الحكم العطائية وشرح جديد لها لفضيلة العلامة الشيخ الجليل محمد سعيد البوطي
يسعدني أن أقدم لكم بعضًا من هذه الحكم الرائعة لابن عطاء الله رحمه الله تعالى، والتعليق عليها بما فتح الله به عليّه،
يقول البوطي جزاه الله الخير:(لمع اسم ابن عطاء الله عالماً من أجلّ علماء الشريعة، مصطبغاً بحقائقها ولبابها التي تُحَرِّرُ الإنسان من حظوظ النفس والهوى، وترقى به إلى سدة الصدق مع الله، وتمام الرضا عنه، وكمال الثقة به، والتوكل عليه. ودرّس علوم الشريعة في الأزهر، وتخرج على يديه كثير من مشاهير العلماء، من أمثال الإمام تقي الدين السبكي، والإمام القرافي..
أما كتابه (الحكم) فلا أعلم كتيّباً صغيراً في حجمه انتشر في الأوساط المختلفة كانتشاره، وتقبلته العقول والنفوس كتقبلها له!..
هو مجموعة مقاطع من الكلام البليغ الجامع لأوسع المعاني بأقلّ العبارات.. كلها مستخلص من كتاب الله أو من سنة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ.
وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أما القسم الأول منها فيدور على محور التوحيد وحماية المسلم من أن يتسرب إليه شيء من المعاني الخفية الكثيرة للشرك، وأما القسم الثاني فيدور على محور الأخلاق وإلى تزكية النفس وأما القسم الثالث فيدور على محور السلوك وأحكامه المختلفة.)
فتعالوا نقرأ معًا ماقاله في هذه الفقرة:
حِكَم ابن عطاء الله والتصوف:
سيقول بعض الناس: إن العكوف على دراسة هذه الحكم إنما هو انصراف إلى (التصوف). والتصوف شيء طارئ على الإسلام متسرب إليه، فهو من البدع التي حذر منها رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ إذ قال: «.. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»(1).
وأقول في الجواب: أما الأسماء والمصطلحات فلا شأن لنا بها ولا نتعامل معها. وها أنا منذ الآن سأبعد كلمة (التصوف) هذه، من قاموس تعابيري وكلماتي، مع العلم بأن الأسماء والكلمات ليست هي التي توصف بأنها الإسلام أو هي البدع الطارئة عليه، وإنما الذي يوصف بهذا أو ذاك، مسميات الأسماء ومضامينها والمعاني التي جاءت الأسماء والمصطلحات معبراً عنها وخادماً لها.. فالمصطلحات والأسماء ليست هي المعنيّ بقول رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ: «محدثات الأمور» وإنما المعنيّ بها المعاني والمسميات التي تتمثل في معتقدات زائغة أو سلوكات باطلة.
ولكني، على الرغم من هذا، لن أتعامل مع الأسماء والمصطلحات الحديثة التي تثير حساسية بعض الناس الذين يتعاملون مع الأسماء والمصطلحات والشعارات أكثر مما يقفون على جوهر المعاني والمسميات. ولذا فلسوف أحاول أن أشطب كلمة (التصوف) هذه من ذاكرتي، فإن لم أستطع إلى ذلك سبيلاً، فلا أقل من أن أبعدها عن قاموس تعابيري وكلماتي خلال رحلتي هذه كلها في خدمة حكم ابن عطاء الله وتجلية معانيها.
على أن ابن عطاء الله أيضاً لم يدن إلى هذه الكلمة في شيء من حكمه هذه قط. بل إني لم أجده يعرّج على هذه الكلمة في أي من كتابيه (لطائف المنن) و(التنوير في إسقاط التدبير) وهما الكتابان اللذان أتيح لي أن أقرأهما وأستفيد منهما بالإضافة إلى الحكم.
إذن فلننظر فيما سنصغي إليه من هذه الحكم إلى اللباب والمعاني، ثم لنضع هذه المعاني كلها في ميزان كتاب الله وسنة رسوله. فما وافق من ذلك هذا الميزان قبلناه، وما خرج عليه وشرد عنه رددناه.
الإحسان وموقعه من الإسلام والإيمان:
ولرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ كلام عن الإحسان وأهميته والتعريف به في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب، يقول فيه جواباً عن سؤال جبريل له: « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ».
فهل سَاءَل أحدنا نفسه عن وجه الحاجة إلى الإحسان، بعد أن وضعنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ أمام حقيقة كل من الإيمان والإسلام؟
وهل تساءلنا عن موقع الإحسان وعن وظيفته بعد وجود كل من الإسلام والإيمان؟
إن سيرة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وسيرة أصحابه البررة الكرام، يبرز كل منهما وجه الحاجة إلى الإحسان، ويبرز الموقع الذي يشغله الإحسان بين قطبي كل من الإسلام والإيمان، لا سيما لدى المقارنة بين حياة رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وحياة أصحابه من جانب، وحياتنا نحن المسلمين والمؤمنين أيضاً من جانب آخر.
من المعلوم أن أركان الإيمان إنما تغرس يقيناً في تربة العقل، في حين أن أركان الإسلام سلوك يصطبغ به الكيان والأعضاء.
