
ـ الظل… وصمت،.
في تلك اللحظة، مرّت نسمة باردة من نافذةٍ مفتوحة،
فاهتزت أوراق الملف على الطاولة، واحدة منها انزلقت حتى الأرض،
وعليها صورةٌ لرجلٍ ملامحه غامضة،
في زاوية الصورة ختم صغير بلونٍ داكن، عليه رمز غريب يشبه عينًا نصف مفتوحة تُحدّق من بين الغيوم.
انحنى سنان ليلتقط الورقة،
لكن مروان سبقه ومدّ يده كأنّه يخاف أن تلمسها يد غيره.
تأمل الصورة طويلاً،
وقال بصوتٍ خافتٍ يُشبه صدى الاعتراف:
ـ هذا الرمز… كان على رسالة وصلت لوالدي قبل ما يختفي.
ارتجف الهواء من حولهما، وبدت اللحظة كأنها انفتاح نافذةٍ على عاصفةٍ قادمة.
سأل صفوان، وقد تغيّر صوته من الهدوء إلى يقظةٍ حادّة:
ـ يعني المنظمة هذي ممكن تكون وراء اختفاءه؟
ردّ مروان وهو يطوي الورقة بحذرٍ ويضعها في جيبه:
ـ ما أدري، بس كل الخيوط ترجع لهم…
كأنهم “ذاكرة الشر” اللي تمشي بين الناس بملامح بشرية.
أشار سنان إلى الباب:
ـ طيب، نحتاج نعرف من يقف ورا الاسم هذا. ناهد يمكن ما قالت كل شي.
يمكنك أن تحقق معها مرة ثانيه وثالثه بنفسك ستجد خيوط تفتح ابوابا جديدة هي شخصية ليست سهلة شخصية معقدة عميقه ليست سطحيه

أجابه مروان بجمودٍ ثقيل:
ـ ربما قالت أكثر مما تقدر. والباقي… راح نلقاه إحنا وسأزورها قريب.

خرج الاثنان من الممرّ بخطواتٍ متسارعة،
والليل في الخارج يكتسي بلونٍ رماديٍّ مائلٍ إلى الزرقة،
كأنّ المدينة كلّها تتهيأ لحدثٍ لا يشبه شيئًا مضى.
في الطريق، ظلّ مروان صامتًا، يراقب الشوارع المبلّلة بالمطر الخفيف،
تُضيئها مصابيحٌ متعبةٌ تومض وتخبو،
وفي داخله كان يشعر أن شيئًا أكبر من الحكاية كلّها بدأ ينهض من تحت الرماد.
قطع المحقق سنان الصمت وقال:
ـ تتوقع نلقى دليل فعلاً؟
فأجابه مروان بصوتٍ يشبه حافة السكين:
ـ ما أبحث عن دليل… أبحث عن بداية.
ثم أضاف في نفسه، دون أن يسمعه أحد:
“المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، لكنها تتهيأ في عتمةٍ تعرفنا جيدًا

وفي اليوم الثاني فِي مَكْتَبِ مروان الْقَاسِي الْبُرُودَةِ، جَلَسَ مروان كَتِمْثَالٍ نُحِتَ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَهُ سِوَى نَاهِدٍ، يَتَحَسَّسُ نَبْضَ أَقْنِعَتِهَا الْمُتَسَاقِطَةِ. لَمْ يَعُدْ قِنَاعُ الثِّقَةِ يَقْوَى عَلَى الصُّمُودِ أَمَامَ نَظَرَاتِهِ الثَّاقِبَةِ، الَّتِي كَانَتْ كَسِهَامٍ تُخْتَرِقُ صَمْتَهَا وَتَبُوحُ بِأَسْرَارِهَا الْمُتَقَلِّبَةِ. تِلْكَ الِابْتِسَامَةُ الْخَبِيثَةُ، الَّتِي كَانَتْ ذَاتَ يَوْمٍ شَمْسًا لَا دِفْءَ لَهَا، بَدَأَتْ فِي الْغُرُوبِ تَدْرِيجِيًّا، تَتْرُكُ خَلْفَهَا ظِلًّا طَوِيلًا مِنَ الشَّكِّ. جَلَسَ مروان بِهُدُوءٍ، وَبَدَأَ يَسْرُدُ الْوَقَائِعَ خُطْوَةً خُطْوَةً، يَطْرَحُ الْأَسْئِلَةَ بِطَرِيقَةٍ تَجْعَلُ كُلَّ كِذْبَةٍ تَتَفَكَّكُ، وَكُلَّ خِدَاعٍ يَظْهَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
ناهد:
ـ نَاهِدُ: مَا فَهَمْتْ لِيشْ أَنَا هَانَا. صَفْوَانْ هُوَ الْقَاتِلْ، مَاشِي أَنَا. الْكُلُّ يَعْرَفْ إِنِّي كُنْتُ صَدِيقَةَ سُمَيَّةَ. هَذَا تَبْذِيرٌ لِلْوَقْتِ وقد الكلام مع المحقق الذي جاء امس أيش باقي خرجوني.
مروان أجابها بِهُدُوءٍ يُشْبِهُ صَمْتَ مَا قَبْلَ الْعَاصِفَةِ:
ـ: الْكُلُّ يَعْرَفْ إِنَّكِ قَرِيبَةٌ مِنْ سُمَيَّةَ، بَسْ فِي حَاجَاتٍ ثَانِيَةٌ مَحَدّْ يَعْرَفْهَا... مِثْلَ رِيحَةِ الْبِنْزِينِ الَّتِي كَانَتْ تَفُوحْ مِنْ سَيَّارَةِ الـBMW الْمَسْرُوقَةِ الَّتِي وُجِدَتْ مَعَكِ، وَكَيْفَ خُطُوَاتُكِ أَدَّتْ لِإِفْلَاسِ شَرِكَةِ الْوِدَادِ الَّتِي كُنْتِ طَرَفًا فِيهَا مَعَ شَرِيكِكِ حُسَامٍ.
تَقَلَّصَتْ مَلَامِحُ نَاهِدٍ، وَتَشَبَّثَتْ يَدَاهَا بِالْكُرْسِيِّ كَأَنَّهُ سَفِينَةٌ تُحَاوِلُ النَّجَاةَ فِي بَحْرٍ مُتَلَاطِمٍ. وَضَعَ مروان أَمَامَهَا مِلَفًّا، فَتَحَوَّلَ صَمْتُهَا إِلَى قَلَقٍ يَتَرَقَّبُ الْعَاصِفَةَ.
ناهد قَالَتْ بِنَبْرَةٍ مُهْتَزَّةٍ، تَخْفِي وَرَاءَهَا الْخَوْفَ:
ـ نَاهِدُ: هَذِي حَاجَاتٌ قَدِيمَةٌ مَا لَهَا عَلَاقَةٌ بِجَرِيمَةِ الْقَتْلِ. لَا تِخْلَطِ الْأَوْرَاقَ.
