أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 18

الموضوع: التوبة وشروطها

  1. #1
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    Arrow التوبة وشروطها


    قرأت هذا البحث للأستاذ المعلم الفاضل أحمد سعد الدين فأحببتُ نقله مع دعواتكم

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    التوبة وشروطها

    د . سليمان بن إبراهيم بن عبد الله اللاحم

    الأستاذ المشارك بكلية الشريعة وأصول الدين،

    فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم

    **

    ملخص البحث


    الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلـه وصحبه أجمعين.. وبعد:

    فقد تضمن هذا البحث بيان فضل الله عز وجل على العباد في إيجابه سبحانه التوبة على نفسه تكرماً منه عز وجل وامتناناً، وأهمية التوبة، ووجوب المبادرة بها حال الحياة قبل الغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة. والتحذير من الاستمرار على المعصية والتسويف بالتوبة وتأخيرها، لأن ذلك قد يكون من أسباب عدم التوبة أو عدم قبولها.

    وذكر شروط التوبة وأنها تصح من كل ذنب إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها، وتتلخص شروطها: بالإخلاص لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على ألا يعود إليها، وأن تكون في وقتها قبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آلـه وصحبه أجمعين.
    __________________


    المقدمة :
    الحمد لله الجواد الكريم البر الرؤوف الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آلـه وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فإن الله عز وجل خلق الإنسان وفطره على الإيمان ومنحه من السمع والبصر والعقل ما ميزه عن سائر الحيوان، ولم يجعله معصوماً عن الزلل والخطأ والعصيان، بل ابتلاه بما قد يوقعه في المخالفة والعصيان؛ من النفس الأمارة بالسوء والهوى ومكائد الشيطان، لهذا فتح لـه باب التوبة لتمحيص الذنوب والآثام، فقال عز وجل: ] قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا لـه من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون [ [الزمر: 53، 54]، وقال عز وجل: ] وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى [ [طه: 82]، يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار([1])، يوفق عبده للتوبة، ويقبلها منه كما قال عز وجل في سورة التوبـة: ]ثم تاب عليهم ليتوبوا [ [التوبة: 118]، أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا، وقال عز وجل: ] وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات [ [الشورى: 25].

    ويفرح عز وجل بتوبة عبده فرحاً أشد من فرح رجل ضلت عنه راحلته التي عليها طعامه وشرابه، فلما أيس منها نام تحت شجرة ينتظر الموت فبينما هو كذلك إذا هي واقفة بين يديه ولجامها في يده([2]).

    بل إنه عز وجل وهو الخالق الملك المدبر المنعم المتفضل الذي لا يجب عليه شيء لخلقه أوجب على نفسه التوبة تفضلاً منه وكرماً وامتناناً، فقال عز وجل في سورة النساء: ] إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [ [النساء: 17].

    وإذا صدق العبد ربه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه تاب عليه، بل وبدل سيئاته حسنات كما قال عز وجل: ] إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً [ [الفرقان: 70]، فلله الحمد والمنة على فضله وكرمه ولطفه ورحمته وجميل عفوه.

    وسأتناول في هذا البحث: الكلام عن التوبة وشروطها، وممن تقبل؟ ومتى؟ وذلك من خلال الكلام على قولـه تعالى في سورة النساء: ] إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيما [ إلى قولـه: ] أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً [.

    وسأتكلم أولاً عن تفسير هتين الآيتين وبيان مفرداتهما ومعناهما، ثم أتبع ذلك باستنباط ما فيهما من الفوائد والأحكام مع تفصيل القول في ذلك.

    والله أسأل أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آلـه وصحبه أجمعين.
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين
    حسبي اللهُ ونعم الوكيل

  2. #2
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    قال الله تعالى: ] إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً [.

    صلة الآية بما قبلها:

    لما بين الله عز وجل في الآية السابقة أنه يقبل التوبة ممن تاب وأناب إليه في قولـه: ] فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً [ ذكر في هذه الآية من تقبل منهم التوبة وهم الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.

