أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: النزعة المثالية في ( صحراء الأربعين ) لسلوى الحمامصي

  1. #1
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي النزعة المثالية في ( صحراء الأربعين ) لسلوى الحمامصي

    النزعة المثالية في ( صحراء الأربعين ) لسلوى الحمامصي

    بقلم سمير الفيل

    الجزء الأول


    كنت واحدا ممن قرأوا نصوص هذه المجموعة عندما نشرتها كاتبتها متفرقة على صفحات الشبكة العنكبوتية ( الأنترنت ) ، وقد توقفت متأملا تلك النصوص في قراءتي الثانية لها بعد أن طبعت ضمن سلسلة " أصوات معاصرة " العدد 128 ، أمام 16 نصا مع دراستين مرفقتين بالكتاب .
    هناك سمات أساسية تميز كتابات سلوى الحمامصي ، وهي ما سأحاول خلال هذه الورقة البسيطة أن أبينها في إيجاز ووضوح .

    * بساطة الفكرة ، وواقعيتها في آن ، فالكاتبة تحاول مع كل نص أن تبتعث فكرة محورية ، لترصد من خلالها مقولة أساسية دون أن تبتعد عن تيار الحياة الصاخب ، لذا فالحميمية هي سمة مثل هذا النوع من الكتابة ذات الحس الرومانسي في كثير من الأحيان ، والنزوع الأخلاقي الواضح جدا في نصوص المجموعة .

    * الشخصيات في الغالب تعيش مأزقا إنسانيا وتنتظر حلما ينقذها من الضياع أو الفقد ، ورغم أن كل قصة تبدو مكتملة بذاتها ، فهي تشكل مشهدا إنسانيا من لوحة كبرى أو جدارية عظيمة تشكلها نصوص المجموعة . شخصيات تتفهم أصول اللعبة ، فإذا ما خرجت عن السياق عانت ، وتعبت ، وشعرت بالخواء الروحي العميق لهذا نجد أن الشخصيات في كل مرة تبحث عن حل أزماتها وفي الغالب يكون الحل فرديا ، وقد لا يأتي إلا متأخرا ، وبعد فوات الأوان .

    * تعالج بعض النصوص أزمة التواصل الإنساني من منظور أخلاقي كما قلنا ، وتتجسد هذه الحالة في أكثر من نص غير أن النص الشاهد هو ( عباءة الحاجة محروسة ) التي أسمتها الكاتبة ب" مسرحية من فصل واحد " ، لكنها بدون أي شك تفتقد البنية المسرحية التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الحوار ، وفي هذا النص تقدم الكاتبة أزمة الإنسان عندما يعجز ويشيخ ، وينفض من حوله أولاده كل في طريقه ، وهي مأساة نراها ونبصرها في عالمنا الذي تبدو فيه المصالح هي أساس كل تصرف ، وهنا نشعر بنبرة اللوم والتحسر الذي ينبعث من نفس المنظور الأخلاقي الذي أشرنا إليه في البداية .
    وأحسب أن العباءة هي مساحة الحكمة ، وثوب " الستر " الذي يمكن أن نعثر عليه في أدبياتنا الشعبية ، وسيكون من المفيد هنا أن أشير إلى الدار الكبيرة التي هي ترميز للوطن في مستو ثان من القراءة ، مع وجود أسراب الحمام الآمنة التي يتكثف حضورها خفية وعلنا عبر النص .

    * الانطلاق من مشكلة إجتماعية ، وهي سمة تميز أغلب نصوص سلوى الحمامصي ، فمن المدهش أنها تعمل بهمة في توليد الأضداد عبر مناقشة مشكلة العنوسة ، وتأخر سن زواج المرأة ، وهي تقدم المشكلة في قالب سردي يتسم بقدر كبير من الشفافية واللغة الشاعرية التي تعمق من خلالها أزمة البطلة كما نرى في قصة ( صحراء الأربعين ) ، وهو النص الذي يحمل عنوان المجموعة ، وفي رأيي الشخصي أن هذا النص بالتحديد من أجمل نصوص المجموعة ، وقد ختمت به الكاتبة كتابها ، والسر في تفرد ه أن الكاتبة ساقت حكيها في نعومة ، وقدمت الأزمة بشاعرية وفهم دون أن تخدش إنسانية شخصية الأستاذة الجامعية التي تعيش في أزمة تسرب السنوات من بين أصابعها دون أن تملك وسيلة للتغلب على أحزانها . وقد وظفت الكاتبة أغنية نجاة الصغيرة " أنا باستناك " لتعبر عن هذا الحلم المتجدد الذي تعيشه تلك الدكتورة ، وإطلالتها في المرآة ، وهواجسها ، مع تلك الشاعرية التي صحبت تقدم عريس للدكتورة في نهاية العمل . تلك اللمسة الأنثوية الحذرة والخفية تظلل مساحات شاسعة من النص ، وقد عمقت من أسباب المحنة مع حدث جانبي هو زفاف أصغر فتاة في العائلة .
    لقد عرفنا كل شيء عن الدكتورة ، وعائلتها ،وطموحها الذي تحطم على صخرة التجاهل ، وهو ما جعلنا نتعاطف معها إنسانيا ، حتى وهي تدير الخاتم في إصبعها لتمنع القيل والقال ، ولا تخلو القصة من نبرة ضيق واسخفاف بالوضعية الاجتماعية التي شكلت تلك المحنة ، وهو ما نراه في استعراض شريط المرشحين أمامها ، وقد ختمت الكاتبة القصة بنهاية سعيدة بعد أن جعلتنا نعيش القلق معها لحظة بلحظة .

