الحمد لله، وبعد:
فإنَّ لهذه الأمة خصائص تميزها، ومزايا تخصها تنفرد بها عن غيرها من الأمم، ولا عجب فهي الأمة الوسط، وهي الأمة المجتباة، وهي الأمة المختارة لتكون شاهدة على الأمم، مقدمة على الشعوب!
هذه المرتبة المتميزة، والمكانة المتسنمة فوق القمم، لم تكن لتأتي هكذا اعتباطاً! فهي ليست لسواد في أعين أبنائها، ولا لفتوة في مناكب شبابها.. ولكن "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
فبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر حظيت الأمة برفعة المنزلة، وفازت بقصب السبق وتسنمت علو المقام!
ولنا أن نتساءل: ترى أما زالت الأمة محتفظة بأسباب رفعتها، ومناط عزها وفخرها؟ أما زالت السفينة محتفظة بتوازنها، ممتنعة متحصنة ممن يريدون خرقها، ويجتهدون في إغراقها؟
تجيبك أيها الأخ الكريم: تلك الجموع الهائلة حول الأضرحة والمشاهد، تستغيث بغير الله تعالى، وتنزل حوائجها بمن لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا! وتجيبك جموع المتخلفين عن الصلوات المكتوبة، المنشغلين عنها بسفاسف الأمور.
تجيبك الأجساد العارية على شواطئ البحار، وضفاف الأنهار باسم الترفيه والاستجمام!
تجيبك حانات الخمور، وطاولات القمار، ودور السينما، ومراتع الفساد المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين!
تجيبك تلك الأجيال الهزيلة، من ذوي الاهتمامات التافهة، والهوايات السخيفة، والتي لا تتعدى في الجملة صقل الوجوه وتلميعها، وتصفيف الشعور وتسريحها، ومتابعة الكرة والتصفيق لها!
هذه بعض الثمرات المرة يوم عُطِّلت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح كل ذي هوى حُرًّا في فعل ما يشاء دون حسيب أو رقيب! وأمام هذا الإسفاف يتساءل المسلم الغيور، ماذا تراه يصنع أمام هذا الطوفان الجارف والركام النكد؟!
أتراه يقف مكتوف اليدين متمتماً بالحوقلة والاسترجاع، ملقياً بالتبعة على غيره مردداً:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** وبقيتُ في كَنَفٍ كجلد الأجرب
رفع الإمام البطل لواء دعوته، وجاهد تلك النماذج المهترئة من البشر، غير هياب ولا وجل، ووقف راسخ القدمين أمام إعصار الفساد المدمِّر، مستعيناً بالله متوكلاً عليه، حتى قيض الله للإمام من يسانده ويقف معه في خندق واحد، حتى تحققت المعجزة وتجسد الحلم حقيقة فوق أرض الواقع، وزهق الباطل، وعادت نجد دوحة للإسلام ومعقلاً للتوحيد، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
هذا أنموذج واحد وغيره كثير، إذاً فالصراع بين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، ليس بخاضع أبداً إلى حسابات من نوع (واحد + واحد يساوي اثنين)، وإنما هو يخضع لمثل قوله تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً"!
ولمثل قوله: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله"!
ولمثل قوله جل جلاله: "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين... ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون قالوا أألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون"... وغيرها من الآيات الواضحات البينات التي تؤكد أن العاقبة للتقوى، وأن المستقبل للإسلام، وأن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب!
إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست قضية خاضعة للبحث والمناقشة وتبادل وجهات النظر هل تكون أو لا تكون، ولكنها قضية محسومة سلفاً، باعتبارها ركيزة من ركائز الدين، وعموداً من أعمدة الإسلام، وهي ليست مجرد مسألة شخصية تتعلق بشخص المُنكِر، أو بشخصية المُنكَر عليه، كلّا كلا، ولكن المسألة لها علاقة جد وثيقة بالأمة كافة، فشيوع المخالفات الشرعية ضرب للأمة في الصميم، وتمزيق لوحدتها دون شك أو تردد.
وحديث السفينة المشهور، شاهد حي بأن أثر المنكر يتجاوز حيز صاحبه ليمتد فيغمر بظلاله القائمة المجتمع كله، فحين تُخرق السفينة فلن يميز الطوفان الجارف بين مَنْ خرقها ومن لم يخرقها! ولكنه سيدفن الجميع تحت أمواجه العاتية!
لقد ظل أنس –رضي الله عنه- يخدم النبي –صلى الله عليه وسلم- عشر سنين – كما حدّث هو بنفسه، فلم.............يتبع