صبــاح امــرأة
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
..........................................
ارتفع صوتي سائلاً عمّا يحدث في صباح الجمعةِ، والناسُ نيام، حين تناهى إلى أذنيَّ صوتٌ أنثوي رقيق.
دعوتُ الله ألا يكون حقيقة، وأن يكون هذا الصوت حلماً من الأحلام التي لا تكف عن زيارتنا في غربتنا التي لا تريد أن تنتهي!
اطمأننت إلى أنني صاح، لا أحلم.
أزحت البطانيات الثلاث التي لففت بها جسمي المتجمد برداً، عقب أداء صلاة الفجر، وصرخت:
ـ ماذا جرى يا عبد الغني؟
ـ امرأة يمانية.
ـ ماذا تريد؟
أجاب في اقتضاب:
ـ تسألني ..
البرد قارس، شددت الجورب من فوق المنضدة المجاورة، ودسستُ رجلي فيه، ووضعت رجلي في الشبشب "الشمبلا"، ورفعت صوتي الذي يملؤه البلغم:
ـ هل تسألك في مسألة رياضية؟
ـ يا أخي بلا مزاح .. تسألني في فتوى.
ـ وهل أنت مفتي الديار اليمانية؟!
***
المدرسة الثانوية التي نعمل بها تبعد عن القرية بمسافة ملائمة، وحينما نهبط إلى القرية ـ في الشعاب الممتدة بين الجبال ـ ثم نصعد، تتقطّع منا الأنفاس.
قاطعنا القرية خوفاً، وقاطعتْنا شكا، منذ سمعنا منذ شهر ونصف أن قرية مجاورة في محافظة صنعاء أحرقت مدرساً مصريا!
حكى لنا عبد الله عثمان أن هذا المدرس التعيس كان يسهر عند المرأة في "المقهاية" بين الجبل والوادي كل ليلة، بينما زوجها مسافر إلى السعودية للعمل في شيشة (1) في تبوك، ولكنه يستطيع أن يعود مرة كل ستة أشهر، حينما يسافر زميله اليماني الآخر عبد القوي ليديرها.
وحينما يعود اليماني حمود ـ وهذا اسمه ـ يجد زوجته تدير المقهاية، و"المصري" / الفلاح يُدرِّس لتلاميذ القرية صباحاً، ويحرث الأرض التي صارت بوراً منذ سافر صاحبها إلى تبوك مساءً.
تعرّف المصريُّ على اليماني في إجازة من إجازاته، وأحبَّ كلٌّ منهما الآخر وأَنِسَ إليه، لكنه حين جاء من تبوك ذات يوم، وكان قد غاب خمسة أشهر، قالت له زوجته:
ـ إن المصري يحرث الأرض، ويضع فيها البذور.
قال قلقاً:
ـ ومتى تُثمر؟
فأجابت في نقاء سريرة وهي تُربِّت على بطنها:
ـ بعد ستة أشهر.
وأخذَ المصريُّ اليمانيَّ ـ في صباح الجمعة ـ إلى الوادي ليُطلعه على النباتات الجديدة التي استجلبها من مصر، وزرعها في عمق الوادي، وطعّم بها التربة اليمانية.
أطلق اليماني على المصري الرصاص، وسكب عليه البترول وأشعل فيه النار، ويُحكى أنه عاد مذهول العقل إلى زوجته، فسألته لماذا أنت مصفرّ الوجه، فأطلق عليها الرصاص، وسكب عليها البترول أيضاً وأشعل فيها النار!
***
دخلت المرأة اليمانية حجرتنا المتواضعة، التي تُجاور السحاب، والتي تضم سريرين صغيرين متقابلين، وبينهما منضدتان صغيرتان.
فوق كل سرير مرتبتان من الإسفنج، وبعض البطاطين، ووسادة تحتها رسائل الزوجة التي تصلنا في الغربة، ونتلوها أكثر من مرة، حتى تأتي رسالة جديدة ـ بعد أسبوع أو عشرة أيام ـ فنضعها مكانها تحت الوسادة، وتُزاح الرسالة السابقة مع أخواتها لتوضع في الحقيبة الجلدية أسفل السرير!
***
دخلت المرأة حجرتنا التي لم تدخلها امرأة من قبل، راعني أنها سافرة وجميلة، فنحن لا نرى من اليمنيات إلا عينين تبرقان من خلف الشراشف.
قلت لها:
ـ أنا مدرس الدين ماذا تُريدين؟
قالت وهي تضع جسدها الرخص على السرير المقابل:
ـ أريد أن أسألك في فتوى يا أستاذ!
بدا الخوف على سيمائي وأنا أستعجلها:
ـ اسألي يا ستي.
