السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ها نحن نشهد تكالب الأمم علينا، تكالب الأكلة على قصعتها. ها نحن نزداد يقيناً أنّ الخصم الوحيد للرأسمالية الجشعة هو الإسلام، بما يحمله من مشروع حضاري سياسـي؛ ولذلك يبـادر طواغيت الغرب إلى استباق نهضة الأمة سياسةً، بعد أن عجزوا عن لجم نهضتها عقيدةً وفكراً وشعوراً، وهم لذلك يضربون المسلمين في عقر دارهم، مستهترين بعقول الناس، منتحلين أعذاراً واهية واهنة كبيوت العنكبوت، وراكلين ما تغنـّوا به دهراً، من مقولات: حقوق الإنسان، وتقرير المصير، وإرادة الشعوب، لأنها شعارات إنما اصطنعوها للمروق من الأديان، فإذا تعارضت وبقاء الإسلام، وكان التزامهم بها يعوق ضرب الإسلام، اطّرحوها. ولعل ذلك يكون عبرةً لفلول أدعياء الفكر في بلاد المسلمين، الذين يتشدّقون بمفردات الغرب، ويأكلون فتات موائده. ولعلّ أبرز ساحة للصّراع الحديث بين الأمّة وأعدائها، المسجد الأقصى، وما حوله.
وحديثنا اليوم، يكاد ينحصـر بمقولـة حقّ العودة، لرصد مدى انضباط هذه المقولة بمقاييس الشّرع.
إنّ أيّ قضيّة تشغل بال المسلم، لا بدّ أن يرجع فيها إلى الشّرع الإسلاميّ، لا إلى الشّرعيّة الدّوليّة. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب 36]. إنّ الإسلام يرشدنا إلى طريقة واحدة في معالجة قضايانا. ليس مقبولاً أن يخرج الإنسان من المسجد فجراً، بعد اجتهاد طويل في إحياء ليلة القدر، ومغالبة "الأهواء"، ثمّ ينادي بقرارت مجمع أبي جهل في واشنطن، القائمة على أخسّ الأهواء! وليس مقبولاً أن يعود الإنسان من الحجّ «المبرور»، بعد أن بلغ الكعبة «بشقّ الأنفس»، ورجم الشّيطان هناك، ثمّ يستعين بالشّيطان نفسه لتأكيد حقّه في الأرض المغتصبة! هذه الانتقائيّة أو الازدواجيّة في التّعاطي مع الأحكام الشّرعيّة، مرفوضة مرفوضة. قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة 85].
إنّ السّياسة لا بدّ أن تنبثق عن الشّرع، وليست فنّ الممكن، بمعنى الرّضا بأنصاف الحلول، أو أعشارها، وبمعنى «خذ وطالب»، وبمعنى «الغاية تبرّر الوسيلة».
إنّ المعالجات الّتي يدعو إليها الإسلام، معالجات جذريّة. ليست من قبيل معالجة الورم السّرطاني بحبّة مسكّن انتهت مدّة صلاحيّتها، فكانت مرضاً فوق مرض. ولا من قبيل إطفاء حريق لاهب بتنهّد عميق. قال الشاعر العربيّ:
لا تقطعنْ ذنبَ الأفعى، وترســلَها
إنْ كنْتَ شهماً فأتْبِعْ رأسَها الذّنَبا
إنّ جرح فلسطين النّازف، ليس وليد عام 1948. إنّه وليد عام 1924م عندما استطاعت بريطانيا، رأس الكفر آنذاك، بالتعاون مع خونة العرب والترك، استطاعت القضاء على الخلافة، حيث كانت الخلافة شوكة في حلق بريطانيا الحاقدة على الإسلام والمسلمين، وبالتعاون كذلك مع اليهود الذين لم ينسوا صدّ الخليفة عبد الحميد مسعى رئيسهم هرتزل اللّعين، بهدم الخلافة، بعد عقود من التّدبير المنظّم. فلما قضي على الخلافة، انحلّت العروة الأولى، فتلتها سائر العرى. أخرج الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة». وهكذا زالت دولة الإسلام، وزالت هيبة المسلمين، واجترأ عليهم أخسّ الأمم، إخوان القردة والخنازير!
إذا نظرنا بهذا المنظار، وجدنا أنّ كلّ مشكلة لن نجد لها حلاً، مادمنا نبحث في النّتائج فحسب، غافلين عن الأسباب.
