أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: مشكلة الإنسان المعاصرة

  1. #1
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.41

    افتراضي مشكلة الإنسان المعاصرة

    الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
    من درس: أهمية علم أصول الدين

    والقرن العشرون أكثر القرون في تاريخ البشرية اضطراباً وحيرة وتفككاً وضياعاً، ومعلوم أن الذي يعبر عن هذا حق التعبير في أي واقع ومجتمع -سواء كَانَ هذا الواقع حقاً أو باطلاً عقيدة أو سلوكاً- بالتعبير الدقيق هم أصحاب الإحساس العميق الدقيق، كالشعراء والأدباء وأمثالهم.

    فماذا يقول أدباء وشعراء أوروبا حول قضية أنه لا حياة للإنسان، ولا سعادة ولا هناء إلا بأن يعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!!

    عبروا عن ذلك بما يدل عَلَى الضياع والفراغ والحيرة، ويؤسفني جداً أن أقول: إن بعض أدباء الْمُسْلِمِينَ يسلكون وينتهجون منهج أُولَئِكَ الأدباء الحيارى الضائعين؛ ولذلك نجد كثيراً من الدواوين الشعرية ضائعة تماماً.

    فمثلاً شاعر نصراني يقول:

    جئت لا أدري مـن أين؟! ولكـني أتيت
    وغيره من الشعراء يكتب ديواناً كاملاً تقرأ فيه الحيرة والضياع والألم، فيتألم من شيء لا يدري ما هو.

    ونحن والله نعرف أن سببه هو عدم الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، وأنه لو عرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصلى وقرأ كتاب الله، لما كَانَ في شعراء الْمُسْلِمِينَ من يقول:

    ومضى عمري ولا أعرف دربي أبداً
    .

    أما نَحْنُ والله إننا نعرف دربنا وإلى أين المصير، ونعرف أن مردنا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه فرض علينا فرائض وشرع لنا شرائع، فإذا وقفنا عند حدوده ووحدناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأطعناه فمصيرنا إِلَى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن عصيناه وتعدينا حدوده فمصيرنا إِلَى الشقاء وضيق الدنيا، وإلى النَّار في الآخرة أجارنا الله وإياكم، لكن الحيارى لا يدركون ذلك.

    وهذا شاعر فرنسي وهو من أكبر الشعراء أثراً في فرنسا يقول: "حيرة الإِنسَان المعاصرة"!!، طبعاً هم يعممون الإِنسَان لأنهم يظنون أن الْمُسْلِمِينَ حيارى، ونحن في الحقيقة حيارى؛ لأن القليل منّا من يمثل حقيقة الإسلام، فيظنون أننا مثلهم عَلَى هامش الأمم حيارى.

    يقول: (ومشكلة الإِنسَان المعاصِرة قضية واحدة، وهي أنه يبحث عن سيد، يبحث عن إله).

    فيحدد أول مرة سيداً عاماً لكنه في الأخير يقول: "يبحث عن إله" وهي مشكلة الإِنسَان المعاصرة، فالدمار والحروب المستمرة، والقنابل الذرية، والمصير الرهيب الذي ينذر البشرية، وتحاول أن تتخلص منه ولا تستطيع، هو الذي يلجئ أهل الإحساس وأهل الشعر وأهل النظرات البعيدة إِلَى المخدرات والانتحار، يتخلصون به من رعب المستقبل كما يسمونه، ولذلك نجد أرقى بلاد العالم في الحضارات المادية، وفي الشوارع الفسيحة، والعمارات الضخمة، والترف المادي في معدل المعيشة، هي أكثر بلاد العالم نسبة في الانتحار، لأنه كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وكما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان : ( لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها).

    والله لا يجد العبد الطمأنينة والراحة واللذة ولا يجد السعادة مهما أخذ من الدنيا وجمع من حطامها، بل يعذبه الله بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.

    منقول للفائدة بإذن الله
    أختكم
    بنت البحر
    حسبي اللهُ ونعم الوكيل

  2. #2
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.41

    افتراضي التوحيد هو نقطة البدء والانتهاء

    الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
    من درس: التوحيد (الحلقة الأولى)

    قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:

    [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له] .

    قال المصنف رحمه الله تعالى:

    [ اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] وقال هود عليه السلام لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] وقال صالح عليه السلام لقومه:اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73] وقال شعيب عليه السلام لقومه:اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85] وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت [النحل:36] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون [الأنبياء:25] وقال صلى الله عليه وسلم :{أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله،وأن محمداً رسول الله} ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم؛ بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك. ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الاقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك، وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلم بهما، هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام. فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة} فهو أول واجب وآخر واجب] اهـ

    الشرح:

    ابتدأ الماتن -رحمه الله تعالى- واضع العقيدة وهو الإمام الطحاوي بهذه الجملة:

    [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له] .

    فابتدأ العقيدة بالتوحيد، وهذا هو اللائق، لأن التوحيد هو أشرف وأهم فروع العقيدة، بل العقيدة كلها توحيد، والقرآن كله توحيد، فالتوحيد هو أول ما يجب، وأول ما يدعى إليه، وحول التوحيد كانت المعركة بين الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وبين الأمم .