    * رصد سلبيات الواقع من خلال تجارب حياتية ، مع اقتناص الدلالات ، كما نجد في قصة ( روبابيكيا ) ، والعنوان نفسه يكشف ما يمكن أن نجده في عالم الصحافة من فساد وعيوب جوهرية ، تسوقه الكاتبة من خلال بنية سردية بسيطة ، مع تلك السخرية التي تتلبس النص من ألفه إلى يائه . هي صحفية متدربة ، تعاني أربع سنوات من الإرهاق والكد ، ومع كل تجربة يتوالى الإحباط حتى تأتيها فكرة عمل كتاب عن شخصية عامة راحلة ، وتطلب شهادة رئيس مجلس إدارة الجريدة . وفي المساحة الزمنية التي تنتظر فيها المقابلة تستعرض كل مساويء ومباذل الصحافة ، تركب تاكسيا وتتجه لمقر الجريدة ، فتؤخرها "عربة كارو " يرقد بجوارها حمار مسكين ، نقش على ظهره آثار سياط غائرة وعميقة ، وفي تيار التذكر تستدعي صورة بائع الخبز في الكشك الخشبي ، والأرغفة التي يقف عليها الذباب ، وغير ذلك من مشاهد تهتز لها نفسها الحائرة ، وحين تصل الفتاة لمبنى الجريدة تخبرها السكرتيرة أنها قد تأخرت ، وان الموعد قد ألغي نهائيا . لم يكن إذن إهمالا منها ، لكن ما حدث حلقة في سلسلة التداعيات التي تشير إلى الفساد الذي يطال كل شيء ، ورغم أن المادة الانتقادية التي تقدمها الكاتبة صحيحة إلا أنها تبدو تقريرية وتلخيصية ، وتشخص بقدر من البساطة دولاب عمل محكم في فساده ، وترهله ، مع ارتباط معيب بالسلطة . كان ظهور " عربة الكارو " هو ترميز خفي ، لذلك العالم الذي قد لا يعرف المتلقي أنه يفتقر إلى أبسط شروط الإنسانية . كما تكشف الدلالات عن أبعاد خفية ضمن نسق تعرفه الكاتبة جيدا ، والنص يخوض هذه المغامرة للكشف عن مواطن الفساد ، لكنه لا يتوغل إلى أعماق كافية ، ويكتفي بالرصد ، والكشف المحايد دون أن يحاول الوصول لما وراء السطح.
    وسنلاحظ هذا التوتر الذي نشعر معه بارتباك الشخصية وتشتتها في التعامل مع مثل هذا الواقع الموبوء باللامعنى ، وهنا يتأكد لنا مرة أخرى وجود تلك النزعة الأخلاقية التي تتعامل مع الظاهرة من الخارج دون أن تصل إلى الجذور ، وتشاكل الجوهر.

    * البدء من نقطة واقعية ثم الانعطاف إلى فضاءات الفانتازيا ، وقد يكون من الضروري في هذه القراءة أن أشير إلى أن البنيات السردية تقود الأحداث في كل مرة في مسار مرن تشكله كتلة السرد نفسها ، وربما هذا ما قد يشعرنا بحيوية اللقطة ، واتساقها مع البنية الحكائية في تشكلها النهائي . في قصة ( صفقة بيع بالدولار ) تشعر البطلة بفرادة الشيء الجميل الذي تملكه ، لكنها لا توافق أبدا على بيعه مهما كان الثمن ، وحين توافق على مبدأ البيع نفسه تعرض شيئا آخر أقل قيمة ، وتحصل على النقود ،ثم تتنسم عبير أوراق البنكنوت فيغمرها الانتعاش ، ولكن الشيء الثمين مازال ملك يديها ، فتلفت انتباه سائح عابر ، وفي النهاية تبيعه إياه ، فيفرح به في بداية الصفقة ثم سرعان ما يهمله . تشعر بالخطأ وتغرق في ظلمات سحيقة ، وفي نوبة غضب تضرب الحوائط بقبضتيها فإذا بطاقة هائلة تنفتح من إحدى الحوائط فتغمرها الدولارات كلية ، وتكتم أنفاسها في مشهد فانتازي رائق .
    هذا الحل الغرائبي كان مناسبا تماما لفكرة البيع ، والتخلي عن الشيء الثمين الذي لا ينبغي التفريط فيه. وقد كانت إعادة هيكلة النص بتلك الصورة التي تبدأ من نقطة واقعية تماما لتنتهي تلك النهاية الفانتازية المغرقة في سوداويتها نقطة تحسب لصالح النص . لكنني لاحظت مثلا أن ذلك التوجه نحو البيع لم يكن نتيجة ضغط ما تم ممارسته على البطلة ، إذ هي انتهت إلى فعل التحول نتيجة إرادة واعية وشخصانية ، وهذا قد يسبب ارتباكا في التلقي مع ما قد يلمح إليه مثل هذا النص من أبعاد تالية تتصل ببيع الغالي والنفيس من تراب الوطن بالدولارات اللعينة . وفي رأيي أن الكاتبة قد بالغت في عنصر الإرادة الفردية ، فلم تكن هناك حوافز للإغواء ، ولا موجبات للتفريط في هذا الشيء الفريد المضيء الذي تملكه . كما أن أحد أوعية الذاكرة ممثلة في الأشياء الثمينة التي توارثناها عن الآباء والأجداد بدت غير معمقة في ذات النص ، غير أنني أميل إلى الاستراتيجية السردية التي ظلت تقف وراء اختيار النهاية رغم كل ملاحظاتي السابقة . وما أبصره أنه من الممكن أن ينتقل المشهد الغرائبي من نطاقه الشخصي الضيق ليبسط خطابه على مشهد أعم وأشمل يخص الوطن ذاته.

    * الحبكة القصصية البسيطة ، والتي تفضي إلى نهايات مفتوحة ، وهو ما تؤكده قصة بديعة أعجبتني كثيرا وهي ( كل هذا الحلم ) ، تتناول حكاية رجل يسير تحت لهيب الشمس ومعه شتلة ضعيفة لشجيرة صغيرة ، تتأرجح بين يديه ، ليصعد بها عربة من عربات النقل العام في طريقه إلى ابنته كي يهديها إياها ، وداخل العربة يلاقي كثيرا من العنت وعدم الفهم من الركاب الذين لم يتعودوا هذا المنظر . يقهقه الركاب وتتعالى التعليقات الحمقاء فلا يجد الرجل أمامه سوى الهبوط من العربة مع شتلته الخضراء ، ليكمل بقية المشوار على قدميه.
    دون فلسفة أو تعقيد تقدم سلوى الحمامصي أنشودة عشق إنساني للتواصل بين الأجيال ، فإن كان هناك إلحاح لفكرة محتلفة هي عدم التواصل فهناك التوجه النقيض للتواصل الأسري الجميل ، وما يمس شغاف القلب حقا هو قدرة الشخصية على الإقناع ، فهو ت أي الرجل ـ يقوم بشيء يحبه ويقتنع به ، وأكاد أشعر بيديه تحتويان الشتلة الضعيفة لكأنها ابنته نفسها في سنوات الطفولة والصبا ، نشعر بهذا الحس الإنساني دون أن يكون ترجمة حرفية للشيء المكتوب ، لكنه البعد التالي الخفي ، المضمر ، المندس في ثنايا نص رائق جميل .
    تأصيل للخطاب الذي نتلمسه عبر مخيلة طازجة ، ونسج سردي فيه قدر كبير من العفوية والرقة في استقطار الدلالات ، وربما بدت هناك جمل زائدة هي لسان حال الكاتبة كان أجدر بها أن تحذفها حتى تترك لنا الفرصة كي نصل إلى المغزى كل بطريقته ، تقول : " هل تشفع له هذه الشتلة الخضراء عند ابنته ؟ كانت واحدة من أمنياتها ، ربما صارت شتلة . في شجرة أحلامها ، تنمو وتثمر مزيدا من أحلام قابلة للتحقيق " ص 26
    ربما يكون من المناسب هنا أن تنتهي القصة وهو في طريقه لبيت الإبنة ، وعلينا نحن أن نوجد عشرات الاحتمالات الممكنة لهذا التواصل الإنساني العميق في زمن متقلب، منفلت العيار ، يصعب فيه أن نتوقع شيئا جميلا ورقيقا ثم نراه وقد تحقق.

