• قراءة جديدة في أوراق قديمة (2)

رجلٌ يَوْماً.. طِفلٌ كُلَّ يَوْم....!!
إبراهيم سعد الدين

"أيّتها الأشياءُ التي لمْ تأتِ في موعدها.. لَيْتَكِ لا تأتينَ قَطّ"

علّمونا ـ صغاراً ـ أن الإنسان خُلقَ ليكون رجلاً. أما الطفولة والأنوثة فكلاهما انحرافٌ معيبٌ عن الطبيعة يستوجبُ الشعور بالعارْ. كم من مرّة زُجرْنا فيها زجراً شديداً لأننا انسقنا كالعميان وراء نزقِ طفولتنا فضحكنا بصوتٍ عالٍ أو رَغِبْنا في شيء ممّا يخْطفُ أعْيُنَ الصّغارِ أو شعُرنا بخوفٍ أو تهيّبٍ أو حياءٍ إزاء شيء ما أو أحدٍ ما. وكم من مرّة هَوَتْ فيها صفعةٌ مُباغتة على وجه أحدنا لأنه ـ رغماً عنه ـ انبثقت دموع طفولته حُزناً أو ألماً أو ضعفاً وانكساراً. ودائماً كان يترادفُ مع تلك الصفعة صرخةٌ مُدوّية تنهانا عن البكاء مثل النساء. هكذا تعلَّمْنا أنَّ المرأةَ والطفلَ صِنْوان، فكلاهما مخلوق ناقص بالفطرة والسليقة. وتعلَّمْنا أيضاً ـ بالتبعيّة ـ أن نحبسَ طفولتنا في قُمقمٍ ونُغلق عليها الباب، ونضعَ على وجوهنا قناع رجولةٍ أشبه بذلك القفص الحديديّ المُدرَّع الذي يسكنه وحشٌ ما أو يحتمي به لاعبو الرّجبي في مباريات كرة القدم الأمريكية. أغلبُ الظّنّ أن أسلافنا الأشاوس الذين أرضعونا حليب الرجولة منذ نعومة أظفارنا رحلوا عن دُنيانا قبل أن يتكشّفَ لهم قَدْر التّشوّه الذي أحدثوه بنا حين حقنونا بهرمون الرجولة مُبكراً كي ننضج قبل موعدنا. أنا شخصياً على يقينٍ تام من أنّ أحداً من عشيرتي لم يشعرْ يوماً أو يُكلّف نفسه عناء النظر في عيْنيّ ليعرف كم تعذّبتُ برجولتي قبل الأوان وخجلتُ من طفولتي بعد الأوان. على أنهم ـ ولاة أمورنا الذين أُنيطَ بهم تنشئتنا في الصّغَرْ ـ لم يكونوا يُريدون بنا شَرّاً، بل على العكْس من ذلك كانوا ـ يقيناً ـ يُضمرون لنا الخَيرَ ويسْعوْن إلى أن يَصْلُبَ عودنا وتقوى ظهورنا في مواجهة حياةٍ يروْنَ أنَّ البقاءَ فيها للأصلح والأقوى شكيمةً والأشدّ أزْراً. لكن من قال إن العاصفة الهوجاءَ تُضْمرُ للشجرة الغَضّةِ سوءاً وهي تقتلعها من جذورها..؟! ومن قال إن طريقَ المآسي مفروشٌ دائماً بالنوايا الخبيثة..؟!. مهما يكن من شيء، فقد رحلوا عنّا راضين مُطمئنة نفوسهم ومُرتاحة ضمائرهم بعد أن شهدوا بأعينهم ما أثمره غرْسهم من قطوف، فقد سار كُلٌّ منّا في طريقه المرسوم مثل السّيْف استقامةً ومضاءً. تعلّمنا ووصلنا في التعليم إلى أعلى مراحله، والتحقْنا بوظائفنا وأبْليْنا البلاء الحسّن في أعمالنا حتى وصلْنا إلى أرقى المناصب. ربما هم معذورون في رضاهم عن أنفسهم وفخرهم بنا لأنهم رأونا من الخارج فقط كبنايات شاهقة برّاقة، ولم يجرؤ أحدهم قطّ على الولوج داخل هذه البنايات ليرى كم هي خاوية مسكونة بالوحشة والتعاسة. كبرْنا وتقدّمَ بنا العُمر، صِرْنا شباباً فكهولاً، وها نحنُ على عتبات شيخوختنا المُبكّرة. وفي كُلّ مرحلة من مراحلِ العُمْرِ لمْ يخْفُتْ صَوْتُ طفولتنا الحبيسة لحظة واحدة. ظلّ أنيناً مكتوماً يقضُّ مضاجعنا ويُشْعرنا بأننا ناقصون ومُبتسرون. ماذا نفعل..؟! بعضنا ظلّ ابناً بارّاً وحارساً أميناً على تُراث الأسلاف فأصمَّ سمعه وحواسّه وزاد من سُمكِ الجدرانِ فأخمد في داخله كلّ أثرٍ لطفولته التي لم تكن. والبعض الآخر اندفعَ ـ تحتَ وطأة إحساسٍ غير مُبرّرٍ بالذنب ـ إلى إغراقِ أبنائه وأحفاده بجرعاتٍ زائدة وباذخة من الطفولة. أما أنا فقد اختَرْتُ أيْسَرَ السُّبُلِ فَفَتَحْتُ بَابَ القفصِ لأُطلَقَ طيْرَ طُفولتي الحَبِيسْ. كان فِعْلاً نزِقاً وربّما هي رَغْبَةً مطمورةٌ في الّلاشعور تقادمَ عليها العهد: أن أشهدَ مرّة واحدةً في العُمْر طائرَ الطفولة الجميل وهو يُرفرفُ بجناحيه مُحَلّقاً في أجوازِ الفضاءِ، نافضاً عن ريشه الفِضّيِّ غُبارَ السّنين، مُعانقاً الرّيحَ مُغتَسِلاً بماءِ المطرِ وضَوْءِ الشّمس ونسيمِ البَحْر. غيْرَ أنّ شيئاً من هذا لم يَحْدُثْ. لماذا..؟! لأنني غفلتُ ـ مثْلكم ـ عن تلك الحقيقة البسيطة.. حقيقة الزمن. فطْيْري أيضاً كان قد تقدّمَ به العُمرُ وأصابه الهرَمُ وأقْعَدَتْه أسْوار سِجْنه عن النهوضْ، فظَلّ قابعاً مُنزوياً في رُكْنٍ بعيدٍ من محبسه، يَتطَلّعُ إليّ بعيْنيْن كليلتيْن كأنه يُنْكرني.

لا تُمصْمصوا شفاهكم ـ يا سادة ـ ولا يتصوّرَنّ أحَدُكم أنها مأساة تستحقُّ إشفاقكم عليَّ، فمن رَحْمَةِ اللّه بنا أنه لم يَحْرِمْنا كُلَّ نعمة، فمنحنا موهبة البُكاءِ على الأطلالْ.