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فهذا هو ما دعا إليه الأنبياء جميعا، دعوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى حيث افتتحوا دعوتهم واختتموها بذلك. فإن الشرائع والتعبدات جميعاً إنما هي فروع وتوابع للتوحيد.

    ومعنى كون التوحيد أول دعوة الرسل: هو أن كل نبي إنما يأتي قومه لينذرهم أنه لا إله إلا الله، ويحذرهم من عبادة الطاغوت.

    وأما قوله: [وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل]، هذه العبارات استعارها المصنف من المصطلحات الصوفية ، فـالصوفية عندهم أن الناس ثلاثة أنواع: مريد -وهذا هو المبتدئ- ثم السالك الذي يسير في الطريق، ثم الواصل الذي وصل وسقطت عنه التكاليف، ووصل إلى حقيقة المعرفة كما يقولون .

    وهذه الاستعارة إنما هي على سبيل التقريب، لأن كثيراً من الناس يظنون أن المصطلحات الصوفية ما هي إلا اصطلاحات فنية -أي عبارات أو معاني أو ألفاظ- أُطلقت على المعاني القلبية لنعرف بها هذه المدلولات، ويقول كثيرٌ منهم: إن التصوف هو شرح لحقيقة المرتبة الثالثة من مراتب الدين التي هي الإحسان .

    هؤلاء القوم أي الصوفية يقولون -كما هو أصل ديانتهم في الهند -: إن بين العبد وبين الرب ألف مقام من الظلمة، يقطعها حتى يصل إلى النور أو التوحيد الذي هو عندهم المحو والفناء في ذات الله، بحيث تتحد نفسه بالباري، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .

    وهذه المصطلحات نقلت إلينا على سبل، فنقلها بعضهم وهو من أهلها، ونقلها بعضهم على سبيل التقريب أو استعارة لاصطلاحات لا يؤمن بمدلولاتها، ونقلها بعضهم وهو لا يدري على أي شيء تدل.

    فالنقطة الأولى: نقطة الانطلاق ونقطة البدء في حياة الإنسان ومعاملته وعبادته هي: توحيد الله تبارك وتعالى، فلا شيء قبله، ولا يقبل من العبد شيء إلا بعد أن يوحد الله تبارك وتعالى وأن يؤمن به سبحانه وتعالى، فهي أول دعوة الأنبياء، وأول ما يبدأ فيه الإنسان في عبادته لله تبارك وتعالى وهذه الأمة هي أمة التوحيد، وأبو الأنبياء جدنا الخليل إبراهيم عليه السلام هو إمام الموحدين، وهو الذي جاء بملة إبراهيم ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً [النحل:123] فهي الملة الحنيفية التي تقوم على التوحيد. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ارتدت العرب إلى الشرك وعبدت الأوثان، وأشركت مع الله غيره، وعبدت المعبودات التي كان قوم نوح يعبدونها، فجاء بدعوة التوحيد وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجاء بالسيف كما قال صلى الله عليه وسلم: { بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له }

    يعني: دعوة التوحيد هي موضوع المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، -ومن هنا نعرف أهمية هذا العلم وأهمية معرفته، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث: { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله } فهو بعث بالقتل والقتال حتى يعبد الله وحده تبارك وتعالى وذلك تحقيق منه صلى الله عليه وسلم لآخر ما أنزل الله تعالى من أحكام القتال. فالجهاد أول ما بدأ به كان إذناً فقط، فلم يكن أمراً مستحباً ولا واجباً أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] فأذن الله تعالى للمؤمنين بالقتال بعد أن تحرقت قلوبهم وتشوقت إلى أن يقاتلوا الكفار، ثم استمر الأمر إلى أن وصلت المرحلة الأخيرة، وهي الأمر بالقتل لكل مشرك، وآخر مهلة للكفار في جزيرة العرب خاصة، أربعة أشهر يسيحون في الأرض، ثم بعدها تكون النهاية فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصد [التوبة:5] هذه الآيات آخر ما نزل في شأن الجهاد، وقال سبحانه وتعالى عقبها: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم [التوبة:5] وقال بعد ذلك أيضاً: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].

    فمنطوق الحديث: { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } هو نفس مدلول الآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم [التوبة:5] وفَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] -أي: وجبت لهم الأخوة- فمن لم يأت بهذه الأركان الثلاثة فلا أخوة له في الدين ولا يخلى سبيله، بل يقاتل، ولم يذكر الصيام والحج مع الشهادتين والصلاة والزكاة؛ لأن الصوم عبادة خفية لا يعلم بها ولا يطلع عليه فيقاتل عليها، لكن نقاتل ونقتل واحداً عرفناه بعينه، أو عرفنا أمة أو قرية أو طائفة امتنعت عنه، فنقاتلها قتال كفر وردة، كما أجمع الصحابة بعد المناظرة مع أبي بكر على أن يقاتلوا تاركي الزكاة كما يقاتلون المرتدين..

