أحدث المشاركات

نظرات في رِسَالَةٌ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» برق الخاطر ... قسم جديد لأعضاء واحة الخير» بقلم د. سمير العمري » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الثعبان الأقرع يداهمني في المنام بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» بعض الحزن موت وبعضه ميلاد.» بقلم ناديه محمد الجابي » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» الغاية لا تبرر الوسيلة» بقلم جلال دشيشة » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» أمات العربُ؟» بقلم غلام الله بن صالح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» غار النصر في غزة» بقلم احمد المعطي » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» رواية قنابل الثقوب السوداء .. مسلسلة. التالي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» الموشحات الكشكية 1'2'3» بقلم محمد محمد أبو كشك » آخر مشاركة: محمد محمد أبو كشك »»»»» في شارع واحد» بقلم عبدالحليم الطيطي » آخر مشاركة: عبدالحليم الطيطي »»»»»

النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: النص الكامل لرواية «حكايات الفصول الأربعة» للروائي الكبير محمد جبريل

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي النص الكامل لرواية «حكايات الفصول الأربعة» للروائي الكبير محمد جبريل

    النص الكامل لرواية «حكايات الفصول الأربعة» للروائي الكبير محمد جبريل
    .................................................. .................................................

    " أن تعيش كى تموت فحسب ، هو أمر لا يبعث على السرور "
    تشيخوف





    (1)
    تشرد عيناك فى تلاقى البنايات والسماء والأفق ..
    شمس الضحى تصبغ الواجهات والأسطح والمدى . أسراب الطير تلتمع فى وهج الأشعة كنثار الفضة . تحط على الأمواج ، تلتقط الأسماك ، ثم تعاود الطيران . الفلوكة الصغيرة تتمايل وهى تجر الطراحة فى عومها المتباطئ . أصداء إيقاع الأمواج تنداح على الشاطئ . أصوات الطريق شاحبة من وراء النافذة الزجاجية المغلقة ..
    حين ترامى صوت من الطوابق التحتية : المصعد معطل ، اصطدم كل ما أعددت له نفسك بحائط مسدود . لم تعد تملك التصرف الذى يصلك بالأماكن التى كنت تعد نفسك للذهاب إليها فى داخل المدينة ، مقهى التريانون ، مكتبة دار المعارف بالمنشية ، مبنى الغرفة التجارية . تقدم ترجمة تقرير إنشاء منظمة التجارة العالمية . قواعد جديدة ومبادئ للمعادلات التجارية والاقتصادية فى العالم . بدا الفرق هائلاً ـ فى الأرقام ـ منذ بدأت الترجمة للغرفة التجارية حتى بلغت الخامسة والسبعين . رحل الأجانب ، فغابت تأثيراتهم . تأتى التأثيرات من الخارج . العولمة ، تعبير لم تقرأ عنه جيداً . التأثيرات واضحة على الحياة التجارية فى المدينة .
    نزع الجاكت بنية الاسترخاء قرار أملته الظروف ..
    الصعود إلى الطابق الثانى عشر ، لم يعد متاحاً منذ ذلك المساء الذى ارتميت فيه ـ بثياب الخروج ـ على أول كرسى تصادفه فى الصالة . خانك الجسد ، وتهيأ للسقوط .
    همست من بين لهاث أنفاسك :
    ـ الشيخوخة !
    ثم فى كلمات متهدجة :
    ـ تقدم العمر يعطى تأثيراته !
    ربما هى فرصة للانفراد بالنفس ، أو للراحة ..
    لم تعد تجلس إلى مكتبك ، أو تتحرك من موضعك ، إلا بجهد تشعر به وإن حاولت إخفاءه . كأنك تدارى ما يجب ألاّ يعرفه الآخرون . حتى إيناس أخفيت عنها متاعبك . تنشغل بالقراءة ، أو بالترجمة . الطابق الثانى عشر تصل إليه الأصوات من أسفل كالأصداء البعيدة . ربما أدرت جهاز الريكورد بموسيقا بيتهوفن وبرامز وباخ وسترافينسكى . تجتذبك شهرزاد كورساكوف . تنقلك إلى جزيرة مفعمة بالحنين والشجن . تنعزل عن كل ما حولك ، وتغيب أصداء حركة الطريق . لا شىء ، إلا القراءة والترجمة .
    قلت للطبيب :
    ـ حتى الفيتامينات لا تساعد على استعادة نشاطى القديم ..
    قال الطبيب مداعباً :
    ـ العطار لا يصلح ما أفسده الدهر ..
    ثم احتواك بنظرة مشفقة :
    ـ ماذا تقول أم كلثوم ؟
    ثم بصوت مترنم :
    ـ عايزنا نرجع زى زمان .. قول للزمان ارجع يا زمان ..
    وأعاد السماعة الطبية إلى موضعها على المكتب :
    ـ تقدم السن له أحكامه يا سيد رفعت ..
    أعدت ما قاله الطبيب على أنور عيسى فى الغرفة التجارية ..
    أذهلك تأمينه على كلمات الطبيب : يصبح المرء ـ بالشيخوخة ـ بيتاً آيلا للسقوط . ما يفعله الأطباء أشبه بعمليات الترميم ، فيتأخر سقوطه ، لكنه يعانى خطر الانهيار فى لحظة ما متوقعة . بواعثه لها تسميات عدة : أزمة قلبية ، ارتفاع فى ضغط الدم ، ذبحة صدرية ، هبوط فى الدورة الدموية ، التهاب رئوى ، وغيرها من المسميات التى تمثل أنفاقاً إلى الموت !. ماذا لو عرف المرء موعد موته ؟ هل يعد له نفسه ، أو يموت فى خوف الانتظار ؟
    تحدث عن آلام الساقين . همس بتخوفه من أن تلزمه البقاء فى البيت :
    ـ هل أضيف جلسة القهوة إلى رصيد الذكريات ؟!
    تدور نظراتك فى الشقة ، كأنك تراها للمرة الأولى ..
    الصالة المربعة ، تناثرت على مساند الفوتيلات والترابيزات الصغيرة وسطح التليفزيون قطع بيضاء مستديرة من الكروشيه . فوق الأرفف مجلدات قديمة تآكلت أغلفتها . تتوسط السقف نجفة تتدلى منها عشرات اللمبات البلحية الشكل . على البوفيه شمعدان من الفضة ذو فروع ثلاثة . على الجانب الأيسر ـ قبالة الشرفة المستطيلة ، والنافذة ـ حجرة تطل على البنايات المجاورة . على الجانب الأيمن طرقة قصيرة تفضى ـ من ناحية ـ إلى المطبخ والحمام ، ومن اليمين ، وفى المواجهة ثلاث حجرات متلاصقة ..
    مدحت ـ شقيق رئيفة ـ هو الذى دلّك على هذه الشقة ..
    أدهشك موقعها المطل ـ فى طابقها الثانى عشر ـ على شبه جزيرة الإسكندرية . البحر من الجهات الثلاث والكورنيش والبيوت والجوامع والساحات والشوارع والأسواق . لما خصّت إيناس أمها بالسر الذى أخفته عن الجميع ، طالبت رئيفة بحجرة لإيناس لا يشاركها فيها أحد . شقة شارع فرنسا ذات الحجرات الثلاث لم تكن تسمح بذلك . حجرة لكما ـ رئيفة وأنت ـ والثانية للأبناء الثلاثة ، والثالثة للسفرة ، والصالة للاستقبال ..
    وأنت تميل من شارع الغرفة التجارية إلى شارع الإبيارى ـ ثالث أيام انتقالكم إلى العمارة ـ تنبهت إلى أنها تحتل الزاوية نفسها التى كانت تحتلها سينما كونكورديا . موقع سينما كونكورديا نفسه قبل هدمها ..
    اكتفيت بالقول لرئيفة :
    ـ هذه البناية فى موضع دار سينما ، شاهدت فيها الكثير من الأفلام الأجنبية ..
    الشقة الجديدة اكتشاف أسعد الجميع ..
    تحدثت رئيفة عن الأحلام التى تحققت ، بالأبناء الثلاثة ، وبالشقة المطلة على الكورنيش ، وبالمساحة التى تزيل الحرج . استقلت إيناس بحجرتها ، وإن اعتادت جلوسك على مكتبها فى أوقات المدرسة . تلاشى الحرج فى حياة الولدين داخل حجرتهما . ألصقا على الجدران قصاصات من صور المجلات : جيمس دين وألفيس بريسلى ومارلين مونرو وإستر وليامز وعبد الحليم حافظ وشادية وصباح . لم تعن بالسؤال ما إذا كان هانى أو مسعد هو الذى ألصق الصور ، وإن اتفقا فى حب الموسيقا والغناء ومشاهدة الأفلام . المكتبة الخشبية الصغيرة ـ فى ركن الحجرة ـ خلت إلا من الكتب الدراسية . لم يكن بينها ما تتعرف به إلى نوعية قراءاتهما . نقل التليفزيون من حجرة السفرة إلى الصالة الواسعة ، المطلة على البحر .
    لما نظرت ـ للمرة الأولى ـ من نافذة الطابق الثانى عشر ، أحسست بدوار ، وما يشبه الميل إلى إلقاء نفسك . أدركت أنك تعانى عقدة الخوف من الطوابق العليا ..
    اكتفيت ـ فى الأيام التالية ـ بالنظرة الخاطفة السريعة . ثم ألفت المشاهد دون أن تشعر بالدوار ، أو بالميل إلى إلقاء نفسك ، أو تغادر موضعك ..
    أدرت الريكوردر ..
    ليلى مراد . ماتت أمس . لم تغادر الشقة . أسلمت الذهن ـ بالأغنيات الجميلة ـ إلى شرود ، وذكريات ، وملامح مختلطة ، ومتشابكة . الماضى المجهول ، وقفت أمام شباك التذاكر فى سينما محمد على ذات النسق المعمارى الإيطالى . مشاعرك تختلف عن مشاعر حدثتك عنها رئيفة . أهملت إشفاقك على حملها فى أول الأبناء . أحبت ليلى مراد منذ " يحيا الحب " . رويت حكايات عن أحمد سالم ، استفزت فضولك لمشاهدته . أحببت أغنيات ليلى مراد لحب رئيفة لها . أحببت كل ما أحبته ..
    قالت :
    ـ فلنأخذ إجازة فى مرسى مطروح ؟
    ـ لا بأس بالإجازة .. لكن لماذا مرسى مطروح ؟
    وشى صوتها باللهفة :
    ـ أزور شاطئ الغرام !
    يرافق انحسار أشعة الشمس من داخل الحجرة صوت الأذان من مسجد قريب . لا تحدد مسجداًُ ، فالأذان يرتفع حتى من الزوايا الصغيرة ، والحصير المفروش داخل الحدائق ، وفى المساحات الخالية بين البنايات ..
    تقف وراء النافذة الزجاجية المطلة على المينا الشرقية . فى مدى الأفق مبانى السلسلة ، و حاجز الأمواج المتصل ـ فى الناحية المقابلة ـ بقلعة قايتباى . لا نهائية أفق البحر إلى ما بعد المصدات بين السلسلة وقلعة قايتباى . تهبك الشعور بالامتداد . تغيب اللحظة فى توالى الأمواج من نقطة غير مرئية . تذوى ـ فى سطح المياه العريض ـ احتمالات القلق . يغيب حتى الإحساس بالعمر ، يفقد الاتصال بين ما قبل ، وما بعد ..
    لما اقتحمتك نظرات الرجل ذو الشارب الأشيب ـ قبل أن تصبح السلسلة منطقة عسكرية ـ أعدت التلفت لتواجهك النظرة التى كأن الرجل خصّك بها . كنت فى التاسعة والعشرين . تناثر فى المكان جنود يمتشقون الأسلحة ، ودبابات ..
    ـ حاول أن تقف بعيداً ..
    حدجته بنظرة مستفهمة :
    ـ لماذا ؟
    ـ المدينة فى حالة طوارئ ..
    تستعيد ـ بعفوية ـ أحداث الليلة السابقة : الدبابات تهدر على طريق الكورنيش . المسافة قصيرة من البيت القديم بالحجارى إلى الطريق . أربع أو خمس دبابات يتقدمها ، ويتبعها ، موتوسيكلات ولوريات تحمل جنوداً ، أمسكوا بالبنادق والمدافع الرشاشة . تشق طريقها ـ وسط الجموع الواقفة ـ إلى سراى رأس التين . أعداد من عمال ورش المراكب ، والصيادين ، والمطلين من النوافذ ، والواقفين على أبواب البيوت والدكاكين ، والمارة . يضع الجنود الكردونات أمام الحديقة الواسعة ، ويصطفون . تهمس التعليقات ، وتتعالى ..
    قلت :
    ـ أفلح الجيش فيما عجزت عنه الأحزاب ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ قطف الجيش فى ساعة ما عمل المصريون لتحقيقه فى سنوات ..
    ثم وهو يهز إصبعه :
    ـ لا تظلم من ماتوا أو قتلوا لإسقاط النظام ..
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ احتمال أن يحكم مصرى واحد من أبنائها ..
    قال حنفى جامع :
    ـ هل يتكرر ما حدث فى سوريا ؟
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ أنا لا أطمئن إلى جيش المحمل ..
    وأنت تنظر إلى كامل عبد الرحيم بجانب عينك :
    ـ لعلهم يجبرون الملك على إعادة النحاس ..
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ المهم أن تعود البلاد إلى أبنائها ..
    حين بدأت يومك الأول فى سراى الحقانية ، تذكرت قول أبيك وهو يطوى الجريدة ، ويضعها على الطاولة :
    ـ إلغاء المحاكم المختلطة بداية النهاية لوجود الأجانب فى مصر ..
    قال جابر عثمان ، صديق أبيك :
    ـ أمنية مستحيلة ! إنهم موجودون فى الهواء الذى نتنفسه ..
    حرصت على أن تحضر آخر جلسات المحكمة القنصلية فى 14 أكتوبر 1949 . لم تخف تأثرك لكلمات القضاة والمحامين ، لكنك شاهدت نهاية نظام قضائى دام أربعة قرون .
    الحقانية هى المكان الذى كانت تشغله المحاكم المختلطة . لم يدر فى بالك أن تخلف فيها أباك . عمل موظفاً فى الأرشيف ، وعملت موظفاً فى إدارة الترجمة .
    قال أبوك :
    ـ هل عندك مشوار بالقرب من شارع المسلة ؟
    قلت :
    ـ تقصد صفية زغلول ؟
    ـ ما أذكره هو المسلة ..
    ـ عندى موعد فى التريانون ..
    ـ لم نكن نقصده على أيامنا ..
    ثم وهو يدفع لك أوراقاً :
    ـ هذه نتيجة التحليل .. يريدها الدكتور سيمون ..
    وأومأ برأسه :
    ـ عيادته على ناصية الفلكى والمسلة ..
    ثم وهو يربت كتفك :
    ـ أقصد صفية زغلول ..
    وأنت تحتضنه بنظرة مشفقة :
    ـ هل فقدت الثقة فى الدكتور حسن النجار ؟
    ـ لا بأس به .. لكن الأوروبى أفضل !
    (يتبع)