    * للأمكنة ظلالها ، وتداعياتها ، ودورها في استنطاق النص ، كما أنها تقوم بدور لا يستهان به في تموضع الحكايات وبسطها ، وخير مثال عما نقول قصة ( عش العصفور ) وبطلة النص فتاة مصرية تدعى " ملك " تغيب عن روما فترة من الزمن ، وحين تعود تذهب إلى الفيلا التي تركتها منذ وقت طويل ، تعود إليها كي تبتعث مشاعر خالتها قد تبددت . هذا الحنين إلى مراتع الطفولة جعلها تبذل محاولات مضنية كي تعيش بالقرب من تلك الفيلا ، بل أنها في سعيها المحموم هذا تنشيء علاقة صداقة مع شاب مصري وأخته ، ثم ترهقها الوحدة فتسكن مع أسرة صديقة إيطالية قديمة بالقرب منها ، ثم تلمح لافتة أن الفيلا للإيجار ، وتنجح في أن تقنع صاحبة الفيلا العجوز أن تؤجرها إياها بأن تخفض قيمة الإيجار ، وتنتهي القصة بأن تسكن الفتاة الفيلا التي ظلت تحلم بها ، لكننا في المشهد الختامي نشعر نحن المتلقين أن النهاية لم تعمق بدرجة أكيدة لتقنعنا ، فوجود الفتاة وهي تعزف على البيانو الأسود القديم ليس نهاية سعيدة بحال .
    وأكاد أجزم أن هذا " العش " ليس وحده هو الذي قدمت له الفتاة أنشودة حب صافية ، بل الأيام والذكريات التي ولدتها الذكريات القديمة ، وقد نجحت الكاتبة في أن توظف الحوار بصورة جيدة بين ملك والشخصيات التي لاقتها ، لكنني ظللت أتوجس من هذا الحلم البعيد الذي يتكيء على مكان بلا بشر ، وحياة يعوزها الأهل والأصدقاء ، حتى أنني تساءلت في سري : هل بالفعل تكتسب الأمكنة كل هذه القداسة لمجرد أننا عشنا فيها سنوات الطفولة ؟ وهل كانت ملك في اختيارها العودة للفيلا بعد تسع سنوات من المغادرة تصنع شيئا صحيحا، أم انها نوستولوجيا الأمكنة لا أكثر؟
    ومما لاشك فيه أن تلك الحالة من رقة الشعور قد تكون صحيحة على مستوى الشعور الداخلي ، لكنها ليست وحدها التي تحدد سكن الإنسان، وتلون اختياراته ، ومجال حركته .
    " احتضنت بعينيها كل شيء ، الجدران والأثاث وشجرة الياسمين التي زرعتها مع أبيها منذ سنوات ، وفروعها الرقيقة ترسلها متدلية متراخية فتداعب حافة النافذة ، وهي تهتز في نشوة بالغة كأنها تحتفل بملك : ص 22 .
    الدلالة ساطعة ، والماضي ينبعث من المكان مخترقا الأزمنة ، هي لعبة فنية تحمل قدرا من هذا الحدس الأخلاقي الذي يبدأ من الوفاء للبشر حتى ينتهي بالوفاء للأمكنة ومفرداتها مهما بدت موغلة في العتاقة والقدم.

  2. #2
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الجزء الثاني


    * يمثل القلق الوجودي ، والإحساس بالاغتراب ملمحا أساسيا في عدد من النصوص نذكر من بينها نصا أعجبني فهو مختلف في المعالجة ، وبه نسغ شعبي محبب في صيرورة الحدث ،وهو النص المعنون ب( الوسادة ) ، ولا يمكن أن نلخص العمل فنقول أن النوم يستعصي على البطل الذي يبدو في حالة قلق لا سبب له ، ولا يمكن أن يكون النوم بمعناه الفيزيقي فقط هو المقصود ، لذا فالحيرة التي تلف البطل ، وتبلغ به درجة من التأزم تدخله في دائرة المرض النفسي . نجد ترديداتها في سير الأحداث التي تكشف عن شيء مفقود ، وأمن مبدد ، وأحلام مستلبة ، مساحة استيعاب الذائقة ترمي بنا في نطاقات مختلفة بغية الوصول إلى يقين هاديء ومستقر ، فالوسادة العادية تؤرق منامه ، والحبوب المنومة لا تجدي ، ومع زيارته لغرفة نوم الأمير محمد علي تمتد يده للوسادة الملكية فيدق جرس الإنذار، ويسبب له إحراجا بالغا مع تحقيق فيما حدث ، ويهتدي لوسادة من ريش النعام لا تحل أزمته بل تزيدها تعقيدا ، ثم يعود إلى العصر الحجري الأول ويأتي بقوالب من الطوب كي يحاول النوم فيجرح رأسه ، وبعد هذه السلسلة من المحاولات التي تأخذ مشروعيتها من مادة الحكايات الشعبية ذات الطبيعة الساخرة ، والنسق الكاريكاتوري يدهشنا أن يكون الحل في فراش الرضيع ." ـ ما ما . ما ما . إلحقي بابا.
    تهرع الأم لتستطلع الأمر ، وتذهب إلى حيث يشير إبنها ، إلى غرفة الأولاد لتجد رضيعها يحبو على الأرض . في حين تكوم الأب وتكور في وضع غريب في فراش الرضيع ، وهو يغط في نوم عميق . خ خ خ. " ص 78.
    حركة ارتدادية للبراءة المطلقة، أو عودة إلى الرحم ، ربما هروب من أزمات الحياة الخانقة إلى مرحلة المهد ، ورغم ما قد يكون في النص من ابتعاد عن النسق الواقعي إلا أننا نستملح مثل هذا الخروج ، وما يتضمنه من انزياحات عن نطاقات السرد التقليدية ، فكثير من التقنيات يتم اختبارها ، وعلى الكاتب أن يجرب أكثر من أداة ووسيط كي يصل إلى معادلة فنية تجمع بين الأصالة وما تقتضيه شروط العمل الجيد ، متضافرا مع الشطحات اللامعة التي قد تقودنا نحو نصوص غير مطروقة بها فيوضات من الجمال ، والجدة ، والابتكار .