    وقال عمر " لو لم نطع أبا بكر لكفرنا بغداة واحدة" بعد أن تذكروا وتنبهوا إلى أنَّ قولَ أبي بكر : "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" هو نفس منطوق الآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [التوبة:11]. والحج يجب مرة واحدة في العمر، ويجب على من استطاع الزاد والراحلة، وهذا لا نستطيع أن نعرفه -أيضاً- بسهولة، لأننا لو جئنا وقلنا لأمة من الأمم لم لا تحجون؟ قالوا: نحج السنة القادمة -إن شاء الله- أو بعدها فلا نستطيع أن نقاتلهم، لكن لو قالوا: لا لن نحج هذا البيت أبداً، لحكمنا بأنهم كفار، وقاتلناهم قتال كفر وردة .

    فهذه الأركان الأساسية الثلاثة التي هي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو الركن الأول، وإقام الصلاة وهو الركن الثاني، وإيتاء الزكاة وهي الركن الثالث الذي ورد النص صريحاً في المقاتلة عليها، لأنها هي التي تعطي الطابع العام للمجتمع أو للفرد، أما الحج والصوم فهذا حكمه بينه وبين ربه، بخلاف الصلاة فنقاتله ونقتله إن أصر على تركها، وكذا الزكاة نقتله أو نأخذها منه قهراً، فإذا أخذنا الزكاة منه قهراً وسكت وهو في قلبه كاره لذلك؛ فهو منافق بينه وبين ربه، لكنه في الأحكام الدنيوية الظاهرة مسلم، وزكاته أخذناها منه قهراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: { إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا } .

    والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما وضع كتاب التوحيد، ذكر فيه أول ما ذكر حديث معاذ لما بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له:{ إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، أو إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب من اليهود، فليكن أول ما تدعهم إليه عبادة الله } وهذا يدل على دقة فهم البخاري ، وفقهه في تراجمه وتبويـباته.

    فهذه روايات صحيحة وثابتة في البخاري ، وبعضها في مسلم في ألفاظ حديث معاذ :

    الرواية الأولى: { فليكن أول ما تدعهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات } .

    الرواية الثانية: { فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله } .

    الرواية الثالثة: { فليكن أول ما تدعهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات } .

    فمن مجموع هذه الروايات نفهم أن أول ما يجب أن يدعى إليه هو التوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. فالتوحيد هو أول ما ندعو إليه، وعلى جميع الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان أن يبدؤوا دائماً بالتوحيد. فإن ذهبنا إلى قوم لا يعرفون التوحيد، فأول ما ندعوهم إليه التوحيد، فإذا قالوها علمناهم معناها ولوازمها، ومقتضياتها وحقوقها وفروعها، وإن ذهبنا إلى قوم يقولون أو يشهدون أن لا إله إلا الله، فندعوهم أن يصححوا عقيدة التوحيد إن كان فيها خلل أو خطأ، ولاشك أنه مع تطاول القرون، ومع دخول كثير من العجم وغيرهم في هذا الدين، ومع انتشار الجهل وفشو البدع والضلالات، صارت عقيدة التوحيد فيها غبش يتفاوت كثرةً بحسب البلدان.

    فأول ما ندعوا إليه المسلمين هو تصحيح عقيدة التوحيد، وأول ما ندعو إليه غير المسلمين هو عقيدة التوحيد .

    فمثلاً: إذا ذهبنا إلى أوروبا فأول ما ندعو إليه التوحيد، لا نناقش ابتداءً في المشاكل الاجتماعية التي يعيشها الغرب إلا في حالة واحدة وهي: أن نناقشها لنربطها بحقيقة التوحيد.

    ثم ذكر الإمام البخاري -بعد حديث معاذ - حديث فضل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فذكر حديثين:

    الحديث الأول: {إنها لتعدل ثلث القرآن } .

    والحديث الآخر: { أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟

    فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه }.

    وذلك لأنه أحب صفات الله عز وجل، فمن هنا نعرف أهمية توحيد الأسماء والصفات .

    فـالإمام البخاري رحمه الله عقد كتاب التوحيد، وافتتحه بهذين المضمونين: مضمون توحيد الألوهية الذي هو حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ومضمون توحيد الأسماء والصفات الذي هو حديث فضل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ .

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله ] .

    أول ما يجب على كل مخلوق خلقه الله عز وجل هو:شهادة أن لا إله إلا الله، هذا أول الواجبات.

    ولا شك أن شهادة أن لا إله إلا الله أول الواجبات، ولها معنيان، وكلا المعنيين حق:

    الأول: أنها أول الواجبات، بمعنى أول ما ندعو إليه من الواجبات، وأول ما نبدأ به هو: شهادة أن لا إله إلا الله .

    والثاني: أنها أول الواجبات، بمعنى أهم الواجبات وأعظم شيء. إذاً هي أول ما نبدأ بها، وهي أعظم شيء .

    فأول ما يأتينا الكافر ليدخل في دين الإسلام ندخله من باب شهادة أن لا إله إلا الله، وآخر ما نطلبه من الإنسان عند الموت هو شهادة أن لا إله إلا الله، -أي التوحيد-.