أصرّت على أن تحكي لي حكاية طويلة عن زوجها صاحب الطاحونة المجاورة للمدرسة، الذي تزوّجها وهي صغيرة في الثانية عشرة من عمرها، بينما كان هو في الثالثة والخمسين وكان يذهب للعمل في السعودية فهو صاحب شيشة هناك، ويعود كل سنتين من تبوك عدة شهور يقضيها في اليمن، ثم يُعاود الرحيل. هاهي في العشرين، وهو في الستين، يتركني في القرية وحيدة، ويذهب إلى تعز ليتزوّج فتاة صغيرة يقضي معها الشهرين، قبل أن يعود إلى السعودية من جديد.
ماذا تريد المرأة؟ لم أستطع أن أخمِّن "الفتوى" التي تُريدها.
بدت المسألة شائكة وهي تسأل:
ـ أليس لي عليه حق الزوجة؟
ـ بلى يا سيدتي.
فاجأني سؤالها:
ـ … فماذا أفعل؟
كان عبد الغني قد أقبل بالشاي، وناولها كوباً فأزاحته بعيداً بيدها السمراء الرقيقة المخضبة، وبدت عيناها تتألّقان بوهج غريب، وأخذ صوتها ينساب برقة متناهية، وعطرها الغريب يتسلل إلى أعماق روحي، فيسري الدفء في عروقي .. أنا الذي لم أر وجه امرأة منذ سبعة أشهر!
ـ القرية المجاورة أحرقت مدرساً.
وها هي اليمانية ـ التي لا أعرف لها اسماً ـ تفتح صدرها، لتخرج صورةً لزوجها الواقف أمام بيته يحمل "البندقية الآلية" على كتفه، والخنجر المائل معلَّق في "الجنبية"، وبعض أشجار اللوف والعنب تبدو خضراء ـ داكنة الخضرة ـ في خلفية الصورة.
ويبدو زوجها فتيا كما لو كان في الخامسة والثلاثين.
أعرف هذا البيت جيدا، بين الجبل والوادي، أراه كل جمعة وأنا في طريقي إلى المسجد الجامع، إنه مجاور لبيت "الشيخ علي" خطيب المسجد، الذي يُسامرنا كثيراً في هذه الحجرة التي تُجالسنا فيها اليمانية الحسناء، ويشرح لي فيها أحياناً ما يستعصي عليَّ فهمُه من "فقه الشافعية"، وهو الزيدي المتسامح الذي يُذكِّرني بعلماء القرون الهجرية الأولى، في فقهه، وسعة صدره، وصبره علينا، وملبسه.
ماذا يقول الشيخ علي إذا رأى هذه اليمانية خارجةً من عندنا في هذا الصباح الباكر؟!
أغلق عبد الغني الباب بعد هبة ريح مُفاجئة.
واقتربت خطواته مرتعشة حذرة، ووضع يده على كتفها، وهو يطلب منها التجمل والصبر، كان يبدو متأثِّراً لحكايتها. ويبدو أنها شعرت بخدر لذيذ فأغمضت عينيها.
صرختُ:
ـ افتح الباب يا عبد الغني!
أنزل عبد الغني يده وهو يحس بالحرج.
نظرت إليَّ المرأة شزراً نظرات لبؤة شرسة، وقالت:
ـ لم تُجبني بعدُ .. يا مدرس الدين!
أغمضت عينيَّ، فقالت في تحدٍّ:
ـ أخرجُ إذنْ؟
قلتُ في صلابة:
ـ نعم، الوقت ـ كما ترين ـ ليس ملائماً للفتوى.
وأضفت وصوتي لا يكادُ يُغادر حلقي:
ـ هل تعرفين فقيه القرية .. "الشيخ علي"؟
ـ نعم .. هو جارنا..
وكأنِّي أتخلَّص من عبءٍ باهظ:
ـ ولماذا لم تسأليه؟
ـ إنه مسافرٌ إلى صنعاء من أسبوعين.
انطفأ البريقُ في عينيها، أخليتُ للقلق مكاناً في تعبيراتي:
ـ إذا رآك أحدٌ في هذا الوقت، يشكُّ فينا وفيك.
خرجت غير عابئة بما أقول، وهي تهز رأسها مستنكرةً لما تسمع، وعبد الغني يطلب منها أن تجيء في منتصف النهار، بعد صلاة الجمعة إذا لم يعُد الشيخ علي من صنعاء!
***
خرجت المرأة منكسرة الخاطر، تحمل نعشها على كتفيْها، لتنطفئ النار التي كانت تنتظرنا في الوادي، حينما تعود إلى طاحونتها مزهوة بإجابة الفتوى، وتربت على بطنها بكفَّيْها ..!!
ديرب نجم 26/10/1990
...........................
(1) الشيشة: محطة بنزين.