    معاني المفردات والجمل:
    قولـه تعالى: ] إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [ كقوله تعالى: ] ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم [ [النحل: 119]. وكقوله تعالى: ] كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم [ [الأنعام: 54].

    قولـه: ] إنما التوبة على الله [ إنما أداة حصر([3]). ويقال لها : كافة ومكفوفة.

    لأن "ما" دخلت على "إنَّ" التي تنصب الاسم وترفع الخبر، فكفتها عن العمل، فـ "ما" كافة، و"إنّ" مكفوفة.

    (التوبة):مبتدأ مرفوع.

    (على الله) "على" حرف جر، ولفظ الجلالة مجرور، متعلق بمحذوف خبر، تقديره: مستحقة على الله أو واجبة على الله.

    (للذين): متعلق بما تعلق به "على الله"([4]) ويحتمل أن يكون هو الخبر.
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  3. #3
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    والتوبة من الله تنقسم إلى قسمين:

    توفيقه لعبده أن يتوب.

    كما قال تعالى: ] ثم تاب عليهم ليتوبوا [ [التوبة: 118]، أي: وفقهم للتوبة ليتوبوا([5]).

    والثانـي قبولها منه، كما قال تعالى: ] وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ [الشورى: 25]، وقال تعالى: ] وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى [ [طه: 82]، ويجمعهما قولـه تعالى: ] وأنا التواب الرحيم [ [البقرة: 160].

    وهي من العبد: الرجوع والإنابة إلى الله عز وجل، والإخلاص لـه مع الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة إليها، وأن تكون في وقتها المناسب([6]).

    ومعنى (على الله) أي: التزم بها عز وجل وأوجبها على نفسه([7])، تفضلاً منه ورحمة، ومنَّةً منه وكرماً([8]).

    كما قال تعالى: ] كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم [ [الأنعام: 54].

    وقال تعالى: ] ورحمتي وسعت كل شيءٍ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون [ [الأعراف: 156].

    وقال سبحانه في الحديث القدسي: "إن رحمتي تغلب غضبي" وفي رواية «سبقت غضبي»([9]).

    قولـه (يعملون السوء) صلة الموصول "الذين" أي: يعملون العمل السيء القبيح الذي يسوء صاحبه، وربما يسوء غيره إذا كان مما يتعدى إلى الغير.

    قال تعالى: ] فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً [ [الإسراء: 7].

    والمعنى: يعملون الأعمال السيئة من ترك الواجبات، وفعل المحظورات فهو عام لجميع المعاصي([10])، لأن المعاصي كلها تسوء مرتكبها وتسوء غيره.

    تسوء مرتكبها عاجلاً بظهور آثارها عليه في حياته ظلمة في الوجه وضيقاً في الصدر والخلق والرزق([11]).

    فيفقد من السعادة، في الحياة بقدر ما عمل من السوء. قال تعالى: ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء [ [الأنعام: 125].

    وقال تعالى: ] أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله [ [الزمر: 22].

    وتسوؤه آجلاً بعد مماته بمعاقبته عليها إن لم يتب منها أو يتداركه الله بعفوه.

    وهي أيضاً تسوء غيره إما بتعديها إلى الغير مباشرة كالإساءة إليهم بالأذية لهم في دينهم أو أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم أو غير ذلك.

    وإما بتأثيرها على حياتهم بما تسببه هذه الأعمال السيئة من محق البركات وقلة الخيرات، قال تعالى: ] ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [ [الروم: 41].

    وفي الحديث: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا»([12]).

    وإنما أفرد السوء ـ والله أعلم ـ إشارة إلى أن الأولى بالتوفيق للتوبة وقبولها من لم يكثر من الأعمال السيئة.

    قولـه (بجهالة) جار ومجرور، متعلق بمحذوف وقع حالاً([13])، أي: حال كونهم جاهلين.