    فإذا عرفنا أن التوحيد هو أول الأمر وآخره عرفنا أهميته. فهو الأول من ناحية الابتداء، والأول من ناحية الأهمية .

    قال المصنف رحمه الله تعالى:

    [ لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم ] .

    اختلف الناس في قضية أول واجب على المكلف، وهذا الاختلاف هو لأهل البدع الذين خرجوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عن هذه الآيات العظيمة التي مرت بنا -على كثرتها- وأعرضوا عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم رسله، وأخذوا بالنظر العقلي المجرد.

    فقالوا: أول ما يجب هو معرفة الإله .

    ونقول لهم أما إذا كان المقصود بالمعرفة عندكم معرفة أسماء الله وصفاته وحقه على العباد وحق العباد عليه سبحانه وتعالى فهذه لا خلاف فيها، ولذلك جاء في رواية للبخاري في كتاب الزكاة { فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات } فمعرفة الله هي: ذات التوحيد، لكن التوحيد أو المعرفة عندنا غير المعرفة العقلية عندهم، فهم يريدون معرفة عقلية فلسفية نظرية.

  3. #3
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.41

    افتراضي

    مثلاً يقول المعتزلة : يجب عليه أن يعرف الأصول الخمسة:

    ا-العدل.

    2-التوحيد.

    3-الوعد والوعيد.

    4- المنزلة بين المنزلتين.

    5-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    ولهم على كل واحدة منها تأويل وتفسير.

    فمعرفة الله -كما وضعوا- تعني معرفته ذاتاً مجردة من جميع الصفات كما يريد الجهمية ، أو معرفته بماله من أسماء، ولا يثبت له أي صفة أبداً كما يقول المعتزلة ، أو معرفته بأن نثبت له بعض الصفات، إما سبعة، أو تسعة، أو إحدى عشر، أو ثلاثة عشر، كما يقول الأشعرية . وننفي عنه الباقي. هذه هي المعرفة التي يريدها أهل البدع. ويقولون: معرفة الله -أي: معرفة وحدانيته-.

    فنحن نقول: توحيد الله هو: إفراد الله بالعبادة، لأن التوحيد مصدر وحد يوحد توحيداً. فمعرفة وحدانيته هو: إفراد الله بالعبادة، وأما وحدانية الله عندهم فهم يقولون في كتب علم الكلام: هو نفي الكمية المتصلة ونفي الكمية المنفصلة، وهذا كلام فلسفي جاءوا به من الفلسفة اليونانية .

    فالكمية المتصلة: أي: ننفي أن يكون هذا الإله أبعاضاً أو أجزاء، فليس له أجزاء ولا أبعاض، ولا هو أرباع ولا هو كسور .

    والكمية المنفصلة: أي: هو واحد، لا نقول اثنين، ولا ثلاثة، ولا أربعة، ولا خمسة، فهو واحد ليس هناك كمية منفصلة عنه ولا كمية متصلة به .

    هذا هو التوحيد عندهم، لذلك لا يكفرون من يعبد ويدعو غير الله ويذبح لغير الله.

    فالمقصود أنهم يجعلون الوحدانية هي: نفي الكمية المتصلة، ونفي الكمية المنفصلة، فيثبتون رقماً مجرداً، ثم يقولون: هذا الرقم المجرد ليس له أي صفة من الصفات كما يقول الجهمية ، أو كما يفعل بعض أتباع الفرق الضالة يثبتون البعض وينكرون البعض الآخر، فهو واحد فقط ليس متعدداً ولا متبعضاً.

    وهذا هو مفترق الطريق بيننا وبينهم، فهم يرون أنهم موحدون، لأن الله عندهم شيء واحد -ذات مجردة هلامية- هكذا .

    فيقولون: هذا الرقم الواحد ليس أرباعاً ولا أثماناً، ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، وهذا هو حقيقة التوحيد عندهم، بل إذا قلنا: نثبت له صفات كالعين، أو الوجه، أو اليد، أو القدم، قالوا هذه أبعاض، والأبعاض منفية، لأن الكمية المتصلة منفية، كما أن الكمية المنفصلة منفية. فلأنهم ينفون صفات الله عز وجل ويثبتون أنه واحد يظنون أنهم هم الموحدون، ونحن نثبت لله هذه الصفات، وننهى عن الشرك بالله، وندعو إلى توحيد الله -وهو إفراده وحده بالعبادة والتوجه والتقرب .

    فقالوا: أنتم مشبهون لأنكم تثبتون هذه الصفات، وتقولون لله أبعاض، وأنتم تكفرون المسلمين، لأنكم تأتون إلى موحد يعتقد في الله هذا الاعتقاد، ولكنه يدعو غير الله حيث يدعو الأولياء ويذبح للأموات وتقولون: هذا مشرك وهو لم يشرك. فالذين قالوا: إن أول ما يجب هو التوحيد أو المعرفة يعنون بها توحيدهم ومعرفتهم .

    وقال بعضهم: أول واجب هو النظر، لأن المعرفة تترتب على النظر، فالإنسان أول شيء يحصل منه هو النظر. والنظر معناه: التفكير .

