النزعة المثالية في ( صحراء الأربعين ) لسلوى الحمامصي
بقلم سمير الفيل
الجزء الأول
كنت واحدا ممن قرأوا نصوص هذه المجموعة عندما نشرتها كاتبتها متفرقة على صفحات الشبكة العنكبوتية ( الأنترنت ) ، وقد توقفت متأملا تلك النصوص في قراءتي الثانية لها بعد أن طبعت ضمن سلسلة " أصوات معاصرة " العدد 128 ، أمام 16 نصا مع دراستين مرفقتين بالكتاب .
هناك سمات أساسية تميز كتابات سلوى الحمامصي ، وهي ما سأحاول خلال هذه الورقة البسيطة أن أبينها في إيجاز ووضوح .
* بساطة الفكرة ، وواقعيتها في آن ، فالكاتبة تحاول مع كل نص أن تبتعث فكرة محورية ، لترصد من خلالها مقولة أساسية دون أن تبتعد عن تيار الحياة الصاخب ، لذا فالحميمية هي سمة مثل هذا النوع من الكتابة ذات الحس الرومانسي في كثير من الأحيان ، والنزوع الأخلاقي الواضح جدا في نصوص المجموعة .
* الشخصيات في الغالب تعيش مأزقا إنسانيا وتنتظر حلما ينقذها من الضياع أو الفقد ، ورغم أن كل قصة تبدو مكتملة بذاتها ، فهي تشكل مشهدا إنسانيا من لوحة كبرى أو جدارية عظيمة تشكلها نصوص المجموعة . شخصيات تتفهم أصول اللعبة ، فإذا ما خرجت عن السياق عانت ، وتعبت ، وشعرت بالخواء الروحي العميق لهذا نجد أن الشخصيات في كل مرة تبحث عن حل أزماتها وفي الغالب يكون الحل فرديا ، وقد لا يأتي إلا متأخرا ، وبعد فوات الأوان .
* تعالج بعض النصوص أزمة التواصل الإنساني من منظور أخلاقي كما قلنا ، وتتجسد هذه الحالة في أكثر من نص غير أن النص الشاهد هو ( عباءة الحاجة محروسة ) التي أسمتها الكاتبة ب" مسرحية من فصل واحد " ، لكنها بدون أي شك تفتقد البنية المسرحية التي تعتمد اعتمادا أساسيا على الحوار ، وفي هذا النص تقدم الكاتبة أزمة الإنسان عندما يعجز ويشيخ ، وينفض من حوله أولاده كل في طريقه ، وهي مأساة نراها ونبصرها في عالمنا الذي تبدو فيه المصالح هي أساس كل تصرف ، وهنا نشعر بنبرة اللوم والتحسر الذي ينبعث من نفس المنظور الأخلاقي الذي أشرنا إليه في البداية .
وأحسب أن العباءة هي مساحة الحكمة ، وثوب " الستر " الذي يمكن أن نعثر عليه في أدبياتنا الشعبية ، وسيكون من المفيد هنا أن أشير إلى الدار الكبيرة التي هي ترميز للوطن في مستو ثان من القراءة ، مع وجود أسراب الحمام الآمنة التي يتكثف حضورها خفية وعلنا عبر النص .
* الانطلاق من مشكلة إجتماعية ، وهي سمة تميز أغلب نصوص سلوى الحمامصي ، فمن المدهش أنها تعمل بهمة في توليد الأضداد عبر مناقشة مشكلة العنوسة ، وتأخر سن زواج المرأة ، وهي تقدم المشكلة في قالب سردي يتسم بقدر كبير من الشفافية واللغة الشاعرية التي تعمق من خلالها أزمة البطلة كما نرى في قصة ( صحراء الأربعين ) ، وهو النص الذي يحمل عنوان المجموعة ، وفي رأيي الشخصي أن هذا النص بالتحديد من أجمل نصوص المجموعة ، وقد ختمت به الكاتبة كتابها ، والسر في تفرد ه أن الكاتبة ساقت حكيها في نعومة ، وقدمت الأزمة بشاعرية وفهم دون أن تخدش إنسانية شخصية الأستاذة الجامعية التي تعيش في أزمة تسرب السنوات من بين أصابعها دون أن تملك وسيلة للتغلب على أحزانها . وقد وظفت الكاتبة أغنية نجاة الصغيرة " أنا باستناك " لتعبر عن هذا الحلم المتجدد الذي تعيشه تلك الدكتورة ، وإطلالتها في المرآة ، وهواجسها ، مع تلك الشاعرية التي صحبت تقدم عريس للدكتورة في نهاية العمل . تلك اللمسة الأنثوية الحذرة والخفية تظلل مساحات شاسعة من النص ، وقد عمقت من أسباب المحنة مع حدث جانبي هو زفاف أصغر فتاة في العائلة .
