الحكم العطائية ـ شرح وتحليل
الحكمة الثانية :إرادتك التجريد مع إقامة اللّه إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية | 1 - 2 - 3 |
هذه الحكمة تدور على قطبين اثنين: أحدهما ما يسمونه التجريد، والآخر ما يسمونه الأسباب.. فما معنى هاتين الكلمتين؟
يتعرض الإنسان لحالتين اثنتين: الأولى أن يجد نفسه متقلباً تحت سلطان من عالم الأسباب، فأينما تحرك وجد نفسه أمام أسباب لا مناص له من التعامل معها. فهذه التي تسمى حالة الأسباب.
والثانية أن يجد نفسه معزولاً عن سلطان الأسباب، ليس له سبيل إليها، إذ تكون بعيدة عن متناوله وعن المناخ الذي أقامه الله فيه. وتسمى حالة التجرد أو التجريد.
فالمطلوب من المؤمن بالله الساعي إلى تنفيذ أوامره أن ينظر إلى الحالة التي أقامه الله فيها فيتعامل معه طبق تلك الحالة. أي ما ينبغي أن يسرع فيستجيب لمزاجه في التعامل مع نظام الأسباب آناً، والإعراض عنها آناً آخر، دون أن يتبين الحال أو المناخ الذي أقامه الله فيه. إنه -والحالة هذه- إنما يتعامل مع هواه ومزاجه وإن كانت الصورة التي يظهرها من نفسه أنه يستجيب لأوامر الله وأحكامه.
تلك هي خلاصة معنى هذه الحكمة. ولكن فلنفصل القول فيها في ضوء صور من الوقائع التي يتعرض لها كل منا. ولنبدأ بتحليل الشطر الأول منها «إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية».
رجل أناط الله به مسؤولية أسرة، أكرمه بزوجة، أكرمه بعد الزوجة بأولاد، إذن فهو محاط بأسباب تدعوه إلى البحث عن الرزق وإلى الكدح في سبيله. تصور لو أن هذا الإنسان (وهو يحاول أن يرقى إلى مستوى الصلاح والتقوى وإلى صعيد التوحيد والتوكل على الله) قال في نفسه: لا حاجة بي إلى السوق والكدح فيه من أجل الرزق، لأني موقن بقول الله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 29/17] وموقن بأن الأسباب المادية كلها جنود بيد الله، فَلأَنْقَطِعْ عن مشاغل الدنيا وأسواقها إلى عبادة الله عز وجل. وقطع نفسه فعلاً عن السوق وعن أسباب الرزق والكدح بحجة أنه يسبح مع الله في بحار التوحيد، وأنه يرى المسبب ولا يريد أن يتعامل مع الأسباب!!.. إن هذا الإنسان ينطبق عليه هذا الجزء الأول من حكمة ابن عطاء الله. ولا بدّ أن نذكِّره بها فنقول له: «إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية».
نقول له: عليك قبل كل شيء أن تنظر في الحال أو المناخ الذي أقامك الله.. لقد أقامك تحت سلطان من عالم الأسباب، وذلك عندما جعل منك زوجاً لزوجة، وعندما جعل منك أباً لأولاد، وعندما أناط بعنقك مسؤولية إعالتهم جميعاً. فإذا أعرضتَ عن هذه الحال التي أقامك الله فيها، لتتخذ هذا الموقف، فاعلم أنك في الظاهر تمارس التوحيد، وفي الباطن ترعى هوى نفسك إذ تمتعها بشهوة من شهواتها الخفية غير المعلنة، متطلعاً إلى أن تتباهى بين الناس بأنك منصرف عن الدنيا إلى الله وأنك لا تتعامل مع الأسباب بل مع المسبب.. وهذا غلط كبير وخطير في ميزان الدين وشرعه. والنهج الصحيح في أوامر الله وحكمه أن تعلم أن الله عز وجل عندما جعل منك رباً لأسرة فقد حمّلك مسؤولية إعالتها. إنك لا تتعامل في هذه الحالة مع الله من أجل نفسك بناء على ثقتك الخاصة به في حق ذاتك وإنما تتعامل معه من أجل أسرتك، زوجك.. أولادك.. وإذا كان لك أن تزعم بأنك تملك من الثقة بالله في حق نفسك ما يجعلك تعرض عن الدنيا وتنقطع للعبادة والطاعة، فبأي حق تجرّ زوجك وأولادك إلى مثل هذه الثقة، وإلى مثل هذا الزهد الذي ارتضيته لنفسك؟!..
