أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: حارة اليهود ـ قصة قصيرة للقاص الكبير محمد جبريل

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي حارة اليهود ـ قصة قصيرة للقاص الكبير محمد جبريل

    نص قصصي لمحمد جبريل
    ---------------

    حارة اليهود

    مضى في قلب حارة اليهود، يميزه قامة أميل إلى القصر والامتلاء، ورأس مهوش الفودين، وشعر كثيف يفز من فتحة الجلابية، أعلى الصدر. بادي الصحة بما يلفت النظر. يعرفه المارة والجالسون، فهم يتقونه بإلقاء السلام، أو بالدعوة للضيافة، أو بعدم الالتفات. وثمة روائح غريبة. نفاذة – وإن ألفها - تأتي من داخل البيوت، ونجمة داود متداخلة في الأبواب والشرفات..
    تمنى – بينه وبين نفسه - لو أن هؤلاء الجالسين في الدكاكين، الواقفين على النواصي، المطلين من النوافذ، تحرشوا به. شاكلوه مثلما فعلوا مع علي الصغير. ينهي المسألة بمفرده. يطيح فيهم بيديه. يفش الغل الذي يخنقه منذ سنوات. ليست المسألة في مشاكلة علي وإيذائه. يستطيع الوصول إلى الفاعلين. يترك لأصدقائه أمر تأديبهم. فلا يعودون إلى أذية الناس، أو يتركون الحي بلا عودة. الثأر شخصي، لا يقف عند فرد أو أفراد. يمتد إلى حارة اليهود كلها. ناسها وبيوتها ودكاكينها ومعاملاتها. أفلسوه في يوم وليلة. مهدوا لذلك سنوات، بالقروض والشيكات المؤجلة والبضائع الأمانة، ثم هطلوا كالسيل دفعة واحدة. أصبح دكان المصوغات والمجوهرات ملكًا لمن دفع السعر الأعلى. يسرع في خطواته إذا سار أمامه. يصعب عليه النظر، ولو بطرف عينه. الهَمُّ تصاعد داخله، ملأه، حتى تمنى الموت. لما جاء الولد علي يبكي الإهانة، قرر أن يصفي الحساب كله. يكون الدرس في حجم التأثير المطلوب، يعرف اليهود أنهم يسكنون الحارة، ولا يملكونها. من حق الناس أن يمشوا في الشوارع، والأزقة، دون خوف أذى.
    هل ضربوا علي الصغير في خناقة بين أطفال، أو أنهم كانوا يعرفون أن الولد ابنه؟. سأله عن الأولاد: هل هم أصحابه؟.. وهل يعرفون من هو؟.. وهل تحرش بهم، أو ضربوه بلا سبب؟..
    روى الولد – في مكانه – ما حدث: آذته المفاجأة أكثر مما آذاه الضرب. وجد نفسه وسطهم. أحكموا حصاره في حارة خميس العدس، وانهالوا عليه بالضرب القاسي، المتواصل، بالأيدي والأقدام والعصي الصغيرة، أنقذه مرور موظف بدار صك النقود. صرخ في الأولاد، فابتلعتهم البيوت والحواري الجانبية. أكد الموظف – لما سأله جعلص - كل ما قاله الولد علي..
    أردف الرجل في تأثر:
    - حتى الكبار لم يعودوا يأمنون على أنفسهم إذا ساروا في الحارة.
    أذهله صبحي أفندي منصور، مأمور قسم الجمالية، عندما كلمه فيما حدث. أشار الرجل إلى كتفه، وقال في أسى واضح:
    - ماذا تقول في إلقائهم الوسخ من نافذة، على مأمور القسم؟
    غالب الدهشة:
    - كيف؟..
    قال المأمور:
    - كنت أختصر الطريق من الموسكي إلى القسم..
    في عدم تصديق:
    - ربما لم يعرفوا من أنت؟..
    قال المأمور:
    - والبدلة الميري؟..
    - لعل الوسخ ألقي عفوًا، أو خطأ؟..
    - والضحكات التالية لما حدث من المطلين في النوافذ، والجالسين أمام الدكاكين؟..
    وهو يضرب جبهته بقبضة يده:
    - هذه مصيبة!..
    دَلَّك المأمور بإصبعيه تحت أنفه:
    - تكررت المصائب كثيرًا في الفترة الأخيرة..
    أخلى وجهه للغضب:
    - هل تأذن لي في التصرف؟..
    قال الرجل وهو يعاني:
    - أنا موظف رسمي.. أحتاج إلى التدقيق والإثبات ومراعاة الحساسيات.. أما أنت..
    وعلا صوته:
    - تصرف يا جعلص!..
    لم يكن من الفتوات، ولا سَعَى إلى جعل الفتونة مهنته، شاهده الخواجة السائح في خان الخليلي. أعجب بصحته البادية. سأله عن مهنته..
    قال:
    - كنت صائغًا..
    أضاف للتساؤل في عيني الرجل:
    - أبيع الذهب والمجوهرات..
    - وماذا تعمل الآن؟..
    قال في بساطة:
    - أفلست.. وأعمل الآن في حمل الخزائن..
    مَطَّ الرجل شفته السفلى، وقال في إعجاب:
    - مهنة مناسبة لمن هو في قوتك..
    عرض أن يصوره في إعلان للبيرة الفرنسية، رفض في البداية، ثم وافق لما أقنعه الخواجة بأنه سيمسك كأس البيرة، ولن يحتسيه. ذكر الخواجة وهو يضغط على ساعد محمد العسال كلمة "مجانص". التقطها أبناء الحي الملتفون حولهما. حولوها إلى جعلص. صار اسمه – من يومها - محمد جعلص..
    شارك في مظاهرات ثورة 1919م، وهاجم جنود الإنجليز في البارات، وفي الأماكن المظلمة، وفتح الطريق – أحيانًا - أمام موكب سعد زغلول، حين كان يفضل المشي بين الناس. لكنه لم يَخُض معركة، ولا حاول أن يجعل نفسه فتوة كباقي فتوات الأحياء. حشدوا الأعوان، وخاضوا المعارك، وفرضوا الأتاوات. دانت لهم السيطرة، واعترفت بها الحكومة، استعانت بهم أقسام البوليس في استعادة الحقوق الضائعة، والبحث عن المخطوفين والغائبين. حاول عنتر إدريس فتوة محمد علي، أن يمد سطوته إلى المناصرة وما حولها. ظن أنها بلا فتوة، فنشر أعوانه، ومضى يطلب الأتاوات وثمن الحماية، تصدى له محمد جعلص. استغاثت به جارة، أخذ أعوان الفتوة كيس النقود من يدها. لم يخض المعركة إلا بعد أن بصق الفتوة على رجائه بأن يعيد الكيس إلى المرأة "الغلبانة". سار في طريقه، والأعوان من حوله. اختطف جعلص الشومة بسهولة من يد الفتوة. أطلق عنتر إدريس صرخة ألم، وهو يعاني، فتأثير الضربة المباغتة - يخلخل ساقيه. لحقه في الموضع نفسه بضربة ثانية. تهاوى إلى الأرض بجسده العملاق، استغل جعلص المفاجأة، فطاح بشومته في الأعوان. تساقطوا جرحى، أو فروا. تعالت الزغاريد من النوافذ والمشربيات، ومن وراء الأبواب المواربة. عرف فتوات الأحياء الأخرى أن محمد جعلص هو فتوة المناصرة، وإن لم يمارس الفتونة، ولا سعى إلى التكسب منها.