    فهو قيد لقولـه ] إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء [، أي: لمن يعملون ذلك بجهالة. والباء في قولـه (بجهالة) للمصاحبة أو للسببية، أي: مصحوبين بالجهالة، أو بسبب الجهالة([14]).

    ومعنى "بجهالة" بسفاهة([15])، ثم يرشدون، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث([16])، أي: أن إيمانه يضعف عند ارتكابه لهذه الفاحشة، فكذا من عمل أي معصية، فإنه في حال ارتكابه المعصية يرتفع أو يضعف عنده الرشد ويصير سفيهاً.

    ولهذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن كل ذنب عُصِيَ الله به فهو جهالة، عمداً كان أوجهلاً([17]).

    وقال الطبري([18]): «عملهم السوء هو الجهالة التي جهلوها» يقال: أتاه بجهالة: أي فعل فعل الجهال». وكما قيل:

    ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا([19])

    وليس المراد بالجهالة الجهل ضد العلم، لأن من يعمل السوء وهو جاهل، غير عالم، غير مؤاخذ، ولا ذنب لـه، بل هو معذور، قال الله تعالى: ] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ [البقرة: 286]. وفي صحيح مسلم: «قال الله: قد فعلت»([20]).

    وأما الذي يجب عليه التوبة فهو من عمل السوء عالماً.

    قال ابن عطية([21]): «وليس المعنى أن تكون الجهالة أن ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا فاسد إجماعاً».
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  4. #4
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    قولـه: ] ثم يتوبون[ أي: ثم بعد رشدهم وزوال السفه عنهم يتوبون، أي: يرجعون إلى الله وينيبون إليه بترك العمل السيء مع الندم على فعله والعزم على عدم العودة إليه والإخلاص لله تعالى.

    قولـه: (من قريب) «من» تبعيضية، أي: في وقتٍ وحالٍ تقبل فيهما التوبة. وذلك قبل حضور الموت ومعاينة علاماته من حضور الملائكة وغلبة المرء على نفسه، وبلوغ الروح الحلقوم([22])، لقولـه تعالى بعد هذه الآية: ] وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [ [النساء: 18]([23])، لأنه لابد أن تكون التوبة في حالٍ يعقل فيها المرء معنى التوبة، ويصح منه الندم على فعل السوء والعزم على عدم العودة إليه([24]).

    ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»([25]).

    وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. قال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني»([26]).

    وقولـه «من قريب» فيه إشارة إلى أن الأجل آت، وكل آت قريب، وتنبيه على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة([27]).

    وقد أحسن محمود الوراق في قولـه:

    قدم لنفسك توبــة مرجـوة قبل الممات وقبل حبس الألسن

    بادر بها غلق النفــوس فإنها ذخـر وغنم للمنيب المحسن([28])

    ويدخل تحت الآية أيضاً قول من قال: ] ثم يتوبون من قريب [، أي: عن قرب عهد بالمعصية من غير إصرار عليها([29])، لأن من استمر على المعصية وأصر عليها قد تعسر عليه التوبة، وقد لا يوفق لأسبابها، وقد تحول ذنوبه ومعاصيه بينه وبين التوبة، كما قال تعالى: ]كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ [المطففين: 14]، وقـال تعالى: ] فلما زاغـوا أزاع الله قلوبهم [ [الصف: 5]، وقال تعالى: ] ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ [الأنعام: 110].

    وإذا كانت التوبة تقبل قبل حضور الموت ولو بزمن قليل فقبولها قبل ذلك من باب أولى([30]).
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  5. #5
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    قوله تعالى: ] فأولئك يتوب الله عليهم [ الفاء عاطفة.

    أولئك: إشارة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب.

    وأشار إليهم بإشارة البعيد: «أولئك» إشارة إلى علو منزلتهم بالتوبة. و«أولئك» مبتدأ، وخبره جملة «يتوب الله عليهم».

    وهذه الجملة توكيد لما قبلها، فقد حصر سبحانه التوبة في الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، والتزم بذلك لهم، ثم أكده بقولـه ] فأولئك يتوب الله عليهم [ فهذا وعد من الله بأن يفي لهم، ويقبلها منهم بعد أن وفقهم إليها ([31]).

