الكتابة الرقمية ليست خيالا بل هي واقع طغى على كل جوانب الحياة اليومية؛ فمن متصل بالهواتف يُرَقَّمُ صوته ليُبعث عبر قنوات غاية في الدقّة والسرعة، توصل بالأقمار الاصطناعية، ومن طبيب يجسُّ مكامن الداءِ في جسد مريض تُرَقَّمُ الإشارات الواردة من مختلف الأنسجة والأعضاء وترشح الإشارات الباعثة للتشويش، وتعالج ثم تعرض على نظر الطبيب كنتائج يُبْنَى على أساسها التشخيص وتُقرر عليها وسائل العلاج... ومن إدارات أمنية تسعى لضبط الخارجين على القانون بوسائل رقمية أكثر نجاعة في تحديد الهوية الشخصية وتحليل البيانات التي كانت مثارا للشكوك لدى المختصين منذ عقود قريبة ... ومن مصانع تدار بواسطة منظومات رقمية شديدة الدقة ومأمونة التشغيل حتى في التعامل مع المواد الخطيرة كالكيميائيات و المواد النشطة إشاعيا...
من منا لا يعتمد في ضبط الوقت اليوم على ساعة رقمية يربطها بمعصمه ؟ ومن منا لم يلاحظ تطور المؤشرات على لوحة قيادة سيارته نحو النظام الرقمي، ولم يشاهد البرامج على شاشة الإذاعة المرئية داخل بيته قد تحولت إلى النظام الرقمي فبانت لها ميزات حسنة ؟ ... أيصحُّ بعد كل هذا أن ننكر رقمية عالمنا الحالي ؟ - إنا إذن لمتعامون عن واقع نعيش فيه بكل حواسنا، وتطرقُ وسائله بشدّة على أفهامنا وأفكارنا وسلوكياتنا التي أصبحت الرقمية تحتلُّ جزءاً مُهمّاً من العناصر المتفاعلة معها أخذاً وردّاً. بل يصحُّ لنا أن نعيد النظر في مفاهيم من دنيانا حتى نؤقلمها مع التقنيات المفروضة علينا بحدّةٍ تتزايد كل يوم.
وإن معتقداتنا الراسخة في دمائنا لتؤيد الانتفاع بما يفيد الإنسان في أمور دنياه، وإنها لتأمرنا بعكس ما جاء في تراهات الكهنوت الوثني من رفض لشؤون الحياة المعاشة! ونعود للتساؤل من منا لم يستمع لداعية أو لقارئ مُجيدٍ يجوِّدُ آيات الكتاب الحكيم على قرص مدمج، بل من منا لم يشاهد ولو لقطات قصيرة من صور لمناسك الحج منقولة على الأثير رقميا ؟ علما بأن الاستماع والمشاهدة لا يختلفان عن القراءة التي جاء بها أمر من لدن العليم الحكيم لخاتم المرسلين (صلى الله عليه وسلم) " اقرأْ " : عبارة ظاهرها أمر يُخرجُ من الظلمات إلى النور، وباطنها رحمة للفكر البشري من التخبط في غياهب الجهل المطبق.
ومن يقول بالقراءة يقصد كشف رموز وأشكال مرسومة بنظام خاص باللغة المكتوب بها وفيها على أحجار أورقاع اختلفت طبائعها عبر العصور ، فلم يتشبت الإنسان بالبردي ولا بجلود الحيوانات ولا بالورق الأصفر، بل كان لكل عصر ما يناسب ظروفه من نهضة وعلوم وفنون وآداب، حتى جاء هذا العصر بطفرتة التقنية المبهرة بسرعتها الغريبة! فكان عصر الرقمية من أدب وطب واتصال وصناعة واقتصاد طغى عليها الطابع الرقمي... أوليس وهما أن نجعل أصابعنا في آذاننا و نستغشي ثيابنا هروبا من الرقمية بعد أن باتت واقعنا ؟
وأقول لمن يورد عيوب الرقمية، إن أقلَّ مزاياها أنها تسهِّلُ عليه طباعة النصوص بسرعة فائقة، وتعطيه من الصور دقة وجودة لا تضاهيها التقنيات التماثلية القديمة، ويرسل عليها ما يكتب فتلبي أمره بأسرع ما عرفته وسائل الاتصال حتى الآن، عبورا لحظيا لكل الحواجز التي قيدت الفكر البشري قرونا عديدة خلتْ دون طائل. ولا أعني هنا أن الرقابة قد بطلت جدواها نهائيا، ولست أدعو للفوضى الفكرية، بل إن الرقابة أيضا أضحت طبيعتها مناسبة لروح العصر وللشكل الذي اتخذه المنتوج الفكري؛ فهي رقمية كالنصوص وكنصوص النقد ... كلنا يعلم أن لكل نشاط بشري قواعد تنظمه ولا يجوز بأي حال الخروج عن تلك القواعد، وإلا فلن يفهم القارئ من هذا النص شيئا فتنعدم جدوى كتابتي إياه. ومن تلك الضوابط والقواعد التزامُ آداب يتحلَّى بها الأديب والشاعر والمحرر للنصوص حتى لا تكون الكتابة عبثا في عبث. ومنذ أقدم العصور كان هناك الكاتب الجاد المفيد الملتزم بقضايا عصره، والكاتب العابث المستهتر بكل القيم. وبذلك يمكننا أن نخلص إلى أن الكتابة الرقمية والأدب الرقمي ماهو إلا شكل جديد للمنتوج الفكري يتناسب والعصر الحالي بكل وجوه التناسب من حيث السرعة وسعة الرقعة التي يغطيها النص مع بزوغ حيز أوسع في حرية الكاتب.