مروان أجابها بِصَوْتٍ حَاسِمٍ، كَصَوْتِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لَا تَتَرَدَّدُ:
ـ: كُلُّ الْخُيُوطِ تُودِّي لِمَكَانٍ وَاحِدٍ يَا نَاهِدُ. كُلُّ جَرِيمَةٍ، كُلُّ نَصْبٍ، وَكُلُّ كِذْبَةٍ لَهَا خَيْطٌ يِرْبُطْهَا بِالشَّبَكَةِ الَّتِي تِعْمَلِي لِصَالِحِهَا. اريد تفصيلا عنها . ثم قال :سَأَسْأَلْكِ سُؤَالًا وَاحِدًا فَقَطْ: أَيْنَ كُنْتِ لَيْلَةَ الْحَادِثَةِ؟
صَمَتَتْ نَاهِدُ، وَأَخَذَتْ تُحَاوِلُ أَنْ تُرَتِّبَ أَكَاذِيبَهَا، لَكِنَّ ذَاكِرَتَهَا أَعْلَنَتِ الْخَرَابَ. وَضَعَ مروان أَمَامَهَا تَقْرِيرًا طِبِّيًّا، تَرَنَّحَتْ رُوحُهَا، وَارْتَجَفَ جَسَدُهَا، وَأَدْرَكَتْ أَنَّ الْحِصَارَ اكْتَمَلَ..
صوت مروان يعلو:
ـ: هَذَا التَّقْرِيرُ مَا هُوَ لِسُمَيَّةَ. هَذَا تَقْرِيرُ فَحْصِ دَمٍ خَاصٌّ بِكِ. يِثْبِتْ إِنَّكِ مُصَابَةٌ بِفِيرُوسِ الْإِيدْزِ... الْحِينَ، قُلِّي لِي كَيْفْ سُمَيَّةُ حَمَلَتْ دَاءً مَا كَانَ فِي جِسْمِهَا، بَيْنَمَا كَانَ هَدَفُكِ تَلْوِيثَ حَيَاتِهَا فَقَطْ؟
تَنَهَارُ نَاهِدُ تَمَامًا، يَذُوبُ قِنَاعُ الْقَسْوَةِ، وَتَنْكَشِفُ تَحْتَهُ رُوحٌ يَائِسَةٌ. الدُّمُوعُ تُبَلِّلُ وَجْهَهَا، وَكَلِمَاتُهَا تَخْرُجُ كَخَيْطٍ مُمَزَّقٍ مِنَ الْأَلَمِ.
ناهد بصوت يتلاشى:
: مَا... مَا قَتَلْتُهَا! مَا لَمَسْتُهَا! مَا كُنْتُ أَعْرَفْ إِنَّ الْأَمْرَ سَيِنْتَهِي بِهَذِي الْمَأْسَاةِ!
ـ مَرْوَانُ بحزم: مَا قَتَلْتِيهَا بِيَدَيْكِ، بَسْ أَنْتِ الَّلِي حَمَلْتِ السِّلَاحَ لِصَفْوَانَ. قُلِّي لِي كُلَّ شَيءٍ الْحِينَ، مِنْ أَيْنَ حَصَلْتِ عَلَى الدَّمِ؟ وَمَنْ هُوَ حُسَامٌ؟
تَسْتَسْلِمُ نَاهِدُ لِلْحَقِيقَةِ، وَتَبْدَأُ فِي الِاعْتِرَافِ بوضوح مفصل دون تلميح مُتَجَنِّبَةً الْحَقِيقَةَ الْكَامِلَةَ والأسرار الكبيرة الغامضه :
ـ نَاهِدُ: حُسَامُ هُوَ الَّلِي حَرَّضْ. هُوَ الَّلِي قَنَّعْنِي إِنَّ الْأَمْرَ مُجَرَّدُ لُعْبَةٍ عَشَانْ نِدَمِّرْ سُمْعَةَ سُمَيَّةَ. هُوَ الَّلِي جَلَبْ لِي الْعَصِيرَ بِالْمُخَدِّرِ وَأَمَرْنِي بِالْحَقْنِ. مَا كُنْتُ أَعْرَفْ نِيَّتَهُ الْكَبِيرَةَ! مَا تَعْرَفْشْ أنت مَدَى قُوَّةِ الْيَدِ الَّتِي تِعْمَلْ خَلْفَ حُسَامٍ ...
تَوَقَّفَتْ نَاهِدُ عَنِ الْكَلَامِ، وَعَيْنَاهَا تَجَمَّدَتَا مِنَ الْخَوْفِ.
مروان همس بِصَوْتٍ خَافِتٍ:
ـ: مَا هِيَ الْيَدُ يَا نَاهِدُ؟
نَاهِدٌ أَجَابَتْ بِصَوْتٍ خَافِتٍ جِدًّا:
ـ نَاهِدُ: هُمْ الذي اخبرت المحقق أمس بهم: مُنَظَّمَةُ الظِّلِّ. هُمْ الَّلِي وَرَّطُوا حُسَامًا.هم سَيِقْتُلُونَنِي! اِتْرُكْ هَذَا الْمِلَفَّ! سَيِقْتُلُونَنِي وَسَيِقْتُلُونكَ!
بَعْدَ أَنْ يرتفع صَوْتُ نَاهِدٍ الْهِسْتِيرِيُّ فِي الْغُرْفَةِ، يَسُودُ الصَّمْتُ الْمُطْلَقُ. يُدْرِكُ مروان أَنَّ الْقَضِيَّةَ الَّتِي ظَنَّهَا جَرِيمَةَ قَتْلٍ عَادِيَّةً هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ شَبَكَةٌ مِنَ الْخُيُوطِ الْمُتَشَابِكَةِ، يَنْسُجُهَا شَرٌّ لَا يُرَى. يَغَادِرُ الْغُرْفَةَ تَارِكًا نَاهِدًا تَحْتَ حِرَاسَةٍ مُشَدَّدَةٍ، بَيْنَمَا يَسِيطِرُ عَلَيْهِ شُعُورٌ ثَقِيلٌ بِأَنَّ الْمَعْرَكَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَمْ تَبْدَأْ بَعْدُ وانه هذف.
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، يَتَجَاهَلُ مروان كُلَّ إِرْهَاقِهِ وَيَصِلُ إِلَى مَكْتَبِهِ. تَتَرَاكَمُ أَمَامَهُ مِلَفَّاتُ قَضَايَا قَدِيمَةٍ: مِلَفُّ الْحَاجِّ مُحَمَّدٍ، وَمِلَفُّ سَمِيرٍ، وَمِلَفُّ اخْتِفَاءِ فَارِسٍ. وملف سميه وصفوان مؤخراً وملفات أخرى كثيرة يَجْمَعُهَا كُلَّهَا عَلَى مَكْتَبِهِ، وَيَرْبُطُ الْخُيُوطَ بَيْنَهَا فِي ذِهْنِهِ. يُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ لَمْ تَكُنْ صُدَفًا، بَلْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ مُخَطَّطٍ وَاحِدٍ كَبِيرٍ. كل خيط يربط كل جريمة بالشبكة، وكل سر كأنه قطرة حبر سوداء تتسرب إلى صفحة بيضاء، تلوث كل شيء من حولها.

فِي الْيَوْمِ التَّالِي، ذَهَبَ مروان إِلَى السِّجْنِ وَهُوَ يَحْمِلُ مَعَهُ تَسْجِيلَ اعْتِرَافِ نَاهِدٍ. فِي غُرْفَةِ الْمُقَابَلَةِ، وَجَدَ صَفْوَانَ مُنْهَارًا، تَائِهًا بَيْنَ الْجُدْرَانِ الْأَرْبَعَةِ. لَمْ يَرَ فِيهِ مروان الْمُجْرِمَ، بَلْ رَأَى فِيهِ ضَحِيَّةً أُخْرَى لِلشَّكِّ وَالْوَهْمِ. وَضَعَ مروان جِهَازَ التَّسْجِيلِ عَلَى الطَّاوِلَةِ، وَشَغَّلَهُ. مَلَأَ صَوْتُ نَاهِدٍ الْغُرْفَةَ، وَهِيَ تَعْتَرِفُ بِكُلِّ شَيْءٍ: التَّلَاعُبُ، الْغِيرَةُ، وَكَيْفَ وَضَعَتِ المخدر فِي الْعَصِيرِ. وَكَيْفَ حَقَنَتْ سُمَيَّةَ بِدَمٍ فِيهِ فَيْرُوسُ الْإِيدْزِ.

