فلسطين ضياع خلف ضياع
فلسطين
ضياع خلف ضياع
سمعت ذات يوم مقولة، نسبت إلى خليل الوزير، لا اعلم مدى صحة نسبتها إليه، ولكن مضمونها كان قمة في التعبير عن القادم الذي سيحل محل المفاهيم الوطنية والثورية، قدرة هائلة في تشخيص الخطر الحقيقي للواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي على حد سواء، وهي قدرة نابعة من شخص سكن رحم العمل الثوري الفلسطيني منذ لحظاته الأولى، ثم انتقل بعد ولادته ليكون احد الخطوط الهامة والفاصلة في تشكيل المفهوم الثوري والوطني، من الناحيتين السياسية والعسكرية، فخاض لجج الموت والخطر، وعانق بقوة ظلال الأرواح التي كانت تعمل في الخفاء من اجل توطيد شرعية الحق الفلسطيني المطلق.
وأدرك بقوة الإيمان والتجربة معنى الخيانة، وما يمكن أن يصنعه الخائنون، وقدر تماما حجم تأثيرهم وامكانياتهم في إبطاء العمل من اجل تحرير الوطن، فعمل على اجتثاث الخيانة، بالعقل والوعي الثوري، وبوضع رقاب من لا يجدي الوعي والعقل معهم على نصل الموت، إلى أن اغتالته يد الخيانة العالمية أمام زوجته وأولاده، وعلى مسمع ومرأى العالم بأسره، فرحل رجلا قادرا وصادقا، رحل دون أن تكتحل عينيه برؤية الخيانة وهي تذوي أو تتلاشى، فكان رحيله إيذانا بولادة نوع جديد من أنواع الخيانة الذي تضمنته مقولته.
قال خليل الوزير:- " أخشى ما أخشاه، أن تتحول الخيانة إلى وجهة نظر".
وليس هناك أي شك الان أمام من يملك ذرة من عقل أو ضمير، إلا أن يعترف، اعترافا كاملا وصريحا، بان الخيانة قد تجاوزت كونها وجهة نظر، لترتقي مرتقى المبدأ، بل ولتكون سيدة المبادىء المعاصرة في الوطن الإسلامي من أقصاه إلى أدناه.
ففلسطين العربية الجذور، الإسلامية التكوين والملامح والأنفاس والروح، قد انتقلت من تاريخها العابق بروح العرب والمسلمين، إلى تاريخ جديد، غريب التكوين والنشأة، غريب الأصل والملامح، غريب اللغة والحروف، غريب العادات والتقاليد، وانتقل العرب والمسلمين، من ناحية الإيمان بواجب توطيد عروبتها واسلاميتها، إلى الناحية التي تنادي بسحق ومحق كل اثر يمكن أن يذكر الأجيال القادمة بكل مقومات الحق الفلسطيني العربي الإسلامي في الأصول والجذور الضاربة في عمق القدس والخليل وحيفا ويافا.
فحائط البراق الذي لامس المعجزة الإلهية، تحول إلى "حائط المبكى"، والصخرة التي لامس شوقها وحنينها جسد محمد بن عبدالله – عليه الصلاة والسلام – والمسجد الأقصى، الذي صلى فيه الرسول الكريم إماما بكل الرسل والأنبياء، يقع الان تحت خطر المحو والإزالة، ليحل محله " الهيكل المزعوم "، والحرم الإبراهيمي، الذي ترقد فيه أرواح مجموعة من الأنبياء والرسل مع زوجاتهم الطاهرات، تحول جله إلى معبد يهودي، يدنس في كل ثانية ولحظة، ومساجد كثيرة، على امتداد فلسطين، تحولت إلى أندية للخمر والميسر، بل وحول بعضها إلى بيوت للدعارة، وهو عمل ليس بعفوي، بل عمل مبرمج وومنهج من اجل النيل من كرامة الإسلام ومن ينتمون إليه.
كل هذا، وما سيأتي لا حقا، لم يحرك شعرة واحدة في الأمة الإسلامية، وأنا على يقين مطلق، يشابه يقيني بوحدانية الخالق عز وجل، بان المسجد الأقصى لو هدم اليوم أو غدا، وأقيم مكانه الهيكل، فان المسلمين لن يحركوا ساكنا إنكارا أو إنقاذا لمسجد لامس جسد الرسول الكريم، واستمد قدسيته من كتاب الخالق، لا لشيء، سوى أن الخيانة الان انتقلت من طور الصمت والخفاء، إلى طور العلن والمفاخرة، ودليل ذلك أن المجاهد الفلسطيني تحول بنظر العالم العربي والإسلامي إلى إرهابي تطارده الحكومات الإسلامية والعربية، قبل أن تطارده أجهزة الأمن الأمريكية والصهيونية والأوروبية، ودول الطوق خير دليل على ذلك، فكم من شهيد سقط على ارض العرب وهو يحاول اجتياز الحدود لنصرة الحق الفلسطيني.