    قولـه تعالى: ] وكان الله عليماً حكيماً [.

    كان: مسلوبة الزمن، تفيد تحقيق اتصاف اسمها بخبرها، أي: أنه سبحانه متصف بالعلم والحكمة أزلاً وأبداً.

    عليماً: خبر كان منصوب، وهو اسم من أسماء الله تعالى على وزن «فعيل» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وهو مشتق من العلم وهو إدراك الأشياء على ما هي عليه إدراكاً جازماً.

    أي: أنه عز وجل ذو علم تام، كامل، كما قال كليمه موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ عندما سئل عن القرون الأولى: ] قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ [طه: 52].

    فنفى عن ربه الضلال وهو الجهل السابق، والنسيان وهو الضلال اللاحق.

    وعلمه عز وجل علم واسع شامل للأشياء كلها في أطوارها الثلاثة قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم.

    كما قال تعالى: ] لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً [ [الطلاق: 12].

    وقال تعالى: ] وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولايابس إلا في كتاب مبين [ [الأنعام: 59].

    وقال تعالى: ] وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ [يونس: 61] لا يعتري علمه شك ولا ظن، بل هو علم يقين.

    حكيماً: خبر ثان لكان. وهو اسم من أسماء الله،مشتق من الحكم والحكمة، على وزن «فعيل» صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، يدل على أنه عز وجل ذو الحكم التام وذو الحكمة التامة البالغة([32]).

    لـه الحكم بأقسامه الثلاثة: الحكم الكوني القدري والحكم الشرعي، والحكم الجزائي. ولـه الحكمة بقسميها: الحكمة الغائية والحكمة الصورية([33]).

    وقد ختم الله هذه الآية بقولـه: ] إن الله كان عليماً حكيماً [.

    بعد أن ذكر أنه التزم بقبول التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب، ليبين أن توبته على هؤلاء عن علم وحكمة، فهو عز وجل أعلم بمن يستحق التوبة ممن توفرت فيهم شروطها ممن لا يستحقها.

    وهو سبحانه يوفق للتوبة برحمته من اقتضت حكمته توفيقه لها، ويخذل بعدلـه من اقتضت حكمته عدم توفيقه، فهو سبحانه حكيم يضع الأمور مواضعها([34]).
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  6. #6
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    قال تعالى: ] وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً [.

    صلة الآية بما قبلها:
    حصر الله عز وجل في الآية السابقة التوبة في الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، ومفهوم هذه الآية أن من عداهم ممن يستمرون على عمل السيئات حتى حضور الموت ليس لهم توبة، وقد صرح بهذا المفهوم في الآية الثانية توكيداً لذلك، فقال تعالى: ] وليست التوبة للذين يعلمون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً [.

    أي: لما بين من تقبل منهم التوبة أتبع ذلك ببيان من لا تقبل منهم التوبة([35]).

    معاني المفردات والجمل:
    قوله تعالى: ] وليست التوبة للذين يعملون السيئات [.

    الواو: عاطفة.

    و«ليس» نافية، وهي فعل ماض ناقص جامد.

    «التوبة» اسم ليس مرفوع بها.

    قوله (للذين) جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ليس.

    «يعملون السيئات»: الجملة صلة الموصول.

    والسيئات: جمع سيئة، ويحتمل أن يراد بها جنس السيئات، أي: يعملون جنس السيئات، ويحتمل أن يراد به الجمع نفسه، أي: جمع السيئات، وجمعت إشارة إلى أن كثرتها وتراكمها سبب لعدم التوبة. والأول أولى وأظهر وأشمل، والثاني هو ظاهر اللفظ. وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا وهذا، فالعموم أولى([36]).

    قوله تعالى: ] حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [.

    «حتى»: لابتداء الغاية، وما بعدها غاية لما قبلها.

    «إذا» ظرفية شرطية.