    فالقضية النظرية: قضية ذهنية وعقلية تفكيرية، فأول ما يجب هو التفكير والنظر والاستدلال بالعقل. لأن المعرفة سببها وقوع النظر.

    والمسلم -عندهم- إذا بلغ التكليف مثلاً في هذه الليلة باحتلام، أو إنبات، أو بلوغ خمسة عشر سنة، يجب عليه من هذه اللحظة -لحظة ما بلغ- أن يفكر، فيقول: هذا العالم حادث، وكل حادث لابد له من محدث، وهذا العالم متغير، والمتغير حادث، والحادث لابد له من محدث. والمحدث هو الله، ويعيد المقدمات حتى يتأكد أن المحدث هو الله، ثم يعرفه بأنه واحد، لا هو أبعاض ولا هو أعداد، فإذا عرف هذا الشيء فقد وحد وأصبح مسلماً. والعجيب أنهم بحثوا في حكم من مات في أثناء النظر على أي دين يموت؟

    فقال بعضهم: يموت على الكفر، لأنه لم يدخل في الإسلام.

    وقال بعضهم: هو مسلم لكنه عاصي.

    وأطالوا الكلام في هذا كما في كتاب الإرشاد للجويني -فيا سبحان الله- كيف نضع الأصول الفاسدة، ثم نركب عليها لوازم باطلة، ثم يتشعب الباطل حتى نجد باطلا كاملاً؟!

    فأول واجب عندهم هو النظر، كما قال الجويني ، وابن فورك ، وكلاهما من أئمة الأشعرية .

    وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني -إمام الأشعرية في زمانه- أول ما يجب: هو أول جزء من النظر، وليس كل النظر بحيث يرتقي بعد ذلك حتى يصل إلى المعرفة .

    وهناك قول رابع جاء به أبو هاشم الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه فقال: أول ما يجب على الإنسان: هو الشك. لأنك إذا شككت وصلت إلى اليقين. على طريقة ديكارت حيث قال: "أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود" هذه النظرية كانت أعظم نظرية، وأعظم فتح في تاريخ الفلسفة الأوروبية والعالم الغربي-كما يقولون-، حيث تحرر من قيود الرجعية ومن قيود الفلسفة الكلاسيكية بهذه القاعدة العظيمة "أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود" .

    فالشك في الأشياء أو السفسطة -وهو إنكار حقائق الأشياء- مخيم على أذهانهم، وأن كل ما نراه الآن قد يكون حقاً وقد يكون غير موجود. فابتلاهم الله تعالى بالشك والزيغ في قلوبهم.

    وظهر في بريطانيا رجل اسمه هيوم زعيم الشكاك أو شيخ الشكاك، حيث أعاد نظرية الشك اليونانية القديمة وقال: لابد من الشك في كل شيء، وكل الحقائق الموجودة تقبل الجدال وتقبل النزاع، ولا يوجد أي حقيقة مطلقاً .

    فاعتبروا نظرية ديكارت انتصاراً؛ لأنه قال: "أنا أفكر؛ إذاً أنا موجود" وخرج يصيح ويقول: "أنا أفكر. إذاً أنا موجود" فانظروا ما مقدار النعمة التي أكرمنا الله تعالى بها لما أعطانا هذا الوحي، ولم يكلنا إلى زبالة أذهان هؤلاء المتهوكين أئمة الضلالة؟! فلو خرج أحد منا من بيته وقال: "أنا أفكر. إذاً أنا موجود" . لقلنا: إنه مجنون. وهم إذا جاءتهم دعوة الأنبياء وأتباع الأنبياء قالوا: أنتم مجانين.

    فهؤلاء أعمى الله بصائرهم، فهم في ظلمات وفي شك .

    فأول شيء كما قال أبو هاشم الجبائي : أن نشك في كل شيء، وبعد الشك نبدأ في اليقين، ثم نستدل بحدوث العالم على وجود الله، ثم نعتقد أن الله موجود، ثم نعرف ما يجب لله من التوحيد على منهجهم الذي هو منهج المعتزلة .

    فهذا هو كلامهم في مسألة أول ما يجب على المكلف. وهو مردود ومنقوض بما في صريح القرآن، وبما دعا إليه الأنبياء أن أول ما يدعى إليه هو شهادة إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهي دعوة واضحة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى .

    ومع ذلك سنرد عليهم بمنطقهم العقلي وحججهم النظرية، وهنا لفتة: وهي أن أصحاب الكلام جميعاً يقولون: إننا ندافع عن الإسلام في وجه أعداء الدين من الملاحدة والفلاسفة العقليين الذين يقولون: "كل الأديان تقليد"، فالمسلم لأنه عاش في دار الإسلام وولد فيها صار مسلماً؛ وكذا اليهودي والنصراني، والتقليد لاينفع، بل لا بد أن نقيم ديننا على حجج وبراهين وننبذ التقليد .

    فقال علماء الكلام : ونحن ليس عندنا تقليد أبداً، فإننا نقول أول ما يجب على الإنسان هو أن ينظر، أو يشك حتى نحرر عقله .