غَادَرَ مروان الْغُرْفَةَ تَارِكًا صفوان مَعَ حَقِيقَتِهِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي سَتَبْقَى سِجْنًا أَبَدِيًّا.
بَيْنَمَا صفوان يَتَشَظَّى الْيَقِينُ فِي قَلْبِهِ، وَدَارَتْ بِهِ الدُّنْيَا وَأَظْلَمَتْ فِي عَيْنَيْهِ كَأَنَّهُ فِي لَيْلٍ دَامِسٍ مُوحِشٍ حَالِكِ الظُّلْمَةِ، وَالْمَكَانُ أَشَدُّ ضِيَاءً، فَالشَّمْسُ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ... وَقَدْ تَحَرَّكَتْ كُلُّ ذَرَّاتِ جِسْمِهِ وَارْتَعَشَ كَالْمَحْمُومِ الَّذِي أَجْهَدَتْهُ الْحُمَّى
فِي لَيْلَةٍ شَاتِيَةٍ، وَهُوَ يَسْتَعْرِضُ مَشَاهِدَ زَوْجَتِهِ وَرِقَّتِهَا وَحُسْنِ تَوَدُّدِهَا لَهُ، وَمَشَاهِدَ أُخْرَى مُفْزِعَةً، كَانَ آخِرُهَا وَهِيَ تَسْتَغِيثُهُ وَتَسْأَلُهُ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ! لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَحَمَّلَ تِلْكَ الْمَشَاهِدَ الْمُؤَثِّرَةَ وَلَا بَشَاعَةَ مَا اقْتَرَفَ.
وَبَيْنَمَا كَانَتِ الْغُرْفَةُ تَدُورُ بِهِ كَرَحَى، وَتَدُقُّ نَبَضَاتُ قَلْبِهِ كَمِطْرَقَةٍ، اسْتَعْرَضَ فِي ذِهْنِهِ صُوَرًا لِسُمَيَّةَ. صُوَرًا لَمْ يَمْنَحْهَا حَقَّهَا فِي الْمَاضِي، لَكِنَّهَا الْآنَ تَنْهَشُهُ نَدَمًا وَوَجَعًا. كَانَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِمَرَارَةٍ: "لَقَدْ قَتَلْتُ بَرَاءَتِي بِيَدِي... قَتَلْتُ الْحُبَّ الَّذِي جَعَلَ لِحَيَاتِي مَعْنًى." شَعَرَ بِأَنَّ جِسْمَهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى رَمَادٍ، وَأَنَّ رُوحَهُ تُشْعَلُ بِأَلْفِ نَارٍ. لَمْ يَعُدْ يَرَى شَيْئًا أَمَامَهُ، بَلْ رَأَى الْجَدَّارَ الَّذِي وَقَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِيقَةِ زَوْجَتِهِ. كَانَ الْجَهْلُ سِتْرًا، وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ كَانَتْ سَيْفًا قَاطِعًا قَتَلَ الْقَاتِلَ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ.
ففِي السَّجْنِ، لَمْ تَكُنْ قُضْبَانُهُ هِيَ زِنْزَانَةُ صفوان الْحَقِيقِيَّةَ. زِنْزَانَتُهُ كَانَتْ صَوْتَ سُمَيَّةَ الْأَخِيرَ وَهِيَ تَهْمِسُ: "بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ؟" كَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ سِلْسِلَةً تُقَيِّدُ رُوحَهُ، وَجُدْرَانًا تُحَاصِرُ وِجْدَانَهُ. لَمْ يَجِدْ صفوان النَّوْمَ سَبِيلًا لِلْهُرُوبِ، فَالْأَحْلَامُ كَانَتْ تُعِيدُ إِلَيْهِ الْحَادِثَ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهِ، وَبِدَايَةَ كُلِّ صَبَاحٍ كَانَتْ تَزْفِرُ الْحَقِيقَةَ الْقَاسِيَةَ، أَنَّهُ قَتَلَ الْبَرَاءَةَ وَلَمْ يَقْتُلِ الْخِيَانَةَ. لَمْ يَعُدِ الْأَكْلُ لَهُ مَذَاقًا، وَلَا النَّظَرُ إِلَى السَّمَاءِ لَهُ مَعْنًى، كَانَ يُعَاقِبُ نَفْسَهُ بِصَمْتٍ أَبْلَغَ مِنْ أَيِّ حُكْمٍ يقول عن نفسه
بعد خرج الظابط مروان وترك صفوان يتخبط يقول صفوان في مذكرته: لقد تحول جسدي إلى رماد. انهار على الكرسي، وانسابت الدموع من عيني بصمت. لم أعد أرى أمامي الخائنة سمية، بل أرى نفسي القاتل الذي دمر كل شيء، دمر الطهر والعفة والبراءة بجهل. شعرت بأن الأرض تهتز تحت قدمي، وكل كلمة من ناهد كانت كرصاصة تخترق قلبي. ذاب قناع القسوة الذي حاولت التمسك به طوال الوقت، وتدفقت الدموع كخيط ممزق من الألم.
وفي المقابل على ضَفَّةِ الْبَحْرِ، فِي نِصْفِ مَدِينَةِ الْأَحْلَامِ فِي تِلْكَ الْأَثْنَاءِ، وَبَيْنَمَا كَانَتْ دِمَاءُ سُمَيَّةَ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، كَانَ حَامِدٌ يَقِفُ مُتَصَنِّمًا عَلَى الشَّاطِئِ، وَقَدْ تَجَمَّدَ فِي يَدِهِ الْهَاتِفُ. لَقَدْ وَصَلَهُ خَبَرُ الْفَاجِعَةِ بِرِسَالَةٍ مُقْتَضَبَةٍ: "قُتِلَتْ سُمَيَّةُ... وَالْقَاتِلُ صَفْوَانُ". لَمْ يَكُنِ الْخَبَرُ مُجَرَّدَ صَدْمَةٍ، بَلْ قَطْعَةَ لَغْزٍ سَقَطَتْ فِي مَكَانِهَا الْمُرِيبِ. تَمَزَّقَ عَقْلُ حَامِدٍ بَيْنَ وَجْهِ صَفْوَانَ الشَّاعِرِ الْمُحِبِّ، وَبَيْنَ وَجْهِهِ الْجَدِيدِ كَقَاتِلٍ.