  2. #2
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (2)
    أغلقت منطقة السلسلة . اختفى التيرو ، والتصويب على الأطباق والحمام . قل ـ إلى حد الندرة ـ سيرك كل غروب على الكورنيش . وجدت فى نصيحة الطبيب بضرورة المشى فرصة للحياة فى التأمل . نصحك بالمشى السريع . لا الهرولة ولا الجرى . يقى ـ فى رأيه ـ من أمراض كثيرة : القلب والسمنة وهشاشة العظام والتهاب المفاصل والاكتئاب والسكتة القلبية . أضاف : السكتة الدماغية هى الأدق . الدماغ يعطى إشارة إلى القلب ، فيسكت . مبعث الإشارة ضغط الدم ، وزيادة الكولسترول ، والإرهاق ، والجلطة الدموية ، وأمراض أخرى أهمل الطبيب ذكرها ، أو أنك شردت عن التقاط أسمائها .
    تمشى من موضع الكورنيش المواجه لشارع الإبيارى إلى قلعة قايتباى ، وتعود . أو تقطع المشوار نفسه فى الاتجاه العكسى إلى السلسلة . تخلى ذهنك للتأمل ، ما يخطر على بالك ، أحداث بعيدة وقريبة ، وتعبيرات ، وتصرفات ، وسحن ، ورؤى ..
    لمحت التفاتة حنفى جامع إلى مسرح الأزاريطة . الألعاب المتوقفة من فوق السور العالى تشى بخلو المكان . حتى الأبواب مغلقة ، وبقايا ليلة الأمس تكومت على جانب الرصيف .
    قال حنفى جامع :
    ـ جئت أمس إلى مسرح الأزاريطة لمشاهدة المطرب الجديد عبد الحليم حافظ .
    قلت لمجرد المسايرة :
    ـ ما رأيك فى صوته ؟
    ـ فوجئت بكارم محمود يغنى بدلاً منه . عرفت أن الجمهور أنزله ـ فى الليلة السابقة ـ من فوق المسرح ..
    واتجه بنظرته إلى أفق البحر :
    ـ رأيى لم يتبدل منذ عشرين عاماً : الغناء هو أم كلثوم وعبد الوهاب .
    ـ وبعدهما ؟
    ـ عبد الوهاب وأم كلثوم !
    ـ وترددك زمان على فرق الكسار والمسيرى وحمامة العطار ..
    ـ هؤلاء نجوم أمام الكوكبين !
    استعاد حكايات أبيه عن منافسات سيد درويش والليثى مطرب بحرى . كانا يغنيان فى قهوتين متجاورتين . خاضا معركة بالأيدى ، فضها الناس ، قبل أن يؤذى أحدهما الآخر .
    وابتسمت عيناه :
    ـ لا أحد يذكر الليثى . الجميع يذكرون سيد درويش !
    وهز إصبعه مؤكداً :
    ـ لا يتذكر الناس إلا من ترك أثراً حقيقياً !
    الصداقة قديمة ، تعود إلى مدرسة رأس التين الثانوية ..
    اكتفى بالبكالوريا . ترقى فى الوظيفة ، حتى أحيل إلى المعاش بدرجة مدير عام . دائم التحدث عن أنه صعد درجة درجة . كل درجة فى وقتها ، لم يلجأ إلى الوساطة ، ولا إلى المزاحمة . قرأ ماجدولين وآلام فرتر وغادة الكاميليا والعبرات والنظرات . حلق فى أجواء من الرومانسية الشفيفة . يقتنى مجلات اللطائف المصورة والاثنين والدنيا ومسامرات الجيب . ملاحظاته أعمق من قراءاته . ربما روى الحكاية أكثر من مرة . يلجأ إلى الإضافة والحذف والتعديل والتغيير . يفاجئكم ـ فى الروايات التالية ـ بما لم تتوقعوه . يحب المناقشات والأخذ والرد . يتذكر أنه دخل فى قافية مع رواد قهوة النجعاوى . ظلت المساجلة حتى أقروا بحضور بديهته . يعتز بأنه لم يتردد فى حياته على طبيب ، وأن تقدم عمره لا يحول دون أن يفتح الزجاجات بأسنانه ، ويكسّر بها المكسرات .
    اقتصرت المسافة من ميدان المنشية إلى انحناءة الطريق فى اتجاه الشاطبى ..
    لم تعد تلتقى ـ فى موازاة الكورنيش الحجرى ـ بأحمد فرغلى باشا وأم كلثوم وتوفيق الحكيم وعشرات ممن تطالعك صورهم فى الصحف والمجلات ، يمارسون رياضة المشى ، ويتأملون مفردات المكان : الشمس الغاربة ، وطيور النورس ، وصيادى السنارة ، والبلانسات المتناثرة ، واللانشات المنطلقة إلى خارج حاجز الأمواج . اقتصرت رؤيتك للبحر ـ فى معظم الأيام ـ من البعد . من الشرفة ، أو النافذة ، المطلة على المينا الشرقية ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ الإسكندرية مدينة . أما القاهرة فمدينة كبيرة !
    قال أنور عيسى :
    ـ إسكندرية زمان كانت أقل مساحة ، وأكثر هدوءاً ، وكان شتاؤها أجمل من الصيف ..
    وزفر فى ضيق :
    ـ الآن .. صارت واسعة ومزدحمة ، ولا تحتمل فى الشتاء ولا فى الصيف ..
    قلت لمجرد أن تشارك فى الكلام :
    ـ لو أنى المسئول عن تسمية هذه المدينة لسميتها سوتر . هو الذى بناها وليس الإسكندر !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ كثر الممنوع فى الإسكندرية . حتى صيد السنارة يواجه مناطق ممنوعة ..
    اعتاد التحسر على الذكريات القديمة . حياة بلا ذكريات لا معنى لها ، لا نقدر أن نزعم أننا عشناها . يعيب على الأجيال الحالية أنها لا تعرف ماذا تريد . هى ترفض لمجرد الرفض . زاوج بين الدراسة والعمل فى الميناء .
    لم يمارس عملاً محدداً : التخليص والتصدير والاستيراد واستخراج التراخيص . تبين ـ قبل أن يحصل على التوجيهية بعام واحد ـ أنه لا يحتاج إلى شهادات ليواصل عمله فى الميناء . لم تشغله السياسة حتى أحزنته إقالة الملك فاروق لمصطفى النحاس . أحس بالانتماء للرجل ، وللحزب .
    لا تستطيع أن تقبض على لحظة واحدة فى مشاعره . قد يطيل التأمل والصمت ، أو ينطلق فى الكلام إلى حد الثرثرة ، أو يبدو عليه الضيق من أية ملاحظة .
    عاب عليه حنفى جامع أنه يتخلى عن هدوئه بلا سبب . يغضب من كل كلمة ، يثور على كل تصرف . ربما أعاد فنجان القهوة إلى بقشة الجرسون لأنه لم يلحظ انسكابه فى الفنجان . حتى الأسئلة التى يشغلها ملء مساحات الصمت ، يجد فيها ما يستحق المؤاخذة . حتى الباعة السريحة استبدل توبيخهم بالنظرة اللامبالية . إذا فاجأه الميل إلى النوم ، تشفق عليه من المغالبة بإغماض العينين ، وفتحهما ، وتصنع المتابعة ، حتى يصعب عليه الجلوس ، فيستأذن .
    قلت :
    ـ الأمن !
    ـ على أيامنا لم يكن هناك باب مغلق ..
    ثم فى نبرة ملمزة :
    ـ ولم نكن نعرف الجماعات الإرهابية !
    ربما تستطيع النزول . تستريح بين كل طابقين أو ثلاثة ..
    ماذا لو ظل المصعد معطلاً ؟ هل تلجأ إلى أحد الفنادق القريبة ؟ هل تتجه إلى بيت إيناس ؟ وهل تتحمل ملاحظات ياسر السخيفة ؟
    قال ياسر :
    ـ لو أنكم ظللتم على رفض زواجى من إيناس ، كنت سأختطفها ..
    رشقته بنظرة غاضبة :
    ـ ماذا ؟
    أومأ برأسه دلالة التأكيد :
    ـ هذا صحيح . لم أكن أتصور لنفسى حياة بدونها !
    لم تدر إن كنت تحزن للعبارة ، أم تسعد بها !
    تحدثت رئيفة عن علاقة بين إيناس وياسر . داخلتك مشاعر غريبة ، غامضة . ما يشبه المفاجأة ، أو الحرج . سرقك العمر ، وإيناس فى سن الزواج . تلاحقت أسئلتك : هل هو زميلها فى الكلية ؟ هل هو جار لنا ؟ هل وافقت إيناس عليه ؟
    اكتفيت بالقول :
    ـ علينا أن نسأل عنه ..
    تركت لموظفى السنيور جويدو مهمة السؤال عن الشاب ..
    تحدثوا عن مشواره اليومى بين الإسكندرية وعزبة خورشيد . ينفق على تعليمه الجامعى من العمل فى مكابس القطن بمينا البصل . وجدت فى الفارق الاجتماعى ما يدفعك إلى رفضه ..
    واجهتك إيناس بما لم تتوقعه ، ما لم تتصوره . استمعت ـ مذهولاً ـ إلى قولها :
    ـ رأى المفتى ليس ملزماً ..
    ـ ماذا تقصدين ؟
    ـ زواجى مسألة شخصية .. لا أطلب موافقة أحد ..
    صرخت :
    ـ تكلمين أباك !
    ـ أتكلم عن مستقبلى !..
    نقلت رئيفة ما لمحت به : لن تنفق على ما ترفضه . همست وهى تخفض رأسها :
    ـ وافقت على طلب ياسر بأن تترك البيت دون حقيبة ملابسها ..
    تحدثت إيناس عن دخل ياسر من وظيفته ، ومن أعمال أخرى ، وعن الشقة التى أعدها فى رشدى ، لا ينقصها شىء . حتى دراستها فى الجامعة ، سيدفع ياسر تكاليفها وحده ..
    تملكتك الحيرة : ترضخ ، أو تواصل الرفض ؟
    ـ زوجتك ابنتى !
    قال بهجت عبد المنعم العبارة ، ويدك فى يده تحت المنديل الأبيض .
    ـ وأنا قبلت .
    رددت العبارة خلف المأذون المعمم . قدم من دكانه الخشبى الصغير قبالة أبو العباس . الجلسة مختلفة . اختلف المأذون فهو يرتدى البنطلون والقميص . لم تختلف العبارتان : أزوجك ابنتى ، وأنا قبلت . شعرت ـ وأنت تردد ما قاله المأذون ـ بطعم المر فى شفتيك . اصطدم رفضك بأفق غائم . تحدثت رئيفة عن الخطر الذى تلوح نذره ، وبكت ..
    كتمت الرفض ، والألم ، فى داخلك . وضعت ما يجرى فى إطار الفرجة . تشارك بما أذنوا لك به : أزوجك ابنتى !. تطلب منه ما لا توافق على أن يطلبه ، لو أنه هو الذى ردد العبارة الأولى وراء المأذون . إذا كانت إيناس قد لوحت ـ بإيعاز ياسر ـ إلى ما لم يدر لك ببال ولا تصورته ، فإن الشاب هو الذى يجب أن يردد العبارة : زوجنى ابنتك !. ترد بالموافقة أو الرفض . لكنك عرضت ما ترفضه ، ومنحك ياسر موافقته !
    لو أن الظروف لم تجبر بدر العدوى على الفرار ، كنت تنزل عنده . تتوق للقائه ، مناقشته فى مشكلات تهمك ..
    التقيت فى صحن أبو العباس المكسو بالسجاد ـ للمرة الأولى ـ ببدر العدوى . لم تكن تعرفه ولا التقيت به من قبل . فاجأتك ملاحظته على تكبيرة الصلاة لركعتى تحية المسجد :
    ـ النية موضعها القلب ..
    واجهته بنظرة متأملة ..
    فى حوالى الثلاثين أو أكبر قليلاً . وجه أسمر مستدير ، وجبهة عريضة . تناثر فى شعر رأسه الأسود شعيرات بيضاء . تطل من وراء النظارة الطبية عينان بنيتان ، فيهما طيبة واضحة ، وإن وضع على وجهه قناعاً من الهدوء ، فلا تستطيع أن تقرأ مشاعره . حليق الذقن والشارب ، وفى خده الأيمن خال أسود . يرتدى بنطلوناً وقميصاً أبيض من البوبلين ذى خطوط زرقاء رفيعة [ أضاف السويتر أو البلوفر فى الشتاء ، لكنه لم يرتد ـ ذات يوم ـ بدلة كاملة ]
    (يتبع)

  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (3)
    نظرة الود فى عينيه اجتذبتك ، فلم تحاول السؤال بضيق ـ كعادتك ـ ولا المناقشة ، ولا الاعتراض ..
    وأنت ترفع كتفيك :
    ـ أفعل كما يفعل المصلون ..
    ـ المفروض أننا نفعل كما يقول القرآن والسنة ..
    ثم وهو يضغط على نظارته :
    ـ العودة إلى أصل الدين تلغى البدع تماماً !
    تحدث عن اختلاط الطريق أمام المسلمين . لا فجوة فى الإسلام بين الدين والحياة . الفجوة تنشأ ، وتتسع ، بقدر الابتعاد عن قيم الدين وشرائعه وشعائره . علينا إعادة الناس إلى دين الله . لكى نعيد بعث الفكر الإسلامى الصحيح ، لابد من إعادة فهم الإسلام ، وإعادة تذكير الناس بهذا المفهوم . يجب العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله . القول بأن الإسلام لكل البشر ، ولكل زمان ومكان ، معناه أن الإسلام ليس ديناً متجمداً . إنه دين متجدد ، متطور . العقيدة الصحيحة توجه السلوك ، وتقومه . لا معنى لطقوس دينية بلا تصرفات شخصية . عدم أداء الشعائر أفضل من الأداء المظهرى ..
    قال :
    ـ لابد أن يعود العقل إلى موضعه الذى أزحناه عنه !
    وضغط على الكلمات :
    ـ الاعتقاد السليم هو البداية الحقيقية لكل أمور الدين والدنيا .
    لاحظ ضيقك بتلويحة الشاب إلى من تغيب ملامحها خلف المشربية ، فى مصلى السيدات المطل على صحن الجامع ..
    فاجأك بالقول :
    ـ الدنيا تتغير . يجب أن نستوعب تغيرها !
    ثم وهو يشير إلى الشاب :
    ـ أيامهم تتغير عن أيامنا !
    وافتر فمه عن ابتسامة :
    ـ عندما نتقدم فى السن نكتشف أن جيلنا أفضل من الأجيال التالية ..
    قلت فى لهجة مستنكرة :
    ـ لم أبلغ الثانية والثلاثين ..
    وهو يومئ برأسه :
    ـ هؤلاء الشبان جيل آخر ..
    ثم وهو يبتسم :
    ـ هذا ما اعتاده المصريون منذ نصائح إيبو وير ..
    أضاف فى لهجة غامزة :
    ـ تذكر تصرفاتك فى سنهم ..
    الرؤى والأخيلة تشعل النيران فى داخلك : احتكاك بجسد أنثوى فى زنقة الستات ، مايوه فوق رمال الشاطئ ، عبارة ذات إيحاءات ، قبلة فى مشهد سينمائى . تعانى القيد ، والمحاصرة ، والجيشان ، والتصورات الوحشية ، والتوق إلى لحظات غامضة . تجرى راحتك باللذة إلى منتهاها .
    قلت :
    ـ لكن هناك اختلافاً حقيقياً بين سلوكيات أيامنا وما نراه الآن ..
    لمحت على شفتيه ظل ابتسامة فاهمة :
    ـ عندما يكبرون سيتغيرون إلى الأفضل ..
    الجيل ـ فى رأيه ـ ساخط ، لكنه لا يدرى سر سخطه ، ولا أين يتجه بهذا السخط . المشكلة فى هؤلاء الذين يجدون زمن شبابهم هو الزمن الجميل . من يصل الكهولة عليه أن يفسح الطريق للجيل التالى ، للأجيال التالية . يعتزل الوظيفة والسلطة وصداقة المستقبل .
    صرخت رئيفة للجرح فى جبهتك ، والدم المتناثر على البلوفر ..
    ـ ماذا حدث ؟
    أشحت بيدك فى استهانة :
    ـ لا شئ . شاركت فى مظاهرات المطالبة بعودة محمد نجيب ..
    ـ إنهم شبان صغار ..
    ـ وجدتنى وسط مظاهرة فانسقت معها ..
    المظاهرات تصب من الشوارع الجانبية فى الميادين . الهتافات تعلو : عاش محمد نجيب . فليعد الجيش إلى الثكنات . أين خالد محيى الدين ؟ . اشتعلت المواجهة بين المتظاهرين وعساكر البوليس . حطم المتظاهرون أعمدة إنارة كتب عليها شعار عبد الناصر : ارفع رأسك يا أخى . تمطت الفوضى فى الشوارع . آثار التدمير على واجهات المحال ، واللافتات الزجاجية ، وأعمدة الإنارة ، وأسلاك التليفون . آثار دماء على السلم الصاعد إلى سينما ريالتو ، فروع أشجار ، قطع أحجار ، كراسى محطمة ، بقايا أقمشة أطفئت فيها النيران ، نثار زجاج متكسر ، إطارات سيارات مستعملة . حتى قصارى الورود أمام " إيليت " بشارع صفية زغلول ، تناثرت ورودها فى الطريق ..
    وهى تمسد شعرك بأصابعها :
    ـ لا شأن لك بهذه المظاهرات ..
    أشحت بيدك مهوناً :
    ـ أنا واحد من مئات ..
    ـ الخروج فى المظاهرات ليس مجاملة ..
    ثم وهى تغالب الانفعال :
    ـ لا تفعل إلا ما تقتنع به !
    بدر العدوى .. أين أنت ؟
    تنفض الرأس بتلقائية ، وتزمع البقاء فى البيت .

    تشعر أن زجاج النافذة المغلق يفصلك عن حركة الطريق . يضعك فى عزلة . تفتح النافذة ، وتدفع الشيش . يندفع الهواء ، فترتفع الستارة . يلتصق طرفها بالسقف ..
    تميز المواقع فى بحرى بمئذنة أبو العباس . ارتفاعها ـ من بعيد ـ وسط البنايات بوصلة يدل اتجاهها على اقترابه وابتعاده من المكان الذى يقصده ..
    اجتذبتك الأغنية ، فرددتها :
    اقروا الفاتحة لابو العباس .. يا اسكندرية يا أجدع ناس
    أهملت نظرة الدهشة فى عينى رئيفة. ترنو إلى انغماسك فى المتابعة ، والنشوة ، وترديد كلمات الأغنية ..
    اندسست بين الواقفين حول المقام . مسحت القضبان الحديدية ، وهمست بالاستغاثة . دعوت بزوال المعاناة ، وتحقق الأمنيات . استعصت الكلمات ، فأعدت ما التقطته من أفواه الملتفين حول المقام . أدركك التلعثم تماماً ، فهمست :
    ـ يا رب .. أنت عارف !
    قال بدر العدوى فى نبرته الهادئة :
    ـ أنت كثير الوقوف أمام المقام ..
    حدقت فى وجهه تتبين مقصده :
    ـ خطأ ؟!
    اختلجت عيناه وراء النظارة الطبية :
    ـ الخطأ هو لمس القضبان الحديدية وهزها ..
    وابتسم ، ربما ليخفف وقع الكلمات :
    ـ حرام أن نتوسل بعظام الموتى أو بالحديد ..
    ثم وهو يربت كتفك :
    ـ اتجه إلى الله !
    لاحظت أن ملامح بدر العدوى خلت من الاطمئنان لحديث إمام جامع أبو العباس ـ فى درس المغرب ـ عن إقامة الحد على مرتكبى الخطيئة : قطع يد السارق ، جلد شارب الخمر ، جلد رامى المحصنات ، جلد الزانى ، ورجمه إن كان متزوجاً .
    قال بدر العدوى فيما يشبه الهمس :
    ـ الدين يسر ، ولكل عصر ظروفه !
    علا صوت خادم الجامع وهو يصفق بيديه :
    ـ الجامع سيغلق أبوابه ..
    قال بدر العدوى :
    ـ لماذا ؟
    قال الخادم :
    ـ الجامع يفتح فقط فى مواعيد الصلاة ..
    أردف وهو يرفق التصفيق بالنداء على المتناثرين فى الصحن الواسع :
    ـ النوم فى اللوكاندات ..
    رفع بدر العدوى نظرة مستاءة ، وأنتما تهبطان الدرجات الرخامية إلى الميدان :
    ـ لم تكن الجوامع تغلق أبوابها فى أى وقت !
    حدثك العدوى عن عمله فى شركة النقل والهندسة ..
    قال لنظرة الدهشة فى عينيك :
    ـ مهنة المرء لا شأن لها باجتهاداته الدينية . كان أبو حنيفة خزازاً ، وابن حنبل تكسّب من استنساخ الكتب ، والصفّار عمل فى بيع الأوانى ..
    وتنحنح ليستعيد وضوح صوته :
    ـ الإسلام لا يعرف رجال الدين ، من جعلوا الدين مهنتهم ..
    ثم وهو يضغط على النظارة :
    ـ إنه يعرف العلماء والمجتهدين !
    ـ أنت إذن عالم دين ؟
    رفع كتفيه ، ومط شفته السفلى :
    ـ لا أنسب لنفسى ميزة !
    لاحظت أنه لم يكن يميل إلى التحدث عن أسراره الشخصية ، أو ما يرى أنه يجب أن يحتفظ به لنفسه . لم يشر إلى ظروفه الأسرية . ردد كلمة " الأولاد " فلم تدرك إن كان يقصد زوجته وأبناءه ، أو أخوة يصغرونه . تعددت لقاءاتكما فى أبو العباس ، فلم يستضف أحدكما صاحبه فى بيته .
    تتابع بعينين غير واعيتين حركة المرور فى نهر الطريق ، والجالسين والمارة على رصيف الكورنيش . تعيد النظر فى الرجل ذى البنطلون والبلوفر والخطوات المسرعة ..
    عبد المنعم فرغلى ؟
    لم يعد ينزل من البيت إلا لأوقات قصيرة فى مكتبه ، أو لقضاء مشاوير عاجلة ، أو للتمشى على الكورنيش ، أو للجلوس على القهوة التجارية . اعتاد قراءة صفحة الوفيات فى " الأهرام " . يسير فى الجنازة إن كان الراحل من الإسكندرية ، أو يكتفى ببرقية عزاء إلى أسر الراحلين فى المدن الأخرى .
    هده الحزن يوم وفاة عبد الناصر . حرص على أن يسير فى الجنازة ..
    عرّفك به كامل عبد الرحيم . نحن نتفق فى الصداقة ، ونختلف فى السياسة . روى أنه شارك أباه فى بيع الشروات من حلقة السمك . ضاق بسطوة المعلمين ، وتخاذل الأب ، ورزق الثقوب الضيقة . تفرغ لمذاكرته ، حتى تخرج فى أول دفعة من حقوق الإسكندرية .
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ لا أفهم سر حبك لبطل النكسة ؟!
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ أحبه لأنه حاول وأخفق . المهم أنه حاول !
    قلت :
    ـ خدعتنا طيلة ثمانية عشر عاماً . كنت أظنك اشتراكى الهوى ..
    واتجهت إليه بالسؤال :
    ـ أكان لابد من موت عبد الناصر ، ليصبح زعيمك بدلاً من أحمد حسين ؟
    قال :
    ـ أنا مصرى الهوى .. وهو ما تحقق فى أحمد حسين ، ومن بعده جمال عبد الناصر .
    ثم وهو يهز إصبعه :
    ـ ولا تنس أن عبد الناصر بدأ حياته السياسية عضواً فى مصر الفتاة .
    يلخص حياة عبد الناصر فى إلغاء الإقطاع ، والإصلاح الزراعى ، وحرب الاستعمار ، وهزيمة حلف بغداد ، والانتصار فى القناة ، والتحرر الاقتصادى ، وإنشاء القطاع العام ، والسيطرة على أموال الشعب ، ومجانية التعليم . يعيب على زعماء ما قبل ثورة 1952 أنهم حرصوا على التمتع بكل لحظة حياة . سافروا إلى الموانى البعيدة ، والقريبة ، وسكنوا القصور ، واستمتعوا بالخدم والحشم والأبّهة . عبد الناصر لم يغادر بيته منذ كان ضابطاً ، واعتبر رؤيته للقاهرة فى الليل جائزة غالية ، قبل أن يودع الحياة .
    (يتبع)

