أين يضع النقد الأدبي أقدامه؟
النقد إبداع، وكشف لحركة الحياة ، والنفس من خلال الكشف عن حركة الأدب الداخلية، والمجتمع الذي يرتقي إلى مرحلة الاهتمام بالنقد الأدبي يكون قد اجتاز ممرات كثيرة لأن النقد الأدبي بحد ذاته أعراف جمالية تستقي من المجتمع نفسه، وقد استطاع أجدادنا أن يورثوا لنا تراثاً نقدياً كبيراً من خلال مناقشة حركة الأدب المفرزة بطبيعة الحال عن حركة إنسانية. وفي هذا الزمن الصعب بمفاهيمه. وأدبه ورجاله يقف النقد حائراً أين يضع أقدامه؟ وكيف يمكن له أن يتحرك في زحمة من النصوص، والأجناس الأدبية التي تبحث عمن يكشف أفاقها، وأبعادها، وفضاءاتها؟
ولا شك أن النقد الأدبي فعالية مازالت مرتبطة بالأدب، على الرغم من نزوعها إلا الاستقلال عنه، فهو خطاب على خطاب وتربطه بالأدب علاقة جدلية علاقة تأثر، وتأثير ديالكتيك، وإذا كان نقادنا القدامى ينظرون إلى النقد على أنه (تمييز جيد الأدب من رديئه).
فإن النقاد المحدثين يرون في النقد الأدبي المعاصر آفاقاً أخرى، لأن النص الأدبي الحديث يتيح لنا رؤى "نقدية، متغيرة، ومتنوعة نفسية، واجتماعية، ولغوية، وأسطورية بحسب ثقافة الأديب أولاً، ورؤية الناقد الثقافية ثانياً، ذلك أن النقد الحديث طموح إلى إبراز وإظهار الحقائق المطلقة، فهو بحث عن الجمال، عن الفن، عن الفكر، عن المعاناة، والتجربة. وتزول من خلال هذا البحث عن جمال الحقيقة الحدود بين ما هو عقيدي، وبين ما هو نقدي، وتلغى نظرية (الفن للفن) .... أو (الأدب للأدب) ، ويصبح الفصل بين الأدب ، والأخلاق؛ أو العقيدة والأدب ضرب من المستحيل، ووهم خادع، وتتلاشى الحواجز بين الإبداع والنقد الذي ليس مجرد تمييز لجيد الأدب من رديئه بل هو فهم، وتفسير، وتحليل، وتقويم، وتقسيم، وتوجيه. لقد تطور النقد، وخرج من حدود الانطباعية إلى نظرية معرفيه تدخل فيها مختلف فروع المعرفة؛ وبتقديري: إن النقد لم يخرج عن كونه فناً إلى نظرية معرفيه متكاملة تخدمها مختلف العلوم الإنسانية بشكل تام.
لا أريد أن أسرد مفهومات النقد السابقة بل سأكتفي بالإشارة إلى أن مفهوم النقد قد طرأ عليه تحول، وتبدل، وتغير، وأصبح للنقد علائق كثيرة.
ولا مراء أن العلاقة القائمة بين الناقد، والأديب. حالياً هي علاقة غير مرضية، وإن كنت أرى أن بعض الأدباء يتمردون على أحكام النقاد، وهذا بالتالي يؤسس علاقة سقيمة مريضة فلا الأدب في موقع الاتهام، ولا النقد يستطيع أن يزعم أنه وصي على الأدباء. لقد ولّى عصر الوصايات لأن حركة التحضر، والتطور، والفكر تحتاج إلى تعاون، وتعاضد، وبرمجه.
وإذا لم يتحد الناقد، والأديب، فلن يكون هناك أدب، والخاسر الوحيد في ذلك هو (المتلقي القارئ) الذي يبحث عن نافذة تطور في زحمة الكون، والحياة. والناقد الحقيقي هو من أنصف نفسه أولاً فلم ينصّب نفسهُ قاضياً لأن مهمته أولاً، وأخيراً كشف عناصر الإبداع في النص الأدبي، كما أنه يفترض في الأدباء أن يستفيدوا من حركة النقد لأنها الخميرة الفعالة في بلورة الحركة الأدبية الإنسانية.
وإنني أهيب بالناقد الذي يرى في النص الأدبي المرجعية الأولى، والأخيرة، فلا يحكم على النص من خلال صاحبه، بل من خلال معطيات النص نفسه.