    وأما من يعيش في بادية وهو أمي، ويعبد الله عز وجل ويقوم بجميع الواجبات والفرائض دون أن يستدل بالعقل على وحدانية الله كما يريدون، فهذا يسمى مقلداً ، وقد اختلفوا في إيمان المقلد كما مر، فقال بعضهم: لا يثبت له إيمان. وقال بعضهم: إنه عاصي. وقال بعضهم: إنه معذور.

    فاليهودي مقلد، والنصراني مقلد، والمسلم مقلد، فالأديان كلها تقليد، وأما الحق فهو ما يعتقدونه من البراهين والحجج العقلية.

    ونحن نرد عليهم بالآتي:

    أولاً: كيف رضيتم أن يسوى بين الإسلام، وبين غيره من الأديان الباطلة المحرفة؟ فإن من ولد على الإسلام ليس بمقلدٍ أبداً، بل كل مسلم ليس بمقلد في أصل الدين -أي في إيمانه بالله- إلا على المعنى الذي سنذكره -إن كان يسمى تقليداً-، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: { كل مولود يولد على الفطرة } { كل مولود يولد على الملة } وفي رواية: {كل مولود يولد على هذه الملة } ، فنحن نجزم ونعلم أن أولاد اليهود والنصارى، وأولاد المجوس كلهم يولدون على هذه الملة، ولذلك قال: ( فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ) ولم يقل يمسلمانه. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل ترون فيها من جدعاء ؟ ) فالبهيمة لا تولد مقطوعة الأذن، أو عليها علامات مميزة، وإنما تولد جمعاء. فالذي يشرط ويقطع الأذن، ويجعل علامة معينة لانتماء معين هو المجتمع أو التربية؛ بحيث يربى على اليهودية ، فيصير يهودياً. وإلا فهو في أصله ولد على الإسلام.

    ثانياً: أنكم إن قلتم إنه لا إيمان للمقلد.

    فمن هو المقلد؟

    وما هو التقليد؟

    فنحن وهم متفقون على أن التقليد هو: اتباع الغير بلا حجة، لذا لو قلت له: أنا اتبعك في كل ما تقول، فإنه سيقول: لا تقلدني. لكن لو قلت: ما هي براهينك؟ فقال: كذا وكذا .

    فقلت: أنا عرفت هذه البراهين واتبعتك تقليداً لك .

    فإنه سيقول: لا، أنت لست مقلداً؛ لأنك آمنت واتبعتني بعد ما عرفت براهيني.

    فنقول: -يا سبحان الله!- وأي حجة أعظم من إرسال الرسل؟!

    وهل اتباع الأنبياء تقليد؟!

    وهل هناك حجة أعظم من اتباع الأنبياء ومن الوحي الذي أنزله الله؟!

    وما من نبي إلا وأتى بآيات بينات خارقات على أنه نبي من عند الله، وما من نبي كُذِّب إلا وأهلك الله عز وجل المكذبين ودمرهم، وأنجى المؤمنين وأنجى نبيهم. فالحجة هي في إرسال الرسل. قال تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة [الأنعام:149] فكيف تقولون: إننا نأخذ كلام الغير بلا حجة ونحن نتبع أنبياء الله ورسله، ونتبع الآيات والبراهين البينات التي نجدها في الكتاب والسنة؟

    ثانياً: القرآن العظيم قد جاء بالحجج العقلية النظرية مثل ما جاء بالحجج النقلية، وهو واضح لكل من يقرأه ويتدبره، فلم يذكر في القرآن وجود الله ولا الإيمان باليوم الآخر مجرداً، بل جاء ذكرها بما يهز العقل والفطرة هزاً شديداً.

    أفلا ينظرون؟!

    أفلا يتدبرون؟!

    أفلا يتذكرون؟!

    آيات عظيمة! ويستدل الله علينا ويحتج بأنه قادر على إحياءنا بعد الموت بالحجج السمعية والخبرية، وكذا بالحجج والبراهين العقلية. ولذلك لم يثبت ولم يصمد أمام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا التابعين أي مناظر من الملحدين أبداً، بل كانوا يفتحون قلوب الأمم والشعوب قبل أن يفتحوا بلادهم، لأن النور الذي يحملونه معهم يضيء لتلك القلوب فيظهر الميثاق الفطري: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فهم شاهدون ومقرون، فإذا جاء هذا المبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى التوحيد، تطابقت هذه الدعوة مع الفطرة تماماً، ولذلك قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه [الروم:30] فهذا الدين منقوش في الفطرة لا يبدله أحد، ثم يأتي الأنبياء بما يصدق ويؤيد هذه الفطرة، فليس في الأمر إذن تقليد مطلقاً، وإنما هو حجج عقلية.

    أما أهل الكلام فكلامهم هو محض التقليد، ومحض الهوى والتخرص والظنون، ولذلك اختلفوا وأعرضوا وتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فالفقهاء مثلاً متفقون على أنه إذا بلغ الصبي لا يجب على وليه أن يقول له: قل لا إله إلا الله. لأنه ولد على الإسلام، فهو مسلم بالفطرة وبالاتباع لأبويه، وهما مسلمان، بل يغلب جانب الإسلام دائماً.