لَكِنَّ خَيْطَ الْفَاجِعَةِ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ خَيْطِ الْحَقِيقَةِ. عادت الى عَيْنَاهُ الصورة المنسية عيناه اللَّتَانِ رَأَتَا مُؤَخَّرًا صُورَةَ فَاهِمٍ وفارس معا ثم صرفه عنها اجابة فاهم الذكية بَدَأَتَا عيناه تَرَيَانِ الرَّبْطَ الْقَاتِمَ: سُمَيَّةُ، صَفْوَانُ، هل يكون فَارِسُ، وَرَاءَ كُلِّ هَؤُلَاءِ يَقِفُ ظِلٌّ وَاحِدٌ. أَجْرَى حَامِدٌ اِتِّصَالًا سَرِيعًا بِالْمَحَامِي لِيَضْمَنَ لِصَفْوَانَ الْدِّفَاعَ، وَلَكِنَّ قَلْبَهُ كَانَ قَدِ انْشَغَلَ بِهَمٍّ أَعْظَمَ: رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ لَنْ تَكُونَ لِلْعَزَاءِ، بَلْ لِلْبَحْثِ وَالتَّقَصِّي، مُسْتَخْدِمًا دَلِيلَ الصُّورَةِ الَّتِي اِكْتَشَفَهَا ثم انصرف عنها لعل فارس خلف هذه الجرائم .

الْبَوْحُ الْأَعْمَقُ وَوَشَاحُ الخفاء
فِي زِنْزَانَةٍ تُعَانِقُ الظَّلَامَ، حَيْثُ يَتَلَاشَى صَدَى الزَّمَنِ، جَلَسَ مروان أَمَامَ صفوان، لَمْ يَرَ صَفْوَانَ الْقَاتِلَ، بَلْ شَبَحَ رُوحٍ تَأْكُلُهَا النَّدَامَةُ، وَتَحْفُرُ عَلَى وَجْهِهِ مَلَامِحَ الْوَجَعِ. أَغْلَقَ مروان مِلَفَّ الْقَضِيَّةِ، وَفَتَحَ صَفَحَاتِ رُوحِ صفوان الْمَهْشُومَةِ، فَلَمْ يَعُدْ يَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَةٍ قانونيةٍ، بَلْ عَنِ اعْتِرَافٍ يَغْسِلُ بِهِ صفوان ذُنُوبَ نَفْسِهِ الْمُنْهَكَةِ. وينفس بالكلمات ليهفف بها عن بعض عناءه واكتئابه سَأَلَهُ مروان عَنِ الْحَقِيقَةِ،
حدثني عنك وعن سمية وعن طبيعة علاقتكما تحديداً.
فَأَجَابَ صفوان بِصَمْتٍ أَعْمَقَ مِنَ السِّجْنِ، كَأَنَّ كُلَّ الْكَلِمَاتِ قَدِ انْطَفَأَتْ فِي عَيْنَيْهِ. ثُمَّ، وَكَأَنَّ سَدًّا انْهَارَ فِي رُوحِهِ، بَدَأَ يَرْوِي لِمروان حِكَايَتَهُ، لَا لِيُدَافِعَ عَنْ فِعْلِهِ، بَلْ لِيُدْفِنَ وَحْشًا جَاثِمًا عَلَى صَدْرِهِ، وَبَدَأَ الْبَوْحُ يَغْسِلُ وَجَعَهُ بِوَجَعِ الْأَوَّلِينَ.
صَفْوَانُ: يَا سَيِّدِي الضَّابِطَ، فِي زَاوِيَةِ هَذِي الْغُرْفَةِ الْمُظْلِمَةِ، تِرْجَعْ لِي ذِكْرَى قَاسِيَةٌ مِنَ الْمَاضِي تقتلني، مِثْلَ شَبَحٍ يَنْهَشْ رُوحِي، ذِكْرَى مَا كَانَتْ إِلَّا لَحَظَاتٍ عِشْتُهَا مَعَاهَا. سُمَيَّةُ كَانَتْ بِالنِّسْبَةِ لِي كُلَّ الْكَلِمَاتِ الَّتِي لم تقل لأحد من قبل : إِنَّهَا أَطْهَرُ مِنَ الطُّهْرِ، وَأَعَفُّ مِنَ الْعَفَافِ. إِنَّهَا الْمَوَدَّةُ بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا، إِنَّهَا الْمَحَبَّةُ بِكُلِّ عُنْفُوَانِهَا. مَا قَالَتْ لِي كَثِيرًا: "أُحِبُّكَ"، لَكِنَّهَا كَانَتْ تِحُطَّ لِي فِي الصَّحْنِ الَّلِي أُحِبُّهْ. مَا قَالَتْ كَلَامًا مَعْسُولًا كَثِيرًا، لَكِنَّهَا كَانَتْ تِقْبَضْ عَلَى خَاصِرَةِ الرِّضَا، وَتِرَبِّتْ عَلَى كَتِفِ الضَّوْءِ. كَانَتْ تُؤْثِرُنِي عَلَى نَفْسِهَا، وَتِقَدِّمْ لِي سَكِينَتَهَا، وَمَا تِبْقِي لَهَا إِلَّا فُتَاتَ التَّأَمُّلِ. مَا دَلَّلَتْنِي بِالْكَلَامِ، بَسْ كَانَتْ تِخَبِّي فِي أَفْعَالِهَا حُبًّا، لَوْ جَمَعْتُهْ، لَكَانَ عَزَاءَ الْعُمْرِ، وَنِدَاءَ الْخُلُودِ. مَا قَالَتْ لِي كَثِيرًا: "حَبِيبِي"، لَكِنَّهَا كَانَتْ تِزِيحْ عَتَبَاتِ الطَّرِيقِ قَبْلَ مَا أَمْشِي، وَتِنْفُضْ التَّعَبَ عَنِّي قَبْلَ مَا يَسْتَشْرِي، وَقَبْلَ مَا أَتَكَلَّمْ. كَانَتْ تَعْرَفْ مَوْعِدَ حُزْنِي دُونَ مَا أَبُوحْ، وَتَعْرَفْ جُوعَ قَلْبِي قَبْلَ مَا يَجُوعْ فَمِي. تِقْرَأْنِي مِثْلَ كِتَابٍ مَفْتُوحٍ قُدَّامَ عَيْنَيْهَا الْحَانِيَتَيْنِ، بِرِقَّةٍ غَارِقَةٍ فِي حُبٍّ سَمَاوِيٍّ عَرِيضٍ، مَا لَهُ نِهَايَةٌ.
