ليــل أبــدي
إهداء
إلى تلك التي ترقد في تجويف القلب
منذ زمن
عله يسري في بدنها البارد
نفحة وجودي
وتدب فيها الحياة
فتفر من ليلها الأبدي البهيم
موسى
ليــل أبــدي
ليل طويل بارد، وأحضان زوج باردة، وعذابات طويلة تجلد ذاتها ووجودها، ونهار لا يريد أن يأتي أبداً رغم محاولاتها المستمرة لنزعه من ليلها الأبدي.
الإنسان يعيش مرة واحدة وليس مرتين.
هكذا قال لها في إحدى المرات القليلة التي جمعتهما معاً في مدرسة قريتها التي عملت فيها لمدة عام دراسي واحد فقط.. كلماته كانت دائماً ترن في إذنيها وتتجسد في حياتها في أفعال كثيرة كانت تقوم بها وهي غير راضية عنها.. كان متزوجاً ولديه أولاده الذين يعلن دائماً بمناسبة - ودون مناسبة – أنه يحبهم، وهي كانت في بداية أيام خطوبتها لأول منقذ طرق بابها بعد أن علمت تماماً أن فارسها المغوار قد سقط من فوق جواده الأبيض وكُسر ولن تقوم له قائمة بعد ذلك، كما أنه لاذ بالفرار إلى القاهرة لتحسين أحواله المعيشية.. دفعها ثرائها إلى أن تطمع في شئ واحد فقط منه هو أن يتقدم لها رسميا ويترك الباقي عليها.. لكنه لم يفعل رغم حرصها المستمر على ألا يمس هذا الموضوع كرامته أو يشعر لمجرد شعور أن قدره قد ينتقص قيد أنمله.. حين برقت صورة منزله الطيني الراسي على حافة الترعة التي تشطر البلدة إلى نصفين كان قراره بالفرار فلم تنفعه علوم الهندسة التي تلقاها أو تشفع له أو حتى تعطيه الفرصة لكي يطبق ما درسه في كلية الهندسة على منزلهم النقود في حالة فرار دائم منه فكلما رأته أو رآها تتداول في أيدي البشر- الذين ليس منهم – تهرب وكأنها تآمرت مع الزمن عليه وعلى أسرته.ضغطت التجربة على قلبها بشدة حتى اعتصرته فلم تجد بداً من الموافقة على ذلك الذي أنقذها من نظرات قاتلة كانت تحاصرها في عيون كل من حولها.. أعلنت في حيثيات موافقتها على المنقذ أن الناس في القرية يقولون عنه أنه طيب القلب لم تكن تريد من الدنيا أكثر من قلب طيب بعد أن خانها قلب "محب" كما أنه حاصل على بكالوريوس صيدلة ويعمل بالكويت بأجر عال جعل في استطاعته أن يقدم لها كيلو من الذهب الخالص عندما قام بخطبتها لكن لم يستطع هذا الكيلو أن يحرك مشاعرها نحوه بشيء فقد احترقت وخمدت ومات معها إحساسها الذي دفنته في مقبرة ذاتها منذ أن هرب فارسها من جحيم وجودها أمامه كل حين.. قبل أن تمر بها الأيام مسرعة عادت كلماته ترن في أذنيها مرة أخرى:-
الإنسان.. يعيش مرة واحدة وليس مرتين.
تستعيدها بينها وبين نفسها في همس غير مسموع وهي تقف في شرفة الطابق الثالث من المدرسة تتأمل المقابر القريبة التي دفن فيها معظم أفراد عائلتها أخرهم خالها الذي كانت تحبه كثيراً.. قفزت مباشرة من الطابق الثالث حتى استقرت على فوهة أحد الأقبية الخالية...دخلت بلا تفكير تمددت داخل القبو وأغلقت جفنيها.. مدت ذراعيها فوجدته ممدداً بجوارها اقتربت منه بشفتيها تريد أن ترتشف من رحيقه الكثير...استيقظت على نقرات أصابعه الحانية وهي توخز كتفها الأيمن ابتسمت ووضعت يدها فوق فمه وقالت له:-
الإنسان يعيش مرة واحدة وليس مرتين.
اقتربت منهما زميلة لهما في المدرسة كانت تُعلم الأولاد طاعة الله وأصول الدين قالت وهي تبدل نظرها بينهما في حسرة:-
هذا صحيح.. إن الإنسان يعيش مرة واحدة وليس مرتين، والحياة رحلة قصيرة جداً مهما طالت لذا يجب علينا إلا نضيعها في معصية الخالق.
عادت الابتسامة الخفيفة تمرح على شفتيها مرة أخرى وقالت له بعد أن ودعتهما زميلتهما وتمنت لهما سلامتهما الروحية:-
حياة بلا أمل وإحساس ميت.. ماذا تفيد أذن السلامة الروحية؟
انصرف عنها متأملاًُ المقابر فعادت تقول له:-
حبيب أحببته بكل جوارحي، وأعطيته كل شئ إلا أنه عجز عن الارتباط بي، وخطيب لا أحبه يطوق عنقي ومعصمي وكفى بقيود لا أطيقها.. وأخيراً أنت.. المتزوج.. هاها.
أنـا !!!
