المجزرة
توضيح
أحداث هذه القصة حقيقية .. و إن اختلفت المُسَمَّيات .
استيقظ الشاب من نومه على قبلة حانية من أمه تحثّه فيها على الاستيقاط , كان من الواضح أنه مرهق بشده , فقد كان الانتقال اليومي و عدم الاستقرار هو سمة اليومين الماضيين , تثاءب في محاولة للاستمتاع بقسط أخير من النعاس قبل أن ينهض سريعا ليستعد للخروج مع أبيه وأمه للبحث عن مكان جديد للحياة .
خرج ثلاثتهم من البيت و الترقّب رابعهم , كان الطريق موحشاً ومهجوراً , لا أثر فيه للحياة , إلا أنه كان يتوجّب عليهم المرور منه . عَلت سحابة من الصمت المكان ، و ارتسم على وجوههم الأسى و هم يعبرون ذلك الطريق , ذلك الطريق الذي سيظل إلى الأبد وصمة عار على جبين الأوغاد الأنذال الذين تجرّدوا من كل مشاعر الرحمة , ذلك الطريق الذي شهد أبشع عملية إبادة شهدها التاريخ .
كان الأب هو الوحيد الذى نجا بأعجوبة من تلك المجزرة التي ارتكبها الأوغاد , تلك المجزرة التي لن يستطيع الزمن أن يمحوها من ذاكرة التاريخ إلى أبد الدهر من هول شناعتها , لقد أفنوا شعباً بأكمله , و كأن قلوبهم كانت من الحجارة أو أشد قسوة , كان هدم البيوت هو هدفهم الأول دائماً كي يتم إجبارهم على الخروج في العراء ؛ كي تتم إبادتهم بصورة قاطعة . استعملوا معهم كل الوسائل الشرعية و الغير شرعية , و لضمان إنجاح عملية الإبادة , انهالوا عليهم بالغازات السامة , و لم يكتفوا بنشرها فى الهواء الطلق فحسب , و إنما و بطرقهم الشيطانية نشرونها داخل ما تبقى من البيوت و في كل حجر زاوية من الممكن أن يجد الهاربون فيه أمل أخير للنجاة , كانوا مُصرِّين على إفنائهم بأية طريقة , حتى الذين لفظوا أنفاسهم مُسمّمين في الطرقات بفعل تلك الغازات , لم يراعوا معهم حُرمة الموت ، بل و بكل حقد و غل سحقوا أجسادهم سحقاً بأسلحتهم الضخمة ، كأنهم – الجبناء – يخشون من أن يقوم الموتى مرة أخرى . بدا ذلك جليّاً في حرصهم على أن لا يتبقى شيئا من أشلاء الجثث و كأنهم كانوا يريدون محو جريمتهم الشنيعة .
كان شريط الذكريات يمر في رؤوس ثلاثتهم في توقيت واحد عندما عبروا من ذلك الطريق , دون أن يكون هناك اتفاق ما على بدء هذا العرض .!!
وفجأة وبينما هم في منتصف الطريق , إذ بالأوغاد يظهرون في الأفق .
وبكل رعب الدنيا رأوهم قادمين مرة أخرى .. لا بد أنه كان كمين ما , لقد وجدوهم أخيرا .
صرخ فيهم الأب ليبتعدوا سريعا, فقد لاحظ ذلك الدخان الأبيض الذى بدأ ينتشر في الأجواء و الذي ينبأ بإنتشار الغاز السام , حاولوا الابتعاد قدر استطاعتهم وأخذوا في العدو بكل ما فيهم من قوة .
جذب الشاب أمه في حزم و هو يحتمي بأحد الجدران على جانبي الطريق , بينما أخذ الأب في مراوغة الأوغاد في محاولة يائسة منهم لصرف انتباههم عن أسرته , و رأى الشاب من مخبأه أباه وهو يهرب من أولئك القتلة وهم يطاردونه بشراسة بأسلحتهم الضخمة الثقيلة التي تحيل الجسد إلى أشلاء في لحظة واحده , إلا أن أبيه كان يعرف الطرقات جيداً و ...
و بكل لوعة رأى الشاب أبيه يسقط فى الكمين , بالتأكيد لم ينتبه أبيه إلى ذلك السد الخشبي الذي أقامه هؤلاء القتلة في نهاية الطريق , و برغم المفاجأه إلا أن رد فعل أبيه كان سريعاً , كان يدرك أنه ليس هناك مخرجاً آخر , لذا فقد حاول تسلق ذلك السد الخشبي في سرعة , حتىكاد يصل إلى نهاية السد , فوجئ بذلك السائل الحارق ينصب عليه من تلك الطائرة الصغيرة مُلتهماً جسده بلا رحمة , مما جعله يفقد توازنه و يقع من هذا العلو على الأرض متألماً , لم تقتله السقطه , حاول النهوض لمعاودة الهرب , إلا أن المزيد من السائل الحارق انهال عليه , وعلت صرخاته المتألمة المكان قبل أن تسكن حركته تماماً .
أخذ الشاب يصرخ في هستيرية و أمه تحاول تهدئته بالرغم من دموعها , كانت الرغبة في الانتقام تملأ قلبه المحترق ألماً , إلا أنه كان يدرك أنه يجب عليه أولاً حماية أمه و إتمام عملية الهروب , كتم غضبه في غيظ , و ارتسمت على وجهه ملامح الجديّة و الصمود , أشار إلى أمه كي تبقى مكانها , ابتعد قليلاً عن ذلك الجدار كي يحصل على رؤية أفضل تُمكّنه من تأمين طريق الهروب له و لأمه , رسم طريقه جيداً و التفت إلى أمه و أشار لها لتتبعه , ولم تتحرك أمه سوى خطوه واحده قبل أن يهبط عليها ذلك الجلمود الضخم ليسحقها تماماً .
وبكل غضب الدنيا صرخ .. كان شعور العجز يحيل غضبه إلى حمم مكبوته , لم يكن يستطيع أن يفعل شيئا , إنه لا يعرف كيف يحاربهم ، لا يعرف كيف يقتلهم , حتى أنه لا يدرى لماذا هم يقتلونهم ؟ .. إنه لا يعرف سوى الهرب منهم فقط .
أخذ يعدو هارباً , وصورة قتل أبيه و أمه أمام عينيه بتلك الصور البشعة , تُمزّق قلبه ألماً .
بدأ يشعر بالألم ... إنه لا يستطيع أن يتنفس . أخذ يحاول الهرب ولكنه لم يعد يستطيع المواصلة , لقد تمكن منه ذلك الغاز السام ... وقع أرضاً ... الرؤية تبدأ في الإنحسار .. حركة جسده تسكن تدريجياً أثناء رحلة روحه في الخروج عن جسده ... إثنان من القتلة يتطلّعون إليه و علامات السعادة على وجهيهما .
أخذت الفتاة الصغيرة تصفق بجذل وهى تقول لأبيها " رائع يا أبى لقد قتلتهم جميعا , أنا أكره الصراصير أنهم مقرفون جدا , الآن أستطيع العيش فى هذا البيت الجديد "
تطلع الأب لابنته الصغيرة وربت عليها قائلا " لا تخافي يا حبيبتى , و لكننا جئنا توا من السفر ولم يدخل أحد هذا البيت من خمس سنوات كاملة , ولهذا كان من المتوقع أن تكون به تلك الحشرات ولكننى قد أخليته و نظَّفته تماماً ."
وطبع قبله على جبينها ..
تركته و هى تجري إلى أمها لتحكي لها عما حدث ..
تــمـــت
أحمد فؤاد
24/06/2002