    «حضر» فعل الشرط، وجوابه (قال إني تبت الآن).

    «والموت»: هو خروج الروح عن البدن ومفارقتها له، الذي كتبه الله على جميع الخلق، قال تعالى: ] كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ [الرحمن: 26، 27]، وقال تعالى: ] إنك ميت وإنهم ميتون [ [الزمر: 30]، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا محمد عش ما شئت فإن ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه»([37]).

    ومعنى حضور الموت: أي: حضور أسبابه وعلاماته من رؤية الملائكة وغلبة المرء على نفسه وبلوغ الروح الحلقوم([38]).

    قوله (قال إني تبت الآن).

    أي: قال في هذه الحال حال حضور الموت واليأس من الحياة: إني تبت الآن. فهؤلاء لا تنفعهم التوبة في هذه الحال([39])، لأن توبتهم توبة اضطرار لا اختيار، كما قال تعالى عن فرعون: ] حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ [يونس: 90 ، 91].

    وقال تعالى: ] فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [([40]) [غافر: 84 ، 85]، وقال تعالى: ] حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها [ [المؤمنون: 99، 100].

    قال الحافظ ابن كثير([41]): «فأما متى وقع الإياس من الحياة وعاين الملك، وحشرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم([42]) فلا توبة متقبلة حينئذ ولات حين مناص... كما قال تعالى: ] فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده (الآيتين. وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربـها، كما قال تعالى :)يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً( ]الأنعام:158[. قوله تعالى : ) ولا الذين يموتون وهم كفار( الواو حرف عطفو«لا» زائدة من حيث الإعراب مؤكدة من حيث المعنى.

    «الذين» اسم موصـول معطوف على اسم الموصول الذي قبله في قوله: ] للذين يعملون [ أي: وليست التوبة أيضاً للذين يموتون وهم كفار، أي: تخرج أرواحهم من أجسادهم وهم مازالوا على الكفر([43]). وفي عطف هؤلاء على من تيئيس لمن يحضرهم الموت وهم يعملون السيئات من قبول التوبة، فكما لا تقبل التوبة ممن يموتون على الكفر لا تقبل ممن يحضرهم الموت وهم يعملون السيئات.

    والكفر في الأصل : الستر، ومنه يقال للزارع كافر؛ لأنه يستر البذر في الأرض، قال تعالى : ) كمثل غيث أعجب الكفار نباته [ [الحديد: 20]، أي: الزرّاع.

    وهو نوعان: كفر أكبر مخرج من الملة موجب للخلود في النار، وكفر أصغر لا يخرج من الملة وهو موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت»([44]).

    والكفر الأكبر خمسة أنواع: كفر تكذيب وجحود، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق([45]).

    والمراد بالتوبة بالنسبة للذين يموتون وهم كفار: ندمهم بعد الموت وتقطع قلوبهم حسرات على تفريطهم أيام الحياة، لأن من مات انقطع عمله، فلا توبة تقبل منه ولا عمل، لأن دار العمل هي الدنيا. أما الآخرة فهي دار الجزاء. قال تعالى: ] إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم [ [محمد:34].

    قال ابن عطية([46]):«والإيمان للكافر ليس نفس توبته، وإنما ندمه على سالف كفره».

    وقال ابن كثير([47]): «يعني أن الكافر إذا مات على كفره وشركه، لا ينفعه ندمه وتوبته، ولا يقبل منه فدية، ولو بملء الأرض».

    قال تعالى: ] ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لـهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ [الأنعام: 27، 28].

    وقال تعالى: ] أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين [ [الزمر، 56 ـ 58].

    قولـه تعالى: ] أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً [ الإشارة للذين يموتون وهم كفار([48])، لأن عذابهم محقق، أما من مات على ما دون الكفر من المعاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه وغفر لـه.

