المركز الأولأسرار البكاء
سمر سليم الزريعي /فلسطين
أسرار البكاء قصة ترجمتها بعد غيبوبة الصمت التي عاشها حرفي .. فأرفقتها بقصيدة نثرية ربما القصة لم تحتمل صراخ الحرف أكثر .. مشاركتي في البداية كانت هكذا وبعدها نظراً لشروط المسابقة ألغيت القصيدة لأنها نثرية ونشرتها في المنتدى كقصيدة مستقلة .. أحببت أن أسلط الضوء على معاناة الفلسطيني في بعض الأوطان العربية ..
***********************
تلوم ملامح زمن تعرفه فقط باللون الأبيض والأسود .. تعاتب شقوق الزمن الصغيرة لاحتضانه غربة متوارثة بغباره القاتم فسكنوا ذلك الغبار حتى تملكهم ..
أيقظتُ دمعةً منتصبة بعد أن أعانتْ الجفن المسن على الوقوف سمحتُ لسطو اختزل الجلد في المغيب ...ينفث أسماء مشبعة بالوطن ليلاً ليقفل خلفه أسواراً تتناسل لزمنٍ و عند ذلك الطريق تصطادني رطوبة عمر لتتوهج الجباه بتراكمات لفرح وثير ...
كم أشتهي ضحكةً صاخبةً مدوية تكتم خرافة اللاعودة فيتسرب إلى دمي ملامح بذور طفل زارعاً غرقي ، فلنبتعد أو نقترب صغيرتي من الوصول لشرفة الصباح ...آهٍ ..كم يعذبني نسياني بين أسرار البكاء معكِ .
وتحرير صغيرتي القابعة في دمي تنتظر معي العودة لبئر السبع حيث انتفض من رحم أرضها والدها ووالدتها ، تبحث بأناملها النحيلتين عن مقعد لها في أزقة عمر والديها فتنتظر أن يمر القطار أمامها لتحجز لها ولوالديها المقعد الأول فتكون أول الواصلين لوطنها حيث يحملها القطار إلى حضن غيمها ، تغمض عينيها لتلتقط صوراً بكائية .
أخاطبها في قصتي بطفولة برية تسربت من بين يدي حيث نأمل اللهو واللعب والنطق السليم لاسم مدينتنا فتؤنبها مشاغبات الطفولة في هذا البلد
تتذكر الصور المائية وأصوات حجرية لهم .
- أنتِ هاربة من الوطن من الحرب
- تخفي دموعها وتشعل غضبها
- أنا .. أنا ..لست ...
لا يفهمون ما رددته تأتأة حروفها القاصمة لظهر الحياة فيحتفلون بفوزهم عليها بعد أن تفوقت عليهم في المدرسة ، تتعرف على حقد العدو المحتل لأرضها في أعينهم تشاهد أساليب الإذلال والاحتقار، فالبارحة وضعت إحدى مشاغبات الطفولة مسطرة في حقيبتها واتهمتها بسرقتها ، واليوم تنظف الفصل بمفردها ، وغداً وبعد غد ماذا ينتظرها ....
تعود منهكة من مطاردة عالم غريب لها يطلب منها العودة لوطنها، يلاحقها هذا العالم حتى في أحلامها في أصوات السيارات المزعجة بأضوائها الوحشية فتعود بذاكرتي معها إلى ذلك اليوم ، كنت أراها بأعماقي غارقة في الصوت المبحوح ، أكاد أسمع صوت والدها يشرح بحروفه الملتئمة سبب ترحيل الفلسطينيين ..
- سنترك البيت والبلد يقولون أن وطننا تحرر
- سنعود إذن لفلسطين
- بل سنسكن الصحراء لدينا مهلة 48 ساعة لمغادرة البلاد وهذا حال جميع الفلسطينيين وأصحاب البيت سيستولون على أثاثنا ..
( .. تستغرب الوضع وأستغرب معها صمتي )
- فالصحراء لا توجد فيها منازل أو مدارس .
فما بين الحرف الأول والحرف الألف صحراء غابت بين كثبانها مظاهر الحياة بألوانها الهازئة ، تأخذ أنظارنا عنوة إلى الخط الفاصل بين أرضها وسمائها والسراب يغمرنا أملاً فيجوب خيامنا التي توزعت أطرافها الذابلة هنا وهناك .
أجلس قربها دون أن تراني ، أرصد ثنايا تعجبها وألمس حنينها و سنيني المتآكلة على عتبات المنفى يصطادها عبق فلسطين ، في الخيام تبتعد تحرير عن الخيام وبيدها دميتها المصنوعة من قماش فتلمسني برعشة الليمون بزهر الحنين تتذوقني ..