    * التعمق في الحياة الأسرية مع الجدل بين الأنساق الحكائية وتداعياتها وصولا إلى صرة الحدث . تهتم سلوى الحمامصي في أغلب قصصها بتقصي كافة الأحداث داخل النص ، مع رصد تداعياتها من خلال تتبع المسار السردي ، وهذا ما نجده مثلا في قصة مـــــــــؤثرة هي ( ابتسام كريستال ) . البداية لحظة الوضع ، ومنها تتخلق الخيوط السردية التي تكشف لنا مأساة الجدة حين عانت مثل هذه اللحظة ـ أقصد لحظة الميلا د ـ منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما فلم تجد زوجها إلى جوارها ، وحين عاد في اليوم الثالث من الميلاد ألقى عليها وعلى الطفلة نظرة فاترة ، وفي تصرف غريب مد يده بصورة زوجته الثانية ، لذا يتم الطلاق وتبكي في أعماقها هذا الغدر البين.
    كانت الرضيعة ثمرة زواج غير متكافيء وتمر الأيام سريعة، وتكر السنون وترقد الابنة على سرير المستشفى انتظارا لمولودها ، ولكن الوضع في هذه المرة مختلف تماما ، فزوج الابنة يرمقها في حنان ، وينحني ليطبع على جبينها قبلة صغيرة دليل حب وامتنان .
    كأن دائرية الحياة ليس شرطها التكرار ، وثيمة اللاتوافق نجدها باستمرار في مثل هذه القصص التي تعالج مشاكل الأسرة ، ولا تخرج من نطاق الرؤية الأنثوية للأحداث كي تستصدر حكما قيميا عاما أراه غير صادق في كل مرة ، هناك عاطفة الأمومة المجردة وسؤال إشكالي يتردد في مثل هذه المواقف : أهي قاعدة أن يتخلى الرجال عن مسئولياتهم في لحظات الضعف والمحنة؟
    هي صياغة مبهمة وتقليدية للعلاقة الشائكة بين الرجل والمرأة تستدعيها سلوى الحمامصي من ركام الخبرة الإنسانية التي تعرفها . نزعم من خلالها أن مثل هذه الشخصيات المنكسرة ، المستلة من الهامش تقع تحت وطأة التهميش الذي يحيط الجنسين ، ويكون في العادة نتيجة ضغوط لا إنسانية يعاني منها الرجل والمرأة على حد سواء .
    اترك هذه الإشكالية التي تحيط بالموضوع ، كي أقف أمام ما ميز هذا النص من تفصيلات صغيرة ومنمنمات دقيقة جدا استطاعت الكاتبة من خلالها أن تصف لحظات الولادة وما يحيط بها من طقوس شعبية كالآذان في أذن الوالدة ، وغيرها من عادات كدنا ننساها في زحمة الحياة ، تسوقها الكاتبة بمهارة ، ثم صورة الطفلة التي بدت كقطعة من الكريستال النفيس :
    ".. في حين تدخل الممرضة حاملة لفافة بيضاء يبزغ منها وجه ملائكي صغير ، تضعه بين يدي الجدة ، فتحمله بحنان وخشية ، كقطعة كريستال نفيسة ، ترسل انعكاساتها الفضية الضوئية في كل مكان " ص 83.
    أستطيع أن أدعي أنها صورة أنثوية في غاية الرقة لا يمكن إلا أن تبسطها خبرة كاتبة تمتليء بحب البشر ، والرغبة في إسعادهم مع تلك اللمسة الساحرة التي أشرت إليها في منطقة أخرى من هذه الدراسة، والتي تتسم بقدر كبير من الرهافة والصفاء النفسي في تلمس حيوات المرأة في مختلف أحوالها .

    * تنطوي حياة الإنسان على حس مأساوي أكيد، وهو الأمر الذي يدفع الكاتبة إلى تناول حياة الأفراد بنوع من الحنو والتعاطف يميز كتاباتها خاصة فيما يمس الجنس اللطيف ، وبالطبع تتجسد مأساة المرأة أكثر في عدد من النصوص نذكر من بينها ( مذكرات نعامة غربية ) والعنوان نفسه يحمل دليل إدانة للشخصية ، لكننا عندما نقرأ النص نشعر بمأزق مضيفة الطيران التي خرجت للتو من زيجة فاشلة لرجل شرقي ، وقد كانت سعيدة الحظ أنها لم تنجب منه ، وفي الطائرة تتعرف على رجل له عينان زرقاوتان وملامح ألمانية صميمة ، نعرف من السرد أنه من أب ألماني وأم فرنسية ، وبعد سلسلة من المواقف التي تحمل طابع التعمد تارة والمصادفات تارة أخرى تتزوج منه ، وترتاح لطريقته في المعاملة ، ثم تقترن به بعد أن يقرر اعتناق دينها . كان الرجل يعمل في فرع أحد البنوك الأجنبية بدولة خليجية ، ثم ينقل إلى الصين حيث عمله الجديد ، وهناك تكتشف أنه يخدعها ويقيم علاقات ما بصديقته الإيطالية وسكرتيرته الأمريكية ولا يعود إلى المنزل إلا في أوقات متأخرة من الليل وبالرغم من أنها تنجح في الانخراط في الحياة الغربية فقد ظل هناك هذا الشعور بالنقص الفادح يغزو عقلها ، وحين تعود لبكين مع طفلتها التي بلغت العامين تتردد في أذنها عبارة الأم " لا تدفني رأسك بالرمال ! " ، وفور أن تصل إلى شقتها في أقصى أطراف الأرض تعثر على قصاصة ورق صغيرة يخبرها فيها زوجها أنه سافر إلى ألمانيا وسيعود بعد شهر أو شهرين .
    تنتهي القصة بتلك النهاية المفتوحة التي لا تحدد انفصالا أو طلاقا ، لكن يوجد هناك ما هو أكثر حيرة وإيلاما : الهجر الصامت اللامعلن .
    ولأنها " نعامة شرقية " فسوف تكتم آلامها وتقرر أن تبقى ، وتدخل الخادمة الإندونيسية للحجرة وتتجاذب معها أطراف الحديث . إنها الحياة مرة أخرى في صورتها الغربية ، وكأن لسان حال الكاتبة يقول أنه لا رجل شرقي يصلح بتزمته وتعصبه وتقييده حرية المرأة كي يعيش مع تلك الفتاة العصرية ، ولا الرجل الغربي بثقافته المنفتحة وعلاقاته الواسعة بقادر على أن يرأب الصدع في نفسها ويسد الفراغ القاتل ، ويكون الشعور بالوحدة ، والاغتراب في بلاد قصية ثمن الاختيار . تتكرر المشكلة بصورة أخرى ، وكأنه قد كتب على المرأة أينما كانت أن تعيش هذا الألم الممض ، وأن تتجرع خيبات الرجل بكل لغات العالم .
    نص يسري فيه روح التشاؤم ، والتي حاولت الكاتبة أن تبدده بذكر جغرافيا المدن المختلفة وتقديم نظرة سياحية للمدن التي تتجول فيها البطلة ، وهي سمة أخرى من سمات الكتابة عند سلوى الحمامصي ، لكنها لا تطغى عن شبكة العلاقات الدرامية ولا نراها ثقيلة في التلقي إذ تنساب في مفاصل النص بهدوء وروية ، لكن ما نكتشفه عبر الحكايات التي تسوقها الكاتبة في مثل هذا النص أنها تقف في نفس الخندق القديم الذي يرى المرأة مظلومة ومغلوبة على أمرها طيلة الوقت ؛ ونحن ندرك إدانتها لشخصية المضيفة جزئيا ، ربما كما سبق وأن ذكرنا باختيارها لذلك العنوان الذي يلقي بظلاله على الأحداث غير أن العاطفة الإنسانية تبدو واضحة مع اختيار زاوية التقاط الحدث وتلك النقاط الواعية التي تبدو على مدار رحلة المضيفة تقدم لنا ثنائية الخير والشر ، أو في تجل آخر الالتزام والجدية في مقابل التحرر الشديد والفوضى المقيتة في عالم الرجل حتى لو كان ابن حضارة غربية راقية . هذا هو الخطاب الذي تسوقه الكاتبة لتخفف من أحزان بنات جنسها ، وهي تستبطن ما خفي من أسرار الناس ، واضعة الحكمة الشعبية في محك الاختبار ف" البيوت أسرار " وعليها كأمرأة أن تغلق عليها بابها كي تجتر أحزانها بمفردها كما يليق بإمراة شرقية جربت الرجل في كل صوره فلم تظفر بغير الخيبة والحرمان!

