مقـــــــــال .
أنا أحب الفول النابت !
أهوى الوردة البيضاء ، وقطرات المطر التي تهطل في رقة من سماء خجولة ، والبنات الجميلات قبل زواجهن ، والفول النابت .
عن الفول النابت أكتب وأتهيء لأن أرفع قدره ، وأعلي من شأنه بعد أن أصابته لعنة الفقر وعنجهية من حاولوا المساس بدوره التاريخي العظيم .
عندما كنت أسير مرة في إحدى شوارع مدينة (الدمام ) ، بالتحديد في مخطط 8 حيث بيت ( فهد المصبح ) القديم ـ وقبل ان ينتقل لبيته الجديد ذي السلم الداخلي حيث سافرت قبل ان ينقل عزاله إليه ـ صاح ولد شقي ببشرة سمراء ،و هو يشير نحوي : فول .. فول !
فرّ هاربا بفعلته الشنعاء ، ولقد تحسست عنقي ، ورأيت أن الكلمة التي تكررت مرتين دون أن يتلوها وصف أو حتى خبر بدت مقنعة جدا، حالة كوني غريبا ، وأداهم شوارع حارة جدا ورطبة .
فمما لا شك فيه أن الفول هو هويتنا ، ولو كنت من المسئولين المتنفذين لغيرت صورة النسر الكالح إلى قدرة فول معتبرة فهي أوقع وذي دلالة لا تخيب !
أنا بالفعل أحب الفول المدمس ، ولا أشعر أنني أفطرت فعلا إلا إذا جلست على منضدة كبيرة بالمكتبة مع عدد من الزملاء والزميلات في حصة خالية والتهمنا منه ما لذ وطاب .
الفول عصامي ولا يعرف الطبقية ولكنه يعرف الطبق وهناك فرق كبير بين المصطلحين . لا طبقية في الفول لأن أغنى واحد من شعب مصر المحروسة يأكل منه بشراهة ، وأقل فقير برتبة إسكافي أو حوذي لا يجد غضاضة في أن يتناوله كل صباح بأريحية بالغة ، وهو يحمد الله على خيره : (ديمها علينا نعمة يارب ! ).
الفول وحـّـد الشعب المصري أكثر مما فعل الأغريق والفرس والروم والعرب والأنجليز وأصحاب الكابات الزرقاء في الحملة الفرنسية التي دخلت " الشعراء " فجعلت أعين النساء خضراء .
وهي معلومة يسوقها أهل مدينتي ليغيظوا بها سكان قرية " الشعراء " الذين سرقوا منهم صنعة الموبيليا وطوروها وباعوها برخص التراب .
لكن لاشأن لذلك بالفول ، الذي هو لاطبقي بتاتا ، لكن تقاليد الإفطار تستوجب نزول رب البيت بالطبق ليطلبه بزيت حار أو زيت زيتون أو بطحينة ، أو خالص ، لتقوم الست ـ إن قامت ولم تكن نؤوم الضحى ـ بتجهيزه وتسبيكه ، وهندسته بقطع الليمون وقرون الشطة وأعواد البقدونس .
لكن أنا أتحدث عن الفول النابت وهو نوع من الفول الخام كل ما نفعله معه أن ننقعه في النسيان ، ونغـّـير عليه الماء ، ليوم أو أكثر قبل أن " نشوحه " في الزيت ونقلبه في ملح قليل ، قبل أن ننتشله ـ بعون الله ـ لنضع عليه الماء وأعواد النعناع وقليل من الشطة ( شطة أهل أم درمان وساكني فرع السوباط ) ، ونصف حبة ليمون .
ما ألذ هذه الوجبة الرخيصة الخفيفة الشهية التي لها أكثر من عشر فوائد أوجزها في أنها أكلة العشاق والمحبين وكتاب شعر الحداثة مما تشن عليهم ـ من قبل عسس الأنظمة الأصولية وشيوخها المبجلين ـ دوريا حملات تطهيرية( للترهيب والترغيب ) تشبه حملات شرطة المرافق على الباعة الجائلين أمام جامع البحر في مدينتي، فيفرون لحظات حتى تذهب الشرطة فيعودون .
الفول النابت طيع وشهي ولذيذ ولكن هذا بالطبع لا يكفي كي أقع في غرامه ، لكن ما حببني إليه وحببه فيّ أن الست (أم احمد ) كانت تجلس بطست نحاسي كبير في ميدان سوق الحسبة ـ ونحن في مرحلة الصبا ـ لتبيع منه بالمليم والمليمين ، وكنت أذهب لأشتري منها وأتملى وجه كوثر ابنتها التي كان لها شعر أصفر وعيون واسعة يسكنها غيط برسيم .
كنت أشتري فتغمز لي البنت أن أنتظر حتى تأتي معي لأزاحم لها في طابور العيش وحين يأتي دوري تندفع هي للشراء ،وتمنحني ابتسامة و..... ـ هنا تحذف كلمة أساسية لضرورات رقابية ـ وكانت عشر أرغفة تباع يومها بقرش واحد .