    عرض الكثير من شبان المناصرة، ومن مساعدي فتوات الأحياء القريبة، أن يعملوا معه. الفتوة يطيح بضرباته، والأعوان يتلقون الضربات. عيب أن تصل إلى الفتوة ضربة واحدة. تلك أصول الفتونة. اعتذر جعلص بأن إيراد دكانه يغنيه عن الفتونة، وعن العمل عند الآخرين. قال:
    - سألجأ إلى أصدقائي إذا تورطت فيما لا أستطيع مواجهته بمفردي!
    لم يبدل مشواره اليومي من المناصرة إلى حارة اليهود، يقضي يومه في الدكان، ويعود آخر النهار. ربما قضى ساعة في قهوة التجارة، يلتقي بشبان المناصرة، ممن لا تأذن التقاليد باستقبالهم في بيته، أو استقباله في بيوتهم، يشرب الشاي بالنعناع، ينصت إلى ذكريات قدامى الفنانين، يهز رأسه، ويدندن، لاختبارات آلاتهم، يرد بابتسامة على رأيهم بأن يستغل مظهره في عروض السيرك، أو في الفرق المسرحية..
    قال للمعلم الحلو الكبير:
    - كم سأتقاضى من العمل في السيرك؟..
    لون الحلو صوته بنبرة إغراء:
    - سأعطيك جنيهين كل ليلة..
    وهو يطلق ضحكة من أنفه:
    - إيرادي في الدكان يزيد على عشرة جنيهات.. فما يدعو إلى مرمطة نفسي أمام الناس؟..
    مات ناجي العقيلي، صاحب الدكان الملاصق. اشتراه، وزاد في عمله. أغراه التجار اليهود بالذهب المستورد. قدموا له البضائع أمانة. وبالشيكات المؤجلة. اتسعت معاملاته وأمواله عند الزبائن، وزادت الثقوب فلم يستطع سدها..
    انتظر حتى انصرف الشاب والفتاة من دكان عبد العظيم هريدي.
    قال:
    - اغلق دكانك الآن..
    ثم وهو يشير بيده:
    - وادع زملاءك إلى إغلاق دكاكينهم..
    علا حاجبا عبد العظيم هريدي:
    - لماذا؟..
    قال محمد جعلص:
    - بيني وبين سكان حارة اليهود ثأر.. سأصفيه..
    قال هريدي:
    - كل الحارة؟
    - زادت التصرفات المجرمة.. فصار من الواجب تأديب الحارة كلها..
    قال هريدي:
    - بمفردك يا جعلص؟..
    - طبعًا لا.. استقدمت مجموعة من بلدياتي في الصعيد.. فطنتهم على المسألة وما يجب عمله..
    أدار عبد العظيم هريدي نظرات متلفتة وراء محمد جعلص:
    - أين هم؟..
    أشار بإصبعه:
    - ينتظرون في ميدان الحسين..
    غالب هريدي تردده:
    - سأغلق الدكان وأظل معك..
    هتف بعفوية:
    - لا.. دكانك في دائرة سطوتهم.. ربما آذوك..
    - هل تظن أني أتركك بمفردك؟..
    أردف وهو يتهيأ للقيام:
    - ما يجري عليك يجري على أصدقائك..
    سد الرجال كل المنافذ المفضية إلى حارة اليهود، في الحسين وبيت القاضي والموسكي، تأكدوا من الأبواب الخلفية للبيوت والدكاكين والمخازن، فلا يفلت أحد..
    حتى لا يتورط الرجال في جرائم، شدد عليهم، فلم يحملوا سوى الشوم والنبابيت. أخذ مطواة في يد متأهبة. ألقى بها داخل بالوعة. قال في لهجة محذرة:
    - نريد التأديب لا القتل..
    لما اطمأن إلى إغلاق مخارج الحي، أعطى الإشارة، وتقدم الرجال. سدوا الشوارع والحارات والأزقة بأجسامهم. أدرك فتوات اليهود ما ينتويه. أسرعوا بإغلاق الدكاكين والبيوت. أخذوا ما استطاعوا حمله، وخرجوا: شوم وعصي ونبابيت وسكاكين وخناجر. طاح فيهم بقبضته وشومته. علت الصيحات والصرخات والتأوهات، وانبثق الدم. تعالى الصوات من النوافذ والشرفات. فتحت الأبواب تستقبل الأقدام الملهوفة. لم يلحق الدكاكين دمار، ولا سرقت البضائع المعروضة. انهالت الضربات على الأجساد وحدها. من يسقط يرفعون عنه ضرباتهم. يتجهون إلى آخرين، أغلقت أبواب البيوت قبل أن يدخلوها، أو سحبوا من داخل الدكاكين. طاردوهم في أزقة الصاغة الضيقة. حرصوا أن تكون الضربات موجعة، وإن فطنوا إلى انتظام الأنفاس.
    * * *
    سحب كرسيًّا من ألبان المالكي، وجلس. أغمض عينيه، وتنفس الراحة. تصخب من حوله الدعوات والابتهالات والمدد والتسابيح ونداءات الباعة وأغاني الفونوغراف وصيحات المجاذيب ورائحة البخور والشواء والطعمية والسِّبَح وغزل البنات والبصقات والشتائم والضحكات والبكاء والزغاريد والبلد والجلابيب والملاءات والطرابيش والعمائم واللبد والأعلام والبيارق والسوارس والكارو ودقات النقرزان وتلاشى الظلال في شمس الظهر..
    قال وهو يسند الشومة إلى الجدار:
    - علقة. لن يعودوا بعدها إلى أذية الناس..
    قال عبد العظيم هريدي وهو يتأمل جرحًا في مرفقه من ضربة خنجر:
    - هل تظن ذلك؟..
    "حد جه" بنظرة متسائلة. ضغط على شفتيه بأسنانه، يختار الكلمات. أطلق أف بآخر ما عنده، وسكت.
    * * *
    حاشية: الثابت – تاريخيًّا - أن محمد جعلص مات في أواخر العشرينيات. دخل في قدمه مسمار، وهو يسير – حافيًا - داخل بيته. أشار الطبيب الشهير علي باشا إبراهيم بضرورة بتر الساق، حتى لا تلتهم الغرغرينا الجسد كله. رفض محمد جعلص أن يحيا بجسد ناقص.