لقد عرفنا كل شيء عن الدكتورة ، وعائلتها ،وطموحها الذي تحطم على صخرة التجاهل ، وهو ما جعلنا نتعاطف معها إنسانيا ، حتى وهي تدير الخاتم في إصبعها لتمنع القيل والقال ، ولا تخلو القصة من نبرة ضيق واسخفاف بالوضعية الاجتماعية التي شكلت تلك المحنة ، وهو ما نراه في استعراض شريط المرشحين أمامها ، وقد ختمت الكاتبة القصة بنهاية سعيدة بعد أن جعلتنا نعيش القلق معها لحظة بلحظة .
* رصد سلبيات الواقع من خلال تجارب حياتية ، مع اقتناص الدلالات ، كما نجد في قصة ( روبابيكيا ) ، والعنوان نفسه يكشف ما يمكن أن نجده في عالم الصحافة من فساد وعيوب جوهرية ، تسوقه الكاتبة من خلال بنية سردية بسيطة ، مع تلك السخرية التي تتلبس النص من ألفه إلى يائه . هي صحفية متدربة ، تعاني أربع سنوات من الإرهاق والكد ، ومع كل تجربة يتوالى الإحباط حتى تأتيها فكرة عمل كتاب عن شخصية عامة راحلة ، وتطلب شهادة رئيس مجلس إدارة الجريدة . وفي المساحة الزمنية التي تنتظر فيها المقابلة تستعرض كل مساويء ومباذل الصحافة ، تركب تاكسيا وتتجه لمقر الجريدة ، فتؤخرها "عربة كارو " يرقد بجوارها حمار مسكين ، نقش على ظهره آثار سياط غائرة وعميقة ، وفي تيار التذكر تستدعي صورة بائع الخبز في الكشك الخشبي ، والأرغفة التي يقف عليها الذباب ، وغير ذلك من مشاهد تهتز لها نفسها الحائرة ، وحين تصل الفتاة لمبنى الجريدة تخبرها السكرتيرة أنها قد تأخرت ، وان الموعد قد ألغي نهائيا . لم يكن إذن إهمالا منها ، لكن ما حدث حلقة في سلسلة التداعيات التي تشير إلى الفساد الذي يطال كل شيء ، ورغم أن المادة الانتقادية التي تقدمها الكاتبة صحيحة إلا أنها تبدو تقريرية وتلخيصية ، وتشخص بقدر من البساطة دولاب عمل محكم في فساده ، وترهله ، مع ارتباط معيب بالسلطة . كان ظهور " عربة الكارو " هو ترميز خفي ، لذلك العالم الذي قد لا يعرف المتلقي أنه يفتقر إلى أبسط شروط الإنسانية . كما تكشف الدلالات عن أبعاد خفية ضمن نسق تعرفه الكاتبة جيدا ، والنص يخوض هذه المغامرة للكشف عن مواطن الفساد ، لكنه لا يتوغل إلى أعماق كافية ، ويكتفي بالرصد ، والكشف المحايد دون أن يحاول الوصول لما وراء السطح.
وسنلاحظ هذا التوتر الذي نشعر معه بارتباك الشخصية وتشتتها في التعامل مع مثل هذا الواقع الموبوء باللامعنى ، وهنا يتأكد لنا مرة أخرى وجود تلك النزعة الأخلاقية التي تتعامل مع الظاهرة من الخارج دون أن تصل إلى الجذور ، وتشاكل الجوهر.