  4. #4
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (4)
    إلى ما قبل لحظات تأميم قناة السويس ، كان يأخذ على عبد الناصر غدره بمحمد نجيب ، اتهاماته ضد الإخوان المسلمين ، وإلغاء الأحزاب ، والتساهل فى وحدة وادى النيل ، وتقييد الديمقراطية ، ومنع من لا يروق له من الاشتغال بالعمل السياسى ، وعدم التفرقة بين المحسوبين لمصر والمحسوبين عليها ، ومظهره الذى لا يوحى بالثقافة .
    كان يستند إلى جدار سراى الحقانية ، ينصت ـ بالفضول ـ إلى خطبة عبد الناصر فى 26 يوليو . فاجأه قرار التأميم . فاجأ آلاف المحتشدين فى ميدان المنشية . انعكس تأثير المفاجأة ـ صباح اليوم التالى ـ فى مصر كلها . أهمل الثقب الخلقى فى قلبه ، وهو يجرى مع المتابعين للموكب ، يخترق شارع الكورنيش إلى ميدان المنشية ، ثم إلى شارع سعد زغلول ، والنبى دانيال ، حتى ميدان محطة الإسكندرية . عبد الناصر هو الرجل ، وحلم السنوات القادمة . استمع إلى خطبته فى جامع الأزهر . أحزنه أنه لم يكن فى القاهرة ليرى عبد الناصر فوق منبر الجامع ، يرفع الشعارات ، ويتحدى ، ويتوعد . حفظ خطبة الأزهر ، وفقرات من خطب المناسبات الأخرى : محاولة اغتياله فى ميدان المنشية ، تأميم قناة السويس . حتى خطاب التنحى ظلت فى ذاكرته فقرات بأكملها : إذا قتلوا جمال عبد الناصر ، فكلكم جمال عبد الناصر . لقد زرعت فيكم العزة ، وزرعت فيكم الكرامة . سنقاتل ولن نستسلم . باسم الأمة : تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية .. لقد قامت دولة كبرى فى هذه المنطقة من العالم ، ليست عادية عليه ولا مستعدية ، دولة تصون ولا تبدد ، تبنى ولا تهدد .. قلت لهم : فلنمهد للوحدة ، لأن الوحدة تحتاج إلى تمهيد . الوحدة مشاكل ، والوحدة امتزاج . قلت لهم هذا ، لكنهم قالوا لى : أين الأهداف التى ناديت بها ؟ أين الأهداف التى أعلنتها ؟ هل تتنكر لهذه الأهداف ؟. قلت لهم : أبداً ، أنا لا أتنكر لأهدافى ، ولكن ليطمئن قلبى .. وستبقى الجمهورية العربية المتحدة رافعة أعلامها ، مرددة نشيدها ، أعان الله سوريا الحبيبة على أمورها ، ووفق شعبها ..
    قال عبد المنعم فرغلى وهو يغالب التأثر :
    ـ لولا ممارسات أعوان عبد الناصر لاعتبرته نبياً !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ حتى جرائمه تنسبها إلى أعوانه ؟!
    قلت :
    ـ الديمقراطية مشكلة حيرت الحكام والمحكومين فى دول العالم المتقدمة والمتخلفة .
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ حكاية زرع العزة والكرامة تكفى لإقالته أو قتله !
    قال حنفى جامع :
    ـ تصورت من كلامه قبل النكسة أن صحته بمب . تحدث عن إيدن الخرع ، ثم ظهر أن جثته لم تكن خالصة !
    قلت متذكراً :
    ـ لماذا أبرز الأهرام صورة زكريا محيى الدين فى مقدمة الجنازة ؟
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ لا تنس أن عبد الناصر رشحه لخلافته بعد التنحى ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ هل هى وراثة ؟
    ورمقه بنظرة مستفهمة :
    ـ وهل يرضى الناس ؟
    قال أنور عيسى :
    ـ منذ متى كان للمصريين رأى فى من يحكمهم ؟!
    يأخذ على المصريين أنهم يمتلكون موهبة صنع الطغاة . يحولون البشر العاديين إلى آلهة معصومين من الخطأ ، ومحصنين ضد الحساب حتى لو كان إلهياً . يفدونهم بالروح والدم ، ويحسنون التغنى بمآثرهم ، والتطبيل لإنجازاتهم ، ويحرقون البخور لذكراهم .
    عبد المنعم فرغلى .. هل هو فى طريقه إلى القهوة التجارية ؟
    الطاولات المتقابلة لصق النوافذ المطلة على طريق الكورنيش . ربما تباعد ترددهم عليها ، لكنهم ظلوا حريصين على لقاءاتهم فيها . رفضوا اقتراحاً ـ أنت صاحبه ـ بأن ينقلوا جلساتهم إلى التريانون أو أتينيوس أو نادى سبورتنج أو نادى سموحة . التجارية هى المكان الذى ألفوا الجلوس فيه كمجموعة . طرف خيط يكرونه فى الأحاديث العفوية ، ربما تقاطعت ، أو تشابكت ، معه خيوط أخرى ، حتى يحل المساء ، فتتهيئون للانصراف ..
    داخلك ما يشبه السعادة ، أو النشوة ، حين اختلف الأصدقاء فى القهوة التجارية حول قضية لا تذكرها . اتفقوا ، واختلفوا . هدأت الأصوات بقول أنور عيسى وهو يومئ برأسه :
    ـ هذا الرجل لا يكذب .. أى الروايات هى الأصدق ؟
    ظل يتردد على القهوة التجارية . لم يصرفه ما بلغه من مكانة . يمارس العادات نفسها ، دون أن يشغله حتى النظرات ، أو الإحساس بالحرج ..
    آخر مغادرتك للقهوة التجارية منذ ثلاث سنوات . بدأ الأصدقاء فى التناقص ، بالموت ، وبالمرض ، وبأسباب شتى . قل ترددك على المقهى ، تباعد ، ثم شغلتك الترجمة فى كتب أعجبتك من الفرنسية والإنجليزية . لم تعد تثيرك الأخبار المهمة ، ولا التى كانت تثير دهشتك . تنزل من البيت للتمشى على الكورنيش ، حتى أول طريق قلعة قايتباى ، أو ـ من الناحية المقابلة ـ إلى تمثال عرائس البحر ، والعودة ..
    قرأ حنفى جامع خبراً فى " الأهرام " . معلم على المعاش يلخص كتاباً قرأه لجمهور من الشباب . يسألونه ـ بعد التلخيص ـ ويرد على أسئلتهم . إضافة إلى حياة ما قبل المعاش ، وفائدة يحصل عليها من يستمعون ـ بواسطة معلم ـ إلى تلخيص الكتاب .
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ ما قرأته نسيته ، وعينى لا تساعدنى على القراءة !
    تأملته بعفوية : تهدل جفناه . بدت العينان تحتهما أشبه بخطين . ظلت قامته على امتلائها ، وإن مال كتفيه إلى الانحناء ، وتناثرت البقع البنية فى ظاهر يديه . جعله امتلاء جسده أميل إلى القصر ، وإن بدا طوله فى جلسته إلى جانب حنفى جامع ..
    قلت :
    ـ منذ بلغت السبعين صرت أراقب نفسى . ألاحظ إن أصبت بالخرف !
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ مادمت تراقب نفسك فأنت فى عز شبابك الذهنى ..
    استطرد حنفى جامع :
    ـ والجسدى أيضاً ..
    حنفى جامع !.. يرفض أن يكون ضيفاً على الحياة ، طارئاً عليها . تحركه رغبة عارمة فى الاستمتاع بها :
    ـ لا معنى للحياة إن لم يعشها الإنسان طولاً وعرضاً وعمقاً :
    حياتنا نعيشها مرة واحدة . نحن لا نملك ترتيب الأيام . لا نملك إلغاء الماضى ، ولا حجب المستقبل ، أو بتره . نوح طال عمره ، ثم مات فى النهاية . لابد أن يموت المرء فى النهاية ..
    لماذا لا نعيش المتاح من حياتنا إذن ؟
    أطرق وهو يعض شفته السفلى بأسنانه :
    ـ بعد الرحيل لن نملك وقتاً للندم !
    يستعيد أعوام انضمامه إلى الطريقة الشاذلية . وجد فى الصوفية خلاصاً مما كان يشغله . قرأ سيرة الرسول ، وسير الصحابة والمجاهدين والأقطاب ، والأوراد الشاذلية ، ودلائل الخيرات . وجلس إلى الشيوخ ، وعكف على العبادة ، والانقطاع إلى الله ، ومجاهدة النفس ورياضتها . ثم هجر الصوفية ـ ذا يوم ـ بلا سبب محدد ..
    همس باعتزازه من الصحو ـ منتصباً ـ كل صباح ..
    كتمت ضحكة قصيرة :
    ـ أشعر أنى شاب .. لكن حركة جسدى لا تساعدنى على هذا الشعور ..
    قال أنور عيسى :
    ـ زمان .. كنا نتباهى ببراعتنا فى المضاجعة ..
    واغتصب ابتسامة :
    ـ أقصى ما نتباهى به الآن براعتنا فى التبول دون عناء ..
    ظلت صداقتكما ، حتى بعد أن تركت أسرته شارع أبو وردة ..
    ترددت عليه فى الوكالة بشارع الميدان . يساعد أباه مع شقيقيه ، ويدرس فى كلية فيكتوريا ، حتى رحل الأب ، فورثوا الوكالة . ظل الإشراف له . زاد من نشاطه . تحققت له مكانة ، بعد أن فاز فى انتخابات الغرفة التجارية ..
    من الذكريات التى لا يمل ترديدها ، أنه ورث الجلوس على القهوة التجارية من أبيه . من أقدم مقاهى المدينة ، ومن أولها فى الإنارة بالكهرباء . الجلوس فيها يشعرنى بالصبا . أظل أنور الصغير الذى يرافق أبيه إلى القهوة ليدعوه إلى زجاجة " تسيباس " ساقعة .
    تبدى ملاحظة عن اختلاف ارتدائه للجينز والقمصان المشجرة ، أو الكاروهات الملونة ، مع البدلة الكاملة ورباط العنق . يرد : لكل وقت زيه . هذا هو معنى الأناقة . أميل إلى النحافة والقصر . تكسو وجهه القمحى ابتسامة طفولية . له حاجبان خفيفان ، وتطل من عينيه بساطة وعفوية . حركاته طبيعية وغير متكلفة . يلجأ إلى التعبير باليدين ، وبملامح الوجه والرأس . زحف الصلع على مقدمة رأسه ، وخط الشيب فوديه . تفتر شفتاه عن أسنان صغيرة لامعة . إذا ضحك ، فبجانب فمه ، وليس بفمه كله . يضع فى خنصره خاتماً كبيراً من الذهب ، يتوسطه فص من الياقوت . يمتلك قدرة مذهلة على الحكى . يلتقط طرف الخيط من حيث لا تراه . يكرّه فتغيب النهاية ، وإن امتلك القدرة على الإنهاء فى الوقت المناسب .
    (يتبع)