    قولـه (أعتدنا لهم) أي: أعددنا وهيأنا وجهزنا لهم، ومنه العتاد([49])، وهو ما يعد للضيف، وما يعده المسافر لسفره، ومنه العتيد قال تعالى: ] وقال قرينه هذا ما لدي عتيد [ [ق:23]، أي: حاضر.

    وقد عبر عز وجل عن نفسه بضمير العظمة «نا»، لأنه سبحانه هو العظيم ذو العظمة التامة.

    قولـه: (عذاباً أليماً):

    أليماً: «فعيلاً» بمعنى: «مفعلاً» أي: مؤلماً موجعاً غاية الإيلام والإيجاع([50]) حسيًّا، ومعنويًّا.
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  7. #7
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    الفوائد والأحكام:
    1ـ فضل الله سبحانه وتعالى على عباده، وامتنانه عليهم في إيجابه التوبة على نفسه، والتزامه بها لهم لقولـه: ] إنما التوبة على الله [، فهو سبحانه الذي منّ بالتوبة على من شاء من عباده، وهو الذي قبلها منهم.

    2 ـ أن لله عز وجل أن يوجب على نفسه ما شاء، وهذا من كماله عز وجل لقولـه تعالى: ] إنما التوبة على الله [، كما قال تعالى: ] كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم [ [الأنعام: 54].

    وقال تعالى: ] ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون [ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: ] وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات [ [الشورى: 25]، وقال تعالى: ] وإني لغفار لمن تاب [ [طه: 82]، وقال تعالى: ] وكان حقاً علينا نصر المؤمنين [ [الروم: 47].

    وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: «كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» قلت الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على العباد ألا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً»([51]).

    فهو سبحانه الذي مَنّ على من شاء من عباده، فوفقهم للعمل، ومنَّ عليهم بقبولـه منهم وإثابتهم عليه، ولهذا يسمي سبحانه جزاء الأعمال وثوابها «أجراً»([52])، كما يسمي سبحانه الصدقة «قرضاً»([53])، تفضلاً منه وامتناناً وإحساناً، وأنه سبحانه ألزم نفسه بالثواب لمن عمل صالحاً، ولقد أحسن القائل([54]):

    ما للعباد عليه حق واجب كـلا ولا عمل لديه ضائع

    إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسع

    وأحسن من هذا قول ابن القيم في «النونية»([55]) مضمناً مقاله هذين البيتين، ومبيناً أنه لا واجب على الله للعباد إلا ما أوجبه على نفسه بفضله ومنه، وأنه لا يضيع لديه عمل اشتمل على الإخلاص لله والإحسان في المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم([56]). قـال:

    ما للعباد عليه حق واجب هو أوجب الأجر العظيم الشان

    كلا ولا عمل لديه ضائع إن كان بالإخلاص والإحسـان

    إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضلـه والفضـل للمنــان

    كما أن لـه عز وجل أن يحرِّم على نفسه ما شاء، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا»([57]).

    فله ـ عز وجل ـ إن يوجب على نفسه ما شاء، ويحرم على نفسه ما شاء. كما قال سبحانه وتعالى: ] لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون [ [الأنبياء: 23].

    وليس للعباد أن يوجبوا عليه شيئاً، كما تقول المعتزلة ومن سلك مسلكهم في أن قبول التوبة واجب على الله بطريق العقل، ويرون أن الأعمال عوض عن دخول الجنة، وأن من عمل صالحاً وجب على الله أن يدخله الجنة بطريق العقل([58]).

    والصحيح عند أهل السنة أن العمل الصالح إنما هو سبب لدخول الجنة، ودخولها إنها هو برحمة الله، الذي كتب على نفسه الرحمة شرعاً وسمعاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل»([59]).

    وكيف يجب على الله واجبات لخلقه بطريق العقل، علماً بأنه ينبغي أن يكون الموجِب فوق الموجَب عليه، والله جل وعلا فوق الجميع وربهم وخالقهم، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً([60]).
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  8. #8
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    3 ـ الترغيب في التوبة، لأن الله أوجبها على نفسه، ويحب من اتصف بها، كما قال تعالى: ] إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ [البقرة: 222]، وهي واجبة على جميع العباد، قال تعالى: ] وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [ [النور: 31]([61])، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم مائة مرة»([62])، وقال صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بضالته إذا وجدها بعد أن أيس منها وعليها طعامه وشرابه»([63]).

