دخلتُ حجرةَ نومي، لاأدري لماذا خيّمَ الصمتُ على بوحِ أشيائـها؟ لماذا هطلتْ فجأةً كل الحكايا من لوحاتها المعلّقـة بالجدار؟؟ لماذا صمتت يمامتي البيضاءُ عنْ مداعبةِ أحلامنا وذكرياتنا، واعتزلتْ قصائدَنـا بالشرفـة؟؟ لماذا بدأَ تغريدٌ غريبُ اللحنِ، منكسِرُ الإيقاع؟؟ لماذا نعِسَتْ على مكتبي وردةُ البنفسـج وقَلَّدَتْـها زهرةُ الياسمين؟؟ لماذا صارتْ مزهريتي التي أهدتْها لي زوجةُ أخي، تهجرُ ألوانَ نيسـان؟؟ لماذا باتتْ تخاصمُ ما تقاطرَ عليها من ألوان الورود التعِبـة، زرافاتٍ ووُحدانا؟؟
جلستُ أحدّقُ طويلاً في لونٍ شاحبٍ حاصرَ أركانَ حجرتي، وخلفَ النافذة تتغزّلُ الأمطارُ بذكرياتٍ تساقطـتْ بِتساقـطِها، لم يوقِظني من صمتي المضرّجِ بحيرتي، وبألمٍ مُبهَمٍ لم أُلفِ له تفسيراً، إلاّ صوتُ والدي يطلبُ منّي الإسراع بارتداء ملابسي، كيْ لا نتأخر على زيارتنا، زيارةٍ ذاتِ نكهة خاصة هذا اليوم.
حدّقتُ طويلاً في خزانة ملابسي، وكأنني كنتُ غائبةً عن الوعي، لمْ تبدُ لي ألوان فساتيني وثيابي إلاَّ كَأشجارِ عنبٍ شاحبـةِ التقاسيمِ والبوح، سألتُ نفسي: "ماذا أرتدي؟؟ لا ينبغي أن أتأخر على والدي الذي ينتظرني منذ ساعة تقريباً، ولا ينبغي أن أتأخر عن الزيارة التي كلَّفَتْنـي تغيُّراً في عقاربِ ساعةِ القلب".
كنتُ أحسّ بتثاقل في خطواتي، أسير قربَ والدي مغطّاةً ببوحِ المطر، كنتُ أراقبُ طُولَ الطريقِ مناجاةَ قطرات الغيث للورد ولنسماتِ نيسان المختبئة، كنتُ أراقبُ همسَها للعصافيرِ الواقفةِ على أغصانِ الشوق، كانتْ هي الأخرى تراقبني، وكأنها تؤلِّفُ معي عِقداً منَ الهمس، لايزينُ غير جيدِنـا فقطْ !
سألني والدي وقدْ زقزقتْ بقلبه حيرةٌ حرّى: "ما بكِ صامتة ابنتي؟؟"
نظرتُ إليه، أحاول أنْ أقنِعَ صوتي بالصُّلح، بأنْ يُنقِذَني من بئرِ الصمت الذي سُجِنتُ فيه..لكنّه أبى وكأنه يستلذُّ بتعذيبي.
ووصلنا بيتَها: قبرٌ مغطّىً بالصمت والبوح، بالمطر والشمس، بالورد وزقزقـةِ النبضات، وكان بجوارها رفقاء آخرون، زرعوا بقلوبِ أحبَّتِهمْ سنابلَ الشوق والألـم والأمـل باللقـاء أيضا.
جلستُ علـى أريكةِ الشوق، وبيدي باقـةٌ من الكلمات العطشى، وبمزهرية القلب زهورٌ تحاولُ النهوضَ مِنْ عطرِها. لاحتْ مني نظرةٌ إلى والدي، ألفيتُهُ واجماً، وبعينيْه لمعَتْ دمعةٌ مهترئة، وذكرى أقسمَتْ أنْ تحافظَ على غضارةِ شبابها، وأنْ تزهو كلما نظرتْ في مرآةِ الروح..أمّا أنا، فعدتُ إلى حديقةِ حنانها، أقطفُ منها نبضاً يعزفُ لها وحدها فقطْ، يعزفُ شوقاً بلْ أشواقاً، وعهداً أبيضَ كلآلئِ الطّلّ: "على العهدِ حبيبتي، على عهدِ حبِّكِ حتى اللقــاء.."
كانَ بيتُها المطلِيُّ ببياضِ الثلج والذكرى حينذاكَ مشتعلاً بصمتٍ يئنّ، وبقوتي التي تهاوتْ، جلستُ إلى بيتها أبوحُ لهـا.. فبُحتُ بهَــا ! وددتُ لوْ استطعتُ المكوثَ هناكَ قربَها حتّى تحدّثَني، وقدْ صارَ بيتُـها مبتلاًّ بشوقي وسجمٍ همَى كحبّاتِ النبض، لكنَّ عطرَها كانَ يعبَقُ بحكاياها وحكايا المكان كلّه، يحلٍّقُ مثلها قريرَ العين والفؤاد، يشدّ من أزرِ صبري، ويُحلِّقُ بينَ البيوتِ الأخرى المجاورة، ليُهديها السلامَ والنقاءَ والأمـل في اللـه وفي لقاء الأحبـة.
أثناءَ عودتي ووالدي إلى البيت، سألتُـه وأنا أتعثَّرُ في شوقي: "متى الزيارة القادمـة؟؟ "..