  5. #5
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (5)
    ألفتم سؤاله عما تحتاجون إليه من رحلاته فى الخارج . يكتب ما تريدون فى نوتة صغيرة ، هو ـ فى الأغلب ـ دواء يغيب عن صيدليات الإسكندرية . تبدو أوروبا جزءاً من حواراته . أجمل ما فى الحياة متعة السفر . أنت تسافر فتشاهد ، وتسمع ، تشعر بالمتعة . يتحدث عن ميدان الطرف الأغر والبيكاديلى والسين والكونكورد وحى سان جرمان وسوهو ومونبارناس والشانزلزيه والكوميدى فرانسيز والكابيتول ومونمارتر وكنيسة نوتردام والبيجال واللوكسمبورج وهايد بارك ومطعم مكسيم بالبساطة نفسها التى يتحدث بها عن ميدان أبو العباس وميدان الحسين والأزهر وباب الجمرك رقم واحد وشوارع الميدان وقصر النيل وشريف ومحطة الرمل وميدان المنشية ..
    قال له كامل عبد الرحيم :
    ـ تتحدث عن مكسيم كأنه العاصى بائع الفول !
    قال أنور عيسى :
    ـ العاصى مطعم الملك فاروق .. لم يكن يتناول الفول إلا منه . أما مكسيم فلا أعرف أن الملوك يترددون عليه !
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ أعجب لتخشّب أعضاء الجسد فى الشيخوخة .. ما عدا عضو واحد يصيبه التهدل !
    قال حنفى جامع :
    ـ كل هذا سيصبح من الماضى بعد استعمال الاختراع الجديد .. اسمه الفياجرا ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ من التحذيرات المصاحبة لاكتشافه ، يبدو أن مخاطره أكثر من فائدته !
    قال أنور عيسى :
    ـ اشتريت من فتح الله التاجر بسوق الترك ما سماه حجر جهنم ..
    ثم وهو يهرش أنفه بظهر سبابته :
    ـ دخلت جهنم بالفعل فى الليلة نفسها ..
    وهز قبضتيه :
    ـ دفعت فى المقلب مائة جنيه كاملة !
    غمز حنفى جامع بعينه :
    ـ رأيت رفعت القبانى يعاكس بنت الجيران من النافذة ..
    قال أنور عيسى :
    ـ ربما يريد أن يثبت لنفسه أنه مازال قادراً على المغامرة ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ بل هو يريد أن يثبت الوهم !
    قلت لتنهى المناقشة :
    ـ لابد أنها جنية بحر لأن نافذتى تطل على المينا الشرقية ..
    يغيظك اقتصار أحاديث القهوة على الماضى ، على ما كان من أحداث عامة وشخصية ، اجترار الزمن الفائت ، مهما يبين المستقبل ـ حتى القريب ـ عن ملامح مغرية . شحب ، أو غاب اختلاط المناقشات ، وتشابكها ، حول قروض البنوك ، وتزوير الانتخابات ، وإحياء الفتنة الطائفية ، وتفصيل القوانين : قانون العيب ، وقانون حماية الوحدة الوطنية ، وعمليات التفجير والاغتيال ، وتسريب الامتحانات ، وجرائم الاغتصاب ، وتفشى ظاهرة الإدمان ..
    ولدت بعد عام واحد من ثورة 1919 ، وكنت فى السابعة حين توفى سعد زغلول . أحدثت تطورات الفترة تأثيراتها فى نفسك . الوفد هو الحزب ، وسعد زغلول هو المعبود . ثم تبدلت المشاعر بمعارك الزعامات ، وإلغاء دستور 1923 ، والقمصان الزرقاء ، والقمصان الخضراء ، والقمصان الصفراء ، وتزييف الانتخابات ، وخيانات الأحزاب ، والأزمة الاقتصادية ، وتدخل قصر الدوبارة ، والحرب العالمية الثانية ، وحادثة 4 فبراير ، وحرب فلسطين ، ومعارك القناة ، وثورة يوليو ، وعدوان 1956 ، ونكسة 1967 ، وحرب الاستنزاف ، وحرب أكتوبر ..
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ هذا هو الوفد الذى تؤمن به .. محمد صلاح الدين كان ضمن السياسيين الذين طالبوا باستقالة عبد الناصر ..
    قلت :
    ـ لم يعد الوفد قائماً لنتحدث عنه ، ومن الصعب أن نضع محمد صلاح الدين خارج إطار الوطنية ..
    ـ الوطنية ليست فى قبول الاحتلال ..
    ـ دعا الرجل إلى استقالة عبد الناصر ليمنع الغزو ..
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ منذ انضم صلاح الدين إلى جمعية الفلاح فى 1951 كشف عن عمالته لأمريكا ..
    قال حنفى جامع :
    ـ العمالة تهمة قاسية .
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ استقال الوزير الوفدى أحمد حسين من الحكومة لينفذ طلب واشنطن بتكوين الجمعية .
    قال حنفى جامع :
    ـ لم يكن محمد صلاح الدين بمفرده . هناك من ينتمى إلى مجلس قيادة الثورة !
    اختفى ـ أو كاد ـ تلاغط المناقشات والنداءات بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والأرمنية واليونانية . ضمّنت السياق كلمة أجنبية . ردتك النظرة غير الفاهمة ، فأعدت نطق الكلمة بالعربية ، بالعامية . اقتصرت اللغات الأجنبية على عمليات الترجمة من لغة إلى أخرى . هذا هو عملك . لم يعد الإيقاع بسرعته القديمة . حل ـ بقلة المراسلات التجارية ـ تباطؤ ، وفترات سكون . انشغلت بترجمات اخترتها ، ولم يفرضها العمل . أضفت القراءة إلى الترجمة . لم تقتصر على الكتب الأجنبية ، ولا على الاقتصاد وحده ، وإنما شملت قراءات فى الأدب والاقتصاد والسياسة والاجتماع والفن التشكيلى . قرأت ما اجتذبك عنوانه ، أو ما أعاره لك الأصدقاء . قرأت لهوجو وراسل وبلزاك وزولا وديكنز وشوبنهاور وجوتة وميلر ومورافيا وتشيخوف وديستويفسكى . حتى بدر العدوى وجدت فى مكتبته ما يحضّك على قراءته : كتب الغزالى وابن عربى وابن رشد وتفسير المنار لرشيد رضا وأجزاء من " فى ظلال القرآن " لسيد قطب ، وكتب خالد محمد خالد . لم تعد الترجمة مجرد وسيلة لكسب العيش . تترجم ما تكتفى بإيداعه أدراج المكتب . يعجبك فتترجمه ، لا يشغلك ماذا بعد ، ولا إن كنت ستدفع به للنشر . الترجمة ليست مجرد استبدال جملة أو كلمة ، بجملة أو كلمة من لغة أخرى . الترجمة روح ومعنى .
    قرأ بدر العدوى ترجمتك لرؤية سارتر فى " الوجود والعدم " . أظهر إشفاقه من ضياع موهبتك فى ترجمة المذكرات والوثائق والتقارير الاقتصادية . إما أن يكسب المرء المال ، أو يكسب موهبته . أعدت ما قاله على أنور عيسى ..
    رسم على شفتيه ابتسامة ساخرة :
    ـ كيف يكسب المرء موهبته دون مال ؟!
    أرجأت ما كنت تنوى تنفيذه : إعادة طلاء جدران غرفة نوم هانى ومسعد ، علاج تشققات الرطوبة فى المطبخ والطرقة ، تجديد دورة المياه ، استبدال الستائر ، شراء مكتبة جديدة لغرفة إيناس . الاستغناء عن قطع الأثاث المكومة فى الشرفة الخلفية ..
    واجهك بدر العدوى بالسؤال :
    ـ لماذا لا تصلى ؟
    ـ أنا أكفى خيرى شرى !
    وحركت يدك بما يعنى أنك قلت ما لديك :
    ـ هذا يكفى ..
    ـ لكن الدين له فرائضه وسننه ..
    ـ أزمعت أن أتعامل مع الله بلا واسطة ..
    بدا عليه استياء :
    ـ دع الله فى حاله ..
    رميته بنظرة مستنكرة :
    ـ هل أنت مبعوث العناية الإلهية لهداية العباد ؟!
    ـ صدقنى .. ضعفنا لبعدنا عن الدين !
    استطردت ، ربما لمجرد الرغبة فى المناوشة :
    ـ والدين يقوى عندما يضعف المجتمع !
    كان يختلف ـ فى تدينه ـ عن تدين الإخوان المسلمين ، وعن الجماعات الإسلامية الجديدة ، وحتى عن تدين الصوفية بطقوسها وشطحاتها . على امتداد صداقتكما ، لم يصحبك إلى شعبة الإخوان المسلمين فى البناية القديمة ، ذات الطابقين ، المطلة على ميدان أبو العباس . لم يحدثك عن انتمائه السياسى ، ولا ناقشته فى ذلك . عمقت الكتب التى أعارها لك من غياب المعنى المحدد . المراجعات ، هذا إسلامنا ، العبقريات ، على هامش السيرة ، حياة محمد ، فى منزل الوحى ، فجر الإسلام ، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ..
    أهمل الإجابة عن سؤالك :
    ـ هل يوجد غروب الإسلام ؟
    أظهر عدم ميله إلى قراءاتك فى كتب الأدب والفلسفة . قصر قراءاته على كتب الإسلاميات . قضايا العالم الإسلامى والمسلمين ، وليس فقه الدين . ثمة ما يشغل علماء الدين ، وما يشغل بقية الناس . العلماء يتعمقون فى دراسة الشريعة وأصول الدين . عامة القراء ـ نسب نفسه إليهم ـ تصلهم القراءات الدينية بين أمور الدين والدنيا .
    لم يتحدث عن علاقة تلمذة ولا صداقة بمن كان أبناء بحرى يعتبرونهم قادة شعبة الإخوان المسلمين فى الحى ، وإن كرر ملاحظته بأن فكر الإخوان لم يعد هو المسيطر . تعددت التيارات والجماعات الدينية . تختلف مع الإخوان فى اتجاهها إلى اليمين أو اليسار . وكان له رأى فى العلوم والتحديث ، هو لا يرفضها إن لم تناقض أصول الدين ، أو تنقلب عليه ، ويحرص ـ دائماً ـ على القول : هذا رأيى الشخصى .. هذا تصورى .. هذه وجهة نظرى ..
    اكتفى بالصمت لعرضك أن تعرفه بأصدقاء المقهى ..
    لاحظت أنه لا يميل إلى جلسات المقاهى . يفضل التردد على الجوامع والمساجد . مجرد الاستناد إلى الجدار ، والقراءة ، وتأمل الفراغ ، أو داخل النفس ، أفضل من أحاديث النميمة .

    ترقب من جلستك داخل الحجرة ـ عبر النافذة المفتوحة ـ قطعة من السماء . يشوب صفاءها غيوم متناثرة . تترامى رائحة البحر . الملح واليود والطحالب والأعشاب . تنتشر فى الجو . يعبق بها بما لا يخطئه أنفك .
    اعتدت الأوقات التى تدخل فيها الشمس داخل الصالة إلى أقصى مداها ، ثم انحسارها حتى التلاشى . تتعرف على الوقت بمجرد النظر إلى الموضع الذى بلغته أشعة الشمس . ألفت الجدران ، والأبواب ، والشروخ الصغيرة ، والأسقف ، والأثاث ، وتهرؤ الملاءات ، وتسلل العثة إلى داخل البراويز ، والتآكل فى أطراف السجاجيد ، واللمبة الناقصة فى النجفة المتدلية من السقف ..
    كان هانى أول من ترك الشقة ، ترك الإسكندرية كلها . مضى بحلم الأمان ، والتنقل بين الموانى والمدن البعيدة . رفض التفكير فى أنه سيمضى بقية عمره فى الإسكندرية . تلاه ـ فى سبعة أعوام ـ مسعد وإيناس ..
    قال هانى :
    ـ حصلت على شهادة التجنيد مقابل حصولى على بكالوريوس التجارة ..
    ثم فى لهجة باترة :
    ـ من حقى الآن أن أرحل !
    كان قد عرف البلد الذى يهاجر إليه ، وأنهى كل أوراقه . الموعد وحده هو ما أبلغنا به . تستطيعون وداعى على باب الشقة ، أو فى المطار ..
    وهو يحاول السيطرة على ارتعاشة صوته :
    ـ حتى لا أتعبكما ، يكفى الوداع فى الإسكندرية ..
    قلبت ـ بعد رحيله ـ أوراقاً ومطبوعات ومنشورات سياحية ورسائل إلى سفارات وقنصليات ، وإلى أصدقاء فى أمريكا وكندا واستراليا . فرد المشهد على اتساعه . تأمل ، وفاضل ، واختار . لابد أنه قد خضع للاختيارات نفسها ..
    أذهلك أنه لم يكن لديه تصور عن الحياة فى الغربة . العمل الذى ينوى السفر إليه . بدت الهجرة هدفاً لا يتصل بأسئلة ولا أجوبة ولا مشكلات يشغله التغلب عليها ..
    قال :
    ـ هناك .. سأشعر بالأمان !
    ـ وهنا .. ؟
    هز رأسه دلالة النفى :
    ـ وطنى حيث أشعر بالأمان ..
    وأنت تنتر الفراغ :
    ـ لا أميل إلى مناقشات التفلسف !
    ـ لا أتفلسف !.. لكن الوطن بلا معنى إن غاب الشعور بالأمان ..
    لاحظت تسلل الانفعال إلى صوتك :
    ـ والميلاد .. والنشأة .. والدراسة .. والانتماء .. هل نسقطها من معنى الوطن ؟
    ـ لا قيمة لأى شئ عندما يقضى على مستقبلى ..
    عاود الحديث عن المشروع ، قبل أن تعطيه المبلغ الذى طلبه ، ويسحب ما أودعه فى البنك . صحبته إلى البيت ذى الطوابق الثلاثة على ناصية سوق راتب وشارع السبع بنات . أطال الكلام والتعبير باليدين وملامح الوجه ، حتى تصورت اللافتة على شقة الطابق الأول : شركة القبانى للتصدير والاستيراد ..
    قال :
    ـ لا يوجد ما يربطنى بهذه المدينة ، ولا بمصر كلها ..
    ـ إذا كنت قد واجهت الفشل مرة ، فلا يعنى هذا أنك ستظل تواجهه ..
    ـ أنا لم أفشل .. لكننى سُرقت ..
    ثم وهو يحاول السيطرة على مشاعره :
    ـ تسلمت البضاعة مغشوشة ، فخسرت كل شئ !
    قلت مهوناً :
    ـ سأساعدك لتبدأ من جديد ..
    ـ من يضمن ألا أواجه ذلك الموقف ثانية ؟!
    رنوت إليه فى انفعاله : ورث عنك الشعر الكثيف ، وإن غلب البياض فى رأسك ، وزحف الصلع إلى جانبى الجبهة ، ولون عينيه العسليتين هو لون عينيك ، والأنف الأقنى ، وغياب الانفعال عن الملامح ، ووضوحه فى نبرة الصوت ..
    قال كامل عبد الرحيم وهو يتطلع إلى أسراب الطير ، المحلقة فى سماء المينا الشرقية :
    ـ لو أنك تغاضيت عن عاطفتك كأب ، فإن لهانى الحق فى الهجرة ..
    اكتفيت بالنظر إليه فى دهشة ، دون أن تبدى اعتراضاً ، أو تحاول السؤال ..
    قال :
    ـ مصر الآن مثل الباخرة الغارقة .. الكل يحاول النجاة بنفسه !
    وحك جبهته بظفر إصبعه :
    ـ الغربة إحساس يعانيه الشباب !
    ثم وهو ينفخ فى كوب الشاى الساخن :
    ـ الفهلوة هى روح العصر ومثله الأعلى !
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ تبدلت الأحوال . كان ركوب المرسيدس فى أيام الاشتراكية تهمة . ركوب المرسيدس الآن يعنى شخصية واصلة ..
    قال أنور عيسى :
    ـ نتيجة كد ، وليس بشراء استمارة حجز الفيات كما حدث فى حرب اليمن !
    قلت لرئيفة مداعباً :
    ـ عدنا إلى ليلة الزفاف ..
    واحتضنت كتفيها :
    ـ لو أن الصحة تحتمل كنا أنجبنا طفل الوقت الضائع ..
    ثم اتجهت إلى عينيها :
    ـ ربما تحتاجين إلى من يؤنس وحدتك ..
    لمحت على شفتيها ظل ابتسامة فاهمة :
    ـ أنت الذى تتصور أنك مازلت شاباً ..
    واتسعت ابتسامتها :
    ـ نصيحتى أن تتفرغ للعبادة ..
    ـ تقصدين التهيؤ للموت ؟
    تهدج صوتها بالانفعال :
    ـ هل تقتصر العبادة على تذكر الموت ؟. أقصد أن عمرك يحتاج إلى تفكير آخر ..
    فوت الملاحظة :
    ـ كنت أحلم بإجازة فى البحر الأحمر أو العريش ..
    وواجهت عينيها :
    ـ ما رأيك ؟
    ـ هل تنوى التقاعد ؟
    ـ لست موظفاً لأتقاعد .. مجرد إجازة قصيرة نصل بها ذكريات جميلة .. قديمة ..
    تلتقط ومضة الابتسامة فى المرآة أمامها ..
    (يتبع)