هذا السبب التاريخي لا يمنع من إخفاء سبب فرعي وهو أن أمي حينما قررت ختان ثلاثتنا من الذكور ونفرنا من المسألة وعدتنا بأن تشتري لنا عنبا ملوكيا ، ولما تمت الجراحة على يد (عم طاهر) لم تقدم لنا العنب وجاءت بأطباق الفول النابت فربطت ـ أنا ـ هذا بذاك وكنت أعرف أن الألم سيذهب ولكن " عذابي فات " قبل أن يمر (عام الفيل ) ، وهو العام الثالث من عمري على وجه التقريب الذي يأتي فيه السيرك الهندي ويمر تحت شرفتنا فيل ضخم جدا ، أتسلل من النافذة لألمس جلده المغضن فيمضي دون أن يشعر بي أو ينظر نحوي ، لكنه يترك داخلي إحساسا بالسعادة أنني لمست الفيل المزركش غطاؤه دون أن أضطر للذهاب إلى الغابة ، والاصطدام بالأسد وحرمه ( اللبؤة المصون ) !
الفول النابت موصوف للمحبين ، نعم ، ممن اكتووا بنار العشق ، فباتوا وهم يتقلبون على جنوبهم من الحسرة والتعاسة أن الحبيب بعيد ، والليل بهيم لا ينجلي .
هنا يلعب الفول النابت دوره في تخفيف اللوعة ، فطبق مليء بالفول النابت سيخفف من القلق ، ونزعات التوتر حيث يقوم ( المحب ) بخلع القشرة الهينة اللينة من جسد الفولة المنقسمة نصفين ، دون ان يضطر لفك الاشتباك بين الريشة والجذير ، وقبل أن يلقمها حلقه سيعرف أن الله ـ مصرف أمور الكون ـ له حكمة في أن يخلق الفولة من شطرين أو فلقتين ، يغلفهما قشرة بنية أو وردية ، وهو ما يردنا لخلقه الرجل والمرأة في نصفين لا تكتمل الحياة إلا بهما ، ولا يعمر الكون إلا باتحادهما ، وهي حكمة ، وفلسفة كونية عليا يدركها من شغف قلبه حب الفول النابت .
ثم لنتوقف أمام الكلمة لغويا ( فول نابت ) أفتح معي المعجم اللغوي لتجد أن ( نبت ) الزرع نبتا ، ونباتا ، نشأ وظهر من الأرض . ويقال : نبتت لهم نابتة : نشأ لهم نشء صغار . ( أنبتت ) الأرض : أخرجت النبات ، ويقال : أنبت الله البقل : أخرجه من الأرض . وأنبت الله الصبي نباتا حسنا . ( نبت ) الزرع : بدا لأول ما يظهر من الأرض .
فوق سطح بيت جدي الحاج توفيق الفيل الذي زار مقام النبي وبكى على شباكه وصلى في الروضة الخضراء اكتشفت أن سقف المسقط العالي جدا " الشخشيخة " تطع منه زهور بيضاء بعد هطول المطر باسابيع فكبشت حفنة فول وأودعتها هناك ، وصدق حدسي أن رأيت قدرة الله في (الفولة ) حين تنشق ، فتصعد الريشة للفضاء ويشق الجذير الغلاف السميك ليشبط في أي سطح كأنه يتمسك بالحياة .
فكرة الخلق عرفتها فوق السطح قبل أن أعرف سوسن ، وقبل أن أكتشف العلاقات المريبة بين ديكنا الذي يصيح كل فجر بانتظام وبين عدد من الدجاجات التي كنت أراهم في غاية الطهر والنقاء قبل أن أرى ما رأيت ، لأكتشف أن بقاء العالم مرهون بذلك الفعل الطقسي المجنون الذي يتحول مع الزمن إلى عبء ثقيل .
لكننا مع الفول النابت ، وما سقناه هنا من خروج وانزياحات هي مسألة ترجع إلى تيار ما بعد الحداثة ، حيث يقوم الكتاب الموتورين بدس السم في العسل ، وتحريك شهية البشر لأكلة فول نابت عبر اللغة ، وهي لعبة يتقنها هؤلاء الفاسقين المارقين الذين هم ـ إن شاء الله مع أدونيس والبياتي ومحمود درويش ـ حشو النار وبأس المصير .
لا غضاضة أن أنتهي هنا ـ واقسم بالله تعالى أنني فعلا كنت أسخن حلة الفول النابت وجاء صوت هيثم ليخبرني أن الفول قد غلى ـ وعلي أن أمتع نفسي بمذاقه اللذيذ بعد أن فضحته أمام البشرية ، وجعلته فرجة للناس كافة ، وهو الذي علمنا في شمم وإباء ان يقوم بدوره التاريخي في صمت يليق بالزهاد والمتصوفة والموعودين !!