* البدء من نقطة واقعية ثم الانعطاف إلى فضاءات الفانتازيا ، وقد يكون من الضروري في هذه القراءة أن أشير إلى أن البنيات السردية تقود الأحداث في كل مرة في مسار مرن تشكله كتلة السرد نفسها ، وربما هذا ما قد يشعرنا بحيوية اللقطة ، واتساقها مع البنية الحكائية في تشكلها النهائي . في قصة ( صفقة بيع بالدولار ) تشعر البطلة بفرادة الشيء الجميل الذي تملكه ، لكنها لا توافق أبدا على بيعه مهما كان الثمن ، وحين توافق على مبدأ البيع نفسه تعرض شيئا آخر أقل قيمة ، وتحصل على النقود ،ثم تتنسم عبير أوراق البنكنوت فيغمرها الانتعاش ، ولكن الشيء الثمين مازال ملك يديها ، فتلفت انتباه سائح عابر ، وفي النهاية تبيعه إياه ، فيفرح به في بداية الصفقة ثم سرعان ما يهمله . تشعر بالخطأ وتغرق في ظلمات سحيقة ، وفي نوبة غضب تضرب الحوائط بقبضتيها فإذا بطاقة هائلة تنفتح من إحدى الحوائط فتغمرها الدولارات كلية ، وتكتم أنفاسها في مشهد فانتازي رائق .
هذا الحل الغرائبي كان مناسبا تماما لفكرة البيع ، والتخلي عن الشيء الثمين الذي لا ينبغي التفريط فيه. وقد كانت إعادة هيكلة النص بتلك الصورة التي تبدأ من نقطة واقعية تماما لتنتهي تلك النهاية الفانتازية المغرقة في سوداويتها نقطة تحسب لصالح النص . لكنني لاحظت مثلا أن ذلك التوجه نحو البيع لم يكن نتيجة ضغط ما تم ممارسته على البطلة ، إذ هي انتهت إلى فعل التحول نتيجة إرادة واعية وشخصانية ، وهذا قد يسبب ارتباكا في التلقي مع ما قد يلمح إليه مثل هذا النص من أبعاد تالية تتصل ببيع الغالي والنفيس من تراب الوطن بالدولارات اللعينة . وفي رأيي أن الكاتبة قد بالغت في عنصر الإرادة الفردية ، فلم تكن هناك حوافز للإغواء ، ولا موجبات للتفريط في هذا الشيء الفريد المضيء الذي تملكه . كما أن أحد أوعية الذاكرة ممثلة في الأشياء الثمينة التي توارثناها عن الآباء والأجداد بدت غير معمقة في ذات النص ، غير أنني أميل إلى الاستراتيجية السردية التي ظلت تقف وراء اختيار النهاية رغم كل ملاحظاتي السابقة . وما أبصره أنه من الممكن أن ينتقل المشهد الغرائبي من نطاقه الشخصي الضيق ليبسط خطابه على مشهد أعم وأشمل يخص الوطن ذاته.
* الحبكة القصصية البسيطة ، والتي تفضي إلى نهايات مفتوحة ، وهو ما تؤكده قصة بديعة أعجبتني كثيرا وهي ( كل هذا الحلم ) ، تتناول حكاية رجل يسير تحت لهيب الشمس ومعه شتلة ضعيفة لشجيرة صغيرة ، تتأرجح بين يديه ، ليصعد بها عربة من عربات النقل العام في طريقه إلى ابنته كي يهديها إياها ، وداخل العربة يلاقي كثيرا من العنت وعدم الفهم من الركاب الذين لم يتعودوا هذا المنظر . يقهقه الركاب وتتعالى التعليقات الحمقاء فلا يجد الرجل أمامه سوى الهبوط من العربة مع شتلته الخضراء ، ليكمل بقية المشوار على قدميه.
دون فلسفة أو تعقيد تقدم سلوى الحمامصي أنشودة عشق إنساني للتواصل بين الأجيال ، فإن كان هناك إلحاح لفكرة محتلفة هي عدم التواصل فهناك التوجه النقيض للتواصل الأسري الجميل ، وما يمس شغاف القلب حقا هو قدرة الشخصية على الإقناع ، فهو ت أي الرجل ـ يقوم بشيء يحبه ويقتنع به ، وأكاد أشعر بيديه تحتويان الشتلة الضعيفة لكأنها ابنته نفسها في سنوات الطفولة والصبا ، نشعر بهذا الحس الإنساني دون أن يكون ترجمة حرفية للشيء المكتوب ، لكنه البعد التالي الخفي ، المضمر ، المندس في ثنايا نص رائق جميل .