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية([64]) «كل مؤمن لابد لـه من التوبة، ولا يكمل أحد إلا بها» وقال أيضاً([65]): «وليست التوبة نقصاً بل هي من أفضل الكمالات والله قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار: عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم». وقد قيل: «رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً»([66]).

    4 ـ أن كل عامل للسوء فإنما يعمله بجهالة وسفه وعدم رشد، وأن كل ذنب عُصِيَ الله به فهو جهالة، سواء كان فاعله عالماً أو جاهلاً، ذاكراً أو ناسياً، متعمداً أو مخطئاً، مختاراً أو مكرهاً، لقولـه: ] للذين يعملون السوء بجهالة [.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ([67]): «فمن عصى الله فهو جاهل أيا كان، ومن أطاعه فهو عالم، ولهذا قال تعالى: ] إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فكل عالم يخشاه، فمن لم يخش الله فليس من العلماء، بل من الجهال قال ابن مسعود: «كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار به جهلاً» وقال رجل للشعبي: أيها العالم فقال: إنما العالم من يخشى الله».

    5 ـ أن من معاني الجهل: السفه وعدم الرشد في الدين، لأن المراد بقولـه (بجهالة) بسفه وعدم رشد، كما قال تعالى: ] ومن يرغب من ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه [ [البقرة: 130].

    وقال تعالى: ] قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ [الأنعام: 140].

    وليس معنى الجهالة في الآية الجهل ضد العلم، لأن التوبة تقبل ممن عمل السوء عالماً بالإجماع([68])، كما قال تعالى: ] قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا لـه من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون [ [الزمر: 53 ـ 55].

    بل إن من شرط المؤاخذة على الذنب كون مرتكبه عالماً بأنه ذنب ومعصية، لأن الجاهل غير مؤاخذ كما قال تعالى: ] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا [ قال الله في الحديث القدسي: «قد فعلت»([69]).

    فإن كانت المعصية التي فعلها جهلاً أوخطأً من باب الإخلال بالمأمور، فعليه أن يأتي بما أخل به أو بما يجبره، فمن ترك التشهد الأول في الصلاة مثلاً فعليه أن يأتي به ما لم يستتم قائماً، وإلا جبره بسجود السهو، ومن أخل بالطمأنينة في الصلاة فعليه أن يعيدها بطمأنينة، كما قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل»([70]).

    وإن كانت المعصية التي ارتكبها جهلاً أو خطأً، من باب ارتكاب المحظور كحلق الشعر بالنسبة للمحرم فلا شيء عليه إلا في القتل خطأ فإن القاتل تلزمه الكفارة حقاً لله تعالى، وإن كان غير آثم، كما يجب عليه التوبة، وكذا كل من عمل معصية من ترك مأمور أو انتهاك محظور، وإن كان ذلك خطأ لقولـه في كفارة القتل الخطأ: ] فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً [ [النساء: 92]، أما ما كان من حقوق الآدميين فلا يسقط بحال، بل يجب عليه أداؤه وإن كان إتلافه لـه جهلاً منه أو خطأ([71]).
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  9. #9
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    6 ـ وجوب المبادرة إلى التوبة لقولـه: ] ثم يتوبون من قريب [ أي: قبل حضور الموت، وإذا كان الإنسان لا يدري متى يحضره الموت، ويفجأه الأجل، فالواجب عليه المبادرة بالتوبة حتى لا يأتيه الموت على غرة، وهو مقيم على المعصية.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».

    وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك»([72]).

    7 ـ أن من شرط قبول التوبة أن يتوب الإنسان من قريب أي في الحياة، وقبل حضور الموت، لقولـه: ] ثم يتوبون من قريب [ لكن ليس من شرط قبول التوبة أن تكون عقب الذنب مباشرة، لأن «ثم» للتراخي، لكن الواجب كما سبق المبادرة إليها.