  6. #6
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (6)
    الحرب تنعكس فى الكشافات المتناثرة على الشاطئ ، وأكياس الرمل المصفوفة بامتداد واجهة سراى رأس التين ، والزرقة تغطى واجهات المحال والشرفات والنوافذ على طول الشاطئ ، توقياً لغارات طائرات المحور . حتى السيارات فى طريق الكورنيش شحبت أصواتها بالزرقة . الجنود الأمريكان والإنجليز والأستراليين والهنود والأفغان والأفارقة ، يسيرون جماعات .
    ظل دخول حديقة السراى متاحاً للجميع ، وإن اجتذبت الفتاتان انتباهك بجلستهما المنفردة . تذاكران تحت شجرة بالقرب من المدخل . جلس تحت الشجرة المقابلة صبى يذاكر ، يبين من تلفت نظراته بينهما وبين المترددين على الحديقة ، أنه قريب لهما . الملاءة مفروشة على الحشائش الخضراء الندية ، تكسو الحديقة الواسعة كحدوة هائلة . تناثر فوق الملاءة كتب وعمود طعام وزجاجة ماء . تكرر ترددك على الحديقة حتى ألفت رؤية الفتاتين ، واعتادا ـ فى عدم التفاتهما ـ رؤيتك ..
    ترامى صوت صفارة الإنذار ..
    التفتت الأعين ـ بتلقائية ـ ناحية مصدر الصوت ..
    الليل توقع الغارات الجوية . تحل الظلمة . تلحس الكشافات السماء . يتوالى إطلاق قذائف المدفعية . تخلو البيوت والشوارع ، وتمتلئ المخابئ والبدرومات والطوابق التحتية . تكتفون بالنزول إلى الطابق الأرضى ، أو تتجهون إلى جامع الموازينى القريب . تثق أمك أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وأن الأخطار تبعد عن أضرحتهم ومقاماتهم . تتعالى أصوات المدافع . تتقاطع التخمينات بين ما إذا كان مصدرها طائرات الألمان ، أم أنها تنطلق من المدفعية المضادة للطائرات ..
    قال أبوك :
    ـ المظاهرات فى القاهرة تهتف : إلى الأمام يا روميل ..
    ثم وهو يضرب كفاً بكف :
    ـ يريدون استبدال احتلال باحتلال . أين شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام ؟ .
    إيماءة الموافقة دفعتك إلى معاونة الفتاتين فى لم الحاجيات ، وصرّها فى الملاءة . البناية المجاورة لقصر أم البحرية أقرب الأماكن للاختباء ..
    قلت :
    ـ ظروف الحرب لا تناسب المذاكرة فى حديقة عامة ..
    فطنت إلى تسرعك فى إبداء الملاحظة ..
    فاجأتك بابتسامة :
    ـ هذا صحيح ..
    وأشارت إلى صديقتها :
    ـ لم يوافق والدها على خروجها إلا برفقتى ..
    وأردفت ضاحكة :
    ـ ولم يوافق أبى على خروجى إلا بصحبة مدحت ..
    حَمّلت ملاحظتك غياب الفتاتين والولد فى الأيام التالية . أحدثت تأثيرها ، فلن يعودوا للمذاكرة فى الحديقة ..
    التقطت ـ بعد غيبة عن المكان ـ تعمد اتجاه ابتسامتها إلى الناحية المقابلة ..
    صادقتها ..
    ألقيت بكل ما بنفسك عند قدميها . أدركت أن فتاة أخرى لن تحل محلها فى قلبك . عدت إلى حديقة سراى رأس التين . تتجه إلى الشجرة الثالثة فى يمين المدخل الواسع . تحاذر برك المياه التى خلّفها رى النجيل . تتأمل الكلمات المحفورة بالمطواة : رفعت ـ رئيفة 1944 . خشيت رئيفة من أن يراها مدحت . أعملت فيها المطواة بحفر متقاطع ، لكن الاسمين لم يختفيا ..
    هل ما تزال الشجرة فى موضعها ؟..
    لما عرضت على أبويك أن تتزوج رئيفة ، سأل :
    ـ من أبوها ؟
    قلت :
    ـ بهجت عبد النعيم .. موظف بوزارة الصحة ..
    اكتفى بالقول :
    ـ هذا شأنك !
    أدهشك أنه لم يسأل عن الملابسات . ثم عرفت أن الرجلين ـ أباك وأباها ـ جليسا قهوة المطرى المطلة على البحر ..
    طبع أبوك بطاقة دعوة زفافك فى مطبعة الخواجة جان لاجوداكيس بشارع شريف . معرفة قديمة . عرض أن يطبعها مجاملة ..
    لم تناقش رئيفة فى قرارها بأن تلزم البيت . أغناك عن الأسئلة ، والمناقشة ، ومحاولات الإقناع ، وربما السير فى رمال مشبّعة بالحصى والماء . لم تحدد أسباب القرار ، وإن قالت إنها اتخذته قبل أن تنهى دراستها الجامعية . فاجأتك ملاحظة أبيها :
    ـ لماذا تخرجت فى الجامعة إذن ؟
    قلت لأزيل ارتباكها :
    ـ رئيفة تفضل رعاية بيتها !
    حدث ما حدث فى لحظات ..
    استغرقتما فترة الصباح فى التنقل بين دكاكين أسواق الخيط والعقادين والمغاربة والصيارفة والخراطين والترك وزنقة الستات . ثم اتجهتما إلى شارع الميدان لشراء احتياجات البيت ..
    اقترحت رئيفة اختصار الطريق فى عودتكما من شارع الميدان . تتقاسمان حمل الحقائب البلاستيك المحملة بالطعام . شارع الصاغة ، ومنه إلى شارع فرنسا ، ثم شارع سنان باشا المواجه لوكالة الأوقاف ..
    أغراكما الهدوء بإبطاء الخطوات ..
    صرخت رئيفة لمحاولة اختطاف حقيبة يدها فى غير توقع . احتضنت الحقيبة بتلقائية . لم تفطن للمطواة التى سددها الرجل إلى بطنها . تأوهت وسقطت . أذهلك ما حدث ، فلم تحاول حتى مطاردة الرجل ..
    أقسى ما فى الأمر أنها ماتت بلا سبب . لم تصب بمرض ، ولا كانت مهيأة للموت على أى نحو . الرجل ذو السحنة المجدورة ، والأنف الأفطس ، والشعر الأكرت ، اختطف حياتها ، سرقها .
    قالت وهى تعدل الأكياس فى يديها :
    ـ سأدعو مسعد وإيناس ..
    أردفت فى نبرة متواطئة :
    ـ إذا كانا قد استقلا بحياتهما ، فإن بيت شارع الإبيارى سيظل بيت العائلة ..
    عدت إلى البيت من مقابر المنارة . زيارات المعزين شغلت اليومين التاليين . ثم استأذن مسعد وإيناس ، ومضيا ..
    واجهت الوحدة فى داخل الشقة ..
    أضأت الشقة كلها . ضغطت على كل الأزرار . لم تكن تخاف الظلام ، واعتدت النوم دون إضاءة من أى نوع . الهاجس فى داخلك ـ لا تعرف بواعثه ـ دفعك إلى الرقاد فى النور . حتى الأباجورة الصغيرة جنب السرير ، حرصت على إضاءتها . أخفقت فى استدعاء النوم ، ربما للإضاءة العالية ، أو للأفكار التى ملأت ذهنك ، أو لإحساس المحاصرة والوحدة . سحبت كتاباً ، تصفحته بقراءة غير متأملة ، وأعدته .
    ماذا قرأت ؟ وماذا كنت تنوى قراءته ؟ وما الذى سترحل قبل أن تتصفحه ؟
    لم يعد الزمن يتيح لك حسابه بالأعوام . بعد عامين ، أو بعد ثلاثة ، أو عشرة . الفترة القادمة ـ غير محددة الزمن ـ هى ما تستطيع التحدث عنه . تتوقع اللحظة ، وإن ظلت فى إطار التوقع ، لا تدرى متى ، ولا كيف ؟
    وقفت وراء النافذة تطل على الظلمة التى غابت فيها أمواج البحر . أدرت مؤشر الراديو على البرنامج الموسيقى . أكثرت من التقلب ، ومن تأمل تكوينات الظلال ..
    تحدث حنفى جامع عن الضوء الذى يصدر عن الشقة فى الليل . رآه وهو يتمشى مع زوجته على الكورنيش . زمان ، كنت ـ كما تعرف ـ بطلاً فى الجمباز . رياضتى الوحيدة الآن هى التمشى على الكورنيش !.. هل تخاف النوم بمفردك ؟. لم ترد على السؤال ، وإن أطفأت نور الصالة . ثم استغنيت ـ فى الأيام التالية ـ عن إضاءة باقى الحجرات . لم تعد تخاف البقاء وحيداً ..
    ظللت شهوراً ـ بعد رحيل رئيفة ـ تتنفس الموت فى هواء الشقة . تطالعك فى السرير ، وعلى كنبة الصالة ، وداخل المطبخ . قاسمتك النهار والليل . تشعر بوجودها لحظة فتح باب الشقة . تراها جالسة على طرف السرير ، تثبت الغسيل فى منشر النافذة الخلفية . وهى قادمة من الطرقة إلى الصالة . وهى تتكلم ، تسأل ، تقاطع ، تحزن ، تبتسم ، تضحك . تطالعك فى توالى اللحظات . تحاصرك . حتى صوتها يملأ اتساع الشقة . حتى عطرها المفضل كنت تتشممه كنسائم متطايرة فى حجرة النوم . تلتفت ـ بتلقائية ـ إلى السرير ، أو الكرسى المذهب الصغير أمام التسريحة ، أو الدولاب الممتد بعرض الحائط . تتوقع أن تكون رئيفة هنا ، هناك ، وأنها تهبك العطر الذى تحب رائحته ..
    كنت قد جاوزت الخامسة والخمسين ، لكنك أدركت معنى اليتم . أنساه لك مرور أعوام على رحيل الأبوين . تواصلت حياتك بالونس فى رفقة رئيفة ، قبل أن تغيبها طعنة شريرة لا معنى لها ..
    لو أن الرجل هدد رئيفة : حقيبتك أو أقتلك ، لأعطته الحقيبة بنفسها ، أو لأعطيتها أنت له . كل شئ بلا معنى أمام الموت ..
    تحايلت رئيفة ليلة تشييعكما جنازة أبيك حتى أعادتك إلى نفسك . تجاوزت السؤال عن معنى أى شئ ، وإن انخرطت فى نشيج . احتضنتك . لامست جبهتها ذقنك :
    ـ لا يسعد المرحوم أن تقتل نفسك من الحزن !
    عاودت احتضانك ، فأعادتك إلى نفسك ..
    لم يخطر فى بالك أن الموت يختطف رئيفة . تغيب عن حياتك ، دون أن تبين عن المشاعر التى تحيا فى داخلك . ربما ـ لو أنك تعرف ـ كنت تقول لها كلاماً كثيراً : أنا أحبك .. أنا لا أتصور حياتى بدونك .. أنا أنشغل بعملى فأهمل الجلوس إليك . شوشت المفاجأة القاسية ما كان قد استقر فى وجدانك من تواصل حياتكما . ما يختلف عن ذلك هو المستحيل ، وما لم تكن تتوقعه . الإحساس ممض بالفقدان والوحشة . تهبط إلى الطريق . تعبر من الرصيف إلى الرصيف المقابل . تخترق زحام المارة والسيارات والحنطور . تتشاغل بالنظر غير المتأمل لفاترينات الدكاكين وقعدات المقاهى و"ستندات " الصحف . همك تبديد مشاعر العزلة والوحدة والمحاصرة .
    أهملت قول حنفى جامع وهو يمط شفتيه للحزن المرتسم على شفتيك :
    ـ الموت سيحصدنا جميعاً . كل واحد يبكى على من سبقوه .
    ثم وهو يفتعل ابتسامة :
    ـ الأفضل أن ننسى البكاء ، ونستمتع بما يتاح لنا من حياة ..
    أشفقت على إيناس من تكرار إعدادها لطعامك . حرصت ألا يقتصر ترددك على مطعم نصار أسفل البيت . عرفت الطريق إلى مطاعم وسط البلد ، والمطلة على الكورنيش . فى المنطقة ما بين المنشية والشاطبى : نصار ـ أسفل البيت الملاصق المواجه للبحر ـ ومصطفى درويش وتافيرنا والشرق وبستروس وإيليت وسى جيل وأتينيوس ودنيس واستيريا وسيد درويش وغيرها . تقتصر على الغداء وحده . أكلت بشهية ، وتذوقت ، وتركت الأطباق على حالها . لاحظت أنك طلبت الأطعمة التى كانت تحبها رئيفة . ألوان من الأطعمة لم تتذوقها منذ طفولتك . تأكلها بمفردها ، ولا تدعوك لمشاركتها . تعرف ما تفضله ، وما تعتذر عنه . حتى الجندوفلى التى كانت توصيك بشرائها من سوق راتب ، بدت لك شهية ، بعد أن صارت ـ للمرة الأولى ـ جزءاً من طعامك . تستدعى ملامح رئيفة وهى تنزع الصدفة عن الجسد الرخوى ، وتدسها داخل الفم المفتوح بما يكفى حجم الشوكة الصغيرة . تهمل الرائحة ، وتكتفى بتوهم التلذذ الذى كانت تشعر به رئيفة . ربما أكلت ـ على الواقف ـ ساندوتشات فول وطعمية من جاد أو محمد أحمد . فى الإفطار والعشاء تأكل ما تجده فى الثلاجة . جبن وزيتون وبسطرمة ولانشون وزبادى ومعلبات . لم تعمد إلى تسخين أى طعام . ما تجده فى الثلاجة تضعه على المائدة ..
    كانت رئيفة ترفض مجرد دخولك المطبخ . عملك الترجمة ، ومسئوليتى البيت . منذ قدمت إيناس بأم محروس الشغالة ، تركت لها مهمة ترتيب البيت ، وغسيل الملابس ، وإعداد الطعام . تظل خارج البيت نهار الاثنين . بعد المغرب تولج المفتاح فى الباب . قد تضغط على الجرس . تتنبه إلى أن رئيفة ليست فى الداخل . يطالعك الهدوء والصمت والنظافة والترتيب . " إننى أعيش وحيداً ، كما سأستلقى وحيداً فى قبرى " . استوقفتك عبارة تشيخوف . أعدت قراءتها . طويت الكتاب ، وشردت فى رؤى غائمة ..
    قال أنور عيسى :
    ـ هذه العزلة خطأ ..
    ورفع رأسه ، كأنه توصل إلى قرار :
    ـ أنت فى حاجة لأن تحيا وسط الناس ..
    واتجه ناحيتك بنظرة متسائلة :
    ـ لم تعد تتردد على القهوة التجارية ؟
    قلت فى لهجة باترة :
    ـ لا !
    ـ لماذا ؟.. نحن نتردد عليها ..
    ـ أعطاك الله العمر . الغربال الذى يسقط الأصدقاء واسع الثقوب . معظمهم ـ كما ترى ـ ماتوا أو حبسهم المرض فى البيوت !
    (يتبع)

  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (7)
    لم تعد قادراً على زيارة المستشفى . يتملكك التوتر لمجرد دخولك الصمت ، والسير فى الطرقة الطويلة ذات الأرضية الرخامية . على الجانبين أبواب مغلقة ، ومنفرجة ، ومفتوحة . تتوالى الأرقام . تلمح الأسرّة ، والمرضى ، والزوار ، والأطباء ، والممرضات ، والبياض الذى يكسو كل شئ . تشعر أنك فى المستشفى ، فأنت قريب مما يشغلك تصوره . لابد أن المشرحة فى داخل المبنى . المشرحة جزء من أى مستشفى . لعلك سرت بالقرب منها دون أن تدرى ..
    تتأمل التسمية : وحدة العناية المركزة لمرضى القلب . تقف وراء النافذة الزجاجية الملاصقة . يقتحمك رؤية ما لم يدر ببالك ، ولا تصورته : الأسلاك والخراطيم تحيط بالصدر العادى . تدخل فى الأنف وبين الشفتين . فرج سباعى يمتصه المرض . تكسوه صفرة شبحية تؤلمك . نحف جسده ، وتبدلت ملامحه ، وغامت نظراته ، وتدلى أنفه ، وأحاطت الهالات السوداء بعينيه . لم يعد هو . كان قد لزم البيت منذ تبين حاجته إلى مساعدة للقيام من الكرسى . نحن السابقون . عبارة تقال عند الموت ، لكنها يجب أن تقال فى الحياة أيضاً .
    ما قيمة الحياة إذا أرهقها المرض ؟ إذا امتصها قطرة قطرة ، فتذوى ، وتنتظر النهاية ؟! هل ولد الإنسان ليموت ؟ ما معنى الميلاد ؟ وما معنى الموت ؟ وما معنى الحياة التى ـ مهما تطول أو تقصر ـ فهى لابد أن تنتهى ؟.
    قال أنور عيسى :
    ـ إذا أنت لم تؤمن بالموت ، فأنت لا تؤمن بالحياة الآخرة !
    أنت تعرف الحياة ، لكنك لا تعرف الموت ، وإن كنت تدرك تأثيراته فى الطقوس المفضية إلى المجهول والعدم ، المقدمات التى تسبق الموت ، وترافقه . يبدو أمنية قبل أن تروح فيما لا تعرفه ..
    تنفض رأسك من التفكير فى أن عمرك القريب من عمر فرج سباعى يمضى بك إلى هذه الصورة القاسية . هل لابد للشيخوخة من أعراض ؟ وهل هذا هو ما ستؤول إليه حياتك فى النهاية ، مجرد أنفاس تعانى اللهاث ، وتعتمد ـ لتواصل انتظامها ـ على مساعدات قد لا تريدها ؟ . تزعجك فكرة أن تقضى بقية حياتك مستنداً على أيدى الآخرين ، أو جالساً على كرسى متنقل ، أو ضيفاً ثقيلاً يتمنى له أعزاؤه الرحمة . تسلطت عليك فكرة أن يفاجئك الموت وأنت بمفردك فى الشقة . التربى يؤدى أخطر الأدوار فى حياة الناس ، لكن الميت قد لا يعرفه ـ فى حياته ـ أو يلتقى به . المرء يرحل وحيداً ، ينزل القبر وحيداً ، يعانى الظلمة وحيداً ، وإن يحرص ، يتمنى ، ألا يموت وحيداً .
    قال أنور عيسى وهو يدفع إليك بأوراق :
    ـ ألا تتعاطى دواء لهذه الارتعاشة فى يدك ؟
    لم ترد ..
    تدرك أن الارتعاشة وليدة ضيق . تكتم ما بداخلك ، فترتعش يدك .
    تتقبل اتساع الفجوة بينك وبين الناس . حتى الأصدقاء القدامى لم يعد يستوقفك غيابهم عن حياتك . الدنيا تلاهى ، تقولها ، وتستمع إليها . حتى العبارات التى تشكل طقساً ، لم تعد تتوقعها ، ولا يتوقعها من غبت عنه . تحت النظر ، خليك فوق النظر وبان . يجرفك امتداد اللحظات . تشعر أنك وحيد كما لم يحدث من قبل . تغطيك أمواج الوحدة تماماً . يحدث ما يذكرك برئيفة : مشهد ، أو كلمة ، أو تصرف ، أو أغنية . يطالعك الوجه الأبيض المدور ، والعينان الباسمتان ، والأنف الدقيق ، والشفتان المكتنزتان ، والبشرة الخالية من أدوات الزينة ، والإيشارب الملتف حول مقدمة الرأس ، يبين منه الشعر الفاحم المنسدل على الكتفين ..
    ـ هل تحاول الانتحار ؟
    ـ لماذا ؟
    ـ معظم اليوم فى الكتابة .. من حقى أن أجلس معك ..
    مجرد الإشارة إلى إجهاد العين ، يأتى بالعديد من الملاحظات : لعله انفصال فى الشبكية ، مياه بيضاء ، مياه زرقاء . تثق أنك أجهدت عينك فى الترجمة بما لا تطيق . تضع نقطتين من قطرة اكيوميثيل ، فيتلاشى التعب . يبدو الرد على الملاحظة سهلاً ، لكنك تفضل الصمت . تلجأ إلى فيتامين ا وج لحماية الخلايا من أعراض تقدم السن . لا يشير الطبيب إلى كلمة الشيخوخة ، ولا تحبها ..
    تغلق باب الشقة من الداخل . تشعر بالحياة بعيداً عن خارج البيت . لا قعدات مقاهى ، ولا أصدقاء ربما لا تطمئن إلى ملاحظاتهم ، أو زحام تضيق به ..
    لا تذكر اللحظة التى أدرت فيها مفتاح الراديو للمرة الأولى . ذلك ما كان يفعله هانى وإيناس ومسعد ، ثم رئيفة ـ عندما خلت الشقة من الأبناء . توقفت أصابعك على البرنامج الموسيقى . سحبت كتاباً من المكتبة الصغيرة ، المثبتة فى الجدار .
    ربما انتابك شعور أنك لم تعد تسكن هذه البناية ، تحيا فى هذه البناية ، تصادق هؤلاء الرجال . تحيط بك الوحدة والعزلة والغربة عما حولك . يلفك الإحساس بأنك لست من هذا العالم ..
    بدا قول أنور عيسى ضربة تثير الحيرة والتأمل :
    ـ إذا كنت تعانى فقدان حاسة الشم ، فإن ذلك لا يعنى أن الرائحة المسمومة لن تدخل صدرك !
    أهملت قراءة صفحة الوفيات فى " الأهرام " ـ عدوى أصابك بها حنفى جامع ـ . يطوحك بعيداً ما تتوقعه ، أو لا تتوقعه . تستدعى ما تهمل تصوره ، ما يبدو مؤلماً . الحزن ـ لفقد من تعرفهم ـ يحل كقدر قاس ، لا يرحم . تقهرك الاستكانة لتوقعات غامضة ..
    يبدو الآن عادياً أن تصاب بمرض الموت ، أو يباغتك : نزيف فى المخ ، غيبوبة كبد ، سكتة ، ذبحة صدرية . لا مفاجأة عند من يحيطون بك ، لا شعور بالصدمة . كلمات تأثر ومواساة ، وينتهى الأمر ..
    صدمتك الإجابة لما سألت :
    ـ ما المرض الذى مات به فرج سباعى ؟
    قال أنور عيسى :
    ـ فى سنه لا يحتاج المرء إلى مرض ..
    ثم وهو يداعب المقبض الأبنوسى لعصا من الخشب اللامع :
    ـ إنها الشيخوخة !
    لم تلحظ تسرب الزمن حتى تسرب بالفعل . بدا ما تحياه بلا نهاية . التوقع والأحلام والأمنيات ، ومرور الزمن يبطئ فلا يتفق مع ما تندفع فى اتجاهه . حكاية الأرنب والسلحفاة تكررت دون تمهيد . دون تنبه إلى توالى الفصول ، مد الأمواج وجزرها ، ظهور الشمس فى الأفق الشرقى ، وسقوطها فى أفق البحر أمامك ..
    تكالب الشحاذين ـ بحجة القراءة على قبر رئيفة ـ دفعك إلى إهمال ما اعتزمته بالتردد على القبر ، مرة كل أسبوع . حتى التربى ، اعتبر ما تعطيه له راتباً ثابتاً . أسعفك بدر العدوى بنصيحته : زيارة القبور ليست فريضة . يكفى أن نقرأ الفاتحة لأحبائنا . اكتفيت ـ فيما عدا أول أيام العيدين ـ بقراءة الفاتحة لروحها من أى مكان تنفرد فيه بنفسك ، وبروحها ..
    من يزورك حيث تدفن ؟
    أنت آخر الأحياء من أخوتك الثلاثة . تقف على الشاطئ وحيداً ، تتطلع إلى المجهول ، وما لا تدرك طبيعته ..
    لن يرافق ياسر إيناس إلى المنارة . ربما منعها من الذهاب . يضايقه ـ ربما ـ صمتك وهو يتحدث عن فرص النجاح ، وصفقات الشطارة ، وارتفاع أرقام الواردات ، ولغة السوق . تتظاهر بالصمت ، لكنك تصيخ السمع جيداً ، تحاول الفهم ، والتعرف إلى ما يكتمه . تغالب الشعور بالقلق ، وبالخوف ..
    أعاد بدر العدوى ملاحظته :
    ـ أرى أنك لا تصلى ..
    ـ هل يؤذيك تصرفى ؟
    ـ لا !.. لكنك تؤذى نفسك ..
    ـ الله هو الذى يحاسب البشر ..
    وربت كتفه :
    ـ أشكرك على اهتمامك بى .. لكن هذه علاقة خاصة بين الله وبينى ..
    رفع نظارته من أذنيه ، يدارى انفعاله . مسح زجاجها بطرف القميص . قربها من عينيه ، ثم أعادها إلى موضعها .