    *الروح المصرية الصميمة التي تسري في أغلب نصوص المجموعة ، تلك التي تؤكد ارتباط الكاتبة بوطنها، ونتأكد من هذه السمة عبر نسقين . الأول يتجسد في الموضوعات التي تعالج هذه الفكرة مثلما نجد في قصة ( سالمة يا سلامة ) ، والثانية من خلال بعض المعالجات التي تعرض لهذه العاطفة الحارة والوثيقة فتنقلها لنا برشاقة وعذوبة إما على هيئة جمل سردية تتضافر مع العمل ، أو من خلال الحوار الذي هو أيضا سمة من سمات تمكن الكاتبة من صنعتها . ففي قصة ( سالمة يا سلامة ) نجد البطل في رحلة عودته إلى الوطن الأم ، وخلال هذه اللحظات الحميمية يسترجع تفاصيل حياته في الولايات المتحدة الأمريكية ، وما عانه هناك في الغربة من سوء فهم واضطهاد ، وتفيض القصة عن طريق أسلوب " الفلاش باك " بالحنين إلى مراتع الصبا ، وبالتحديد في مدينة الأسكندرية :
    " تمتليء رئتاه وانفه بهواء أسكندرية العليل ، يشتاق إلى الحياة الصاخبة الدافئة ،الروح الحلوة ، والقلوب الطيبة ، الجبن الدمياطي ، والفطير المشلتت ، التين الشوكي ، وقراطيس الترمس والذرة المشوية على كورنيش النيل ، و" مركب يابيه " " فل يابيه" " .
    تتموضع المشاهد التي تستحضرها الكاتبة في مفاصل السرد كجزء من حيلة فنية يقصد بها أن تصنع ثنائيات ضدية بين دفء الوطن ، وبرودة المهجر، وهي مفردات بسيطة جدا تنجح فعلا في أن تنقل لنا رائحة البحر ، وبهجة الناس وهم يتسامرون على الكورنيش ، ثم نداءات الباعة التي تبدو كشفرات لهذا العالم الحنون الذي فارقه بطلنا الذي كان يعيش في كاليفورنيا ، بعد أن حصل على الكارت الأخضر للإقامة والعمل . وتظهر القصة كل ما عاناه البطل منذ اشتغاله كسائق سيارة أجرة في نيويورك حتى عمله الناجح في شركة تجارية ضخمة بكاليفورنيا.
    في هذه القصة بالذات ، وربما في قصص أخرى تستحضر الكاتبة الهم السياسي الذي لايني يلح عليها إلحاحا قويا خاصة بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001 ، وانهيار مركز التجارة العالمية ، فقلمها يسجل الكثير من التجاوزات التي حدثت تجاه أبناء وطنها بدون ذنب جنوه أو جريمة اقترفوها ، وتتصاعد تلك الزفرة الحارة من صدر متعب مع ذكر فضائح الفساد ، والدعاية الصهيونية التي تتهجم على الوطن ، وآلة الإعلام الغربية المعادية التي تسجل مشهد تفصيلي لعملية ختان البنات ، ومناظر البيوت العشوائية والأولاد الحفاة الذين يلعبون الكرة في الأزقة والحواري. وهذه الغيرة أتفهمها عندما يكون المصري في خارج بلاده ، ويتمنى أن يراها في أفضل صورة ، غير أن مقتضيات العمل السردي قد تتطلب منا في أحيان كثيرة أن نتخلى قليلا عن هذا التحفظ باعتبار أن الكاتب لا يرضيه فساد أو خراب ذمم ، وأعتقد أن كل من عمل بالخارج بلاده فترة سيجد نفسه ممزقا بين عاطفتين . الأولى أنه يتحسر على بعض الأمور التي يراها في وطنه الذي يعشقه من فساد وتداعي قيمي ، وأخلاقي ، وتهريب أموال بالمليارات على مدار الحقبة الأخيرة من التاريخ المصري الحديث ، وبين أن يتمسك بفضيلة ألا يخوض في سيرة بلاده وهو خارجها ، معتبرا أن ذلك هو جزء يمسه شخصيا ، و شيء قد لا يرتضيه لكنه يخصه هو لا غيره.
    وعودة إلى القصة سنجد عشرات التفصيلات التي تعالج قضايا الصورة المشوهة التي يحرص الغرب على تصديرها للعالم كله ، مع نبرة استهجان تسوقها الكاتبة على لسان بطلها ، حتى أنها تتخلى عن حياديتها في السرد فتتبنى موقفا حقيقيا كان من الممكن أن يتسرب في مفاصل النص دون أن نشعر به واضحا ودعائيا " كم كان مغتبطا لهذه الفكرة ، سيترك أرض الأحلام بكامل إرادته . ليس مطرودا ولا مكسورا . لن يسعى إلى لعق فتات الخبز الأمريكي كما يظنون ، لن يكون أول عربي يترك الجنة ، ولن يكون الأخير ، حتى يتركوها خاوية على عروشها ، فتبلى " ص 89.
    بالطبع هذه وجهة نظر الكاتبة التي تتطابق مع أفكار البطل كما نجد في أجزاء كثيرة من القصة ، وسنلاحظ هنا ، وفي نطاق اللغة الاستلهام الواضح من القرآن الكريم ، فالكاتبة مخلصة تماما لثقافتها العربية الإسلامية ، كما أنها تستدعي في كثير من الأحيان آيات قرآنية ، ومواعظ من حكمة العرب ، ولا تستنكف أن تظلل نصوصها بالرصين والمتماسك من مقولات عربية أو ترانيم شعبية . وكم كان جميلا أن الكاتبة لفتت أنظارنا إلى أن رحلة العودة لم تكن حلما مضادا ، مغرقا في الجمال والرقي ، فهاهو البطل يتعرض بسبب لحيته لمضايقات ضباط المطار ، حيث يصحبه أحدهم إلى مكتب مدير الجوازات ، وكأن الرحلة الشاقة في الخارج ستستمر في منغصاتها حتى داخل وطنه ، وهنا وفقت الكاتبة في أن تجعل رؤيتها أوسع من كم الابتهاج الظاهري الذي عاشه البطل قبل العودة ليشي بمشكلات الداخل ، فلا يوجد شر مطلق أو خير كامل ، كما أن تلك الخاتمة المفتوحة تركت الباب مواربا مع احتمال معاناة في الوطن قد تفوق ما عاناه خارج بلاده!

