قراءة تأمُّل في قصيدة " سَمَرْ " للشاعرة اليمنية : نورية الجرموزي
قراءة تأمُّل في قصيدة " سَمَرْ "
للشاعرة اليمنية : نورية الجرموزي
قراءة : صالح عبده إسماعيل الآنسي
الأُخت الشاعرة الأُستاذة/ نورية حسن الجرموزي ، هى أحد أبرز الكوادر النسائية اليمنية المؤهلة و المثقفة الفاعلة ، في مجال التربية و التعليم ،و النشاط السياسي و المدني الحقوقي و التوعوي للمرأة اليمنية ، نذرت جُهدَها و يراعَها من أجل بناتِ جنسِها ، في تبني قضاياهن و المنافحة عنهن في كلٍ من الريف و الحضر ، قائلةً : " كل أحرفي تقريباً هي تعبير عن مُعاناة المرأة في وطنٍ لا يرتضي إحترامَ النساء " ، و هو الأمر الذي ترك أثرهُ على الكثير من كتاباتها و نتاجها الأدبي ، و كان الموضوع و الغرض الذي تناولته نصوص قصائد ديوانها -شارع الجنابي- الذي يُعالج موضوع مُعاناة المرأة في الريف اليمني، وأصبح جاهزاً للإصدار في المستقبل القريب إن شاءَ الله ، إلى جانب تغنيها في الكثير من أعمالها ببعض المدن و المعالم اليمنية البارزة ، كالحالمة تعز ، و قلعة القاهرة فيها ، و العاصمة صنعاء ، و غير ذلك من ما أتيح لي الإطلاع عليه ، و تتميز بإسلوب تناول شعري جميل و ملفت بخفة ظله و ومضته ، مواكب للحداثة ، وتكتب بإحساس ووجدان أُنثى جياشٍ وعذب ، و مفردات لغة سامقة راقية تطوعها بمهارة ، و هو الأسلوب الذي يجعلك لا تملِك إلا أن تُعجَبَ به ، و يفرض عليكَ حُبَّهُ و دوام متابعة جديده ، و إحترام و تقدير صاحبته ، وكل النتاج الأدبي للمرأة اليمنية المبدعة عموماً ، الذي يجب أن نعتز و نفخر به،في هذا البلد الذي يزخر بالكثير و الكثير من المبدعين و المبدعات كمنجمٍ لا ينظب ، حتى قيل مجازاً أن لأهله قرابة بعبقر ! ، لكثرة ما يُولد فيه من الشعراء و الشواعِر المبدعين ، و هو الأمر الذي لا يُستغرَب من بلدٍ هو مهدُ الحضارات و إليه منذ القِدَم يرجع إنتساب كل العرب ، بغض النظر عن خيباته السياسية و الإقتصادية المتعاقبة ، و ما يُعانيه كل أبنائه من جراءِ ذلك ، إلا أن مبدعيه في كل المجالات يظلون هم أجمل ما فيه ، راسمين له أمام الغير من الشعوب الأخرى أجملَ لوحة ، و زارعين في النفوس الأمل بغدٍ لهُ مُشرق.
و هذه مُحاولة متواضعة لقراءة تأمُّلِيَّة لنص قصيدتها " سَمَر " ، و هو من أروع النصوص التي تغنت فيها بصنعاء و جمالها ، و عبرت فيها عن مبلغ عشقها و إشتياقها لمدينتها الأسطورية ، كونها صنعانية المولد و النشأة ، و تقطنُ الآنَ في الحالمة تعز :
،،، سَمَر ،،،
صنعاء ...و إن طالَ السفر
العشقُ والغنجُ المُخَضَّبُ بالزَهَر
ممشوقةٌ.... لَمَّا رأتها الشمسُ
ضلَّت دربها
وغدت...تُراوِدُ ليلها...عن نفسِه
فعساهُ يطلبُ قربَها
تلكَ المليحةُ في تصابيها
تُغرِّرُ بالقَمَر
وتقولُ : " هيا - هيتَ لك"
فإذا أتاها...غادرت من فورِها
معشوقةٌ... لَمَّا التقاها ناظري
أطرقتُ...غضَّيتُ البَصَر
فالسحرُ فيها...يستبيحُ االفِكرَ
يُنذِرُ بالخَطَر
لاشئَ يُشبهُهَا...سِواها
فكأنها كلُّ البَشَر
تِلكَ الطروبُ...تذوبُ...لحناً رائعاً
فتطيرُ روحي في فضاءاتِ الوَتَر
ماذا أُسميها ؟!
هُدَايَ...؟!.. ضلالتي... !؟
وَجَعِي المقيمُ... ؟!...كآبتي...؟!
فَرَحِي بها كالطِّفلِ يرقُصُ للمَطَر!
ماذا أُسميها ؟!
ومالي من تساقيها مَفَر
البحرُ والمرسى
وشمسي والقَمَر
معشوقتي...صنعاء
وأَدعوها..." سَمَر "
قصيدة تفعيلة رائعة ، مفعمة بالصور ، و الخيال و عذوبة الإحساس و قوة الوجدان ، سامقة اللفظ ، مؤثرة في المتلقي ،تحلق به في فضاءات واسعة و تشعل فيه جمر الحنين و الإشتياق لصنعاء ، ناجحة بكل المقاييس ، فيها كل عوامل نجاح القصيدة ، كما عودتنا الزميلة الرائعة في معظَم ما يصدر عنها من نتاج أدبي.
أستخدمت فيها تفعيلة البحر الكامل "متفاعلن" مُضمَرَة في الكثير منها -أي ساكنة الثاني الذي كان متحرك في التاء، حيث التفعيلة غير المضمرة تكون في الأصل متحركة بالفتح في التاء و هو من الزحاف و العلل التي تجوز أن تدخل على تفعيلة البحر الكامل.
