وماخفى كان أعظم
بعد عشر سنوات فقط من ولادتها القيصرية في خاصرة الوطن العربي بدأت إسرائيل تنهج منطق الغموض في مسألة امتلاكها للسلاح النووي، واستعملت التعبيرات والمفردات التي تفي بغرض هذا المنطق. وقد قام منطق الغموض الإسرائيلي بشأن هذه المسألة على ركنين أساسيين هما عدم تأكيد وجود أسلحة نووية لديها، وعدم نفي ذلك في نفس الوقت.
وحتى يوم نشر أفنير كوهين كتابه الشهير "إسرائيل والقنبلة النووية" الذي تضمن خلاصة مقابلات أجراها مع أكثر من مئة خبير وسياسي إسرائيلي وأميركي وفرنسي ونرويجي، أوحى في أكثر من مكان في الكتاب بأنه لو لم تزود كل من فرنسا والنرويج إسرائيل بالمياه الثقيلة، لما نجح العمل في مفاعل "ديمونا"، ولما تمكنت من تحقيق ما يطلق عليه قادتها "الردع"، أي "ردع" الأمة العربية عن استعادة حقوقها والدفاع عن وجودها ومصالحها التاريخية والمستقبلية. ولم يعرف ما إذا كان كوهين قد استعمل في كتابة أسلوب الخداع لسرد التفاصيل حول السلاح النووي الإسرائيلي ومفاعل "ديمونا"، أو أنه وقع في شرك التضليل الذي نصبه له العالمون ببواطن وأسرار السلاح النووي والمفاعل في تل أبيب الذين لم يكونوا قد تجاوزوا في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي عدد أصابع اليد الواحدة.
ومنذ بناء مفاعل "ديمونا" قبل أكثر من مئة عام، لم تخف فرنسا دورها في عملية بنائه ومساعدة إسرائيل في تشغيله للأغراض السليمة. إلا أن حقيقة حصول إسرائيل على المياه الثقيلة لتشغيله للأغراض العسكرية – التدميرية بقيت طي الكتمان ورهن ستار التضليل الذي أحيطت به إلى أن كشفت وثائق تاريخية أفرجت عنها الحكومة البريطانية مؤخرا النقاب عن أن إسرائيل حصلت في عام 1958 على المياه الثقيلة النرويجية المصدر من بريطانيا دون علم رئيس حكومتها أنذاك إيان ماكميلان، ودون تقديمها أية ضمانات بأنها لن تستعملها لبناء قنابل نووية. وأوضحت الوثائق أن الولايات المتحدة كانت تسعى بشكل كبير لمنع إسرائيل من بناء مفاعلها النووي وقدراتها العسكرية النووية الخطيرة. وقد فاجأ ذلك وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت ماكنامارا، الذي كان يعتقد حتى لحظة نشر الوثائق أن بلاده هي التي وقفت وراء بناء قدرات إسرائيل النووية لا بريطانيا أو أي دولة غربية أخرى... على حد ما زعمه في تصريحات له واكبت نشر الوثائق.
"الوثائق التاريخية" كانت قد تطرقت إليها محطة التلفزة البريطانية "بي,بي.سي" بشكل مقتضب في حلقة خاصة من برنامج "أخبار المساء" أذيعت قبل بضعة شهور ، ثم أعيد نشرها بشكل مستفيض على أحد مواقع الإنترنت الغربية المختصة بالشؤون الإستراتيجية قبل بضعة أيام. الوثائق بينت كيف أن أحد كبار موظفي الحكومة البريطانية قال أن مطالبة إسرائيل بتقديم الضمانات بعدم استخدام تقنيتها لأغراض عسكرية كان من باب "الحرص المفرط الذي لا لزوم له"، خاصة وأن بريطانيا أخفت عن الولايات المتحدة سر تلك الصفقة لأن الأخيرة كانت تعارض تقديم المياه الثقيلة لتل أبيب من دون حصولها على تلك الضمانات.
وكانت صحيفة "ديلي اكسبريس" البريطانية قد نشرت في عام 1960 على صدر صفحتها الأولى أن إسرائيل، بعد الولايات المتحدة وبريطاينا وفرنسا وروسيا، تبني قنبلتها الذرية، لكنها لم تقل من ساعدها في البناء.
وكشفت الوثائق الموجودة في مكتب المحفوظات البريطاني في حي كيو اللندني أيضا عن أن فرنسا بعد انسحابها القسري من قناة السويس المصرية إثر العدوان الثلاثي الشهير، أبرمت صفقة سرية مع إسرائيل لبناء مفاعل "ديمونا" في صحراء النقب. لكن الفرنسيين لم يتمكنوا من تقديم المياه الثقيلة لإنتاج البلوتونيوم اللازمة لصناعة القنابل النووية في ذلك المفاعل. وبعد رفض الولايات المتحدة تقديمه لإسرائيل دون ضمانات، اتجهت الأخيرة إلى النرويج، المصدر الرئيسي للمياه الثقيلة في العالم آنذاك، لكنها لم تكن تملك ما يكفي منه. واقترحت النرويج على الإسرائيليين البحث عن ضالتهم في بريطانيا التي كانت قد اشترت منها مياها ثقيلة قبل ذلك بعامين ولم تستخدمها. وبالفعل حصلت إسرائيل في صفقة سرية مع بريطانيا على 20 طنا من المياه الثقيلة لقاء 1,5 مليون جنيه إسترليني "فقط". والغريب في الأمر أن بريطانيا لم تشترط يومها الحصول على ضمانات إسرائيلية بعدم استخدامها في إنتاج قنابل نووية كما فعلت الولايات المتحدة!!