  3. #3
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الجزء الثالث والأخير



    * مفهوم الزمن النفسي في أكثر من قصة ، فالحياة متجددة ، والبشر يعانون كثيرا في تعاملهم مع الزمن المادي الحقيقي ، غير أن ثمة زمن آخر يتم طرحه على الدوام هو الزمن النفسي ، وهو يخص علاقتنا بالزمن عبر أحداث تحفر في دواخلنا الكثير من الجروح واللوم والتقصير ، وهو ما نراه في قصة ( انتظار ) . وسبق أن رأيناه في نص آخر عالجناه من قبل هو ( صحراء الأربعين ) وفي قصة ( انتظار ) تتوقف البطلة أمام عيد ميلادها الخمسين لتسترجع كل ما مر بها من أحداث ، فالبساطة هي طابع حياتها ، وقد كان زواجها تقليديا ، وهي تدرك أخيرا أن الاستقامة لا تأتي من ورائها غير المتاعب ، ورغم الصيغة الاحتجاجية التي قيلت فيها هذه العبارة ، فهناك حالة من المراجعة للذات . تسمو المرأة على متاعبها وهي تؤكد أنها لن تغض الطرف أبدا عن الغش والتزوير ، ولن تدنس قلمها كي يخط حرفا في اعتماد الفساد وتأكيده . وسط هذه المراجعة والإحباطات التي تقابلها حيث تجاهد في وطنها ، وزوجها بالخارج تصحبه عزة نفس قوية وكبرياء لا يفارقه ،تقتحمنا صور ما يجري في المسجد الأقصى وجنين وغزة والعراق .
    لكأن الكاتبة تؤكد النظرة الشمولية التي لا تجزأ فيها السقوط الأخلاقي ، وهو نزوع رأيناه يتكرر كثيرا عبر النصوص في معالجات مختلفة ، لكنها تتكثف في بؤرة مركزية تكون مركز ثقل الآداء السردي ، وفيها يتشكل الخطاب القصصي عبر تراكم الخبرة ونضج الرؤية ، وربما يمكننا أن نستشعر تلك الفجوة الحادثة من البعد المنطقي وراء الجبروت الإنساني واختلال المعايير ، فأزمة الزمن لا تخص الذات وحدها بل تخترق كافة الأنساق التراتبية لتدخل دائرة العام ، وهو ما يجعل المرأة خمسينية العمر لا تكاد تبلع لقمتها إلا بصعوبة بعد أن انكشفت لها الرؤية فإذا الفساد في داخل وطنها يحيلها حتما إلى الاستلاب والقسوة المفرطة من قبل المستعمر في عدوانه على الأطفال والنساء والشيوخ في كافة أنحاء الأرض العربية التي تعرضت للاحتلال.
    " الجرائد ؟ عزفت عنها ، ليس لثمنها الباهظ نوعا ، لكنها ممنوعة عني بأمر الطبيب . لم أتحمل رؤية صورة فتاة شابة جميلة في إحدى الجرائد ، غارقة في دمائها في الفلوجة بعدما سقطت بغداد . قضيت أسابيع عديدة بعدها يحاول فيها طبيب التأمين الصحي إقناعي ، بأنها ليست ابنتي! " ص 13.
    هذا التداخل الذي تراه المرأة هو نتيجة اختلال الزمن الواقعي ، فترتد إلى زمن نفسي يحقق لها بعض التوازن. ناهيك عن تداعيات الأزمنة فهي تلتفت على الدوام لشيء يخفف عنها وطأة الحياة وشظف العيش حين تبصر صورة قديمة لأبيها وأمها ، بالأبيض والأسود ، فمثل هذه الصورة تحمل لها الإحساس بالأمن ، والرضا بحياة بسيطة فيها نقاء السريرة والإئتناس بالآخرين ، وهو ما بدا صعبا وغريبا في الزمن الحالي .
    ومن العيوب التي أراها في نهايات قصص سلوى الحمامصي أنها لا تترك لنا في بعض الأحيان الحدث ليفضي بدلالاته ، بل تسعى لتأكيد فكرة ما أو مقولة معينة تحدد لنا اتجاه البوصلة رغم أننا كمتلقين نكون قد وصلنا لنفس النتيجة عبر قراءة فاحصة للنص .
    " لازلت احلم ، من يدري؟ ربما يمتليء بيتي الصغير بالدفء والحب أكثر . لازلت أحلم . ربما أستيقظ لأجد بيتا متسعا قليلا ! لازلت أحلم . ربما أصلي في المسجد الأقصى قريبا . ربما انعم بنزهة على قارب في نهر الفرات . أحقق شيئا مما ؟ أتمنى ، أو يتحقق لي . " ص 14.
    وبالرغم من أن الحلم هو رد فعل على الشعور المادي بالإحباط والانتكاسة الوجدانية فهو الذي يعيد الانسحام بين المرأة الخمسينية وبين واقعها الذي يبدو مضببا، وغارقا في قتامته ، ولأن الكاتبة تحمل هذا الحس الإستشرافي فيصعب عليها أن تتوقف في نهاية جملتها السردية بدفع أي خطاب يفضي إلى الإحباط ، أوالسقوط في دائرة القنوط ، وهو شيء أقدره فعلا للكاتبة غير أنه لابد أن يـُـمرر عبر معالجة فنية تخفي أصابع الكاتبة الماهرة .