لقد علّمنا نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا نستجدي الحلول المجتزأة، ولا سيّما ما حمل في طيّاته إطالة عمر الكفر وأهله، والظّلم وزبانيته؛ ولهذا رفض (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستجيب لمطلب قريش في أن تعبد الله سنة دون شرك، وأن يعبد هو آلهتهم سنة. ورفض أن يترك لأهل الطّائف صنمهم اللاّت، ولو تركاً مؤقّتاً، ورفض أن يضع عنهم فريضة الصّلاة.
يُروى أن رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، وقف مع جمع على قبر أحد السّياسيّين، فقرأ: «هنا يرقد السّياسيّ النّبيل فلان...»، فقال هازئاً: «ما كنت أعلم أنّ تقاليد بريطانيا تسمح بدفن اثنين في قبر واحد!» قال ذلك وهو يهزأ -وفق مقاييسه- من كون فلان سياسياً ونبيلاً في آن، فإما هو سياسي أو نبيل، لكنهما لا يجتمعان!
إنّ هذا ينطبق على من يديرون دفّة القرار في بلاد المسلمين، منذ أفول نجم الخلافة الإسلاميّة، فقاموس السّياسة في قصورهم، قد شُطِبت منه كلّ مفردات النّبل والكرامة والعزّة, خلافاً لقاموس السّياسة الشّرعيّة الّتي ما زالت في وجدان المسلمين.
إنّ السّياسيّين الّذين فُرضوا على الأمّـة، أذاقوها نكبة إثر نكبة! إنّ العرب قد جعلت للمصيبة أسماء كثيرة يصعب إحصاؤها، حتّى قال بعضهم إنّ أسماء المصائب من المصائب، لكنّ ساسة العرب والمسلمين، جعلونا نحفظ تلك الأسماء لكثرة ما أذاقونا من ثمارها، فحياتنا محاصرة بالنكبة، والنكسة، والهزيمة، والاجتياح، والعدوان، والحصار، والمجزرة، والغارة، والانتهاكات، وخرق الأجواء! نعم، هذا ما يلحِقه بنا يهود، شراذم الأمم. وحرّاسُ الحدود، حرّاسُ يهود، يبتسمون، ويقهقهون!
لقد أصبح الحلّ السّياسيّ في قاموس الحكّام يعني دفن البندقيّة، وإعدام السّيف، وإتلاف الدّبـّابة، وتفكيك الطّائرة، حتّى يصبح المسلم لقمة سائغة أمام يهود، فلول خيبر والقينقاع والنّضير وقريظة، وحينها تُسوَّغ التّنازلات والمساومات.
وإنّ من أبرز منافذ الحلول الانبطاحيّة، ملفّ حقّ العودة، وبذلك نفهم لماذا أطلقت الأمم المتّحدة على العقد الأخير من القرن الماضي اسم «عقد عودة اللاجئين»؟ ونفهم لماذا تنصّ المادة 22 من الميثاق الأوروبيّ للسّلم، والتي تبنّتها منظّمة الأمن والتّعاون في أوروبا مؤخّراً في إسطنبول، على التّالي: «نؤكّد التزامنا... بتسهيل العودة الطّوعيّة للاجئين والنّازحين بكرامة وأمان. وسنتابع بدون تمييز دمج اللاجئين والنّازحين في مواطنهم». إنّ عودة اللاجئين تشكل مكوّناً أساسياً في الانتقال إلى السّلم، أي إلى تحريك عجلة المفاوضات، وإلقاء السلاح، والاعتراف بالاحتلال.
ذلك الملفّ سنقرأ السّاعة بعض عناوينه، بالقدر الكافي الّذي يبعث على الاشمئزاز من الزّعامات الّتي باعت ما تسمّيه بالقضيّة، بثمن بخس، واشترت لعنة الله والأمـّة والتّاريخ.
إنّ حقّ عودة اللاجئين مثَّل الهدف الأول من أهداف ما اصطلح على تسميته بالنّضال الوطنيّ الفلسطينيّ، وجرى تثبيته في ميثاق منظّمة التّحرير، وبرنامجها السّياسيّ، وفي كل برامج أطراف حركة التّحرر الوطنيّ الفلسطينيّة بمختلف تيّاراتها وانتماءاتها السّياسيّة .