قل لهذا الإنسان: إن الله أقامك بين كفتين من ميزان شرعه، عندما قال لك: {وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ} [الرحمن: 55/7ـ9] إنك لا تعيش لنفسك بل تعيش لأسرتك.. والذي يتحكم بسلوكك دينياً هو ميزان الشرع. والشرع يكلفك بأن تهيّئ لها عيشاً رغيداً جهد استطاعتك، وبأن تربي أولادك التربية الجسمية والنفسية والعقلية التامة.. ولكل ذلك أسباب أقامها الله أمامك. ولو أنك أعرضت عن هذه الأسباب، وأنت تعيش في خِضَمِّها، فمعنى ذلك أنك تسيء الأدب مع الله بإعراضك عن نظامه الكوني.. يقول لك الله: سبيلك إلى رعاية أهلك أن تطرق باب الأسباب.. فإذا قلت: لا.. أنا لا أطرق الأبواب، بل أطرق بابك مباشرة، يقول لك الله: دعك من القفز المباشر إلى بابي، وسر إليه عن طريق ما أقول لك.. انزل إلى السوق، اشتغل، اكدح، تاجر، ازرع، اسلك السبل التي يفتحها الله عز وجل أمامك.. هذا هو النهج الذي ألزمك به.
فإذا جاء من يقول: لماذا الأسباب؟ أنا مع المسبب.. نقول له: إنك، وأنت في هذا المناخ الذي أقامك الله فيه، تسيء الأدب معه عز وجل، تحقيقاً لشهوتك الخفية، كما قال ابن عطاء الله رحمه الله.
ولهذا اللون من الانحراف صور واقعية كثيرة ونماذج شتى. ولنذكر منها بعض الأمثلة:
رجل ذو أسرة وأولاد، يشتغل في السوق ولكنه عندما يأتي إلى الدار يتجه رأساً إلى الزاوية التي أعدَّها للعبادة في بيته، دون أن يلتفت يمنة ولا يسرة بعد السلام التقليدي يلقيه على من حوله.. فيقبل على القرآن يقرؤه، أو يتجه إلى القبلة يصلّي النوافل والسنن؛ دون أن يباسط زوجته التي تنتظره، وصغاره الذين من حولها!..
أنا لا أتخيل.. أنا أصف واقعاً.. ما حكم الشرع في هذا العمل؟.. حكمه، هذا الذي يقوله ابن عطاء الله السكندري.
يقول له الشرع: يا هذا لو كنت منفرداً لا زوجة لك، ولا أولاد ولا أرحام، وكانت دارك كمغارة تدخل إليها فلا تجد فيها أحداً تُسَلِّم عليه، إذاً لصحّ لك أن تفعل هذا، لأن الله لم يعلِّق بعنقك مسؤولية أحد، لكن أما وقد أقامك الله في عالم الأسباب وأخضعك لمسؤوليّاتها عندما جعلك ربّ أسرة، فقد كلفك بسلسلة أوامر شرعية داخلة في معنى الميزان الذي ألزمك الله به. استجابتك لهذه الأوامر هي عبادتك، هي قراءتك، هي تسبيحك وتحميدك وتهليلك.. أن تدخل إلى الدار وقد رسمت البسمة الحارّة على وجهك.. أن تُسَلِّم على من حولك تسليمة الإنسان الودود المشتاق إلى أسرته وأولاده، ثم تجلس إليهم تنثر وتنشر من محبتك بينهم.. تلك هي العبادة التي ألزمك الله بها.. الصورة، صورة دنيا تتعامل بها، وشهوات تمارسها، ولهو تتقلب فيه.. لكن الواقع الكامن وراء هذه الصورة، عبادة تتقرب بها إلى الله لأن الله أقامك من هذه الأسرة في عالم الأسباب، ومن ثم فقد أخضعك لنظامها، ولو قلت: بل سأقفز فوق التعامل مع الأسباب التي لا حقيقة لها أمام سلطان الله وقدرته، وأتعامل مع المسبب، فأدعو الله لزوجتي في السجود بأن يكرمها ويدخل السرور إلى فؤادها ويغنيها عن مجاملاتي ومباسطاتي، إذن فهي قلة أدب منك مع الله عز وجل!..