    * وجود مساحات للتجريب القصصي وهو ما يظهر في أشكال ومحاولات تخص الشكل الذي تعتمده الكاتبة ، وفيه تنويعات في نمط الكتابة كما يوجد نزوع نحو كتابة نص داخل نص ، أو حدوتة أساسية تسلم إلى أخرى فرعية ، كما في نص ( معزوفة الناي الحزين ) ، وفيه يبدو الكاتب في مأزق حياتي ، وصراع أو مناوشات مع زوجته " فتحية " فيقرر أن تكون القصة التي بين يديه سوداوية النزعة ، خاصة أن غضبه يتجدد مع ارتشافه بعض رشفات من قدح القهوة السادة بعد أن نفد السكر ، وداخل هذا التمهيد يكون لدينا نص آخر مستقل تماما ، وكل ما يربطه مع حكاية عبد الفتاح الكاتب هو هذا الارتباط الشرطي بين مزاج معتل قليلا ، وبين خط درامي يقتنص الفجيعة .
    فالقصة الفرعية عن حكاية شاب أحب زميلته في كلية الطب ، وتمكنا من التغلب على اعتراضات الأهل ، وارتبطا برابطة الزواج ، ثم سافرا للعمل في مدينة الخبر بالسعودية في ظل وداد وتآلف ، وأنجبا بنات متفوقات ، ورغم الغربة التي هي عنصر أساسي في الكثير من النصوص يكتشف الطبيب المعالج إصابة الزوجة بالمرض الخبيث ، وكما هو متوقع ترحل الزوجة والحبيبة ، تاركة الزوج المكلوم ، والبنات اللائي تمسهن فجيعة رحيل الأم ، وبكلمات مغموسة في الألم يأتي تصوير المحنة .
    " لأول مرة تعصاه. يبكيها دموعا ودما ، يبكيها فرحا وأملا . دموع تغرقه ودم يقطره قلبه ، أفراح استحالت جراحا ، وآمال فقدت وتاهت . يناجيها في صورتهما معا المعلقة إلى الحائط : آه يا حبيبتي لأول مرة تخالفينني . كيف أحيا بدونك ؟ " ص 54.
    هنا تنتهي القصة الفرعية لينهض عبد الفتاح متثائبا يطفيء تور مصباح المكتب ، وهو يتذكر زوجته الغاضبة ويدرك أنه سينام هذه المرة دون عشاء.
    أراد الكاتب من خلال هذه الكتابة المأساوية أن يحدث العكس فالموت هنا أدى إلى استحضار كل مزايا رفيقة رحلة حياته الراحلة ، فانفثأ غضبه وهو يسترجع قصة حب خالدة كللت بالموت ، فأصبح بطله مسكينا تائها في صحراء الوحشة أ أما هو فقد تأكد أن الحياة لا تستأهل نوبات غضبنا ، ويجب علينا أن نتسم بالفطنة والذكاء في معالجة مشاكلنا.

    * اهتمام الكاتبة أحيانا برسم شخصيات حية من حياتنا مع إضفاء مسحة ساخرة في تناولها ، وهي في هذا النوع من القصص تتجه للأسلوب الكاريكاتوري الذي يجسد كل العيوب المستترة للبطل أو البطلة ، مثل قصة ( كلارك جيبل ) ، وتبدأ القصة بداية دالة ، فالبطل يطل في المرآة ليتفحص ملامحه ، ويتأكد من وسامته ، وهي العقدة التي تتحكم في مسار حياته ، لأنه يصير أسير هذا الشعور المتزايد بجمال وجهه ، ويقودنا النص لتتبع حياة هذا الشاب العابث ، وبداية تعيينه كمهندس زراعي في دمنهور وحينها أعتبر ذلك إهانة . نتتبعه وهو يتجه إلى استديو مصر كي يعمل ممثلا ، ويخرج من هناك يجر أذيال الخيبة والفشل ، من خلال السرد نعرف أن العمر قد تقدم به ومازال في وحدته ، وحين يستمع لرنين الهاتف يتجه للرد فيتعثر في برواز زجاجي يحمل صورة وجه أثير إلى نفسه يلومه من خلالها على أفعاله بنظرة قديمة ، لكأنها تلخص خيباته المتكررة .
    أما تهشم البرواز الزجاجي فيدخل في تقنيات ما يسمى بالمعادل الموضوعي ، فالتحطيم هنا بمثابة تهشيم ذلك الكبرياء الهش الذي انبنى على فراغ ولا معنى .
    ومن أجمل اللمسات الأنثوية تلك التي يتخيل فيها المهندس الوحيد في شقته وجها حسنا يأتي له بباقة زهور . إنه الشيء الحقيقي الذي ظل ينتظره ، لولا هذا البرج العاجي الذي وضع نفسه فيه فصار وحيدا ، مهملا ، زائدا عن الحاجة .
    يقرأ في البطاقة التي صحبت الباقة جملة موحية " بالرفاء والبنين " ، وهكذا تنتهي القصة بعبارة ساخرة ، تكشف عن هذا القدر من الانفصام بين الشخصية وواقعها المرير .
    وسأتوقف مع مشهد البرواز المحطم فهو يقول ما تعجز عنه العبارات الضخمة ، وهذا واحد من أدوار الفن الأصيل : أن يعبر ، ويلخص ، ويوحي بالكثير من المشاعر عبر مشهد أو جملة لا أكثر .
    " أنهى المخابرة ، واستدار عائدا على غرفته ، كاد يتعثر ثانية لولا ان اتخذ حذره ، جثا على ركبتيه ، يلملم بقايا البرواز الزجاجي الذي تعثر فيه منذ قليل . نظر على عيني صاحبة الصورة ، ذات البرواز المتهشم وأجفل . هرب من نظرة لوم قديمة رمقته بها قبل انتقالها للعالم الثاني ، ولازال يستشعرها كلما حانت منه التفاتة إلى الصورة . " ص 30.
    عن طريق تلك النظرة المعبرة التي تخلو من ثرثرة أو كلام كثير يشعر البطل بأزمته ، ويدرك في داخل نفسه أن صورة النجم الأمريكي التي تشبه بها لم تكن هي الأنسب له على أية حال ، حتى وإن تماثل معه في الوسامة ، فالشكل وحده لا يمنح الشخص أية مصداقية بل المهم هو الفعل الإنساني والقيمة الفعلية لما يقدمه للمجتمع ولمن حوله من بشر.