لكن تراجعت شيئاً فشيئاً، لغة الخطاب من تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، إلى انسحاب قوّات الاحتلال نحو حدود الرّابع من حزيران، إلى إعادة الانتشار، وأخيراً إلى ما سمّي خارطة الطّريق، وما أضلّها من طريق!
وفي ما يخصّ الاستيطان، انحصر الحديث بتجميده، ووقف توسّعه، بدلاً من الإصرار على إزالته باعتباره عدواناً توسّعياً غير شرعيّ.
أما بالنسبة إلى حقّ العودة، فإنّ الخطاب الرّسميّ الفلسطينيّ والعربيّ، تجاوزه، ليتحدّث عن حلّ عادل لقضيّة اللاجئين، ثمّ تنازل إلى حلّ ما، يتمّ التّفاوض والتّوافق عليه. وحتّى هذا الحلّ باتت ملامحه واضحة ومحدّدة، قبل أن يجري التّفاوض عليه، في وثائق ومبادرات، بلغت حدّ إسقاط حقّ العودة نهائيّاً.
لقد بدأ النّظام الرّسميّ العربيّ مسلسل الخيانة بإعلان تخلّيه عن استخدام القوّة في الصّراع مع (إسرائيل)، بعد حروب خاسرة، دبِّرت خسارتها عمداً، وتلاها الرّضا بأن تكون منظّمة التّحرير هي الممثّل الشّرعيّ والوحيد للشّعب الفاسطينيّ، حتّى تستريح الأنظمة من عبء «القضيّة». ثمّ أصابها الذّعر أمام مسرحيّة الاتّهام الأميركيّ لها بممارسة الإرهاب ومساندته، فراحت تضيّق الخناق على «المقاومة الفلسطينيّة»، لتقدّم صكّ براءتها، وقامت تضغط بكلّ الوسائل لإيقاف كلّ عمل مجاهد، ولم يتورع الإعلام الرّسميّ عن وصفه بالإرهاب، والأعمال الانتحاريّة. ولقد أكّد هذا النّظام الرّسميّ العربيّ، لمن كان لا يزال مخدوعاً، أنّه أداة طيّعة بيد الإدارة الصّليبيّة الأميركيّة، تنفّذ سياساتها وتستجيب لإرادتها. ولا ننسى نفاق المجتمع الدوليّ أمام القوّة الأميركيّة، والعدوانيّة (الإسرائيليّة).
كلّ ذلك وفّر ذرائع لتوقيع اتـّفاقيـّة أوسلو بكل إجحافاتها وتنازلاتها في الحقوق، والقبول لاحقاً بما يسمّى خارطة الطّريق، والاستمرار في هذا النّهج، رغم ما فعلته (إسرائيل) في اتفاقيات أوسلو، وما تضعه من اشتراطات على خارطة الطريق، بما في ذلك إعادة صياغتها وفق منظورها، حيث اختصرتها تقريباً في خطّة الانفصال الأحاديّ، أو الانسحاب من قطاع غزّة، وبعض المستوطنات في شمال الضّـفّة. وحصلت على اعتماد وتبنٍّ لها من المجتمع الدّوليّ .
وقد أدى ذلك إلى استنتاج لدى الجانب (الإسرائيلي)، والعربي الرسمي، والمجتمع الدولي، إلى أنّ حقّ العودة لا يتمتع بأولوية لدى الفلسطينيين، وأن لديهم الاستعداد للمساومة عليه، أو التنازل عنه .
كل هذه التطورات، والمفاهيم المغلوطة، هيأت المناخات لأن تخرج من الصف الفلسطيني شخصيات قيادية ومؤسسات، بالتعاون مع شخصيات ومؤسسات (إسرائيلية)، وبتشجيع سياسي ومادي من أوساط ومراكز دولية، لإطلاق مبادرات أو اتفاقات أو تفاهمات، يدعي أصحابها أنها تشكل أساساً لتسوية متوازنة للصراع الفلسطيني (الإسرائيلي). وهي المبادرات التي عرفت بمسميات :
1- وثيقة جنيف (بيلين - ياسر عبد ربه): والتي سميت "مسودة اتفاقية للوضع الدائم"
2- وثيقة أيلون ـ سري نسيبة .