مطلعها يضع القارئ مباشرة على مشارف موضوع القصيدة ، حينما تذكره بتلك المقولة الرائجة " لا بد من صنعاء و إن طال السفر " لتأتي بقية القصيدة تعلل و تبين سبب إطلاق تلك المقولة عن صنعاء ، كما قام بتضمين هذه المقولة بالذكر الكثير من النتاج الأدبي اليمني و العربي في مَعرِض التغني بصنعاء.
صنعاء المجسدة في القصيدة بشخص فتاة فاتنة ، هي تلك الممشوقة القوام ،المعشوقة ، الغنوج بجمالها الفطري الأزلي بروعة موقعها الطبيعي ، و المُكتسَب المُطرَّز بما خضبه إنسانها الرائع من قديم وجديد معالم التحضُر و العُمران ، ذو الطابع اليمني الصنعاني المُمَيَّز ، التي تغارُ من بهاها آية البهاء الكبرى-الشمس- فتظل دربها من شدة الغيرة و الحيرة نهاراً ، ليأتي ليلها الصاخِب ، الساحِر الأضواء ؛ فتراوده الشمس علَّهُ يساعدها في طلب قربها -و المراودة هنا توحي بالممانعة ومبالغة التدلل و الغنج من ليل الفاتنة "صنعاء" كما هو شأن كل الفاتنات- و كما قد غارت الشمس منها ، فهي أيضاً تجعل آية البهاء والجمال الكبرى الثانية -القمر- يغير منها و يطلب قربها أيضاً ، حتى إذا ما أتاها تفعل معه كما فعلت مع الشمس من المبالغة في التمنع و التدلل فتغادرهُ من فورها ليزيد تعلقهُ بها أكثر ، و هي تجعل أيضاً ناظريها من الناس و البشر -سُكاناً أو زائرين- و هم في القصيدة مُختزلين و مُمَثلين بشخص الشاعرة (لَمَّا التقاها ناظري) ، يغضون الطرف خوفاً من الإفتنان بها ، لجمالها الفائق ، المنقطع النظير ( فالسِّحرُ فيها ، يستبيحُ الفِكرَ ، يُنذِرُ بالخطر ، لا شئَ يُشبهُها...سِواها ، فكأنها كلُّ البشر).
وتأتي بقية فواصل القصيدة الخمس بما فيها من الحيرة المُتولِّدة من التولُّه و مُنتهى الحب و العشق ( ماذا أسميها؟!) لتخلُص إلى الإسم الذي أرتأتهُ الشاعرة مناسباً من وجهة نظرها لتلك المعشوقة الفاتنة الغنوج "صنعاء" وعنواناً للقصيدة و هو " سَمَر " هذا الإسم الذي يوحي بمعانٍ كثيرة للأنوثة و الجمال و يحمل معنى التسامر في سماء الليل -كالبدر و النجوم- لما لتسامرها من الدلالة على التفرد ، و الخلوص بالقصيدة إلى هذا الإسم في النهاية و ليس الإتيان على ذكرهِ في بداية النص أو منتصفه ، يجعل المتلقي منجذباً إلى التطلُع لختام القصيدة ، وهو يُشبه عنصري الحبكة السردية الدرامية "العُقدَة" -في الحيرة حول ماذا ينبغي أن يكون الإسم- و "الحَل" -في ذِكر الإسم المُقترَح خِتاماً .والقصيدة بتفعيلات بحر الكامل، و إيقاع نهاية فواصِلِها الأثنى عشر بالراءِ الساكن (السفر -بالزهَر- القمر-البصر-
الفِكَر-بالخطر-البشر-الوتر-للمطر-مفر-و القمر-سمر) والجناس في(دربها-قربها-فورها) (أسميها-تساقيها-ادعوها) (الطروبُ-تذوبُ) (ظلالتي-كآبتي) ، جاءت مُكتملة البناء ، جميلة الإيقاع و الجرس، متناغمة الموسيقى.
إلى جانب ما زخرت به من صور التجسيد الجميلة الرائعة ، من مثل (الغنج المخضب-الممشوقة-رأتها الشمس-ضلت دربها-تراود ليلها- يطلب قربها-تصابيها-تغرر بالقمر-و تقول- أتاها-غادرت-لما ألتقاها-تذوب لحناً) و التشبيه (تلك المليحة-كأنها كل البشر-تلك الطروب- كالطفل يرقص في المطر) ، و التضمين الإقتباسي الإيحائي الجميل في استخدام عبارة القرآن الكريم (قالت:" هيت لك") ، كل ذلك كسا القصيدة بأبهى حُلَّة وطرَّزها بأجملِ تتر.
لتكون بهذه الحُلَّة من ما تستحقهُ صنعاء ، و لائقاً بها و بجمالها و محبتها في القلوب ، و خيرَ معبرٍ عن مبلغ الإشتياق و الحنين إليها.
لستُ ناقداً و لا أُجيد النقد أو أمتهِنُه ، لكن هكذا كانت قراءتي للقصيدة من وجهة نظري كأديب ، و محاولة متواضعة لإستخراج مواضع الجمال و عوامل و مقومات النجاح فيها ، و فخر و إعتزاز بنتاج يراع أدبي نسائي يمني متميز، مُتمكِن و مُبدِع -من بلدي-يستحق قبل غيره التأمُّل والإهتمام والمتابعة.
مع خالص تمنياتي في الختام لزميلة الحرف ، الأخت الشاعرة/ نورية الجرموزي بالمزيد من التوفيق و النجاح في مسيرتها الأدبية و النظالية في الإنتصار لمطالب و حقوق المرأة اليمنية.