    8 ـ التحذير من الإصرار على المعصية والتسويف، وتأخير التوبة لقولـه: ] ثم يتوبون من قريب [ لأن الإصرار على المعصية قد يكون سبباً لعدم التوفيق للتوبة وعدم قبولها وسبباً لقسوة القلب وانطماس البصيرة ـ والعياذ بالله ـ، قال تعالى: ] كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ [المطففين: 14].

    وفي الحديث: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء»([73]).

    والإصرار على الصغائر يجعلها كبائر.

    قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار»([74]).

    وكما قيل:

    لا تحقرن من الذنوب صغيرة إن الصغير غداً يكون كبيراً

    وقال الآخر:

    لا تحقــرن صغيـــرة إن الجبـال مـن الحصـا([75])

    9 ـ أن من تاب عن قرب عهد بالمعصية فهو أحرى من غيره بقبول التوبة، لقولـه: ] ثم يتوبون من قريب [.

    10 ـ قبول التوبة ممن تاب من قريب، لأن الله حصر التوبة فيهم، فقال: ] إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب [، ثم أكد ذلك بقولـه: ] فأولئك يتوب الله عليهم [.
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

  10. #10
    الصورة الرمزية زاهية شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2004
    المشاركات : 10,345
    المواضيع : 575
    الردود : 10345
    المعدل اليومي : 1.42

    افتراضي

    ـ إثبات اسم الله تعالى «العليم» وما يدل عليه من إثبات صفة العلم التام الشامل لله عز وجل، لقولـه: ] وكان الله عليما [.

    12 ـ إثبات اسم الله تعالى «الحكيم» وما يدل عليه من إثبات صفة الحكم والحكمة لله عز وجل: الحكم الشرعي والكوني والجزائي، والحكمة بقسميها: الغائية والصورية.

    13 ـ أن الله عز وجل شرع التوبة لعباده عن علم منه وحكمة، وذلك لضعفهم أمام نوازع الشر، ووفق بعلمه وحكمته للتوبة من شاء منهم، وخذل من شاء فلم يوفقه لها لقولـه: ] وكان الله عليماً حكيماً [.

    14 ـ أن الكمال في اجتماع العلم والحكمة. فالعلم وحده لا يكفي، بل قد يضر إذا صاحبه طيش وعجلة، والحكمة وحدها لا تكفي بدون العلم، بل قد تضر إذا صاحبها الجهل. ولهذا وصف الله عز وجل نفسه بأكمل الكمالين، وهو اجتماع العلم والحكمة، وكمال كل منهما وتمامه، فقال: ] وكان الله عليماً حكيماً [.

    15 ـ بلوغ القرآن الكريم الغاية في الإيضاح والبيان، لأن الله عز وجل حصر التوبة في الذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب. ومفهوم هذا أن من استمر على عمل السوء حتى حضره الموت ليس لـه توبة، وتوكيداً لذلك وزيادة في البيــان والإيضاح جاء التصريح بهذا المفهوم بقولـه تعالى: ] وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [.
    __________________


    ( قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى )

    رب توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين

    أحمد سعد الدين

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. أركان الشفعة وشروطها وأسبابها
    بواسطة علي حسين الموصلي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 26-12-2010, 07:11 PM
  2. مقامة : نعم التوبة وبئس التائب
    بواسطة توفيق صغير في المنتدى الأَدَبُ السَّاخِرُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 28-09-2010, 12:59 PM
  3. معنى لا إله إلا الله وشروطها
    بواسطة د. عمر جلال الدين هزاع في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 07-01-2007, 01:54 AM
  4. التوبة وحسن الظن بالله
    بواسطة زاهية في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 29-12-2005, 03:36 PM
  5. التوبة المتأخّرة
    بواسطة محمد حيدر في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 08-09-2003, 06:09 AM