نعم أنت.
وماذا عني؟!!
يبدو أن إحساسي ما زالت فيه بقية من حياة يريد أن يتشبث بها علها تعينه على مرار الأيام القليلة الباقية في عمري.
السلامة الروحية أولاً.
حياة بلا أمل وإحساس به بقية من حياة كنت أظنها قد انتهت ماذا تفيد إذن السلامة الروحية؟
أدرك في التو أن اليأس تمكن منها تماماً وأنها بالفعل تحمل داخلها ذلك الجثمان الثقيل لإحساسها وحتى وأن كان ينبض ببعض الحياة فهي لن تقبل به إلا إذا عادت إليه الحياة كاملة.. مرت الأيام بطيئة وحبه لها يكبر ويكبر داخله. لم تقف زوجته وأولاده حائلاً أمام هذا الطوفان من المشاعر ففي إحدى المرات القليلة التي جمعتهما معاً داخل جدران المدرسة اعترف لها.. رآها لأول مرة تضحك بجد ومن قلبها أيضاً ورأى جسدها الذي أخذ يتضخم ويتضخم حتى صارت عملاقة وعندما أرادت أن تحتويه بذراعيها ذكرها مشرف اليوم بموعد حصتها القادمة.. انتفضت وارتعشت أوصالها وذهبت لتلقى علمها على الطلاب بعد أن أدركت تماماً أن ثمة حياة جديدة أخذت تدب في داخلها،وأنه لأول مرة تقتنع أنه من الممكن أن تعود الحياة مرة أخرى لميت قد مات منذ زمن،أو قد أشرف على الموت. نبضت الحياة في جثمان إحساسها وارتعش لسماعه كلمات زميلها.
عاشت أياماً قليلة في حلمها الجديد تهدهد إحساسها الذي قام من رقاده- الذي ظنته رقاداً أبدياً- إلا أن الموت الحقيقي هاجمه مرة أخرى مع اقتراب موعد زفافها إلى خطيبها الذي لم تحببه قط ولن.. فتم الاغتيال على يد رجل الدين وبمباركة المدعوين بابتسامات مزيفة.. لم يمر وقت طويل على واقعة الاغتيال الأخيرة حتى عاد زوجها مرة أخرى للعمل في الكويت.. لم يحتمل بُعدها عنه فأرسل في طلبها.. لم تجد بداً من الإذعان فأذعنت مقهورة.. جواز سفرها يحمل بين صفحاته شهادة غيابها للمرة الأخيرة.. عندما وطئت قدمها لأول مرة أرض المطار تجاهلت وجود زوجها واتجهت مباشرة إلى مكتب صحة المدينة لتستخرج شهادة وفاة جديدة لإحساسها، بينما هو زميلها المتزوج يجلس أمام تلفزيون بلاده يشاهد برنامجاً وثائقيا عن دولة الكويت أعُد خصيصاً للاحتفال بذكرى تحرير الأرض من أيدي الغاشم.. حين شاهد البرجين الشهيرين السامقين في سماء العاصمة الكويتية اقترب من شاشة التلفزيون حتى تطابقت شفتيه عليها تماماً ثم طبع قبله حارة تسربت عبر الشاشة حتى استقرت فوق قمة أحد البرجين فشكلت نتوءاً بدا واضحاً للجميع، بعدها أخذ يداعب زوجته وطفلته في حنان غريب.. في الصباح وهي تقف في شرفة منزلها المطلة على الميدان الذي يحتل قلبه البرجين الشهيرين استرعي انتباهها ذلك النتوء الغريب الذي يرقد أعلى قمة أحد البرجين.. حاولت أن تدقق نظرها فيه جيداً حتى تعرف ما هو لكنه-أى النتوء- لم يعطها الفرصة حيث اهتز النتوء اهتزازات عنيفة هزت معها جسد البرج كله وطار في الهواء صوبها مباشرة حتى وصل إليها واستقر فوق شفتيها تماماً محدثاً صوتاً يشبه صوت احتكاك شفاه ذكر بشفاه أنثى في لحظة غرام نادرة،إحساس غريب غمرها بحضن دافئ ذوب جبال الجليد الجاثمة فوق صدرها الصامد.
وقتها عادت كلمات زميلها في المدرسة ترن في أذنيها مرة أخرى:-
الإنسان يعيش مرة واحدة فقط وليس مرتين.
اتسعت شفتاها بابتسامة فياضة وقالت:-
لا يعيش مرة واحدة أو مرتين فقط بل يا حبيبي الغائب من الممكن أن يعيش الإنسان المحب مرات ومرات ومرات..............
قالتها وبعدها أسبلت عينيها وراحت تطير في سموات لم تطأها قدم بشر من قبل وأخذت ترفرف بذراعيها تشق موج السحاب الأبيض في السماء حتى وصلت إلى حيث يوجد البرجين.
لم يكن حديث للناس في الكويت كلها إلا عن ذلك النتوء الذي ظهر واختفى فجأة وعن ذلك الجسد الذي يشبه الأنثى الذي أخذ يطير ويطير حول البرجين حتى استقر مكان النتوء المختفي فوق قمة أحد البرجين الشهيرين.
بقلم موسى نجيب موسى