تلعب بدميتها تحدثها علها تتحدث فتخبرها ماذا يحدث داخل الخيام ..؟
- في تلك الخيمة يشرح المعلم الدروس للتلاميذ وهناك تتجمع النسوة لتخبزن للجميع وهناك يتجمع الرجال لسماع الإذاعة التي تذهب وتأتي دون إذن، وهنا وهناك .... وأنا معك
تسألها .. يقولون هناك تقع فلسطين أصحيح ذلك ..
فتتقدم لتقترب حيث أشارت بإصبعها تجلس على الأرض فتلتقط حفنة تراب تطايرت مع الريح فتخبر دميتها ..
- هذه حبيبات تراب تطايرت من وطني ... تخفيه في جيب دميتها المصنوعة من قماش خشية أن تضيع وتهمس فتقول لهم غداً سأعيدك أنا للوطن ، سأعيد كل حبة تراب إلى أصلها لتغرس بين أخواتها ونزرع شجرا ( تقف تحرير وترفع يدها إلى أعلى نقطة تصل لها يدها ) أطول من والدي بكتير..
تنشر بلغتها الطفولية أحلاما على أشعة الشمس النابعة من السماء فتصحو من حلمها لتعاتب الشمس التي جففت أحلامها الندية ، فتبكي لأنها نسيت حلماً واحداً تجهد ذاكراتها الصغيرة بأسئلة متلاحقة وبتعاقب السؤال وعدم الجواب تترك دميتها جانباً لتفتح جيوب السماء وتمنح الغيم المراقب دموعها وأحلامها لتمطر حياة تنغرس مدناً ..وطناً ..تتبع آخر خيط للنهار لتستعجل الغد بالمجئ تمسك بساعة رملية هى من يديها لتراقب الزمن فترى من بعيد عشر حافلات تقترب من الخيام
- هذه الحافلة ستنقلنا للوطن
تنتشر على ملامحها بذور الحياة الجديدة تركض مسرعة إلى والدتها تبتسم و تركب الحافلة لتجلس في المقدمة وتكون بذلك أول الواصلين تغير مقعدها كل حين وتستقر أخيراً في المقعد الأخير تُحَضِر نفسها للحديث الطويل وتشكر الله لأن الشمس لم تجفف حلمها وبعد ساعات يصعد الجميع للحافلة بعد أن فُكت الخيام ويأخذ الجميع مكانه في الحافلة وتغلق الأبواب وتنطلق لتعود من حيث أتت.
تسأل والدها
- لماذا يمشي بعكس الاتجاه ..فلسطين تركناها بالخلف ؟
( لا أحد يجيب ) يضيع صوتها في السؤال المكرر ...تبكي تحرير .. تفتح نافذة الحافلة وتنادي على دميتها التي تحمل تراب الوطن .. ولا مجيب تصرخ بصوتها
- لقد خدعنا السائق
- لقد خدعنا السائق والدي ...
اعذريني صغيرتي لقد تركتك صامتة حينها ...
هزمتني يا أنا
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
ودعي الإنطفاء المهيب
دعي الإنطفاء
يقتات قافلة الـ آه
ويعود مع الصوت صداه
في الوريدِ .. لا يختبئ
سواكِ أنتِ والمساء
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
حملت شفاهكِ
صرخة
أبوابها .. على دمي
موصدة
أقف أمامها .. وأنثني
أنثني وأنثني وأنثني .. ثم أنحني
حتى في العروقِ .. يغلي دمي
دمي المتسرب من ضفتي
من ضفائركِ .. إليكِ
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
أداعب فيكِ .. طفلة
هاربة
من الجليد .. من البرية
من الإنتظار المقيت .. فيكِ
هاربة
أنبتيها في يدي
ميلاداً جديداً .. هيا ابزغي
ومن ثمار الماء .. بين غصنين في صدري
اقطفيه
بشروق الصباح المجيد
أرميه
بغروب الشفق العتيد
أبقيه
بتراب الطين العنيد
لا تؤذيه
...
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
سأعلن تنظيمي العلني
جهراً
في وضح الكلمات المختبئة
قصراً
في حانة الصدى المبحوح
في واحة المدى المجروح
في النار .. المؤجلة
في الأصوات .. المتحجرة
في الليل المشتهي
هزمتني يا أنا
دعيني ..
دعيني أوشمه بجبيني
فمنذ عام الفيل ..
إلى وريد القناديل
وحلمنا المنحاز .. لترابي
يتآمر علينا
اعتنقي الصوت .. يا أنا
عند آخر البكاء
ألمحك قطرةً مبتهجةً ..
مرحة
في النور ..
في العتمة
في علامات إستفهام ؟؟
المسألة
فما أنتِ .. إلا أنا