كان لأطروحات أخي الكريم الاستاذ خليل حلاوجي أثر كبير في التوجه لكتابة هذا الموضوع
الذي بات لزاماً طرقه .
ولإيجاد مساحة خصبة للنقاش المثمر أيضاً على بساط من الأريحية والجدية والصدق
في القصد والعرض .
إن دين الاسلام دين ذو صفة عالمية واستمرارية تؤهله ليكون قادراً على اسيعاب جميع
احتياجات البشرية ، وذو قدرة على الانسجام مع كل متغيرات الدنيا ، مهما كان حجم اختلافها وتنوعها .
فهو دين لم يضق ذرعا بالمستجدات خلال ألف وأربعمائة وعشرين سنة.
فلايزال رغم تسارع الدنيا وتغير المعطيات منضبطاً من خلال قواعده الراسخة.
ولم يكن هناك دين قبله أو بعده ، ولا حتى مذهب أو اتجاه يراعي العقل ويحترمه كما يحترمه ويراعيه
الاسلام.
إن الناظر في قواعده الكلية وما يتفرع عنها من قواعد أصغر
وفروع أدق وأصغر ليجد العجب العجاب ، كيف أن هذا الدين يستطيع تفعيل العقل تفعيلا
يتوافق مع بشريته ويعطيه الثقة في البحث والمقارنة والاجتهاد .
العقل في الاسلام محكوم عليه لا حاكماً !!
والعقل في الاسلام مأمور بالتأمل في مخلوقات الله والنظر في ملكوت السموات والأرض ..
وفي صدق الرسالة وفي عظمة الخالق .
والعقل في الاسلام أيضا مناط به البحث في العلل التي أنيطت بها الأحكام الاجتهادية ليقاس عليها .
فمعرفة العلة للحكم الشرعي - غير التعبدي المحض - من وظائف عقول المجتهدين ، ومن معارك
انظارهم المختلفة .ولامشاحة في تنوع الاجتهادات ولها .
وقد ترك الله عز وجل من حكمته ذلك للعقل المجتهد ليرفع في أجور المجتهدين وليميز الله باذل
الوسع من العلماء ممن هو أقل شأناً .
العقل مكرم في الاسلام غاية التكريم ، فهو أيضاً مناط التكليف وفهمه مناط إقامة
الحجة على المكلفين .
ففاقد العقل له أحكامه الخاصة سواء الفاقد بالكلية أو لبعضه .
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر أبا موسى الأشعري حين قال
فيما لم يجد فيه نصاً ( أجتهد رأيي ولا آلو ) .
وهذا عمر رضي الله عنه يقول لواليه ( ثم اعند للمور فانظر أشببها بالحق فاعمله ).
وكذا العجب لاينفك في اعتبار القياس من الأصول المتفق عليها في الاستدلال في الجملة .
والقياس عملية عقلية بحتة .فهل بعد هذا التكريم تكريم !
إن المعيب ليس احتراك العقل ومخاطبته ، او تفعيل دوره في الاستدلال فذلك مما حث عليه الاسلام .
لكن المشكلة في تكليف العقل ما ليس من شأنه وجعله حاكماً في مورد النص .
إن هذه المشكلة هي أول ما فُتح على المسليمن من الأبواب والتي راح ضحيتها طوائف انحرفت
بعد ذلك لإغراقها في العقل وطردها وظائفه وتعميمها .
فأول تأثر من هذه الناحية هو تأثر المعتزلة العقلية بالفلاسفة الذي كانوا ينصبون العقل رباً من دون الله
فما قبله العقل قبلوه ، وما رده العقل ردوه حتى ولو كان مما فيه نص واضح ظاهر صحيح.
ونشات مدرسة العقلانية التي تجعل من العقل مصدرا للتشريع .
ليس من الجدير أن أحتاج لبيان قصور العقل عن إدراك مصالح البشر ابتداءا وتقرير الأحام .
ربما كان قادراً على تقدير المصالح في وقت دون آخر ، وفي مكان دون آخر .لكن ان يكون منسجما
وعالمية الاسلام واستيعابه لكل زمان ومكان فهذا من المحال .
ولذلك نجد إعمال العقل كان سائغا في كل ماهو موضع اجتهاد ، والاجتهاد لاشك انه قابل للتغير حسب
الزمن والمكان .
فالقياس والمصالح المرسلة والاستحسان عند بعضهم ، وتنقيح مناط العلة ، كل ذلك أمور تخضع لتأثير
الزمان والمكان .
لقد وجدت فكرة تضخيم دور العقل سبيلاً إلى عقول بعض المفكرين حتى وثقوا بالعقل بشكل
فضيع تم معه إقحامه في موارد النص وتقليله من قطعية بعض الحكام التي استقرت قطعيتها .
لاشك ان الموضوع اكبر من هذه العجالة وحسبي أني حاولت فتح النافذة لاستقبال نسيم كلماتكم
وسيل أفكاركم .
دمتم بخير