تأصيل للخطاب الذي نتلمسه عبر مخيلة طازجة ، ونسج سردي فيه قدر كبير من العفوية والرقة في استقطار الدلالات ، وربما بدت هناك جمل زائدة هي لسان حال الكاتبة كان أجدر بها أن تحذفها حتى تترك لنا الفرصة كي نصل إلى المغزى كل بطريقته ، تقول : " هل تشفع له هذه الشتلة الخضراء عند ابنته ؟ كانت واحدة من أمنياتها ، ربما صارت شتلة . في شجرة أحلامها ، تنمو وتثمر مزيدا من أحلام قابلة للتحقيق " ص 26
ربما يكون من المناسب هنا أن تنتهي القصة وهو في طريقه لبيت الإبنة ، وعلينا نحن أن نوجد عشرات الاحتمالات الممكنة لهذا التواصل الإنساني العميق في زمن متقلب، منفلت العيار ، يصعب فيه أن نتوقع شيئا جميلا ورقيقا ثم نراه وقد تحقق.
* للأمكنة ظلالها ، وتداعياتها ، ودورها في استنطاق النص ، كما أنها تقوم بدور لا يستهان به في تموضع الحكايات وبسطها ، وخير مثال عما نقول قصة ( عش العصفور ) وبطلة النص فتاة مصرية تدعى " ملك " تغيب عن روما فترة من الزمن ، وحين تعود تذهب إلى الفيلا التي تركتها منذ وقت طويل ، تعود إليها كي تبتعث مشاعر خالتها قد تبددت . هذا الحنين إلى مراتع الطفولة جعلها تبذل محاولات مضنية كي تعيش بالقرب من تلك الفيلا ، بل أنها في سعيها المحموم هذا تنشيء علاقة صداقة مع شاب مصري وأخته ، ثم ترهقها الوحدة فتسكن مع أسرة صديقة إيطالية قديمة بالقرب منها ، ثم تلمح لافتة أن الفيلا للإيجار ، وتنجح في أن تقنع صاحبة الفيلا العجوز أن تؤجرها إياها بأن تخفض قيمة الإيجار ، وتنتهي القصة بأن تسكن الفتاة الفيلا التي ظلت تحلم بها ، لكننا في المشهد الختامي نشعر نحن المتلقين أن النهاية لم تعمق بدرجة أكيدة لتقنعنا ، فوجود الفتاة وهي تعزف على البيانو الأسود القديم ليس نهاية سعيدة بحال .
وأكاد أجزم أن هذا " العش " ليس وحده هو الذي قدمت له الفتاة أنشودة حب صافية ، بل الأيام والذكريات التي ولدتها الذكريات القديمة ، وقد نجحت الكاتبة في أن توظف الحوار بصورة جيدة بين ملك والشخصيات التي لاقتها ، لكنني ظللت أتوجس من هذا الحلم البعيد الذي يتكيء على مكان بلا بشر ، وحياة يعوزها الأهل والأصدقاء ، حتى أنني تساءلت في سري : هل بالفعل تكتسب الأمكنة كل هذه القداسة لمجرد أننا عشنا فيها سنوات الطفولة ؟ وهل كانت ملك في اختيارها العودة للفيلا بعد تسع سنوات من المغادرة تصنع شيئا صحيحا، أم انها نوستولوجيا الأمكنة لا أكثر؟
ومما لاشك فيه أن تلك الحالة من رقة الشعور قد تكون صحيحة على مستوى الشعور الداخلي ، لكنها ليست وحدها التي تحدد سكن الإنسان، وتلون اختياراته ، ومجال حركته .
" احتضنت بعينيها كل شيء ، الجدران والأثاث وشجرة الياسمين التي زرعتها مع أبيها منذ سنوات ، وفروعها الرقيقة ترسلها متدلية متراخية فتداعب حافة النافذة ، وهي تهتز في نشوة بالغة كأنها تحتفل بملك : ص 22 .
الدلالة ساطعة ، والماضي ينبعث من المكان مخترقا الأزمنة ، هي لعبة فنية تحمل قدرا من هذا الحدس الأخلاقي الذي يبدأ من الوفاء للبشر حتى ينتهي بالوفاء للأمكنة ومفرداتها مهما بدت موغلة في العتاقة والقدم.