ووفق ما جاء في الوثائق، فان مسؤولاً في هيئة الطاقة النووية البريطانية كتب إلى رؤسائه قائلا: "وجهة نظرنا هنا أنه سيكون طلبنا من إسرائيل تقديم ضمانات تشبثا مفرطا". ورد عليه مسؤول في وزارة الخارجية في وثيقة أخرى: "أتفق معك بأن ذلك سيكون إفراطا بالتشبث". وقال اللورد إيان غيلمور الذي كان وزيرا للدفاع ثم وزيرا للخارجية في بريطانيا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي: "لا أدري إن كان الموظفون يعملون ما يفعلونه أم لا، ولا شك أنهم كانوا يعملون، لكنني أعتقد أن اهتمامهم كان يتركز على الربح المالي".
وذكرت الوثائق أن المسؤول في الخارجية البريطانية (عام 1958) دونالد كيت فضل عدم إبلاغ الأميركيين بالصفقة. وكان لدى مواجهته بذلك من قبل مقدمي برنامج "أخبار المساء" الذي كشف الوثائق لأول مرة قد اعترف بذلك، موضحا أنه لو علم الرئيس الأميركي أيزنهاور بالأمر لفرض على بريطانيا تطبيق نفس الشروط التي طلبها من إسرائيل ولحاول إيقاف بناء مفاعل "ديمونا"، لا سيما أنه عارض العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على السويس في عام 1956 دون علمه ، وطالبهم بالانسحاب الفوري منها.
تجدر الإشارة إلى أن جون كيندي كان قد وضع بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة في عام 1961 موضوع "ديمونا" والطاقة النووية الإسرائيلية على سلم أولوياته، إلا أنه اغتيل قبل أن ينهي الأمر بطريقة تضمن عدم استعمال إسرائيل المفاعل لأغراض عسكرية. وقد لف اغتيال كيندي غموض لم يقل عن الغموض الذي كان يلف السلاح النووي الإسرائيلي!!
وكشفت الوثائق أن الموظفين البريطانيين تعمدوا جعل القضية وكأنها صفقة بين النرويج وإسرائيل، عبر وثيقة شحن بريطانية أظهرت أن الماء الثقيل يخص شركة نرويجية لنقلها على دفعتين. حيث تم شحن الدفعة الأولى المؤلفة من عشرة أطنان في حزيران 1959، بينما شحنت الدفعة الثانية بعد عام. لكن الوثائق قالت صراحة أن الشحنتين حملتا على سفينة شحن إسرائيلية في مرفأ بريطاني. وأشارت الوثائق إلى ضرورة عدم الإفصاح عن هذه الحقيقة في أي تحقيق رسمي يتعلق بالمياه الثقيلة!!
وأضافت الوثائق أنه بعد أن أصبح العالم على دراية بما كانت تسعى إسرائيل لصنعه، حاولت الحصول على شحنة ثالثة من المياه الثقيلة زنتها خمسة أطنان، إلا أن بريطانيا رفضت بيعها الكمية. وكتب مسؤول في الخارجية البريطانية وفقاً للوثائق: "بالتأكيد يجب أن لا نقر هذه الصفقة، فالشأن النووي الإسرائيلي بات حيا لدرجة لا ينبغي أن نتورط فيه ثانية".
الوثائق لم تشر إلى أن رئيس الحكومة البريطانية أنذاك إيان ماكميلان أو أيا من وزرائه كان على علم بما جرى، مما يدل على أن القرارات كلها اتخذت على مستوى موظفي الدولة فقط. ورأى اللورد إيان غيلمور أنه لو علم وزير الخارجية البريطاني بالأمر لما استطاع إخفاءه عن الحكومة، ولكان نقله مباشرة إلى رئيس الحكومة الذي كان سيدعو بدوره إلى عقد اجتماع حكومي ... ولكانت الصفقة قد عطلت.
ويذكر أنه عندما التقى ماكميلان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق دافيد بن غوريون في وقت لاحق لعقد الصفقة وتنفيذها، أعرب الأول عن قلقه من برنامج إسرائيل النووي ووجه اللوم إلى كل من فرنسا والنرويج...أعرب عن قلقه ووجه اللوم بينما كانت المياه قد جرت من تحته دون أن يدري !!
ولا ندري ما سيكشف لنا المستقبل من وثائق وأسرار تكون إسرائيل "اللغز" الدائم فيها.
هذا التقرير انقله لكم كما وصلنى من مصدره, وهو من اعداد الكاتب والباحث
محمود كعوش .
وانا انقله بأسمه دون اى تدخل منى او تغيير فى مضمونه
[/IMG]
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورا القحطاني