والحقيقة أن الساحة العربية مغرقة بنتاج أدبي كبير يحتاج إلى من يكشف عن بعض معطياته، ولكن النقد كالأدب يعاني من بعض القصور فإشكاليات النقد الثلاث (المنهج. الرؤيا. المصطلح) لم تحل حتى الآن.
ولم نجد من يحاول أن يؤسس لها بالشكل الصحيح إضافة إلى أن نقادنا لم يؤسسوا حتى يومنا هذا – نظرية للنقد – الأدبي العربي الحديث؛ صحيح أن نقادنا القدامى قد فرغوا من وضع أسس لنظرية (عمود الشعر)، و(نهج القصيدة العربية) وأسسوا لهيكلية وبنية القصيدة العربية، إلا أن نقدنا الحديث أمام تطورات جديدة في الحياة، والأدب والمعارف، والأجناس الأدبية كما أنه أمام تأثيرات مذاهب أدبية وافدة ، ومذاهب نقدية مستورده وأمام تداخل في النصوص العربية، والأجنبية، ولا يمكن لأي حركة نقدية أن تنهض إلا بعد أن ترى على الأقل الأدب في عافية.
وأعترف أن أدبنا ليس في عافية، فقسم كبير منه مقلد، إما للغرب، وإما للشرق، وأنا أرى أنه يجب أن يعاد النظر في كثير من الأسماء التي تعتقد أنها وصلت ذروة الأدب.
هؤلاء الذين يظنون أنهم عمالقة الأدب ،لأن كثيراً منهم لم ينهض إلا بفعل أيدٍ غريبة أو أفكار مأجورة أو أحزاب سقيمة أو انتحال لأدب الآخرين وذلك بترجمته وسرقته. لن أتباكى على النقد، والأدب كما يفعل الآخرون، ويصورون، ولكني أدعو إلى ضرورة الجد، والعمل، والتعاون للكشف أولاً عن جوانب الإبداع فيه، وجوانب الضعف ثانياً.
فالشعر مثلاًَ استطاع في عصوره السابقة أن يكون المرآة الصادقة لواقع، وهموم الإنسان، وقد كانت الغنائية في تلك العصور هي الطاغية ، ولكن واقع الحال أن الزمن الحاضر قد تغير بمفاهيمه، ومعارفه وطرق تعبيره، وأدواته، ووسائله، ولم يعد الشاعر يقف على تلة يتكئ على عصاً، وينشد معلقته والقوم ينظرون فيه نظر السقيم إلى وجوه العوّدِ ذلك أن مهمة الشاعر قد طرأ عليها الكثير من المتغيرات؛ فالشاعر صاحب عقيدة أولاً، وإن كان بعض الشعراء قد خلعوا عقائدهم أمام أبواب السلاطين، وصاحب كلمة ثانياً، وصاحب رؤيا واستبصار ثالثاً، والمغير لكثير من القيم الفاسدة رابعاً. والمنسق لقيم الخير، والحق، والجمال، والعدل خامساً، وكم من الشعراء ساهموا في صنع قيم مجتمعاتهم. لقد كان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحه وكعب بن مالك شعراء الدعوة الإسلامية، ساهموا مساهمة فعالة في الدفاع عن هذه الدعوة والعقيدة، واستطاعوا أن يحمّلوا شعرهم المضامين العقيدية الحقة، ولكن بعض شعرائنا اليوم يرون في الشعر فنّ اللهو بالكلمات، واللعب بسرك الشعر ركبوا موجة الغموض، وأبحروا وراء شعر الغرب، وتحللوا من القواعد الحقة للشعر، وزعموا أن الشعر تغير، وأن الحياة تبدلت، وأنه كما يدّعون على الشعراء أن يخرجوا على قانون الشعر. لقد بعض زعم المحدثين من الشعراء أنهم يريدون الخروج من دائرة التقليد للشعراء العرب القدامى، ولكنهم وقعوا في دائرة التقليد للشعراء الأوربيين.
وفي يقيني أن حركة التطور فاعلة لا محالة، ولكن ليس بشكل عشوائي، وما يفعله عدد من الشعراء المأجورين في سبيل الاتجاه بحركة الشعر إلى الانفلاش، والبعثرة، والتشتت، والتشرذم مدعين أن ذلك إنما هو خدمة لتطوير الشعر العربي، إنما يسهم في هدم حركة الشعر العربي، لا أريد أن أدافع عن القديم أو الحديث، هذه مسألة لن تحسم إلى الأبد، فالشعر عندي هو ما حقق شروط الفن الجمالي، والهدف القيمي سواء كتب على الطريقة الحديثة أم على الطريقة القديمة.