علموني منذ أربعين موتا وأربعين حياة أنني أتقلد سيفا لابد تشكر الحمائل سيادته، وعلموني الكرامة والشهامة والقناعة، وعلموني الكثير عن حمزة وعن الطائي وعن السموأل وعنترة العبسي...
وأفقت على كيان مشطور إلى شطرين؛ إحدهما أنا، والثاني لايعرف عنه أحد شيئا سوى أنه مطمور وسط زحام الركاب على ظهر سفينة تعوم في المحن نحو مكان ما، بين الشمس والقمر. كم سخرت مني وُريْقاتُ الحنـاء حين لمستها أول مرة ! وكم دغدغت الفراشات الجميلة عصب الفضول في غياهب جهلي، وتطايرت بعشوائية في كل اتجاه، سابحة في عبق العبير الدافق من شفاه زهور الأقحوان و"البابنج" ؛ متحدية خفة جسدي الصغير ! لم أكن أعرف عن نصفي الآخر غير ما وصفت جدتي في أحاجيها المسائية آذ كانت تهدهد خيالي وتثقل جفني المتعبين من شقاوتي طول اليوم... توالت عهود أحلامي ردح موت وردح حياة، وطالت شقاوتي موج البحر على شاطئ "الحوزية" ، وعمق نهر "أم الربيع" تحت أقواس الجسر العتيق . وغير ما مرة غصت باحثا عن ذاك النصف المفقود في قاع النهر أو في قلب موجة عاتية جاءت تتكسر على الصخرة المباركة التي كانت جدتي تلتمس لي منها الصحة والنجاح، فتناثرت ماسات ولآلئ من حولي فملأتْ ذاك الشاطئ ضحكات ساخرة . كنت أقبل التحدي إذ أغادر المدينة قبيل ميلاد الشمس وأعبر الغابة إلى الشاطئ تحت رداء الضباب حينا وتحت همس النجوم أحيانا أخرى؛ كان صوتي يعجب الطيور المتثائبة في أعشاشها إذ كان ينطلق من حلقي المبحوح دون إذن:«أين ياشطّ لياليك النديات الحسان ...» .وكانت ضحكة الشمس الأولى تزدريني وتغير لون خيالاتي، وتؤلّب عليّ اخضرار العشب الناعم تحت ماس الندى اللماح. ولكن الشاطئ كان كريما وحنونا حيث كان يرحب بتفرّدي ويحبّ تزاحم الأحاسيس في صدري، ويحترم إلحاحي ويكتم أسرار بحثي عن نصفي الآخر. ومتى تولّت كآبتي ، كنت أودعه السماح لصوتي بالبكاء : « ...وحين تغيـبـينْ ؛ يغرق قلبيّ في دمعاتـي ...».
وبعد عشرين موت وعشرين حياة، شاخت الأشجار ولم تعد تهرب من يدي الفراشات، ولا عادتْ تسخر مني وريقات الدفلى، أما الحناء فقد غادرت جنبات النهر منذ خبا الفضول في جهلي، منذ غزتْ بنايات المصيف شاطئ "الحوزية" .
أخذتني جناحات الذكرى غداة عشق حارق إلى هناك ، ولم أدر إلا وظل شجرة سروٍ يعانق نصفي بحرارة ويؤذّن في سرب حمام كان يعبر الأفق إلى حيث الغيم يدون يومياته، أن يحط على كتفي . فحام السرب مليا ثم تدنى بلطف وتحلق حول هامتي وبدأت الجناحات تداعب شعري وتظلل كتفي في حنو ذكّرني بدفء حضن جدتي ... شكوت غربتي وتفرّدي وما لاقيت من نصب في البحث عن نصفي الآخر لحمامة لطيفة فسال هديلها:« ...ته في الحقول الخضر كالحلمْ، ته يا جميل..، ته يا جميلُ فكلنا عشاقْ ! ». وذاب صدى النشيد في عرض السكون دون أن أجد نصفي الآخر...