3- وثيقة بيلين ـ أبو مازن : والتي أخذت اسم "مشروع معاهدة لقضايا الحل النهائي"
إن القاسم المشترك الذي تلتقي عليه هذه الوثائق الثلاث هو أنها جميعها تبرئ (إسرائيل)، أو على الأقل لا تحملها أية مسؤولية سياسية أو أخلاقية عن الجريمة التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني حينما طردته بقوة الاحتلال من أرضه عام 1948م. وبالتالي حررت (إسرائيل) من إمكانية أي ضغط عليها أو أية مطالب منها، طالما هي لم تفعل شيئاً ضد الشعب الفلسطيني! وهي لا تعترف بحقّ عودة اللاجئين إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي طردوا منها ، بل إنها لا تأتي على ذكر كلمة العودة، وتتحدث عن خيارات أخرى أمام اللاجئين تسميها مكان إقامة دائم!
كما تجاهلت هذه الوثائق أية إشارة لحقوق أكثر من ربع مليون عربي فلسطيني يقيمون في دولة (إسرائيل) ويحملون جنسيتها من العودة إلى قراهم وأراضيهم التي هجّرتهم (إسرائيل) منها منذ عام 1948م، وتمنعهم من العودة إليها واستعادة ملكيتهم لها.
ولقد نظرت الوثائق الثلاث إلى قضية اللاجئين نظرة اقتصادية وحلها على هذا الأساس. واعتمدت لذلك مبدأ التعويض لإعادة تأهيل وإسكان اللاجئين. إن أي شخص أو هيئة مهما كانت صفتها التمثيلية، لا تملك التنازل عن حقوق لا تملكها ولم يفوضها أصحابها بذلك.
والتعويضات التي تحدثت عنها الوثائق هي عبارة عن ثمن أراضي اللاجئين وممتلكاتهم (وفق تقديرات تحددها لجنة أو صندوق دولي) أي أنها ستفرض على اللاجئين بالقوة بيع أراضيهم أو التنازل عنها، وهو ما يرفضه اللاجئون رفضاً قطعياً، ويرفضون المساومة عليه. وتجاهلت هذه الوثائق حقّ اللاجئين في تعويضات عن الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت بهم وبممتلكاتهم منذ هجروا منها عام 1948 حتى اليوم، وعن استغلال دولة (إسرائيل) واستثمارها لهذه الأراضي والممتلكات على مدى أكثر من نصف قرن. وهذا النوع من التعويضات هو ما يطالب به اللاجئون إلى جانب عودتهم إلى أراضيهم .
وحتى التعويضات التي تحدثت عنها الوثائق ، حمَّلت المجتمع الدولي، والدول المانحة مسؤولية جمعها من خلال صندوق دولي يُنشأ لهذا الغرض. وبذلك أعفت (إسرائيل) من مسؤولية دفع هذه التعويضات من الأموال التي نهبتها ، وأشارت فقط إلى إمكانية إسهام (إسرائيل) في تغذية الصندوق الدولي للتعويضات ببعض الأموال.
وقد تفردت وثيقة جنيف باستخدام لغة التهديد والضغط على اللاجئين للقبول بصيغ الحلول التي عرضتها لقضيتهم، فهدّدت كل لاجئ لا يقبل بأحد الخيارات الخمسة التي حددتها له لاختيار مكان سكنه الدائم من بينها، خلال مدة أقصاها خمس سنوات ، بشطبه من سجلات اللاجئين وإنهاء وضعه من حيث هو لاجئ، وبالتالي إسقاط كل حقوقه .
كما نصت الوثيقة على إنهاء عمل وإلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) خلال خمس سنوات من توقيع هذه الاتفاقية. وفي هذا ضغط واضح على اللاجئين للقبول بالحلول التي تعرضها الوثيقة، لأن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تقوم بدور الرعاية الغذائية والصحية والتربوية والاجتماعية للاجئين وبخاصة في المخيمات. مع أن قرار حل الوكالة لا يملكه أحد غير الجهة التي أنشأتها، وهي الأمم المتحدة، وقرار الحل مرتبط بتحقيق الهدف الذي أنشأت من أجله، كما نص على ذلك قرار إنشائها، وهو تحقيق عودة اللاجئين تطبيقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194 .