    تهب نسمة باردة من اتجاه البحر ، تلامس وجهك بانتعاشة . تستعيد قول الطبيب وهو يحذرك من تيارات الهواء : الالتهاب الرئوى صديق السن المتقدمة ..
    تطل برأسك من النافذة ، فتبدو الطوابق التحتية بتصاعدها الهرمى . المدينة فى أسفل . مجموعة من البنايات الساكنة ، الصماء . أفق البحر يلتقى ـ فى المدى ـ مع أفق السماء . ثمة بائع تين شوكى يقشر الثمار ، يقدمها إلى سيدة ، تلتقطها بإصبعيها . تدفع بها إلى فمها ، وشاب وفتاة يسيران على الكورنيش بخطوات متباطئة ، وقد وضع ذراعه حول كتفيها ..
    قالت إيناس :
    ـ إذا لم أتزوج ياسر ، ربما لن تجدوا من تمارسون معها سطوتكم ..
    قلت :
    ـ ماذا تقصدين ؟
    ـ أقصد أنى سأكون غير موجودة ..
    أعادت رئيفة قولك :
    ـ ماذا تقصدين ؟
    قالت إيناس :
    ـ سأترك لكم هذا العالم !
    يتناهى صوت إيناس عبر التليفون :
    ـ هل أعود إلى البيت ؟
    ـ لن أستطيع النزول من الشقة إلا فى المصعد .. إذا عدت إلى البيت فستضيعين وقتك بلا ضرورة ..
    ثم وأنا أتلفت ـ بعفوية ـ حولى :
    ـ هذه فرصة للراحة ..
    ـ إذن .. سأكون دائماً إلى جانب التليفون ..
    كنت قد أعلنت رفضك ، فأعلنت إصرارها ..
    قلت :
    ـ لماذا ياسر ؟ .. يستحقك من هو أفضل ..
    قالت إيناس :
    ـ لا أتصور أن أحيا فى شقة واحدة مع شاب غير ياسر ..
    ـ لكنه يواجه مستقبلاً مجهولاً ..
    ـ أعرف أنه بلا وظيفة ، لكنه أنهى دراسته الجامعية ، ويمتلك الطموح والإرادة ..
    أشحت بيدك :
    ـ كلام جميل .. لا يخلو من رومانسية ..
    ـ أنا أدرى الناس بقدرات ياسر ..
    واجهتها بنظرة مغتاظة :
    ـ مسكينة ! لحس عقلك !

    تنتقل إلى النافذة الجانبية ..
    تطل على شارع الغرفة التجارية . الترام ـ فى أسفل ـ بين محطة الرمل وبحرى ، ومن الزاوية اليمنى محطة الكهرباء الصغيرة ، قبالة سينما ركس ، تلاحظ استمرار وجود الغسيل على منشر الشرفة الملاصقة ، كأنهم يستبدلون ـ فى اللحظة نفسها ـ الثياب المبلولة بالثياب التى جففها الهواء . فى العمارة جيران كثيرون ، أساتذة جامعة وأطباء ومحامون ومحاسبون ومستشارون ورجال أعمال ومكاتب تصدير واستيراد . ذكروا أسماءهم ومهنهم فى خانات صناديق البريد على جدار بهو المدخل . اعتدت السحن ، وربما إيماءة الرأس ، بالتحية فى وقفتك داخل ، أو أمام المصعد ، أو نزولك ـ وصعودك ـ على الدرجات الرخامية الواصلة بين البهو والطريق . المصعد واسطة بين الطابق الثانى عشر والطابق الأرضى . لا شأن لك بالطوابق التى تراها من نافذة المصعد الزجاجية . عرفت جيران الشقة الملاصقة من اللافتة النحاسية البيضاوية : أحمد منصور الشايب ـ تاجر . تصخب الأصوات فى الداخل . يتوالى فتح باب الشقة وإغلاقه ، وتخفق الثياب ـ بصورة دائمة ـ على منشر الشرفة الخلفية ..
    تطل من زاوية حادة على المينا الغربية ..
    البواخر الضخمة والمخازن والمستودعات والأرصفة والحاويات وبلوطات الأخشاب والأجولة والرافعات ، وتناثر القوارب الصغيرة إلى حيث تتداخل ـ فى المدى ـ مع حركة الميناء . تقصر البنايات عن بلوغ ارتفاع النافذة . تبدو الأسطح والشرفات ومناشر الغسيل وأطباق الفضائيات . تتقاطع الشوارع والميادين فى أسفل ، ويتحرك المارة والسيارات كدمى صغيرة ..
    أمضيت أياماً فى الترجمة وملء البيانات للدخول إلى الجمرك فى الميناء الغربية ..
    قلت :
    ـ كان الدخول بلا تصاريح ولا بيانات ..
    فتحى عبد الوهاب يسبقك فى الدخول إلى الميناء . لا أحد يسأل من أنت ، ولا إلى أين . تتابعان حركة السفن الكثيرة ، وتتطلعان إلى أفق المياه والحوض الجاف والترسانة البحرية والمخازن والمستودعات وأحواض البترول والحاويات والصناديق الهائلة والبالات وشوادر الأخشاب وبلوطات الأجولة ..
    قال أنور عيسى :
    ـ المفروض أن الإجراءات تتصل بالوسائل الأمنية الحديثة ..
    وضغط السيجارة فى الطفاية :
    ـ ما حدث هو العكس ..
    رفضت انتظار العمل ، والموت . تقاوم ما لا تتبينه بالانهماك فى العمل ، وشغل فراغ الوقت . تقرأ ، وتترجم ، وتشاهد التليفزيون ، وتذهب إلى السينما ، وتتمشى على الكورنيش ، وتجلس إلى الأصدقاء فى القهوة التجارية أو أتينيوس أو التريانون ..
    تذكرت دعوة السنيور جويدو لزيارة نابولى .. هل نسيها ؟
    (يتبع)

  8. #8
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (8)
    أعدت النظر إلى الكردون الحديدى ، يسد الشارع الموصل بين فندق سميراميس ومبنى القنصلية الإيطالية المنفرد على الناصية . يطل ـ من واجهته ـ على ميدان سعد زغلول ، ومن الجانب على ميدان محطة الرمل ، ومن الجانب الآخر على المينا الشرقية . أدركت أن الكردون للمبنى وليس للفندق . قدمت إلى القنصلية الإيطالية للحصول على تأشيرة زيارة . آلمك ما اعتبرته إغلاقاً لنافذة ـ أخرى ـ فى بناية الإسكندرية ..
    عدت إلى البيت ..
    لم تناقش عرض أنور عيسى بالعمل فى الغرفة التجارية . طوق نجاة ، لا للراتب الشهرى ، وإنما لممارسة الحياة . الصحو لموعد تترجم فى أثنائه مراسلات الغرفة وتقاريرها ، وليس لانتظار ما لا تدرك كنهه . مجرد الخروج إلى موعد العمل ، والعودة منه ، الجلوس على مكتب ، ترجمة المراسلات والتقارير الاقتصادية ، وملء الاستمارات والتصاريح . تشاهد ـ من النافذة الجانبية للطابق الثانى ـ حركة الميدان ، والحديقة المستطيلة ، وتمثال سعد زغلول ، والكورنيش ، وأحوال البحر . تقتصر الترجمة ـ أو تكاد ـ على اللغات الثلاث : العربية والإنجليزية والفرنسية . شحب تأثير اللغات الأخرى برحيل الجاليات الأجنبية عن الإسكندرية ، فى السنوات الخمس ما بين 1956 و1961 . تقرأها لأنك تجيد قراءتها ، تجد فيه ما يستحق القراءة . تكتفى بالقراءة ، أو تترجمه وتودعه الأدراج ..
    حين صدرت قرارات التأميم ، داخلك الخوف لعلاقتك القريبة بالشركات الأجنبية : هل تذوى ؟ أو تنتهى ؟ وهل تقتصر على وظيفتك فى سراى الحقانية ؟
    قال الفرنسى مارك فونتين :
    ـ لو اضطررت إلى فتح كشك لبيع الصحف فسأفعل ..
    ثم وهو يهز قبضته :
    ـ هذا بلدى ..
    لكن الرجل فاجأك ـ بعد أقل من عامين ـ بتصفية شركاته ، والعودة إلى إيطاليا ..
    علا الانفتاح بإيقاع المراسلات من اللغات المختلفة . نشطت حركة الواردات ، وقدم وسطاء ، وتوالت عروض ببضائع لم تكن موجودة فى السوق المصرية ..
    أسعدك قول أنور عيسى :
    ـ أغنيتنا عن أربعة مترجمين بإجادتك أربع لغات ..
    ثم وهو يغمز بعينه :
    ـ أنت الرجل المناسب للانفتاح !
    ونادى على بائع الفريسكا . طواها ـ متكسرة ـ كسندوتش ، وبدأ فى التهامها ..
    طالعك ـ فى ترجمتك للرسائل والمكاتبات ـ ما يحتاج إلى توضيح ، أو ملاحظة تبديها . تكتم ما يشغلك فى نفسك ، لكن التقرير تحدث عن شركات توظيف الأموال . تجتذب المودعين فى البنوك وشركات التأمين بإغراء العائد المرتفع ، ما بين 24 و 26 % سنوياً . يحصل المودع نصيبه منه كل ستة أشهر . بدت الأرقام غريبة ، وصعبة التصديق .
    اخترت الكلمات بما لا يغضب أنور عيسى أو يضايقه :
    ـ ما تعلمته من المذكرات التقارير التى ترجمتها ، أن أى مشروع اقتصادى ـ لكى يحقق عائداً ـ يحتاج إلى فترة حضانة أولية من خمس إلى ست سنوات !
    وجاهدت ليبدو صوتك هادئاً :
    ـ ولا يزيد أقصى عائد عن 12 %
    ثم فى لهجة مثقلة بالحزن :
    ـ أخشى أن يكون نشاط هذه الشركات فى تجارة العملة أو المضاربة على الذهب .
    وغلبتك حماسة طارئة :
    ـ أو تمويل تجارة المخدرات !
    ظل أنور عيسى صامتاً ، يرمقك بنظرة محايدة ، ثم قال فى لهجة متسائلة :
    ـ هل تعرف أن اقتصاد البلد إن لم يكن قد أصبح ، فسيصبح فى أيدى هذه الشركات : السعد والريان والنور والهدى وبدر ..
    وداخل لهجته توتر :
    ـ هل تريد إغلاق الغرفة ؟
    وواجهنى بنظرة جامدة :
    ـ نحن أصدقاء خارج هذا المبنى ..
    وأشار إلى الآلة الكاتبة على مكتبك ، وقال فى الجدية نفسها :
    ـ عملنا هنا يسقط الأسئلة والملاحظات ، مثل هذه الآلة تماماً !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ هل استمعت إلى الإذاعة اليوم ؟
    حدجه أنور عيسى بنظرة قلقة :
    ـ ماذا حدث ؟
    يدخل الشقة تمتد يده ـ بتلقائية ـ كما يروى ، إلى مفتاح التليفزيون ، أو الراديو . يغلقه . الإعلام يتحول إلى إعلان عندما تملكه الدولة . يصبح الرئيس هو البطل ، ويحصل الوزراء على الأدوار الثانية والثانوية . الشعب يكتفى بالسماع أو المشاهدة : لو أنه يتقاضى مقابلاً لأوقات ظهوره فى التليفزيون ، فسيحصل على أجر يفوق ما يحصل عليه من منصب الرئيس !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ قالت : هنا إذاعة جمهورية مصر العربية من القاهرة ..
    قلت :
    ـ طبيعى بعد أن عادت مصر إلى تسميتها القديمة ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ فلنأمل فى عودة العلم الأخضر ذى النجوم الثلاثة !
    ثم وهو يهز إصبعه :
    ـ أخطأ عبد الناصر حين تصور بداية التاريخ المصرى فى 23 يوليو .
    وحدق فى الفراغ :
    ـ نسى أبوة الوفد ، وهو ما ذكره به الألوف فى جنازة النحاس !
    كان أنور عيسى قد انشغل بالأخذ والرد مع بائع حمل بضاعته على يديه . يجد متعة فى الفصال ـ بلا نية للشراء ـ على أثمان ساعات اليد والميداليات والأقلام والولاعات ولعب الأطفال والمعلبات وعلب السجائر الأجنبية ..

    تحاول فتح باب المنور المطل على الأسطح والشوارع الخلفية . الكتب والكراسات تملأ صناديق الكرتون . تغريك بالتقليب فيها . اللون أقرب إلى الصفرة ، والخطوط شاحبة . وزارة المعارف العمومية . العقل السليم فى الجسم السليم . اغسل يديك قبل الأكل وبعده . لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد . من زرع حصد ، ومن جد وجد . مدرسة رأس التين الثانوية . المشوار اليومى من البيت فى شارع الأباصيرى إلى المدرسة ..
    أين فتحى عبد الوهاب ؟
    تصعدان إلى الطابق الثالث فى سينما كونكورديا . تطلان من زاوية خالية فى الشرفة العليا ، تمدان عنقيكما لتتمكنا من متابعة أفلام العرض المستمر . ثلاثة أفلام أمريكية يتواصل عرضها حتى موعد إغلاق السينما . تتابعان مغامرات الكاو بوى ورعاة البقر وأفلام شارلى شابلن ، تتأملان ساقى مارلين ديتريش فى فيلم " إكسبريس شنغهاى " . تتباعدان ، وإن حدس كل منكما أن صاحبه يستتر بالظلمة لمعانقة النشوة والرؤى المحمومة . تقاسمتما تسمية شخصيات الفيلم . امتدت التسمية إلى كل الأفلام : البطل والبطلة والعجوز والشرير . يتحاب البطلان . يأخذكما القلق ، وربما الخوف ، وإن ألفتما انتصار البطل فى نهاية كل فيلم . يواجه الشرير . يفلت من أعدائه بطرق كأنها السحر ، يفك نفسه من القيود . العجوز يوجه النصيحة . يهتز مبنى السينما من التصفيق للبطل ـ وهو يركب جواده أو دراجته البخارية ـ حتى ينقذ فتاته من يدى الشرير ، أو الأشرار . يقبل البطل فتاته . يعلو الصفير ، وتضرب قبضات الأيدى كراسى الصالة . شمشون ودليلة هو آخر الأفلام التى شاهدتماها ..
    عدتما إلى كونكورديا بعد غيبة أكثر من عشر سنوات . اخترتما الجلوس فى البلكون ، وإن لاحظ كل منكما تطلع صاحبه إلى الشرفات العليا .
    قال فتحى عبد الوهاب :
    ـ لو أمتلك قوة شمشون فأهدم البيت على الحاج ..
    ـ هل يضايقك إلى هذا الحد ..
    ـ هو المضايقة والتسلط والرعب ..
    يرفض أن يسمى أباه . هو الحاج . مع أنه لم يذهب إلى الحج . هذه هى تسمية المعلمين . تاجر فى كل أنواع الأقمشة . الرفوف مكدسة بلفات الدمور والبوبلين والتلفيحات الحرير والصوف والطرح السوداء وأتواب الصوف وقماش الساتان والحرام الأسود والأحمر . حتى أكفان الموتى حرص على بيعها . فى أعوام الحرب العالمية الثانية دفع لأصحاب بطاقات تموينية مقابلاً ، وتاجر فى أقمشة البطاقات بأضعاف ثمنها . امتلأت الأرفف ، فصف لفات الأقمشة على قواعد قصيرة من الخشب ..
    قلت :
    ـ لن يكون أبوك تحت الردم وحده .. سينهد المبنى على إخوتك وعليك ..
    شرد قليلاً ، ثم قال :
    ـ سأحاول التصرف ليكون وحده ..
    قلت لفتحى عبد الوهاب :
    ـ لماذا لا تنتظر حتى تحصل على التوجيهية ؟
    قال :
    ـ قد لا تعود فرصة ركوب البحر . عمل لا يحتاج إلى شهادة . المهم هو اللغة الأجنبية ..
    استطرد موضحاً :
    ـ كما تعرف .. لغتى الإنجليزية لا بأس بها ..
    ظل على حرصه فى متابعة الأفلام الأمريكية ، وأخبار نجومه المفضلين : كلارك جيبل وإيرول فلين وجريتا جاربو ومارلين ديتريش وجانيت لى . صحبته إلى حفلة العاشرة فى سينما فريال . خرجت من استغراقك فى مشهد من فيلم " سلامة " . تلفت ـ بتلقائية ـ يمينك . ربما لتتبين رد فعل المشهد على فتحى عبد الوهاب . فاجأك بتسلله من جانبك ، أثناء عرض الفيلم .
    حين بدأ هانى إجراءات السفر ، لم تكن فكرة المغادرة مما يشغلك ، أو تعد له نفسك . لم تتصور نفسك خارج المساحة التى يحدها البحر من الجهات الثلاث . المينا الشرقية والمينا الغربية وخليج الأنفوشى . تنزل من الطابق الثانى عشر . تطالعك البنايات والأسواق والميادين والشوارع والمحال . ما ألفت من السحن والشرفات والنوافذ واللافتات والشرفات وهوائيات التليفزيون وأطباق الأقمار الصناعية . المثل يتحدث عن الحياة المستحيلة للسمك خارج مياه البحر . الإسكندرية بحر ترفض تصور الحياة بعيداً عنه . حتى لو ظللت فى الشقة المطلة على المدينة . مجرد أن تحيا فى المجال الذى تعرفه . تغمض عينيك ، تستدعى القسمات الثابتة فى الذاكرة .
    انبثقت فكرة السفر دون توقع ، دون أن تسبقها بدايات من أى نوع . لم تشغلك ، ولا هيأت لها نفسك . حتى الدعوات التى وجهها من عملت فى شركاتهم ، ترجمت مراسلاتها التجارية ، أروام وطلاينة وإنجليز وفرنسيين ، لم تتصور أنها ستدخل ـ ذات يوم ـ دائرة التحقيق . كلمات مجاملة لا تعنى شيئاً . تشكلت اللوحة من القراءة والأحاديث وحكايات الحنين ومشاهد الأفلام والخيال المنطلق . ملامحها الموانى والمطارات والميادين والساحات والشوارع والكنائس والحدائق والنافورات والبشر والعلاقات المتمايزة . تضيف ، وتحذف ، وتوشى الألوان والظلال ..
    (يتبع)