في زمن مثل هذا، ليس غريبا علي أبدا أن أقرا خبرا في جريدة دنيا الوطن، يتم الإعلان فيه عن تأسيس" المجلس الإسلامي الشيعي في فلسطين ". وقد جاء الخبر بهذه الصيغة:
أعلن اليوم الخميس فى الاراضى الفلسطينية عن تأسيس تنظيم شيعي جديد في فلسطين تحت اسم المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في فلسطين".
وقال محمد غوانمة رئيس المجلس الشيعي الأعلى في فلسطين في بيان " إننا وبأسم الإسلام العظيم ومن قلب فلسطين نعلن عن تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في فلسطين امتدادًا للإسلام العظيم".
وجاء في البيان ان "الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي ركيزة المشروع الاسلامي العالمي على طريق اقامة خلافة إسلامية راشدة وعاصمتها القدس الشريف".
وأكد البيان على أن مشروع التنظيم هو " مشروع إسلامي دعوي " مشددًا على أنها ستكون في إطار " دولة فلسطين حكومة ورئاسة شعبنا.
وأنا أود أن أسأل، لماذا الان، وفي هذه المرحلة الحاسمة يعلن عن ذلك؟ ولماذا يكون الشعب الفلسطيني صاحب حاجة في إنشاء تنظيم شيعي في دولته، علما بان فلسطين لا تحوي شيعيا واحدا منذ تكونت الكرة الأرضية إلى الان؟ ولماذا تم استخدام لفظ "الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي ركيزة المشروع الاسلامي العالمي على طريق اقامة دولة إسلامية راشدة وعاصمتها القدس الشريف"؟ لماذا القدس تحديدا؟ أنا فلسطيني، أحب القدس حبا مضاعفا، ولكني اعرف أننا نحب مكة والمدينة حبا يفوق حبنا للقدس، ونعرف أن مكة المكرمة هي اشرف بقاع الأرض وأطهرها، وأنها أحق بقعة لتكون عاصمة دولة الخلافة الراشدة، وليس القدس الشريف.
أنا لا أناصب العداء للشيعة، ولكني مسلم سني، وعربي فلسطيني، املك حقا مضاعفا في رفض كل شكل من أشكال محاولة تشييع الشعب الفلسطيني وجره نحو إحداث شكل جديد من أشكال الفرقة والتمزق والانهيار، وارفض وبشكل قاطع ان أكون تابعا لدولة يقام فيها مقاما لقاتل اعدل أهل الأرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ارفض وبكل ما املك من يقين وإيمان بالله عز وجل ان أكون تحت لواء، أو تابعا لدولة يقذف فيها صحابة رسول الله بابشع واقسى الجمل، ارفض ان أكون تابعا "لمرجع بشري" لا يأتيه الباطل لأنه معصوم عصمة الأنبياء والرسل.
لماذا في هذا الوقت؟ هناك أسباب كثيرة، ولكني لم اعرف سببا واحدا يصل بالعقل إلى إعطاء من أعلن عن هذا العمل عذرا غير عذر الخيانة.
فإذا كان السبب، ان إيران ستدفع للشعب الفلسطيني الأموال التي أوقفتها أمريكا وأوروبا، فإننا إنما رفضنا الأموال القادمة حتى لا ندفع الثمن من حقنا المضمخ برائحة دماء الشهداء منذ ألاف السنين، فان كنا ضننا على الأعداء بالأرض والحق المادي، فالأولى أن نضن على العالم كله بالتنازل عن خطى الحبيب محمد، وعن كلام الله في الكتاب المكنون. نحن شعب أتقن الصبر والرباط، والانتفاضة الأولى ثم انتفاضة الأقصى هما خير دليل على قدرة الشعب في الصبر والمرابطة إرضاء لله وتنفيذا وتطبيقا لسيرة الحبيب وخطاه.
وان كنا رفضنا أن نكون عبيدا للنهج الاستعماري التي تقوده أقوى قوة في العالم، ومن خلفها معظم أرجاء الكرة الأرضية، رفضنا ذلك وقدمنا مئات الاف الشهداء والجرحى والأسرى، وصنعنا من جوعنا وقهرنا أملا يدفعنا ويحدونا لان نكون أحرارا نعانق شمس الحرية ورائحة دماء الشهداء وأرواحهم، وربطنا على جوعنا أحزمة الصبر والإيمان بالله العزيز القدير، فإننا نرفض وبأي شكل من الأشكال أن نباع في سوق نخاسة الأموال التي ستغدقها إيران علينا، ونرفض أن نسلم بسنيتنا التي ضربت جذورها بأعماق أعماق عقيدتنا وإيماننا، وان كان وصول حماس إلى السلطة هو الدافع الذي حدا بمن يفكر بتمزيق سنية فلسطين، فان على حماس أن تباشر فورا بالرد الواضح عن موقفها من إنشاء مجلس شيعي في فلسطين، عليها أن تقول كلمتها الواضحة والجلية بهذا الخصوص، عليها أن تقف موقف الإيمان والعقيدة من هذا الحدث، وعلى قادتها جميعا ودون أي استثناء أن يعلنوا موقفهم وقناعتهم من مثل هذا الحدث، بنفس القدر والحجم الذي يعلنون مواقفهم من الاعتراف بالاحتلال أم لا.