    فلو وجدنا لقيطاً مرمياً في بلاد الكفار، فإننا نفترض في هذا اللقيط الإسلام، ونأخذه ونربيه على أنه مسلم، ونسميه محمداً، ولا ندعه للكفار أبداً؛ لأن الأصل في كل مولود هو الإسلام، وهو مولود على هذه الملة .

    وهذا الكلام تجده عند أصحاب البدع في كتب فقههم؛ حيث تجد بعضهم من أرباب الفقه وأرباب الكلام.

    فإذا جاء في الفقه ذكر هذا الكلام، وإذا جاء في علم الكلام قال: لابد من ترك التقليد، وهل يكفر المقلد أو لا يكفر؟... إلخ، كأنه يشرح لأمة أخرى غير أمة محمد التي يشرح لها الفقه .

    فأول واجب على المكلف هو: الإقرار بالشهادتين والنطق بهما، وهو أخص من القول، فالنطق: مجرد إخراج الحروف، أما القول فهو في اللغة العربية: يطلق على الفعل، فإذا حرك رجل يده تقول: وقال بيده هكذا، كما جاء في الحديث:{ وقال بيديه هكذا } فلا يكون الإنسان مسلماً أبداً إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله، وليس في هذا خلاف -ولله الحمد- بين علماء السنة والجماعة، ولا بين الفقهاء، إلا لما ظهرت البدع، فقالوا: إن الإيمان يكون في القلب، ولا يشترط أن ينطق بلسانه، ولذلك قال بعض المؤلفين: إن من عرف الله بقلبه ولم يشهد أن لا إله إلا الله ولم ينطق بها، يمكن أن ينجوَ عند الله ولا يعذبه؛ لأن التصديق حصل عنده، وهذا كلام باطل مخالف للإجماع المنعقد من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم من أهل السنة والجماعة ، وهو: أن الإنسان لا بد له أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولابد له -أيضا- أن يؤدي الصلاة والزكاة ظاهراً؛ حتى يكون له حكم الإسلام، ولا يهم إن كان في قلبه غير مقر بها، فإننا لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس .

    وهناك فرق بين أحكام المرتد، وبين أحكام الكافر الأصلي كاليهودي أو النصراني، فمن شهد أن لا إله إلا الله، وقال: أنا مسلم، أو فعل شيئاً من خصائص الإسلام، ثم نكث وكفر فحمل الصليب مثلاً، أو سجد لغير الله، فهذا مرتد يقتل، بخلاف الثاني فإنه على دينه من الأصل.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهاهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام، هل يصير مسلماً؟ الصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام ]

    قال عمر رضي الله عنه: "لو أنني بعثت جيشاً فحاصروا حصناً من العجم، فخرج منهم رجل من الحصن المحاصر، فرفع يديه إلى السماء وأشار بإصبعه، فقتلهم المسلمون -لقتلتهم، أو وديتهم" -أي: إما أقتلهم أو أدفع دياتهم- لأنه أشار بالتوحيد، وهي قرينة تدل على الإسلام. فهذا هو القول الصحيح.

    فلو رأينا إنساناً يصلي فهو مسلم، لأنه فعل خصيصة من خصائص الإسلام. هذا بالنسبة للفرد، وبالنسبة للدار نعرف أنها دار إسلام أو دار كفر بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم { أنه كان يبعث الجيش أو السرية في الليل، فيبيتون قريباً من العدو، فإن سمعوا الأذان وإلا أغاروا } فالبلد الذي يؤذن فيه هو بلد إسلام، ثم بعد ذلك نتعرف عن بقية الأحكام، فقد تكون جالية مسلمة فقط، والكفار هم الأكثرية، فهناك علامات مبدئية، ثم بعد ذلك يأتي البحث والاستقصاء، ويأتي الإلزام بالشريعة والتمسك بها. فإثبات الإسلام للإنسان يثبت على القول الصحيح بأي شيء من خصائص الإسلام، وعادات المسلمين وأحياناً قد تكون قرائن، ولكنها ضعيفة. فمثلاً: لو دخلت بيت إنسان، وإذا هو معلق صورة الكعبة على بيته، أو فيها سجادة وبجوارها مصحف، وأنت لم تجد فيها إنساناً، فإنك تستشعر حتى ولو كنت في بلد كفر أن هذه الغرفة يسكنها إنسان مسلم، فلو جاء وقال: السلام عليكم. تأكدت أن هذا مسلم، ولا يعني هذا أنك تشهد له أنه من أهل الجنة، أو أنه كامل الإيمان. فهذا مجرد إثبات مبدئي للأحكام ولا يعني الشهادة له بالجنة، أو بكمال الإيمان .

    وفي بعض الأحاديث زيادة، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: { فإذا صلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ذبيحتنا، قال: فهم المسلمون، أو فهو المسلم له مالنا وعليه ما علينا } فأكل ذبيحة المسلمين معناه: أنه دخل في دين الإسلام، لأننا لا نأكل ذبائح المشركين، ولنفترض أن المشركين لا يأكلون ذبائحنا، فهو المسلم، له مالنا وعليه ما علينا من حقوق ومعاملات دنيوية، أما ما بينه وبين الله عز وجل فهذا حسابه إلى الله، ونحن إنما نعامل الناس بالأحكام الظاهرة، ولذلك من قال: لا إله إلا الله ولو كان في المعركة كان له حكم الإسلام، كما في حديث أسامة {بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري عنه فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قلت كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم }.