  2. #2
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الحبيب الغالي الاديب الدكتور حسين علي محمد
    عمل جميل رائع آخر من اعمال ادبية متميّزة , للقاص الكبير محمد
    جبريل تشويق في السرد , ونبض في الاحداث , وصور جميلة :
    للحي القديم , للقيّم والاخلاق , لثعابين المال , ترجمة لفلسفات
    مختلفة .
    احسنت الانتقاء والنقل ايها الاديب الفاضل
    بارك الـلـه بك

    اخوكم
    السمان

  3. #3
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.50

    افتراضي

    أخي د.حسين :

    قصة رائعة

    شكررا لك وسلمت على اختياراتك

    لك خالص تقديري

  4. #4

  5. #5

  6. #6

المواضيع المتشابهه

  1. حارة اليهود
    بواسطة هشام النجار في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 04-01-2016, 10:03 PM
  2. أصداء باهتة ـ قصة قصيرة للكاتب الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 29-11-2006, 10:04 PM
  3. عنترة، قصة للأطفال، بقلم الروائي الكبير: محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 03-05-2006, 10:15 PM
  4. النص الكامل لرواية «حكايات الفصول الأربعة» للروائي الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 23-04-2006, 07:11 PM
  5. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 02-03-2006, 01:30 PM