إن رئيس الوزراء إسماعيل نية مكلف الان شرعا وعقيدة وإيمانا واحتسابا لله ولرسوله الكريم أن يقف ليعلن انه يرفض وبشكل لا يقبل التأويل أو التحوير إدخال الفرقة العقدية بين أبناء الشعب، وعلى خالد مشعل الذي أثار زوبعة الثبات على المبادىء والثوابت أن يقف أمام أرواح شهداء حماس ليقول الكلمة الفصل في مثل هذا الحدث الجلل والمرعب. عليه أن يخرج من الطائرات والسيارات ليقول وبكل صفاء ونقاء انه لا وجود لمثل هذا المجلس في فلسطين، لان الفكر الشيعي ليس موجود أصلا على قائمة الشعب منذ تكون الأرض ومن عليها، عليه أن يكون شجاعا بنفس الحجم الذي يبدي شجاعته حين يرفض الاعتراف بالاحتلال.
إن للعلماء الحق في إقامة حوارات بين السنة والشيعة من اجل محاولة محو الخلافات العقدية والإيمانية بينهما، لهم الحق المطلق في إنشاء جسور تفاهم بينهم، ولكن ليس من حق أي كان على الأرض أن يقول ويدعي انه ليس هناك أي خلاف عقدي بيننا وبين الشيعة، هناك خلاف كبير ممتد، نتمنى زواله، نتمنى التخلص منه، ولكننا لا نقبل ولا نرضى من اجل حفنة مصالح سياسية أن نضحي بسنيتنا في فلسطين، لن نقبل ولا تحت أي ظرف أو مسمى أن نعلن العداء للوهابية والسلفية، نحن قوم نعشق إيماننا، ونعشق الرجال الذين شكلوا تاريخنا، نحب عبد الله بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، نحبهم كصحابة رسول الله فقط، ولا نزيد على ذلك شيئا، نحبهم كما امرنا أن نحبهم، ولكننا لا نقدس أحدا منهم، هم سلفنا الذي نباهي ونفتخر بأننا خلفهم وذريتهم، ولا نزيد على ما امرنا الله به شيئا.
للعلماء حقهم، ولنا نحن حقنا، لنا أن نرفض التخلي – وبكل جرأة وصراحة وقوة – أن ننتقل من مذهب الرسول الكريم وصحابته إلى مذهب اخر، لنا الحق المطلق وغير المحدود في رفض أي مستحدث يقود الشعب نحو طائفية نحن بمنأى عنها، لنا الحق المطلق وغير المحدود في رفض صياغة فرقة سينتشر وبالها على الأجيال القادمة.
السلطة الفلسطينية، حركة حماس، حركة فتح، حركة الجهاد، جميع الفصائل عليهم الان وبسرعة أن يقفوا أمام هذه الخطوة التي ستمزق وتفتت الشعب إلى طوائف.
وعلى حماس تحديدا أن تعلن اليوم قبل غدا، عليها أن تعلن انه لا صلة بها بهذه الخطوة، بل وعليها أن تتصدى لهذا المشروع المخيف والمرعب تصديا يجعلنا نثق ونؤمن بنواياها المستقبلية، خاصة وان مؤسس المجلس ربط بين فوز حماس في الانتخابات وبين الإعلان عن إنشاء المجلس. إسماعيل هنيه يقف يوميا أمام عدسات الكاميرا ليجدد ويؤكد للشعب التزامه بالمبادىء والثوابت، عليه أن يعلن جبرا لا اختيارا موقفه من هذا الحدث المهول، وعليه أن يشرح ويبين كيف سيتصدى لهذا الأمر.
وعلى محمود عباس الرئيس أن يقف ليحاسب إسماعيل هنيه إذا لم يحسم هذا الأمر سريعا.
وعلى الشعب الفلسطيني من أقصاه إلى أدناه، أن يحاسب حماس ويحاسب السلطة وفتح والجهاد، وكل الفصائل عن تقاعسهم في رد خطر داخلي سيداهم الأجيال القادمة.
وعلى الجميع أن يذكر أن مصلحة الدين فوق مصلحة الوطن، وان هناك إلها لا يقبل الأعذار والأسباب الواهية، لأنه اعلم بالنوايا والسرائر.
وأنا أقول، اللهم إني بريء مما يحدث، اللهم إني بريء مما يحدث، اللهم إني بريء مما يحدث.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 9-4-2006
رد مع اقتباس