علمك الله الطريقة التي بها تسعد أهلك، إذ قضى بأن يثيب الناسَ بعضَهم ببعض. يجعل الزوج من نفسه سكناً لزوجته بما ينهض به من الوظائف التي كلفه الله بها، وتجعل الزوجة من نفسها سكناً له، بما تنهض به هي الأخرى من الوظائف التي كلفها الله بها، فيؤجِر الله عز وجل كلاً منهما بالآخر، ويتحقق قانونه القائل: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 25/20] ولو شاء الله لفكّ هذه العلاقة بينهما فلم يُحْوِجْ زوجاً إلى زوجة ولا زوجة إلى زوج، لأن سلطان الأسباب كلها بيده، كذلك شأن الأبوين مع الأولاد وشأن الأولاد مع الآباء، وشأن الخدمات السارية من الناس بعضهم لبعض. قانون أقامه الله ليبتلي الناس بعضهم ببعض، وليكون هذا الربط مصدر مثوبة لهم عند الرعاية والاهتمام، ومصدر عقاب عند الإعراض وعدم المبالاة. فإذا جاء من يقول: بل أحيل هذه الرعاية إلى الله الذي بيده كل شيء، وأكفي نفسي مؤنة المشاغل الدنيوية التي تقصيني عن أورادي وعباداتي، فلا ريب أنه يتلبس من موقفه هذا بنوع سمج من سوء الأدب مع الله، والتطاول بالنقد على نظامه الذي قضى أن يأخذ به عباده. ولا شك أن مثل هذا الإنسان محجوب عن الله بشهوة من شهواته الدنيوية الخفية، من حيث يحسب أنه يسعى إلى الابتعاد عن الدنيا التي تحجبه عن الله.
وقِسْ على مثال رب الأسرة مع أهله وأولاده، الناس الذين شاء الله أن يقيمهم في عالم الأسباب عندما وَكَلَ إليهم مسؤولية رعاية الأمة في أي من مستوياتها المتفاوتة، أو الذين وَكَل إليهم رعاية الدين في مجتمعاتهم بالتعليم والتثقيف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الذين أناط بهم عجلة الاقتصاد أو حمّلهم مسؤولية إحياء موات من أرض..
هؤلاء وأمثالهم، من الذين أقامهم الله في عالم الأسباب، أي جعل منهم وسائل لمقاصد، إنما تتمثل عبادتهم لله في انقيادهم لما أقامهم الله فيه، وفي القيام بالمسؤوليات التي أناطها الله بهم، بعد القيام بالجامع المشترك من العبادات والطاعات التي خاطب بها الله الناس جميعاً.
ومن الأخطاء الجسيمة التي يقع فيها كثير من الناس، ما يتصورونه من أن الطاعات والعبادة محصورة في أعمال محدودة معيّنة، فإذا تجاوزها أحدهم وقع في فلك الدنيا وشواغلها!..
غير أن هذه نظرة تقليدية باطلة.. والحق أن العمل الصالح كله عبادة؛ إن استقامت النية وأريد به وجه الله عز وجل.. غير أن صلاح العمل ناظر للحال التي يمرّ بها الإنسان وللوظيفة التي أقامه الله عليها. يقول ابن عطاء الله تعبيراً عن هذه الحقيقة في واحدة من حكمه: «تنوعت الأعمال بقدر تنوع واردات الأحوال» أي فليس كل عمل صالح صالحاً بالنسبة إلى الناس كلهم. بل يتوقف الحكم بصلاحه أو عدم صلاحه على الحال التي يمرّ بها صاحب الفعل،وعلى الوظائف والمهام التي أقامه الله عليها.
يتبع بإذن الله