إنّ من يدقق في نوعية وهوية الشخصيات الفلسطينية التي شاركت في التوصل إلى هذه الاتفاقيات، يلاحظ أنها شخصيات مسؤولة على أعلى المستويات، سواءٌ في منظمة التحرير (أعضاء لجنة تنفيذية) أو السلطة الوطنية (وزراء وأعضاء مجلس تشريعي) وليس من خارج المؤسسة الرسمية كما هي حال الطرف (الإسرائيلي) المشارك (أحزاب معارضة). ورغم المطالبات الشعبية الواسعة التي طالبت قيادة المنظمة بمحاسبة هؤلاء، ووقف تحركاتهم، إلا أن شيئاً من ذلك لم يتم.
ولم تتوقف جهود هؤلاء (الناشطين) الفلسطينيين عند حدود التوصل إلى هذه الوثائق أو الاتفاقيات، فهم ينشطون على المستويات المحلية والعربية والدولية للترويج لهذه الوثائق واستقطاب تأييد لها. فعلى الصعيد المحلي أسست مجموعة ياسر عبد ربه "ما سمي تحالف السلام الفلسطيني"، وأسست مجموعة سري نسيبة "ما سمي بالحملة الشعبية للسلام والديموقراطية"، ويقومون بأنشطة إعلامية واسعة عن طريق توجيه نداءات، ونشر إعلانات مدفوعة، وإصدار صحف ونشرات، وإجراء استطلاعات موجهة حسب وجهة نظرهم. وأقاموا مراكز إعلامية لهذه الأغراض. كما ينشطون في مجال الزيارات والاتصالات مع جهات عربية ودولية، رسمية أو غير حكومية، لحشد التأييد والمساندة لتوجهاتهم. وهذا النشاط الواسع يوحي بأن هناك أموالاً طائلة رصدت لهم من قبل هيئات وجهات خارجية غير معلنة، مما يثير شكوكاً أكثر في الهدف من هذه التحركات، والوثائق، وأصحابها، ومن يقف وراءَها.
إن قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 194، والذي يجري تأكيده سنوياً، لم ينشئ حقّ اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، ولكنه أعاد صياغة وتأكيد مبدأ راسخ في القانون الدولي العرفي. إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص صراحة على أن "لكل فرد الحق في...العودة إلى بلده". فلماذا لا يعود أبناء فلسطين إليها؟ ألأنّهم مسلمون؟! وليس حماة الشّرعيّة الدّوليّة يعبؤون بإعادتهم، وهم تعاونوا على إخراجهم.
إنّ سموّ الأمـّة الإسلاميّة في مطالبها، كان سمةً لها في تاريخها المديد، وبذلك دخلت ساحات العزّة ورفعت فيها راياتها. فعلينا أن نكون دوماً على مستوى هذا السموّ. لماذا نتعلّق بقشّة يابسة، والشّجرةُ ثابتة الجذور، متهدّلة الأغصان، حولنا، وفيها يقين الخلاص إنّ تعلّقنا!؟؟
فلنكفّ عن اللُّهاث وراء مسمّى حقّ العودة، فلن ننال شيئاً. إنّه أمر ترفضه كلّ الحكومات (الإسرائيليّة)، كما يقول يهوشع بورات في صحيفة يديعوت أحرونوت، 29/12/2003م.
إنّ من حقّ كلّ لاجئ أن يبقى في أيّ أرض إسلاميّة، فتحها أجداده الصّحابة أو التّابعون، وإلاّ فلماذا نهض الإسلام بـ" مهاجرين" و " أنصار"؟ من حقّ كلّ لاجئ، أن يقيم في أندونيسيا وموريتانيا، كما في الأردنّ ولبنان وسوريا ومصر. ومن نظر إليه بعين الرّيبة، فإنّه أعمى البصيرة.
نعم، يحقّ لكلّ من أُخرِج من داره بغير حقّ، أن يعود إليها، ولكنّ الواجب يحكم حياة الأمّة أكثر ممّا يحكمها حقّها.
إنّ كلمة "حقّ" جعلوها في صيغة تعني جواز التّـنازل، فجعلوها حقاً شخصياً، لفلان أن يعود أو لا يعود!
ومسألة ما اغتصبه اليهود ليست كذلك: إنّها أرض إسلاميّة احتُلّت، وليست أرضاً فلسطينيّة سلبوها من جدّي!
يتبع............