تِتْرُكْ لِي كَلِمَاتِهَا مَرْسُومَةً بِلَا صَوْتٍ، وَتِمْلَأْ مِحْبَرَتِي بِالضَّوْءِ عَشَانْ يِعَانِقْهَا قَلَمِي فِي هُدُوءٍ. مَا كَتَبَتْ لِي رِسَالَةً غزلية، لَكِنَّهَا كَانَتْ تِنَقِّطْ لِي الْحُرُوفَ، وَتِرْسُم لِي الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَتِبْرِي لِي الْأَقْلَامَ عَشَانْ أَحْتَضِنْ الْوَرَقَ دُونَ ضَجِيجٍ، وَتِسُنَّ لِي الْأَلْفَاظَ خَلْفَهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ تِمَهِّدْ لِي الطَّرِيقَ إِلَى الْبَوْحِ دُونَ أَنْ تِجْرَحْ الصَّمْتَ. كَانَتْ سَمَاءً حِينَ تِكْفَهِرُّ السَّمَاءُ، وَأَرْضًا صُلْبَةً حِينَ تِمُورْ الْأَرْضُ، وَوَطَنًا حِينَ يِغِيبْ الْوَطَنُ، وَمَوْرِدًا عَذْبًا أَسْتَسْقِي مِنْهُ كُلَّمَا هَزَّ الظَّمَأُ وَحْشَةَ قَلْبِي. كَانَتْ هِيَ مَائِدَةَ الْحَيَاةِ وَمَأْدَبَتَهَا: رَغِيفَ الْخُبْزِ السَّاخِنِ، وَكُوبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَقِطْعَةَ الْحَلْوَى الَّتِي تِشْبَهْ نِهَايَةَ يَوْمٍ نَاجٍ مِنَ الِانْهِيَارِ. كَانَتْ تِمْشِي عَلَى أَطْرَافِ الْوَقْتِ بِأَصَابِعِ الْحَيَاءِ عَشَانْ مَا تِزْعِجْ يَوْمِي، وَتِصَلِّي بِصَمْتٍ عَشَانْ مَا تِوِقِظْ عَصَافِيرَ غَفْوَتِي وَنَوْمِي، وَتِخْفِي خُطُوَاتِهَا فِي الْمَطْبَخِ كَمَا يِخْفِي الْقَمَرُ خُطُوَاتِهِ، عَشَانْ مَا يِنْهَضْ السُّكُونُ فِي صَمْتِي. تِغْفُو كَالْمَسَاءِ، وَتِصْحُو كَالْمَطَرِ. وَإِذَا اشْتَكَيْتُ بَرْدًا – بَلْ، قَبْلَ مَا أَشْتِكِي – كَانَتْ تِرْفَعْ لِي بُرْدَتَهَا الْقَدِيمَةَ، وَلِحَافَهَا الْمَمْهُورَ بِكَلِمَاتٍ تِشْبَهْ تَكْبِيرَةَ الْعِيدِ. وَإِذَا بُحْتُ بِأَلَمٍ، جَفَّفَتْهُ كَمَا يِجَفَّفْ الْمَطَرُ عَنْ كِتَابٍ كَرِيمٍ تَبَلَّلْ بِزَخَّاتِهِ. كَانَتْ تِسَلِّمْنِي الطُّمَأْنِينَةَ، وَتِرْجَعْ إِلَى صَمْتٍ يِشْبَهْ صَلَاةً طَوِيلَةً. مَا كَانَتْ تِحِبْنِي بِالْكَلَامِ، كَانَتْ تِحِبْنِي بِتَقَشُّفِ الْأَنْبِيَاءِ، وَكَرَمِ الْأُمْنِيَّاتِ، وَصَبْرِ الْجِبَالِ. كَانَتْ تِبُثُّ فِيَّ سَكِينَةً خَفِيَّةً، وَتِذُوبْ فِي هُدُوءٍ مَا يِنْشَافْ. أَعْطَتْنِي عُمْرَهَا عَلَى جُرَعَاتٍ، وَسَحَبَتْ مِنْ نَفْسِهَا كُلَّ ضَوْءٍ عَشَانْ مَا أَعِيشْ فِي الْعَتَمَةِ. تَرَكَتْ لِي الْحَيَاةَ بِأَلْوَانِهَا، وَأَقَامَتْ فِي ظِلَالِ التَّخَفِّي، بِلَا لَوْنٍ يِشْبَهْ اسْمَهَا فِي السِّجِلَّاتِ الْقَدِيمَةِ. لَوْ جَمَعْتُ حُبَّهَا مِنْ فُتَاتِ الْأَفْعَالِ، لَصَنَعْتُ بِهَ مَدِينَةً تِسْكُنْهَا طُمَأْنِينَةُ الْعَائِدِينَ مِنَ الْغِيَابِ. وَلَوْ نَسَجْتُ مِنْ صَمْتِهَا وِشَاحًا، لَارْتَدَاهُ الشِّتَاءُ حَيَاءً مِنْ دِفْئِهَا.
صفوان يكمل مرارته والدموع تنهمر من عينيه كالمطر
لَمْ أَقْتُلْهَا، بَلْ قَتَلْتُنِي حِينَ سَمَحْتُ لِشَكِّي أَنْ يِنْمُو فِيَّ. إِنَّ نَدَمِي الْأَكْثَرَ لَيْسَ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ، بَلْ عَلَى الْخَطَأِ فِي قِرَاءَةِ الْقُلُوبِ. لَقَدْ سَمَحْتُ لِوَحْشِ الشَّكِّ أَنْ يِصِيرْ سَيِّدِي، وَأَشَدُّ الْعِقَابِ مَا هُوَ سِجْنٌ بَيْنَ الْجُدْرَانِ، بَلْ سِجْنٌ بَيْنَ نَدَمٍ وَأَلَمٍ مَا يِفَارِقْ صَاحِبَهُ، فَالْجَرِيمَةُ تِتْعَاقَبْ مَرَّةً، وَالْخِذْلَانُ الَّلِي تَبِعَهَا يِقْتُلْ صَاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ مَرَّةٍ.

مروان هَكَذَا بَدَأَ صفوان يَرْوِي لِي، وَكَأَنَّهُ يَحْفِرُ فِي نَفْسِي قَبْرًا. قَالَ لِي إِنَّهُ مَا بَدَأْ حِكَايَتَهُ عِنْدَ لَحْظَةِ اخْتِنَاقِ صَوْتِ سُمَيَّةَ، بَلْ فِي مَهْدِهَا الْأَوَّلِ، فِي لُجَّةِ رُوحٍ خَائِرَةٍ، تَلَّفَعَتْ بِظِلَالِ الْوَسْوَسَةِ، وَأَلِفَتْ أَنْ تَسْتَشْرِفَ الْمخاوف على من تحب مِنْ كُلِّ نُورٍ. فِي بَيْتٍ تَشَبَّعَ هَوَاؤُهُ بِتَنَاقُضٍ مُقْلِقٍ:

يستمر صفوان بالحديث ومروان يسمع
ويدون ما يسمع ليس في محضر رسمي ولكن بأوراق خاصة بمروان وكانه يبحث بين ثنايا الكلام الذي يسمعه عن دليل لأمر آخر
صفوان :نشأت مع أُمٌّ رَقِيقَةُ الْقَلْبِ، نَسَجَتْ لِي مِنْ فَرْطِ الْحَنَانِ دِثَارًا يِلُفّْ زَلَّاتِي كَالْعُذْرِ الْغَائِبِ، وَأَبٌ صَارِمُ الْعِبَارَةِ، تُصَاحِبْ كَلِمَاتُهُ رَنِينَ الْحَقِيقَةِ الْبَارِدَةِ. أَمَّا أُخْتِي، لِينَا، فَكَانَتْ قَطْرَةَ نَدًى عَلَى وَرَقَةِ زَهْرٍ، تِفِيضْ بَرَاءَةً مَا قِدِرْ قَلْبِي الْمُرَقَّطُ بِالْغَيْرَةِ يِفْهَمْهَا.
