لوزات الجليد
بقلم : محمد سامي البوهي
كانت تقف خلف النافذة الزجاجية بحجرتها المتطرفة بقصرها العتيق ، لوزات من الجليد تساقطت كي تكمل رسمها للوحة البيضاء ، غزا جسدها شعور بالبرودة ، مدت نواظرها نحو المدفأة المشتعلة ، جذبت منها بعضاً من حبيبات الدفء ، أكتمل رسم اللوحة بالخارج، بقي منها بعض من الرتوش ، نقحته لوزات الجليد في تتابع ، كرة من أعشاب برية دحرجتها الرياح من أعلى الهضبة ، أضافت شكلاً جديداً للوحة ، نغمات البيانو تصاعدت ، بمقطوعة" البجعات" من موسيقى "تشايكوفسكي " عبرت الردهة والبهو الكبير ، تشعبت داخل الغرف ، شوهت اللوحة المنسجمة مع التساقط ، نفضت حبيبات الدفء ، فتحت الباب المتجمد بروعة الغضب ، وقفت على رأس الدرج المطل على ركن البيانو ، النغمات تقطعت ، انخفضت ثم سكنت ...... بالقاع.
- الخادمة : سيدتي ؟؟!
- السيدة : من ؟
- الخادمة : إنها "آناريتا" سيدتي.
- السيدة : ألم أقل أني لا أحب تلك النغمات في بيتي؟
ألاحت الفتاة الرقيقة بحضورها وسط الحديث بوجة شاحب اقتحم جمالها المكنون ، توقفت وسط البهو تحت الثريا المتهدلة . أطلقت السيدة إيمي نظرة ثاقبة بجحوظ عينيها نحو البراءة والهدوء .
- السيدة "إيمي": إن عدت سوف أحطم البيانو فوق رأسك .
- آناريتا : حاضر عمتي لن أفعلها ثانية .
أدارت وجهها تشق أجواء المكان ، ركلت الباب المتجمد ، عادت للنافذة مع بقايا من النظرات ، صهرت بعضاً من لوزات الجليد المتساقط ، الكرة اقتربت من أطراف اللوحة ، اتضحت ملامحها الممتزجة بذرات الجليد ، تباعدت اللوحة بالشخص القادم ، امتطى زحافات للتزحلج ، مخلفاً وراءه خطين من السواد ، لوزات الجليد قامت بدورها من التلوين والتنقيح ، مع انكشاف المعالم بدا ساعي البريد بمعطفه المخملي وجعبته المنتفخة بالرسائل ، لحظات من التصفح بوجه الأرض وترقب للقادم ثم اختفاء في النفس تبعه دقات على باب الغرفة الحبيسة.
- إيمي: من ؟
- الخادمة : رسالة يا سيدتي؟
- إيمي : ادخلى ودعيها على المنضدة .
فتحت الخادمة الباب في هدوء ، دلفت الحجرة ، ووضعت الرسالة كما أمرتها .
- الخادمة : تأمرين بشئ آخر سيدتي؟
- إيمي : أخرجي ولا تأخذي معك حفنات من الهواء الدافىء.
نظرت الخادمة نحو النافذة الزجاجية بتراجع للوراء ، جذبت الباب وغابت مع وجهه الأخر، إقتربت "إيمي" من المنضدة ، أمسكت بالرسالة بتفحص أعقبة ابتسام ساخر .
-إنها من موسكو !
فتحت الرسالة ، أخذت تجوب بالقراءة بقلب توحد مع اللوحة الجليدية .
-أولغا ؟ ..... أولغا ؟؟؟
- الخادمة : نعم سيدتي .
-إيمي : نادي - آناريتا - حالاً.
إنه الجنون يلاحقها بعد أن تركها تفر من الحرب ، أفقدها كل شىء بقسوته – جمالها & حبها & مشاعرها – إنتزع الرحمات من قلبها ، كما إنتزعتها الحروب من قلبه ، دائماً هو زائرها الأول والأخير بأحلامها وفي خيالها ، واليوم عاد يلاحقها برسائله التي يبدو أنه كتبها قبل موته بأيام قلائل ، فحال تراكم الجليد بين وصولها قبل موته ، ذهب وترك لها قطعة منه تربت بين يديها بعد أخفت الحرب أمها تحت الركام ، هي تعرف جيداً أنها ليست مثله ، لم تحمل منه أي طباع غير حبها للموسيقى الكلاسكية ، حيرها الشعور نحوها حب أم كره أم حب متكاره بذكرى تزاحمها في ما تبقى لها من العمر . إبتلت الورقة بدمعة ساخنة أتت من عبق الماضي ، تناثرت عند أطراف كلمة " أختي العزيزة " شوهت بعضاً من حروفها ، أفاقت من غفلتها، جففت جفونها قبل حضور ابنة أخيها التي عهدتها دائماً القوية الصارمة . أنثى بنيت شخصيتها تحت دانات المدافع ، وأصوات القنابل ، الكل يعرفها أنثى لا دموع لها . دقات رقيقة على بابها الخشبي :
- إدخلي" آناريتا "
- عمتى ؟
- هذه رسالة من أبيك .
- أبي ؟؟!!
- يبدو أنه كتبها قبل وفاته وتعثر وصولها إلينا سريعاً.
- وفاته !...... أمات أبي؟
- نعم منذ شهر ألم أقل لك ؟!
نظرات كبتت داخلها... فيض دموع غيرت مجراها نحو المنبع ... حوار صامت .... صدمات نشرت شذراتها بالأجواء .... تساؤلات وتقرير داخلي .... أذابت كل ذلك بكوب من حزن تجرعته كي تروي مشاعر خنقت بقمقم منذ آلاف السنين .........
أمسكت الرسالة بأطراف أناملها الرقيقة ، وطافت بين حروفها اليائسة فهي تقرأ رسالة من إنسان ميت كتبها أملاً في الحياة ، لم تلمس حنانه يوماً ما ،إعتادت القسوة كأنها هي الأمر الطبيعي السائد في تلك الدنيا ، تلقت خبر موته بإختذال مكنون ، الدموع تقطعت... انخفضت ثم سكنت ..........بالقاع.
- إيمي :
لا جديد فيها أرسلها ليطمئن علينا ويقول أن الذي منعه من الحضور هو مرضه ليته علم أنه المرض الأخير.
غاصت " أناريتا " في الكلمات ، تشممت فيها رائحة أبيها الذي كان بعيداً عنها دائماً ، إلا من رسائلة القليلة ، ولعبه التي كان يرسلها إليها لإرضاء طفولتها الماضية ، تناغمت مقطوعة " البجعات" برأسها ، شعرت بحاجة ملحة إلى عزفها لكن عمتها"ايمي" تكرهها ، سرعان ما تراجعت عن الفكرة وإكتفت أن تعزفها بمكنونها . حدقت في النافذة ومشهد التساقط بعين زائغة ، كأنها تحسد حرية حرمت منها ووهبت لسماء أخرجت ما بدخلها من هموم مثقلة.
- آناريتا [همس مسموع]:
يبدو أنه كان يبكي وهو يكتب الرسالة .
التفتت "إيمي" إليها بدهشة حانقة ، شاركتها نظراتها للنافذة ، وتتابع لوزات الجليد المتساقطة .
- إيمي [همس مسموع] :
نعم وقد إبتلت أحرف الرسالة من دموعه .
الكويت : 14/2/2006