ولكن فما هو السلك الذي ينقل شحنة اليقين العقلي قوة دافعة إلى الأعضاء والكيان الجسدي؟..
لعلك تقول: لا حاجة إلى هذا السلك؛ فيقين العقل بأمر ما، يكفي وحده حافزاً إلى السلوك المناسب له.
غير أن هذا التصور باطل من الناحية العلمية، وهو باطل على صعيد الواقع الدائم المرئي!!..
كثيرون هم الذين آمنت عقولهم بالله، ولكن سلوكهم ناقض مقتضيات هذا الإيمان وخاصمه.. جمع كبير من هؤلاء كانوا على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وجموع أكثر من هؤلاء أنفسهم، يملؤون اليوم رحب العالم، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: {وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 27/14] .
والسبب العلمي في ذلك أن العقل ليس هو الحافز الوحيد في كيان الإنسان إلى السلوك، بل يزاحم العقلَ وينافسه في ذلك العصبيات والأهواء والأغراض، والعواطف بأنواعها، لا سيما «الدافعة»(2) وإذا لم يمتدّ بين العقل وكيان الإنسان هذا السلك الذي نتحدث عنه، فإن العقل لا بدّ أن يصبح هو المغلوب والمهزوم في هذا العراك. وعندئذ يصبح زمام السلوك بيد هذه العوامل الأخرى المتمثلة في العصبية والأغراض والأهواء ورياح العواطف المضادّة.
وانظر إلى واقع أكثر الناس، تجده مصداقاً لما أقول.
إذن، فلكي يمتدّ شريان (الإحسان) في عبادات المسلم وقرباته، بحيث يعبد الله كأنه يراه، لا بدّ أن يسري من العقل الذي آمن إلى الأعضاء التي استسلمت وأسلمت، سِلْكٌ من التأثير والفاعلية، بحيث يغدو المسلم يقظاً لحقائق إيمانه متفاعلاً بشعوره معها أثناء النهوض بطاعاته وعباداته.
فما هو هذا السلك؟ ومن أي شيء يتكون؟
إنه الإكثار من ذكر الله وتذكره، والإكثار من مراقبة الله والتنبه الدائم إلى مراقبة الله للعبد.. وخير سبيل إلى هذا التذكر الدائم، والوقوف المستمر تحت مظلة المراقبة الإلهية، ربط النعم بالمنعم، بحيث كلما وفدت إليه نعمة تذكر الإله الذي تفضل بها عليه، وهيهات لسلسلة النعم الإلهية أن تنقطع في لحظة من اللحظات عن العبد؛ إن هذا الإنسان الكريم على الله عز وجل، محاط من الأرض التي يعيش فوقها بآلاف النعم، ومستظل من السماء التي تعلوه بآلاف النعم، ومحشوّ من فرقه إلى قدمه بآلاف النعم، هذا كله بالإضافة إلى النعم الوافدة المتجددة التي لا حصر لأنواعها فضلاً عن عدّها وإحصائها.
فإذا عوّد العبد نفسه وأيقظ ذاكرته لتذكر الإله المنعم المتفضل، كلما أقبلت إليه نعمة منها، أو كلما تعامل مع واحدة منها، واستمر على هذا المنوال، اهتاجت بين جوانحه محبة عارمة لإلهه المنعم المتفضل، إذ إن النفوس مجبولة على حبّ من قد أحسن إليها. وكلما ازداد هذا العبد المغمور بنعم الله ذكراً وتذكراً لربه ازدادت محبته له رسوخاً وازداد تعظيماً ومهابة له.
ثم إن هذه المحبة الراسخة تلعب دوراً كبيراً في طرد محبة الأغيار من القلب، أو في تحجيمها وحصرها في زاوية ضيقة من الفؤاد الذي غدا جلّه ساحة لمحبة الله عز وجل وتجلياته. فتذوب في ضرام هذا الحب عصبيته للذات والمذهب ويتراجع سلطان أهوائه التي كانت مهيمنة على نفسه، وتذبل مشاعره الغريزية التي تتحكم بكيانه وتصرفاته. ويغدو عندئذ هذا الإنسان مظهراً للمؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 2/165].
فهل تتصور أن يقبل هذا المحب إلى صلاته دون أن يكون محسناً في أدائها، أي دون أن يشعر بأن الله يراه إذ يناجيه وإذ يركع ويسجد بين يديه؟ أم هل تتصور أن تأتي مشاغله الدنيوية وأهواؤه الغريزية فتحجبه عن تذكر الله ومراقبته وتنسيه نجواه لله في صلاته؟
لا تتصور أن يكون شأن هذا العبد المحب على هذا المنوال، ما دام أن هذا السلك الذي حدثتك عنه قد امتدّ نابضاً بذكر الله عز وجل ما بين مركز الإيمان في العقل ومركز الإسلام في الأعضاء والكيان.
* * *
(1) رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية وأوله: وعظنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ موعظة بليغة وجلت منها القلوب...
(2) تنقسم العواطف إلى عاطفة دافعة وهي الحب والكراهية، وعاطفة رادعة وهي الخوف، وعاطفة ممجّدة، وهي مشاعر الانبهار بالشيء والتعظيم له.
لنا لقاء آخر بإذن الله مع حكمة جديدة
أختكم
بنت البحر