مُنْذُ صِغَرِي، مَا مَلَكْتُ ذَاكَ الْيَقِينَ الْمُطْلَقَ. كَانَتِ الْغَيْرَةُ لَهِيبًا يُوقِدْ فِي أَرْجَاءِ رُوحِي، مَا يِهْدَأْ إِلَّا عَشَانْ يِرْجَعْ أَشَدَّ ضَرَاوَةً. رَأَيْتُ فِي كُلِّ نَظْرَةٍ، وَفِي كُلِّ ابْتِسَامَةٍ، شَرَارَةَ خِيَانَةٍ مُتَوَقَّعَةً. مَا كَانَتْ صِفَةً عَابِرَةً، بَلْ فَلْسَفَةً قَامَتْ عَلَى أَسَاسِ هَشَاشَةِ الثِّقَةِ. وَمَعَ سُمَيَّةَ، تَحَوَّلْ هَذَا الشَّكُّ إِلَى عِمْلَاقٍ يَلْتَهِمْ كُلَّ جَمِيلٍ. مَا كَانْ حُبِّي لَهَا دِفَاعًا يِدْحَضْ ظُنُونِي، بَلْ عَلَى الْعَكْسِ، كُلَّمَا زَادْ الْحُبُّ عُمْقًا، زَادَتْ مَخَاوِفِي مِنَ الْفِقْدَانِ. وَصِرْتُ أَرَى فِي أَيِّ كَلِمَةٍ وَدُودَةٍ، أَوْ ابْتِسَامَةٍ عَفْوِيَّةٍ مِنْهَا، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا قَدْ تُسْلَبْ مِنِّي. وَهَمَسْ الْغُولُ الْقَابِعُ فِي أُذُنِي: "الْخِيَانَةُ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَاحْمِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْمَصِيرِ الْمُرِّ." وَكَأَنَّ الْحِمَايَةَ مَا تِكُونْ إِلَّا بِتَدْمِيرِ مَنْ أُحِبُّ.
هُنَاكَ وَقَفَتْ نَاهِدٌ مستغلة نقطة ضعفي في هذا الشأن وَنَسَجَتْ خُيُوطَ فَخَاخِهَا، تُدَاعِبْ وَتَرَ الشَّكِّ فِي رُوحِي، وَتِقْتَرِبْ مِنْ سُمَيَّةَ بِهُدُوءٍ مَكَّارٍ، كَذِئْبٍ يَتَرَبَّصُ. أَدْرَكَتْ حَذَرِي مِنْهَا، فَمَا قَابَلَتْنِي وَجْهًا لِوَجْهٍ، بَلْ بَثَّتْ سَمَّهَا فِي أَصْدِقَاءَ كَانُوا مَزِيجًا مِنِّي وَمِنْ سُمَيَّةَ. صَارَتْ نُقْطَةُ الضَّعْفِ مَرْتَعًا خِصْبًا لِشَيْطَانٍ يَنْفُثْ فِي عَقْلِي: "أَنْتَ مَا تِقْتُلْ سُمَيَّةَ، بَلْ تِقْتُلْ الْخِيَانَةَ الْحَقِيقِيَّةَ." فَتَحَوَّلْتُ إِلَى مَرِيضٍ يَرَى نَفْسَهُ مُنْقِذًا لِوَهْمٍ، مَا هُوَ قَاتِلًا لِحَقِيقَةٍ.
مَا كَانْ الْقَرَارُ سَهْلًا، بَلْ صِرَاعًا مُمِيتًا لَيَالِيَ طِوَالًا. اِنْحَبَسْتُ فِي غُرْفَتِي كَطَائِرٍ مَذْعُورٍ، تِخْبِطْهُ الْجُدْرَانُ بِصُوَرِ سُمَيَّةَ، تِتَرَاءَى لِي بَرِيئَةً وَخَائِنَةً فِي آنٍ وَاحِدٍ. كَانَ عَقْلِي سَاحَةَ مَعْرَكَةٍ بَيْنَ صَوْتِ الْحُبِّ الَّلِي يِصْرُخْ بِالْبَرَاءَةِ، وَصَوْتِ الشَّكِّ الَّلِي يِزْمُجِرْ بِالْخِيَانَةِ. مَا كُنْتُ شُجَاعًا، بَلْ جَبَانًا، أُقَدِّمْ ضَحِيَّتِي لِلْقَدَرِ. وَأَنَا الَّلِي كُنْتُ شَاعِرًا، لَكِنَّ شِعْرِي وَحُبِّي مَا كَانْ إِلَّا عِطْرًا زَائِفًا مَا مَنَعْنِي عَنِ الْجَرِيمَةِ. وَلَمَّا لَفَحَنِي خَبَرُ مَرَضِي بِالْإِيدْزِ، اِنْتَفَخَتْ تِلْكَ الْقَنَاعَةُ لِتِصْبَحْ "الْحَقِيقَةَ" الَّتِي مَا تِقْبَلْ الشَّكَّ. أَصْبَحَ الْمَرَضُ بُرْهَانِي الْقَاطِعَ عَلَى "خِيَانَةِ" سُمَيَّةَ. وَتَحَوَّلَتِ الْجَرِيمَةُ فِي عَقْلِي إِلَى "تَطْهِيرٍ" وَ"انْتِقَامٍ". مَا كَانَتْ لَحْظَةَ ضَعْفٍ، بَلْ لَحْظَةَ "يَقِينٍ" مُضَلِّلٍ، شَعَرْتُ فِيهَا أَنَّنِي أُحَقِّقْ عَدَالَتِي الْخَاصَّةَ. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، مَا رَأَيْتُ فِي عَيْنَيْهَا ذَاكَ الْفَزَعَ، بَلْ رَأَيْتُ وَجْهَ الْوَهْمِ الْجَمِيلِ الَّلِي كَانَ يِحْرُسْ مَدِينَتِي الْمُتَخَيَّلَةَ، فَقَتَلْتُهُ بِيَدَيَّ، وَأَنَا أَتَوَهَّمْ أَنَّنِي أُكَسِّرْ أَغْلَالَ الْخِيَانَةِ.
مَا لَقِيتُ ذَاكَ "الْيَقِينَ" الَّلِي سَعَيْتُ لَه. بَدَلًا مِنْ سَلَامٍ زَائِفٍ، اِصْطَلَيْتُ بِنَارِ جَحِيمٍ حَقِيقِيٍّ. اِرْتَفَعَتْ حَرَارَةُ جَسَدِي حَتَّى كَادَتْ تَاكُلْنِي، وَكَأَنَّ النَّارَ الَّتِي أَشْعَلْتُهَا فِي قَلْبِ سُمَيَّةَ قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى جَسَدِي وَرُوحِي. صِرْتُ غَرِيبًا عَنْ نَفْسِي. نَظَرْتُ فِي الْمِرْآةِ فَمَا رَأَيْتُ إِلَّا شَبَحًا، وَوَجْهًا شَاحِبًا، بِعَيْنَيْنِ تَائِهَتَيْنِ مَا تَعْرَفْ السَّكِينَةَ. كُنْتُ أَسْمَعْ أَصْوَاتًا خَفِيَّةً وَأَرَى ظِلَالًا تِهْمِسْ لِي بِكَلِمَاتِ سُمَيَّةَ الْأَخِيرَةِ. فَقَدْتُ الشَّهِيَّةَ لِلْحَيَاةِ، وَصَارَ النَّوْمُ رَفَاهِيَّةً مَا أَسْتَحِقَّهَا. كُلَّمَا غَمَّضْتُ عَيْنَيَّ، تَعَشْعَشَتْ صُورَةُ سُمَيَّةَ قُدَّامِي، مَا هِيَ خَائِنَةٌ، بَلْ بَرِيئَةٌ، وَعَلَى وَجْهِهَا عَلَامَةُ اسْتِفْهَامٍ تِسْأَلْنِي فِي صَمْتٍ مُدَوِّنٍ: "بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتُ؟"
مَا تَرَكْنِي هَذَا الْعَذَابُ لَحْظَةً. أَصْبَحْتُ أَرَى فِي عُيُونِ كُلِّ مَنْ حَوْلِي إِدَانَةً مَا تِنْقَالْ. وَأَخْشَى لَمْسَ أَيِّ شَيْءٍ، حَتَّى كِدْتُ أَشْعُرْ أَنَّ جُرْمِي قَدِ انْتَقَلَ إِلَى كُلِّ مَا أَمَسُّهْ. صِرْتُ أَكْرَهُ نَفْسِي، وَأَكْرَهُ فَلْسَفَتِي الْمَرِيضَةَ الَّتِي قَادَتْنِي إِلَى هَذِي الْهَاوِيَةِ. وَصَارَ جَسَدِي زِنْزَانَةً، وَعَقْلِي جَلَّادًا مَا يِرْحَمْ.