  9. #9
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (9)
    تحدث السنيور جويدو عن ضغط العمل فى شركة السياحة ، أثناء موسم الشتاء . معظم القادمين من سكان الإسكندرية . غادروها ، ويعيدهم إليها الحنين ..
    قال :
    ـ ستقتصر عملياتنا فى هذه الفترة على اليونانية والإيطالية ..
    ثم وهو يضرب بأصابعه على ركبته :
    ـ سكان العطارين والأزاريطة القدامى يعودون لزيارتهما ..
    ورمقك بنظرة متفحصة ، كالمتنبه :
    ـ أنت تجيد اللغات ، لكنك تكتفى باستعمالاتها التجارية !
    قلت :
    ـ ماذا تقترح ؟
    ـ أستضيفك فى بيتى على شاطئ البحر فى نابولى . حتى قيمة تذكرة الطائرة لن تتكلفها !
    أشحت بيدك :
    ـ فكرة السفر تخيفنى ..
    ملأت الدهشة صوته :
    ـ أكلمك عن السفر .. الفسحة .. وليس الموت !
    ـ ألفت الحياة فى الإسكندرية !
    هل كان رحيل بدر العدوى ـ إلى أين ؟! ـ هو الباعث لفكرة السفر ؟!
    تطل من تكوم الأثاث كرة جلدية . هل هى ؟!..
    ربما أخفتها رئيفة ، فلا ينزل بها مسعد إلى الشارع الخلفى . تكررت رسائل التحذير من العباسية الثانوية لغيابه عن البيت . أشفقت من الغضب فى ملامحك :
    ـ لا شأن لك بهذه المشكلة .. سأتصرف !
    نطقت بالغضب لسقوطه ـ للمرة الثالثة ـ فى الثانوية العامة . لم يبد تأثر ، ولا تعلل بظرف ، ولا اعتذر . قال وهو يلم الكتب المتناثرة :
    ـ هذا أفضل .. أريد أن أعمل ..
    ـ هل تعمل بلا شهادة ؟
    ـ التجارة لا تحتاج إلى شهادة ..
    ومر بطرف لسانه على شفتيه :
    ـ التجارة شطارة ..
    رمقته بعينين غاضبتين :
    ـ ورأس المال ؟
    ـ سأدبر نفسى ..
    واجه إليك بابتسامة تطلب التصديق :
    ـ الأصح أنى دبرت نفسى !
    لاحظت وجود مجلات " البلاى بوى " و " البنتا هاوس " بين الكتب والأوراق على مكتبه . أدركت أنه يخوض معركة المراهقة . لم تتصور النتيجة ، وإن توقعت ما ينبغى التحسب له ..
    صرخت لرؤية العازل الواقى على أرضية الصالة :
    ـ ما هذا ؟!
    تلفت مسعد حوله فى حيرة :
    ـ لعله سقط من حقيبتى ..
    ـ لا يهمنى كيف سقط .. أسألك لماذا تحتفظ به ؟
    غلبه الارتباك ، فلم يعرف بماذا يجيب ..
    قلت فى انفعال :
    ـ يبدو أنى لم أحسن تربيتك !
    قفزت الصورة كأنها ألم الضرس الذى يعلو بلا توقع . كنت منشغلاً بمتابعة الفيلم . فاطمة رشدى وحسين صدقى يتبادلان الكلمات العاطفية على درجات السلم . شعرت بيد تتحسس فخذك . حاولت ـ فى الظلمة الشاحبة ـ أن تتعرف على الجالس بجوارك . له شارب وعينان ملتمعتان وشعر تهدل على جبهته ..
    سحبت ذراعه من امتداده على ظهر الكرسى ، وأعنت الشاب على وضع يده فى الموضع الذى يتحسس الطريق إليه ..
    تركت سينما فؤاد فى لحظات ما قبل نهاية الفيلم . ملت ـ بخطوات سريعة ـ إلى شارع النبى دانيال . أهملت الخطوات المتابعة ، حتى اطمأننت ـ فى هرولتك التى صارت جرياً ـ إلى تلاشيها ..
    أغناك هانى ومسعد عن همسات رئيفة بالتغير فى جسد إيناس . خشونة الصوت ، والشارب الخفيف أعلى الفم ، نبهك إلى ما طرأ على حياتهما من تحول . اكتفيتما ـ رئيفة وأنت ـ بالنظرات الفاهمة ، وإن لم تناقشا الأمر على أى نحو .
    امتدت سهرات مسعد خارج البيت . يعود فى الصباح . يظل نائماً ، لا يقوم إلا لتناول الطعام ، أو للذهاب إلى الحمام . إذا حل المساء ، بدل ثيابه وخرج . اهتمامك بمذاكرته ذوى فى انشغالك بالأمكنة التى يقصدها كل ليلة . أدركت أن رئيفة تمرر لمسعد النقود خلسة . ينفق منها فى سهرات لا تعرف أماكنها ، وإن حدثك أصدقاء عن رؤيتهم له فى صحراء المتراس ، وجبل ناعسة ، وبارات اللبان وشارع البوستة ..
    قال :
    ـ أنا الآن فى الثامنة عشرة ..
    وهز رأسه فى عدم اقتناع :
    ـ لم يعد من المقبول أن أنفذ ما تصدره من أوامر ..
    ـ ما تتصوره أوامر هو لصالحك ..
    ـ أنا أدرى الناس بمصلحتى ..
    صحت :
    ـ أنت مثل ذبابة تؤذى ، ولا فائدة لها !
    راجعت ما قلت . تملكك ما يشبه تأنيب النفس . أذهلتك ابتسامته الساخرة ، الهادئة ، كأنك لم توجه عبارتك إليه ، كأنه لم تشتمه !
    تأملت ـ فى اليوم التالى ـ ما حدث ، بملامح هادئة ونفس مستاءة ..
    التحطيم والتشوه لحق كل ما فى الحجرة . الستائر ، ساعة الحائط ، التماثيل الخزفية الصغيرة ، ملصقات الجدران ، الكتب الممزقة ، المبعثرة على الأرض ، شرائط الريكورد كاسيت والفيديو . الورود البلاستيك . حتى مرتبة السرير والوسائد ، جرى فيها التمزيق والتقطيع ..
    همست من بين أسنانك :
    ـ لماذا فعل ما فعل ؟

    تميل الشمس إلى الغروب . تنسحب إلى ما وراء البنايات . ظلال الأشياء تبدأ فى الاستطالة . بقايا الضوء تلامس أعلى الجدران ، وإن ظلت الطائرات الورقية تعلو فوق أسطح البيوت ، وطيور البحر تحلق فى أسراب متقاربة بامتداد الشاطئ ، تتحول ـ فى ابتعادها ـ إلى سحابات بيضاء . ومن أسفل ، يتصاعد أصوات الكلاكسات والصيحات والنداءات والشتائم والضحكات العابثة ..
    خرجت من مكتبة " شوارتز " بشارع صفية زغلول . اشتريت صحف البورص والإجبشيان جازيت والبروجريه وتاشودورموس ..
    بدا مقهى البلياردو ـ فى وقت الظهر ـ على غير الهيئة التى يطالعك بها فى أوقات المساء . يصنع دخان السجاير غلالات رمادية فى جو الصالة الواسعة . يتزاحم اللاعبون من جنسيات مختلفة ، أروام وطلاينة وإنجليز وفرنسيين ـ يسهل عليك تبين جنسية محدثك من اللكنة التى ينطق بها اللغة العربية ـ على طاولات البلياردو . يدفعون العصى الطويلة ، الرفيعة . تصطدم بالكرات . تعلو صيحة الفوز حين تسقط الكرة فى ثقب الزاوية . تختلط اللغات واللهجات ، ترافقها تلويحات بالأيدى ، وإيماءات ، وتعبيرات بالملامح . يقضى السنيور جويدو فى المقهى فترة ما بعد المغرب إلى منتصف الليل . أقل وقته يقذف الكرة إلى الثقب فى ركن الطاولة . معظم الوقت يدخل فى مناقشات مع رواد المقهى . يستغرقه العمل فى الشركة ، يهمل ما يشوش أداءه . يأخذ فى المقهى ويعطى ، ويستدعى الذكريات . تتكلمان بالعربية والإيطالية . ربما تخللت الأحاديث كلمات بالفرنسية ، ترافقها إيماءات وإشارات بملامح الوجه ، وبالأيدى . عنده استعداد للدعابة ، وتبادل القفشات . تذكر ملامحه بين الخمسين والستين ، قبل أن يغيب عن حياتك تماماً : أميل إلى السمنة . رأسه مغروس بين كتفيه . عيناه ضيقتان يعلوهما حاجبان كثيفان . مزاجه مستقر ، فهو دائم الابتسام ، وصوته هادئ النبرة . إذا استغرقه التفكير ، أو الشرود ، يبدو كالنائم . حتى عينيه يغمضهما . وإذا غلبه الضحك ، اهتزت كتفاه العريضتان . وإذا أطبق شفتيه ، تهدل خداه . له ذاكرة بصرية ، فهو يعتمد على عينيه فى تذكر الشخصيات والأحداث . يعنى بوضع وردة صغيرة فى عروة الجاكتة . لكى يطرد الرائحة الكريهة من فمه ، كان يحرص على أن يمص قرص نعناع ، أو يمضغ لبانة .
    أعلن يأسه من أن تمسك عصا البلياردو ـ ذات يوم ـ فى صورة صحيحة ، وتقذف بها الكرات ..
    قال وهو يضحك :
    ـ البلى أنسب لك !
    قلت لمسايرته :
    ـ أفضّل الدوم !
    يذهلك معرفة السنيور جويدو بأحوال المجتمع المصرى : الأحزاب والجمعيات الأهلية والدخل القومى وإحصائيات السكان والتعليم والصحة وغيرها مما يشغل المتخصصين وحدهم . حتى الأندية الرياضية يتابع مبارياتها ، ويظهر التحمس لنادى الاتحاد السكندرى . أنا سكندرى ، أشجع النادى الذى يشجعه أبناء الإسكندرية . وكان يسجل ـ فى نوتة صغيرة ـ تواريخ ميلاد أصدقائه والمتعاملين معه ، ثم يرسل التهنئة فى موعدها ..
    قلت :
    ـ لم أفاجأ بموقفك من مبادرة السادات قدر مفاجأتى بكلامك فى السياسة ..
    لم يكن يقدم ما يمتلكه من المعلومات فى سياق رأى . هى مجرد معلومات تمليها ذاكرة حافظة ، لكنه يحرص ألا يضمنها أفكاراً محددة يشغله التعبير عنها ..
    قال السنيور جويدو :
    ـ أن أشتغل فى الاقتصاد ، لابد أن أنشغل بالسياسة ..
    قلت فى لهجة مشفقة :
    ـ نصيحتى إذن أن تحتفظ بآرائك لنفسك ..
    لم تكن تتصور أنه يهاجم مبادرة السادات . لم تكن تتصور أنه يعلن رأيه برفض المبادرة . بدا المستقبل بما لا يمكن تصوره . دخلت فى مناقشات مع أصدقاء القهوة التجارية . حتى إيناس لاحظت انشغالك بما بدا كأنه المفاجأة . كنت تحتفظ ـ فى داخلك ـ بآرائك السياسية ، لا شأن لصغيرتك بقضايا لا تعنيها ، ولا تهيأت لمناقشتها . آراء السنيور جويدو اجتذبتك إلى كلام السياسة ، تتبنى رأيه ، أو ما تثق أنه رأيك .
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ كيف تحول الممثل فى فرقة فاطمة رشدى إلى بطل الحرب والسلام ؟
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ هو على الأقل لم يدع أنه خلق فينا العزة والكرامة ..
    ومصمص شفتيه :
    ـ كأنه انتشلنا من صفيحة زبالة !
    أدهشك تحول بدر العدوى من النصح على أداء الشعائر الدينية ، وإبداء الرأى فى قضايا الدين ، إلى مناقشة قضايا السياسة . حتى ما يتردد فى مناقشته أصدقاء القهوة التجارية . اقتصرت آراؤه على رفض مبادرة السادات ، ما لحقها من زيارة السادات للقدس ، ثم توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل .
    ضغط على نظارته :
    ـ يذهلنى أن إعلام عبد الناصر حول الهزيمة إلى انتصار ، بينما حول إعلام السادات أكبر انتصاراتنا إلى هزيمة !
    ثم فى لهجة تقطر مرارة :
    ـ جربنا كل الأنظمة .. لماذا لا نجرب الإسلام ؟!
    قال السنيور جويدو :
    ـ أعتذر لأنى لم أرسل لك المكافأة الكاملة لترجمة مراسلاتنا مع الشركة الفرنسية ..
    قلت فى ذهول :
    ـ لم تصلنى مكافأة كاملة ولا ناقصة ..
    ـ سلمت المكافأة لمسعد بنفسى ..
    ذهلت ، وسكت فى ذهولك ..
    وضعت ما قاله الرجل فى دائرة الحقيقة ، لا فى دائرة الاحتمال . لم تكن تلك أول مرة يأخذ مسعد لنفسه نقوداً . ترددت فى مواجهته ، ثم فضلت أن تكتم على الخبر ماجوراً . تحصل على المكافأة بنفسك ، أو تطلب إرسالها إلى عنوان البيت ..
    أدرت المفتاح فى الباب . النور مضاء . هل نسيته فى الصباح ؟
    أدركت من الحركة فى المطبخ أن أم محروس ما تزال تؤدى عملها داخل الشقة . لم تعد تنتظرها . أعطيتها المفتاح . تخرج قبل مجيئها ، وتعود بعد موعد انصرافها ..
    ـ مسعد ..
    ورشقته بنظرة غاضبة :
    ـ هل أعطاك الخواجة جويدو مبلغاً لى ..
    ظل فى هدوئه :
    ـ لا أذكر ..
    ـ أعطيته الترجمة ، وأعطاك المقابل .. كيف لا تذكر ..
    ـ لا أذكر !
    ـ أعطاك الرجل النقود فأخذتها لنفسك ..
    ثم فى لهجة تسليم :
    ـ هذا ما حدث !
    صفق مسعد الباب وراءه ، واختفى . مر يوم وثان وثالث دون أن يظهر . اتصل صوت ـ لا تعرف صاحبه ـ يدعوك لزيارة مسعد ـ الذى حاول الانتحار ـ فى المستشفى الأميرى ..
    تحركت مشاعرك حين اللقاء ، لكنك اكتفيت بكلمات مدغمة ، لا تقصد بها معنى محدداً . مددت يدك لتسلم . مد يده ..
    ظللتما صامتين كأنكما اتفقتما على ألا تتبادلا كلمة واحدة .
    (يتبع)