    * نظرة اخيرة .
    هي قصص مصرية قلبا وقالبا لكاتبة محبة لوطنها ، متشيعة لأبطالها ، تدرك أن الحياة رغم كل محنها جديرة بأن تعاش ، بكل المثل الحقة ، وهي تدفع شخصياتها المأخوذة من الهامش إلى المتن الحكائي بعين يقظة ، وقلب مفعم بالتقوى والرضا ,مدركة أن الواقع رغم ترديه في بعض مفاصل التاريخ إلا أن شخوصه قادرين دائما على استعادة الصفاء الروحي ، والصدق الوجداني الذي هو قرين كل نجاح في الحياة .
    الغربة توقظ في نفوس أبطالها كل ما إدخروه من حنين مؤجل ، وأحلام مشروعة ، وعبر مكابدات يومية في غربتهم الأليمة ، أو في متاعبهم داخل أوطانهم تسمو دواخلهم عن كل النقائص التي خالطت حياتهم .
    ولأن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع ، تدرك سلوى الحمامصي ككاتبة أن هذه الشخصيات التي التقت بها في مصر أو خارج الوطن تقاوم بوازع من الضمير الحي والوجدان الصحيح ، والنزوع الأخلاقي المستقيم كل انكسار أو إحباط أو انهزام مهما بدا له من حضور طاريء ، وتأثير متجذر .
    هي شخصيات من واقع الحياة تسعى إلى أن تعيش الحياة منسجمة مع قوانينها ، فتتعرض في كل مرة إلى محن مختلفة من غدر الأصدقاء ، أو لؤم العداء ، أو تحولات الزمن الذي لا يمنح النفس سكينة أو سلوى .
    تترصد الكاتبة كل ذلك وهي تعايش أبطالها ، فتكمل ما بدأوه من بوح ، ومكاشفة ، واعتراف من أجل أن تعود إلى أنفسهم تلك المسحة الطيبة التي ترطب أيامهم من هجير الصهد اللافح للأبدان ، وعبر ذاكرة تحن إلى الماضي فتبتعثه دون أن تنسى للحظة واحدة قدر يومها ، ولا مظلة مستقبلها .
    وأخيرا تقول الكاتبة عن تلك القصص المتشحة بمادة واقعية ثرية ، ضمن مقدمتها " ليست بقصص بقدر ماهي نبضات وأنات من قلبي ، ومن قلوب الآخرين ، حملتها في أعماقي لشهور حتى حان وقت الإنطلاق ، فأنجبتها بكل حب . في كل منها نبضة هامسة وأنة حائرة " ص 5. غير أننا لا نوافقها على هذا الرأي فالمجموعة تشي بموهبة حقيقية في القص ، وبقدرة على التسلل إلى منطق عميقة في حياتنا ، لتقدم لنا وعبر سرد متقن وفنيات تتكيء على خبرة لا بأس بها ـ بالفن والحياة على حد سواء ـ نصوصا ماتعة أقل ما يقال عنها أنها صادقة وأصيلة ، لا زيف فيها ولا افتعال ، فتحية إلى سلوى الحمامصي كاتبة ومواطنة مصرية ، تعلي دائما من قيم الأصالة، والانتماء الحق بلا تزيد ، مخلصة كل الإخلاص للنقاء الإنساني الذي تشعه قصصها بكل تأكيد.


    سمير الفيل
    دمياط في 23 / 12/ 2005.

  4. #4
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    نشرت هذه الدراسة الموسعة في مجلة المحيط
    العدد 53 ، مارس 2006
    الصفحات من 127إلى 130
    يرأس تحرير المجلة الدكتور فتحي عبدالفتاح
    ومديرة التحرير سوسن الدويك
    اما المحررة الأدبية فهي الدكتورة عزة بدر .

    ..........................

    لكنها أعدت للمشاركة بها في ندوة أدبية ..
    مساء السبت 24/ 12 / 2005 بمقر اتحاد الكتاب المصري بالزمالك ،
    وادار الندوة الروائية المعروفة سلوى بكر ، وحضرتها الكاتبة وعدد كبير من المبدعين . .

  5. #5
    في ذمة الله
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    المشاركات : 3,415
    المواضيع : 107
    الردود : 3415
    المعدل اليومي : 0.50

    افتراضي

    رأيتك من خلال ما أفردت فيه الشرح كأنك فرس يسابق الكاتب بجميل الشرح .
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    فالروعة في التفرد الكامل للمعاني الجمالية والروح المتمثلة بالرواية والقصة ... فلي عودة للقرأة المتأنية
    يسعدني التواجد بين روائع فكرك أستاذي ـ سمير الفيل

  6. #6
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2004
    الدولة : أرض السرد
    المشاركات : 508
    المواضيع : 62
    الردود : 508
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    عبلة محمد زقزوق

    أسعدني حضورك الغالي
    وشعرت ان ما من مجهود يبذل إلا ويحصد الاهتمام والمتابعة الجادة الواعية.

    دمت بخير .وشكرا لرابطة الواحة الثقافية التي جمعتنا على خير إن شاء الله .

    سمير

المواضيع المتشابهه

  1. { النزعة الإنسانية}
    بواسطة سحر الليالي في المنتدى التَّفكِيرُ والفَلسَفةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 23-01-2008, 10:17 PM
  2. الوصفة المثالية للمذاكـرة ...مهم لكل الطلبه والطالبات....!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 27-05-2006, 10:23 PM
  3. قراءة في رواية «اللعنة» لسلوى دمنهوري
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-05-2006, 11:28 PM
  4. العشق فوق الأربعين
    بواسطة رشا عبد الرازق في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 20
    آخر مشاركة: 06-05-2004, 06:07 PM
  5. الزوجة المثالية في عيون الرجال....!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-02-2004, 10:43 AM