تَحَوَّلَتْ عَلَاقَاتِي الْأُسَرِيَّةُ بَعْدَ الْجَرِيمَةِ إِلَى أَدَاةِ تَعْذِيبٍ مُتَجَدِّدٍ تحولت مرايا عذاب:
• أُمِّي: مَا عَادَتِ الْأُمُّ الْحَنُونَةُ مَصْدَرَ دِفْءٍ، بَلْ نَبْعَ عَذَابٍ مَا يِنْطَاقْ. حِينَ زَارَتْنِي، رَأَيْتُ فِي عَيْنَيْهَا الدَّامِعَتَيْنِ حَنَانًا مَا أَسْتَحِقَّهُ، وَشَفَقَةً تُمَزِّقْ مَا تَبَقَّى مِنِّي. كُلُّ لَمْسَةٍ مِنْ يَدَيْهَا كَانَتْ كَلَسْعَةِ نَارٍ، وَكُلُّ كَلِمَةِ عَدْلٍ كَخِنْجَرٍ يِطْعَنْنِي. لَقَدْ كَانَتْ بَرَاءَتُهَا تِفْضَحْ جُرْمِي.
• أَبِي: كَانَ الْأَبُ، ذُو الْكَلِمَةِ الْفَصْلِ، يُمَثِّلْ السُّلْطَةَ وَالْحَقِيقَةَ. وَمَا قِدِرْتُ أَنْظُرْ فِي عَيْنَيْهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِمَا قَاضِيًا مَا يِرْحَمْ. لَقَدْ صَارَ صَوْتُ أَبِي فِي مُخَيِّلَتِي يِدَمِّرْ مَا تَبَقَّى مِنْ كَرَامَتِي.
• أُخْتِي لِينَا: كَانَتْ لِينَا بَرَاءَةً مُطْلَقَةً. وَبَعْدَ الْجَرِيمَةِ، مَا قِدِرْتُ أُوَاجِهْهَا، فَقَدْ رَأَيْتُ فِيهَا صُورَةَ سُمَيَّةَ. عُزْلَتِي عَنْهَا مَا كَانَتْ كَرَاهِيَةً، بَلْ خَوْفًا مِنْ أَنْ أُدَنِّسْ نَقَاءَهَا بِظُلْمَتِي.
لَمْ تَقْتَصِرْ عُزْلَتِي عَلَى عُشِّي الْأُسَرِيِّ، بَلِ امْتَدَّتْ لِتَطَالَ أَصْدِقَائِي: حَامِدًا، فَاهِمًا، وَرَؤُوفًا. هَؤُلَاءِ الرِّفَاقُ الَّلِي شَارَكُونِي ضَحِكَاتِي، أَصْبَحُوا مَرَايَا تِعْكِسْ خَوْفِي وَشُعُورِي بِالْخِزْيِ.
• حَامِدٌ: كَانَ أَكْثَرَهُمْ حِكْمَةً. وَالْحِينَ، رَأَيْتُ فِي نَظْرَتِهِ الْهَادِئَةِ بَحْرًا مِنَ الشُّكُوكِ الْمَكْبُوتَةِ. صِرْتُ أَرَاهُ مُحَقِّقًا صَامِتًا يَنْطِقْ بِعَيْنَيْهِ.
• فَاهِمٌ: كَانَ نَبْضَ الْمَجْمُوعَةِ. وَالْحِينَ، صَارَتْ ضَحِكَاتُهُ الصَّاخِبَةُ صَدًى مُزْعِجًا يِذَكِّرْنِي بِأَيَّامِ صِدْقِ الضَّحْكِ. رَأَيْتُ فِيهِ كُلَّ الْبَرَاءَةِ الَّتِي فَقَدْتُهَا.
• رَؤُوفٌ: كَانَ شُجَاعًا بِمَشَاعِرِهِ. لَكِنَّ صَمْتَهُ كَانَ أَقْسَى مِنْ أَيِّ صُرَاخٍ. شَعَرْتُ أَنَّ رَؤُوفًا يَرَانِي وَحْشًا.
مروان وَبَيْنَمَا صفوان يَرْوِي لِي تَفَاصِيلَ هَلَاكِهِ، لَمْ أَعُدْ أَرَاهُ مُجَرَّدَ قَاتِلٍ، بَلْ ضَحِيَّةَ أَوْهَامٍ صَنَعَهَا بِنَفْسِهِ. وَبَعْدَ أَنْ أَفْرَغَ قَلْبَهُ، أَدْرَكْتُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَانِي صفوان وِشَاحًا اِسْتَخْرَجَهُ مِنْ جَيْبِ قَمِيصِهِ الْأَيْسَرِ أَنَّ هَذَا الْوَشَاحَ الْمَطْرُوزَ بِرَمْزِ الى شيء خفي رُبَّمَا يَقُودُنِي إِلَى الْمَنْظَمَةِ وَيَكُونُ دَلِيلِي الْأَوَّلُ.
وَبَيْنَمَا هو يَتَحَدَّثُ، لَاحَظْتُ وَخْزًا دَقِيقًا عَلَى سَاعِدِهِ الْأَيْسَرِ، عَلَامَةً تُشْبِهُ وشمًا صَغِيرًا مُؤْلِمًا، لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ عَلَامَةٍ، بَلْ حفراً دَقِيقًا لِحَرْفَيْنِ "ن" وَ "ظ".
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تَقَاطَعَتْ الْخُيُوطُ فِي عَقْلِ مروان، لَمْ تَكُنْ قَضِيَّةُ سُمَيَّةَ نِهَايَةَ الْقِصَّةِ، بَلْ مِفْتَاحَ بَابٍ جَدِيدٍ. فَالْقَصَصُ لَا تَمُوتُ، بَلْ تَتَدَاخَلُ وَتَتَجَدَّدُ. وَمِنْ هُنَا، تَبْدَأُ رِحْلَةٌ جَدِيدَةٌ فِي عَالَمِ "تشابك الخيوط".