  10. #10
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    (10)
    يغطس قرص الشمس فى البحر ، وإن خلّف بقايا ضوء شديد الاحمرار . ينطلق سرب من الطير فى الأفق ، يواصل طيرانه حتى يتحول إلى نقطة بعيدة ، ما تلبث أن تختفى . ترين على المكان رمادية شفيفة ، تستطيل الظلال . تفترش مساحات من الطريق والبنايات ، ووميض بقايا أشعة الشمس ينعكس على النوافذ الزجاجية المغلقة . وغربان البحر تنعق ، وتصرخ ، وتزعق ، وهى تحوم فوق بلانس اجتاز حاجز الأمواج ، ودخل نصف الدائرة ما بين السلسلة وقايتباى . طوى الرجال الشراع ، وأعدوا المخطاف .
    تنشغل بنفض التراب عن الأرفف والأركان ، والمفرش البلاستيك ـ فوق طاولة المائدة ـ ذى نقوش الورود الملونة ..
    تزيل من ثيابك ما علق بها من غبار . الوقت خريف ، لكنك تشم رائحة العرق من تحت إبطيك . تدخل الحمام . حتى لا يفاجئك الموت ، اعتدت أن ترتدى ثياباً داخلية نظيفة . تحرص على الاستحمام ، واستبدال ثيابك صباح كل يوم . تترك الباب مفتوحاً . لا أحد فى الشقة سواك . تنزع ثيابك . تقف تحت الدش . ينساب الماء الدافئ . تسلم الذهن لأحداث قريبة وبعيدة . تختلط الوجوه وتتشابك : بدر العدوى يسبقك فى النزول على سلم أبو العباس المفضى إلى الميدان . أصوات المدافع ترافق اتجاه الكشافات نحو السماء . تعلم القراءة على لافتات الدكاكين وأفيشات أفلام السينما . المذاكرة فى صحن الحديقة الهائلة أمام سراى رأس التين . إفساح الواقفين الطريق أمام سيارة محمد نجيب لوداع الملك . ارتطامات الأمواج بالمصدات الأسمنتية أسفل قلعة قايتباى . صرختك المتألمة من عصا العسكرى فى المظاهرات ضد حكومة صدقى . الفرجة على عمليات إنشاء الكورنيش . إصرارك على مصافحة مصطفى النحاس فى موكب عودته من أوروبا . امتزاج الفرحة والخوف عند دخول حديقة حيوان النزهة للمرة الأولى . استيقاظك على إيقاع خطوات جياد الملك فى مشوارها الصباحى . اندفاعة حنفى جامع الخائفة من باب المقهى : ألم تسمعوا الخبر .. القاهرة احترقت وأعلنت الأحكام العرفية . هتافات التشجيع المحيطة بملعب كرة القدم ، بالقرب من حلقة السمك . التسلى بمشاهدة صيادى السنارة فى تناثرهم على كورنيش المينا الشرقية . صرختك العفوية حين أعلن عبد الناصر قرار التنحى . امتطائك كتفى أبيك ، يتيح لك رؤية موكب الزفاف فى ميدان أبو العباس . تأملك للمساحة البيضاء ، ما عدا دائرة سوداء صغيرة فى جانب اللوحة المعلقة على جدار البينالى . هز الفوانيس فى ليل رمضان : الدكان ده كله عمار ، وصاحبه ربنا يغنيه . متابعة الجلوة القادمة من شارع الأباصيرى إلى شارع الميدان . قول كامل عبد الرحيم : ألم تسمعوا الأخبار ؟.. القاهرة احترقت وأعلنت الأحكام العرفية . وقفتك فى ناصية تقاطع ميدان المنشية وشارع السبع بنات ، تشارك بالهتاف لقرار عبد الناصر بتأميم القناة . اتجاه سيارة النقل فى الطريق الزراعى ـ عقب الغارة على باب سدرة ـ إلى دمنهور . المناقشات التى تبدأ ولا تنتهى فى تمشيتك مع بدر العدوى ـ وقت الأصيل ـ على الكورنيش . الحواديت التى تخترعها لإيناس قبل أن تنام ، الحيوان والشياطين والجان والملائكة وممالك قاع البحر . قول إيناس ـ فى نبرة احتجاج ـ وهى تقف على باب المطبخ : أنا الآن فى الجامعة ، ومسئولة عن إعداد الإفطار . إقلاعك عن الأنفاس المحشوة فى اللحظة التالية للجذبة الأولى ، عندما شجعك حنفى جامع على المسامرة ليلة أم كلثوم . قول بدر العدوى : قرأنا فى الدين لنتعلمه وليس لقلب نظام الحكم . التأمل ـ بعينى الذهول ـ لنزول السادات من الطائرة المصرية فى مطار تل أبيب . نزول الرجال بجثمان جار البناية المقابلة إلى النعش فى أسفل . قول كامل عبد الرحيم : سيذكر التاريخ أن الدستور ألغى فى يناير 1953 ، وألغيت الأحزاب ، لتبدأ مصر عصراً من الديكتاتورية . صوت الرجل ـ محملاً بالتهديد ـ فى التليفون : إذا لم توافق على اللقاء فقد أسلم الأوراق إلى الجهات المسئولة ..
    اعتدت السير فى نفق محطة سيدى جابر ، لكنك تنظر ـ دوماً ـ إلى اللوحات الإرشادية : القطار المتجه إلى القاهرة .. القطار القادم إلى الإسكندرية .. القطار المتجه إلى أبو قير . تهبط الدرجات ، وتمضى فى النفق المستطيل ..
    تصعد إلى رصيف رقم ثلاثة . تقف فى موضع العربة رقم ستة . من الخلف صف البنايات العالية ، تعلوها سماء صافية الزرقة إلا من سحب متناثرة . تتوزع نظراتك بين اللافتة الخشبية البيضاء ، عليها اسم سيدى جابر ، والأكشاك المعدنية تحت المظلات الحجرية بامتداد الأرصفة ، والمبنى المصمت من الطوب الحرارى ، تتوسطه عبارة " مرحباً بكم فى الإسكندرية " . يعلو صف الأبواب الخضراء المفتوحة ، والنوافذ العالية ، وصالة حجز التذاكر ، ومكتب المعاون ، وكبائن التليفونات ، والبوفيه الخالى إلا من ثلاثة تناثروا داخله ، والساعة البيضاء المتدلية من أوسط السقف ، تشير إلى الثامنة إلا الرابع ..
    موعدكما قطار الثامنة صباحاً من القاهرة . المكان أمام كشك الصحف ، على يمين الأبواب المفضية إلى الميدان . جرائد ومجلات وكتب وسجاد وشيبس وحلوى ومرطبات ومياه غازية ..
    لاحظت نبرة التهديد فى كلماته . تحدث عن آلاف الجنيهات . حصل مسعد عليها لمشروع وهمى . لم تتصور أنه قد انساق فى الأمر إلى غير نهاية . تنقل بين وظائف عدة . ظل يتقاضى منك ما يشى بأنه لن يجاوز ظروفه القاسية . تحول الإنفاق عليه ـ رغم ابتعاده عن البيت ـ إلى جزء من إنفاقك .
    سبقك الرجل بخطوات متسارعة . أسقط كل ما أعددته فى ذهنك . تنفى صلتك بأى شئ ، وتمضى ..
    قال وهو يتأمل حركة الميدان :
    ـ أنا قاهرى ، لكننى عضو فى نادى سبورتنج ..
    قلت :
    ـ أنا عضو فى النادى ، وإن كنت لا أتردد عليه ..
    ماذا يريد الشاب ؟..
    يقترب من الأربعين . له صوت حلقى . ألصق بملامحه ابتسامة تخفى ما يضمره فى نفسه . ضخامة رأسه لا تتسق مع نحافة وجهه . تعانى عيناه جحوظاً واضحاً ، وتحت جفونه السفلية انتفاخ واضح . تناثرت حبيبات حول الأنف وأسفل العنق . اختلط فى أسنانه السواد والصفرة . يرتدى بدلة شاركسكين كحلية اللون . فى يده علبة سجائر مالبورور وولاعة ذهبية . لم تطمئن إليه ، ولا إلى اللقاء الذى فرضه بالتهديد ..
    قال :
    ـ عرفت من مسعد أنكما تملكان شركة للتصدير والاستيراد ..
    علا صوتك بالسؤال :
    ـ من نحن ؟
    ـ أنت وهو .. ألست والده ؟
    ـ صحيح .. لكننى لا أمتلك حتى الشقة التى أسكنها ..
    ـ حصل مسعد على عشرة آلاف جنيه لتخليص بضائع من الجمرك باسمى ..
    غلبك الضيق والانفعال : لماذا يضعك مسعد فى ظل الشبهات ؟!
    وأنت تفز من كرسيك :
    ـ هذا شأنكما ..
    ثم وأنت تهز إصبعك فى وجهه :
    ـ ادخله السجن لو استطعت !
    زاد إحساسك بالوحدة . غلبك التأثر . تمنيت لو تذهب إلى مكان بعيد ، يخلو من البشر تماماً . تتمدد على رمال الشاطئ . تأتى الأمواج . تغطيك ، تغسلك ، تنحسر . تعود لتغطيك ، وتغسلك ، إلى ما لانهاية .

    تضئ النور ، وتعيد تأمل ما حولك : الأثاث ، الستائر ، المكتبة ، التليفزيون ، النوافذ ، الشرفات . تلاحظ الشقوق الواضحة فى السقف والجدران ، والتكوينات التى صنعها تساقط الطلاء .
    تنظر ـ بآلية ـ إلى ساعة الحائط ، تحت إفريز السقف . الحادية عشرة وخمس عشرة دقيقة . أكثر من ساعة لم تذهب للتبول ..
    تنفخ بتلقائية . تمضى إلى النافذة دون أن تتوقع ما ستطالعه . مجرد حركة لم تتدبرها . تسقط احتمال الخطوة التالية ..
    كانت حركة الطريق قد هدأت ، وشحبت الأصوات المتصاعدة من أسفل . وكان الظلام قد ابتلع البحر . لا مرئيات سوى نقاط ضوء متناثرة فى بلانسات بعيدة . وثمة توالى حركة الموج فى مد وجزر متلاحقين ، وغابت أسراب النورس عن سماء الشاطئ .
    قلت :
    ـ لا أكاد أترك البيت . أصادق الأمراض ، وأنتظر ما لا أعرفه .
    قال حنفى جامع :
    ـ أصبحت تتكلم مثل العجائز .
    ـ أنا عجوز بالفعل ..
    ـ بالعكس .. أنت تمنع العين !
    ولانت لهجته :
    ـ مادمنا أحياء نظل فى حاجة إلى الناس ..
    وتراخى على الكرسى :
    ـ حتى فى الموت نحتاج إلى الدعوات .
    تتصوره بقامته الطويلة ، وجبهته العريضة ، وعينيه الضيقتين الخاليتين من الرموش ، وأنفه الضخم ، وتفاحة آدم البارزة فى عنقه ، مريداً فى طريقة صوفية ، أو قطباً لها . منشداً فى حلقات الذكر ، أو مصفقاً . يتلوى ، وينتصب ، ويرتفع ، ويهبط . يرافقه إيقاع الدفوف وتصفيقات الأيدى . عاد إلى القهوة ـ بعد خمسة أشهر ـ ليروى تجربة انضمامه إلى الطريقة الشاذلية . تتصور على جسده جوالاً من الخيش ، وفى يده اليمنى عكاز من خشب الجميز ، وفى اليد اليسرى محكاك ذى ذراع طويلة ، تنتهى بما يشبه أصابع اليد . وهو يهز رأسه وجسده وسط حلقة الذكر . وهو يهتف بالأدعية والابتهالات والأذكار والصيحات التى لا معنى لها . وهو يستند بثيابه الغريبة على جدار أبى العباس ، يسأل الرزق والنصفة والمدد .
    تتأمل فى موضعك على الكرسى قبالة النافذة ، اختفاء القمر لمرور سحب صغيرة ، متناثرة ، ثم عودته إلى الظهور . ضوء الفنار يمسح السماء فى توال ، وصوت ارتطام الأمواج فى الكتل الخرسانية يأتى كالصدى ..
    أشارت رئيفة إلى البحر الغارق فى الظلمة . أبدت إشفاقها من عودة الإظلام والزجاج الأزرق والسواتر الحجرية والمخابئ وصفارات الإنذار والكشافات والغارات الجوية والمدفعية المضادة للطائرات والقنابل والخوف ..
    ـ هل تعود تلك الأيام ؟
    قلت :
    ـ لم يكن لنا فى الحرب العالمية ناقة ولا جمل كما قال شيخ الأزهر . أما هذه الحرب فنحن الناقة والجمل ..
    أطلت الوقوف بين ضلفتى الباب الخارجى للقهوة التجارية . لجأت إلى النحنحة ، فينتبه الأصدقاء من مناقشاتهم التى ابتلعت ما فى القهوة من ملامح وأصوات ونداءات . اكتفى كامل عبد الرحيم برفع يده محيياً ، وواصل الكلام ..
    أدركت أنه يتحدث عن التطورات الأخيرة ..
    كل ما حولك نطق بالحرب : السواتر ، والنوافذ المصمتة ، وكشافات السيارات المطلية باللون الأزرق ، وجنود البوليس الحربى المتناثرون فى النواصى ، وفى الميادين ، والكورنيش الخالى من الحركة . تحول الناس إلى آذان تلتقط ما تبثه الإذاعات المصرية من أخبار سقوط الطائرات ، وتقدم الجيش المصرى فى سيناء ، وتوغل قوات الصاعقة إلى داخل إسرائيل . السؤال : كيف نحرر فلسطين ، حل محله السؤال : ما صورة فلسطين التى نستعد لرؤيتها ؟ . الحكايات والصور : المسجد الأقصى ، وقبة الصخرة ، وأشجار الزيتون ، ومزارع البرتقال ، والبيارات ، والشوارع ، والميادين . كان النحاس باشا يقضى إجازة الصيف فى فندق الملك داود بالقدس . أزمع ـ بعد استعادة فلسطين ـ أن يحاكى زعيمه الجليل .
    أشار كامل عبد الرحيم إلى رجل يرتدى أفرولاً ، ويلصق عليه " بوستر " عليه شعار " مصر مقبرة الغزاة " ..
    ـ مصر احتلها اليهود ..
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ فال الله ولا فالك . سيناء ليست كل مصر ، وسنستردها بإذن الله !
    قال أنور عيسى :
    ـ لماذا لم يطل المقهى نوافذه ، ولا وضع سواتر ؟
    قلت :
    ـ النكسة فاجأت الجميع .
    قال حنفى جامع :
    ـ صفعة لم نستطع ردها !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ نحن لم نهزم من إسرائيل .. الفساد هو الذى هزمنا !
    قال حنفى جامع :
    ـ كنت أتصور فساد رأس السمكة . لم أكن أعرف أن جسد السمكة كله تعفن بالفساد !
    وأظهر التأثر :
    ـ تصورت أن الجيش بعيد عن الفساد . ثم اكتشفت أن الفساد نخر فيه حتى العظم ..
    تصورت ـ بالأناشيد ، والبيانات العسكرية ، وصوت أحمد سعيد ـ أن النصر فى قبضة اليد : راجعين بقوة السلاح .. راجعين نحرر الحمى . ولا يهمك يا ريس .. م الأمريكان يا ريس .. حواليك أشجع رجال . خلّى الصقور الجارحة تنهش لحمهم .. خلى الصحارى الواسعة تشرب دمهم ..
    لم تكن تفتح الراديو ، ولا تجلس لسماعه ، ولا تفتح التليفزيون . أجهزة الراديو والتليفزيون مفتوحة على آخرها . يتناهى ما تبثه من النوافذ والشرفات والأسطح والمقاهى والدكاكين ..
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ أثبت قادتنا العسكريين أنهم برعوا فى كل شئ إلا العسكرية !
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ أعلن الرجل تنحيه ، فطالب الشعب بعودته !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ كان عليه أن يعالج خطأه ، فإن لم يستطع يواجه المحاكمة !
    أضاف بلهجة من يريد أن ينهى المناقشة :
    ـ لم يكن دور طاولة فقده ، فطلب إيقاف اللعب !
    قلت :
    ـ ما يحيرنى أن الطريق من السويس إلى القاهرة ـ باعتراف عبد الناصر ـ كان سالكاً ، لكنهم اكتفوا بالوقوف على البر الشرقى ..
    قال عبد المنعم فرغلى :
    ـ عندها سيواجهون ما لا يتصورونه فى بحر البشر !
    قال كامل عبد الرحيم :
    ـ أظن أنه آن الأوان لكى نعترف أن حربنا مع أمريكا وليس مع إسرائيل ..
    ـ ماذا تقصد ؟
    ـ أقصد أن نلمها ، فلا قدرة لنا على المواجهة !
    قلت لهانى :
    ـ لماذا تتظاهرون الآن ، بعد أن طالبتموه بالعدول عن التنحى ؟
    قال :
    ـ لم يكن ذلك ـ كما تعرف حضرتك ـ لسواد عين عبد الناصر . كان البديل ضياع البلد !
    لم تعد تسأل : أين كنت ؟. تعرف أين كان ، وماذا يفعل .
    كنت قلقاً من تصرفاته ، لكنك كتمت الإشفاق ، وربما الغضب ، فى داخلك ، وتركت القرار له ، هو الذى يتخذه ، حتى لو تحملت النتائج بمفردك ..
    قلت :
    ـ هذه مظاهرات الطلبة ، وما أعرفه أنك تخرجت هذا العام ..
    ـ أشارك فيما حدث بصفتى مواطناً !
    ضغطت على الريموت كونترول ..
    فيلم ما بعد الثانية صباحاً فى القناة الثانية . شاهدته فى سينما بلازا ، ربما قبل أن تدخل الجامعة . لم يعلن أبوك استياءه ، وإن عكست ملامحه ضيقاً واضحاً . ثانى يوم ، تحدث أبوك عن الظروف القاسية . أصبحت مسئولاً عن تأمين معيشتك واحتياجاتك ، وما تحتاجه الأسرة . تذاكر اللغات ، وتعطى فيها دروساً . تعد للمستقبل بالتحصيل العلمى والمادى ..
    لو أن أباك لحق التليفزيون ، ولحق القنوات الفضائية ، والريكورد كاسيت ، وتكاثر الإذاعات ، واتساع مساحتها الزمنية بامتداد ساعات اليوم .
    أنكرت ـ فى البداية ـ أنك من يتحدث إلى الرجل فى التليفون :
    ـ النمرة غلط !
    قال الصوت المنفعل :
    ـ اسم الشاب مسعد رفعت القبانى . هو ابنك أو قريب لك ..
    أردف بسرعة :
    ـ إذا كنتما على خصام انس الأمر مؤقتاً ، لأنه يموت ..
    صرخت :
    ـ ماذا ؟
    ـ أكلمك من قسم الاستقبال بالمستشفى الأميرى ..
    استعدت حادثة لم يمض عليها أربعة أعوام ..
    ـ ماذا حدث ؟
    ـ عند قدومك اسأل الطبيب ..

المواضيع المتشابهه

  1. أصداء باهتة ـ قصة قصيرة للكاتب الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 29-11-2006, 11:04 PM
  2. حارة اليهود ـ قصة قصيرة للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 26-10-2006, 07:48 PM
  3. عنترة، قصة للأطفال، بقلم الروائي الكبير: محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 03-05-2006, 11:15 PM
  4. قراءة انطباعية (عندما تموت الملائكة ) للروائي الكبير أ/ سعيد سالم
    بواسطة صابرين الصباغ في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-04-2006, 05:16 AM
  5. خمس قصص قصيرة جدا، للقاص الكبير محمد جبريل
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 02-03-2006, 02:30 PM