    لذا لما اقتتل الصحابة ووقعت الفتنة بينهم، اعتزل أسامة جميع الفرق، ولم يقاتل، مع حبه لـعلي رضي الله عنه حتى قال لـ علي : لو كنت في شدق الأسد لوددت أن أكون معك إلا في هذا الأمر . لأنه قد التزم أن لا يقاتل مسلماً أبداً بعدما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أشققت عن قلبه؟! ).

    ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري كلام أئمة الأشاعرة في قضية النظر، فذكر كلام أبى جعفر السمناني -وهو من أئمة الأشاعرة الكبار- أنه قال: ( مسألة أول واجب هو النظر أو بداية النظر أو أجزاء النظر، هذه المسألة بقيت في مذهب الأشعري من المعتزلة ) .

    والإنسان قد يعود إلى الحق عودة إجمالية، لكن لا يعرف تفاصيل هذا الحق، كما حصل لـأبي الحسن الأشعري ، كما قد يعيش مفكراً كبيراً في الشيوعية ، أوفي اليهودية ، ثم يقرأ عن الإسلام، فيدخل فيه، فلا يعني دخوله في الإسلام أنه عرف جميع تفاصيل الإسلام، فـعلماء الكلام من رجع منهم إلى عقيدة أهل السنة والجماعة إنما كان رجوعاً مجملاً، وقد لا يتاح له أن يعرف تفاصيلها.

    فمثلاً: أبو حامد الغزالي - وهو من هو في العلم والتبحر - مات وصحيح البخاري على صدره مع أنه أفنى عمره في كتابات كثيرة في التصوف وعلم الكلام، وفي آخر أمره اقتنع أن علم الكلام لا يصلح، وألف كتاب إلجام العوام عن علم الكلام .

    فإنه قبل موته بدأ في طريق الحق، ولا يقتضي ذلك أنه عرف الحق كله، فكذلك أبو الحسن الأشعري رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة، فكلامه في أول ما يجب على الإنسان وهو النظر من بقايا الاعتزال .

    ذكر ابن حجر في الفتح في شرح كتاب التوحيد فقال: "إن بعض العلماء أو النظار قال: إن الفعل لا عموم له، فقد يكون المصلي عابثاً ولو فعل شيئاً من خصائص الإسلام، فلا يحكم لأحد بالإسلام إلا إذا أعلن الإسلام وامتحناه وسألناه وناقشناه؛ لأنه يحتمل أن يصلي عابثاً. وهؤلاء يقال لهم: عندما حكمنا أن هذا الإنسان مسلم لم نقل: إن حقيقة الإيمان في قلبه، ولا قلنا إنه دخل في دين الله صحيحاً كاملاً، وإنما يأخذ حكم المسلم، ثم يناقش: لماذا كنت تصلي؟

    فإن قال: عبث ولعب.

    فيقال له: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون[التوبة:65] فيقتل لعبثه في الدين "، ومعنى هذا: أنه دخل في دين الله هزواً وكذباً، وهذا هو الزنديق المرتد الملحد. فنقتله على قول من يرى أن الزنديق لا توبة له، وعلى القول الآخر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل .

    فلا نسمح لأي إنسان أن يعبث بديننا، فيصلي عبثاً أو يؤذن تقليداً للمؤذنين واستهزاء بديننا، بينما الكافر الأصلي نرضى أن يذهب إلى الكنيسة ولا نتدخل في دينه على الشروط المعروفة المعلومة في حكم أهل الذمة، لكن لو قال: لا إله إلا الله، أو دخل المسجد وصلى، أو عمل عملاً من الشعائر الإسلامية، فلا بد له أن يلتزم بالإسلام وهو دين الله سبحانه وتعالى ولا يقبل منه الرجوع عن هذا الدين أبداً، فإن قال: أنا عابث أو مستهزئ، عاقبناه على هذا العبث والاستهزاء .

المواضيع المتشابهه

  1. أما الذي يخيف الإنسان فهو الإنسان
    بواسطة هشام النجار في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30-08-2016, 10:23 PM
  2. كتاب د/ جورج طرابيشي : مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة ،، عرض وقراءة
    بواسطة وائل بن يوسف العريني في المنتدى قِرَاءَةٌ فِي كِتَابٍ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 17-05-2013, 02:15 PM
  3. مقال : تطور خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة
    بواسطة د.مصطفى عطية جمعة في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 04-03-2007, 09:03 PM
  4. جامع الكتب والأبحاث فى الرد على الإلحاد والمذاهب الفكرية المعاصرة
    بواسطة د. عمر جلال الدين هزاع في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 27-12-2006, 12:44 AM
  5. المرأة بين عز الإسلام وذلّ الجاهلية المعاصرة
    بواسطة محمد سوالمة في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 26-05-2006, 05:56 AM