مَذْكَرَاتُ صَفْوَانَ: وَصِيَّةٌ فِي زَمَنِ الْهَلَاكِ
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، كَانَ مروان يُرَتِّبُ

أَوْرَاقَ صفوان فِي مَكْتَبِهِ، بَعْدَ أَنْ اسْتَأْذَنَ مِنْهُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا قَبْلَ إِرْسَالِهَا لِأَهْلِهِ. كَانَ قَلْبُهُ يَنْقَبِضُ وَهُوَ يَرَى حَجْمَ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الْقَاتِلِ الَّذِي عَرَفَهُ، وَالْإِنْسَانِ الَّذِي تُخْفِيهِ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ. الْتَقَطَ مروان إِحْدَى الْمُذَكَّرَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُكَدَّسَةِ، وَفَتَحَهَا عَلَى صَفْحَةٍ لَمْ تَكُنْ مَكْتُوبَةً بِمِدَادِ الْقَلَمِ فَحَسْبُ، بَلْ بِدُمُوعِ الرُّوحِ. بَدَأَ يَقْرَأُ مَا دَوَّنَهُ صفوان بِخَطِّ حُلْمِهِ وَطُمُوحِهِ قَبْلَ الْجَرِيمَةِ يُوصِي ابْنَ أخته الَّذِي يعده ابنه الذي لَمْ يُولَدْ بَعْدُ بِمَعَانِي تَهْزُّ الْمَشَاعِرَ، لَكِنَّ الْمُفَارَقَةَ عَجِيبَةٌ بَيْنَ وَصِيَّتِهِ وَفِعْلَتِهِ. لَمْ يَكُنْ بِمُسْتَوَى وَصِيَّتِهِ بَلْ كَانَ يَرْتَعِشُ خَوْفًا مِنْ فَقْدِهِ لِزَوْجَتِهِ وَيَرْتَعِشُ مِنْ شَكِّهِ وَغَيْرَتِهِ. وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ هِيَ الَّتِي أَثَّرَتْ فِي مروان تَأْثِيرًا كَبِيرًا. يَقُولُ: أي بُنَيَّ:
كُنْ جَابِراً لِلْقُلُوبِ، سَاتِراً لِلْعُيُوبِ،
صَبُوراً فِي النَّوَائِبِ، جَسُوراً فِي الشَّدَائِدِ،
طَلْقَ الْمُحَيَّا عَظِيمَ الْخُلُقِ لَا يَحْجُبُكَ عَنِ الْفَضَائِلِ حَاجِبٌ، وَلَا يَخِيبُ عِنْدَكَ طَالِبٌ،
وَلَا يُضَرُّ بِكَ قَرِيبٌ وَلَا صَاحِبٌ
فَإِنَّ النُّفُوسَ الْكَبِيرَةَ تَأْنَفُ الصِّغَارَ،
وَلَا تَأْبَهُ أَمَامَ غَايَتِهَا النَّبِيلَةِ مِنَ اقْتِحَامِ الْمَخَاطِرِ وَالْأَهْوَالِ، وَلَا تَضْنَى بِمَثَاقِيلِ الْجِبَالِ وَكَثْرَةِ الْأَحْمَالِ..!!!
تَتَخَطَّى حُدُودَ الْمُمْكِنِ وَغَيْرِ الْمُمْكِنِ بِعَزِيمَتِهَا الْفُولَاذِيَّةِ لِتَتَجَاوَزَ الْأَزْمَانَ وَالْأَجْيَالَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى غَايَتِهَا النَّبِيلَةِ.
كُنْ عَظِيمَ الْحِلْمِ قَوِيَّ الشَّكِيمَةِ،
صُلْبَ الْإِرَادَةِ قَوِيَّ الْعَزِيمَةِ، صَلْدًا كَالرَّوَاسِي، لَا تَهُزُّكَ الْعَوَارِضُ،
قَدَمُكَ فِي الثَّرَى، وَهَامَتُكَ فِي الثُّرَيَّا،
لِيَكُنْ قَلْبُكَ الْغَضُّ مُطْمَئِنًّا عَلَى
كُلِّ أَحْوَالِهِ... وَإِنْ أَحَاطَ بِكَ أَمْرٌ تَخَافُهُ أَوْ مَحْذُورٌ تَخْشَاهُ فَرَدِّدْ مَقُولَةَ مُوسَى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
كُنْ أَمِينًا، صَادِقًا إِذَا حَدَّثْتَ
وَفِيًّا إِذَا عَاهَدْتَ، لَا تُهَوِّنِ الْمَلِيحَ،
وَلَا تُهَوِّلِ الْقَبِيحَ تَجْمَعْ وَلَا تُفَرِّقْ، تَبْنِ وَلَا تَهْدِمْ، تَجْبُرْ وَلَا تَكْسِرْ، تُؤَلِّفْ وَلَا تُحَرِّفْ،
تُقَوِّي الضَّعِيفَ وَتُدَاوِي الْجَرِيحَ،
وَحِذَارِي مِنَ التَّفْرِيطِ،
فَإِنَّ أَمَانَةَ الْقَوْلِ عُنْوَانُ نُبْلِكَ،
وَسُمُوُّ فَضْلِكَ وَبِهَا هَلَاكُكَ أَوْ نَجَاتُكَ،
فَكَمْ يُسْقِطُ أَقْوَامًا وَيَرْفَعُ آخَرِينَ،بها
وَكَمْ تُبْلَى الْأَقْوَالُ وَالْأَفْهَامُ بِعَيْنِ
الرِّضَا وَالسُّخْطِ،
وَتَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا إِلَّا تَبَعًا لِغَايَةٍ نَبِيلَةٍ وَمَسْلَكٍ شَرِيفٍ،"
أَعَادَ مروان قِرَاءَةَ الْمَقْطَعِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَشَعَرَ بِغُصَّةٍ مَرِيرَةٍ تَعْتَصِرُ قَلْبَهُ. أَدْرَكَ أَنَّ صفوان لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ قَاتِلٍ، بَلْ ضَحِيَّةَ وَهْمٍ وَشَكٍّ، وَضَحِيَّةَ قَسْوَةِ مُنَظَّمَةٍ. سَقَطَتْ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِ مروان عَلَى الْوَرَقَةِ، وَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ لِلَحْظَةٍ وَهُوَ يَرَى بَرَاءَةَ سميّة تَتَجَسَّدُ فِي كَلِمَاتِ زَوْجِهَا النَّادِمِ.
وَحُكْمَتُهُ الرَّصِينَةُ وَقَالَ مروان بِصَوْتٍ تَخْنُقُهُ الْعَبْرَةُ: لَقَدْ خَسِرْنَا أَدِيبًا فَحْلًا...
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، تَحَوَّلَ الْأَمْرُ فِي قَلْبِ مروان مِنْ مُجَرَّدِ قَضِيَّةِ تَحْقِيقٍ إِلَى مَعْرَكَةٍ شَخْصِيَّةٍ. عَزَمَ عَلَى أَنْ يَقِفَ مَعَ صفوان بِصِفَتِهِ مُحَقِّقًا، وَلَكِنْ بِقَلْبٍ مُتَعَاطِفٍ وَمُتَأَثِّرٍ، وَأَنْ يَجِدَ لَهُ مَخْرَجًا ضِمْنَ إِطَارِ الْقَانُونِ ليخفف عنه الحكم الذي سيصدر بحقه قدر المستطاع، وأصر بأن يَكْشِفَ الشَّبَكَةَ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي دَمَّرَتْ هَذَا الشَّاعِرَ الْمِسْكِينَ وَزَوْجَتَهُ الْبَرِيئَةَ.

ناديه محمد الجابي
08-10-2025, 06:27 PM
أسلوبك الأدبي قوي جدا ، وسردك مثير ببلاغة شائقة
لغتك سليمة وتعابيرك مملوءة حسا وسموا وصورا أدبية
ولحرفك جماله وحسه
ولكني لا أستطيع أن أقول رأي في أجزاء غير مترابطة من القصة
انزل الرواية في أجزاء متتابعة لأستطيع الألمام بها والتفاعل معها والرد عليها
ولك شكري وتقديري.
:002::011::004: