قصة قصيرة :- هذه الليلة ....
بقلم/ سامح عبد البديع الشبة
إنها ليلة ليست كالليالى ... لا تشبه ولا ليلة ... ليلة أسدل الظلام الحالك فيها ردائه ... القمر بين أحشاء السماء يستحى أن يولد أمام الدجى ... توارى خلف سحب الظلام الدامس .
الطريق يبدو أمامى خالياً من الآدميين ، وما من بصيص ضوء يجتاز هذا السكون المخيم على الطريق ، وجاءت هذه الليلة ، وكان الصمت اللعين الذى دفعنى للخروج فى هذا الوقت المتأخر .
الليل أمامى طويل وممد بطول الشارع ، فعندما انتهيت من روتينى اليومى ، وتمددت على سريرى ، وجدت السهد يغزو أجفانى معلناً أنه ... لا للنوم هذه الليلة ، ونعم للأرق والوحدة ... وبالشعور بالبرودة ... ربما يرجع السبب فى ذلك قلة الطعام المهضوم ... أو قلة الداخل إلى المعدة .
ألف البطانية وأمسد قدمى بكفى عسى أن تدفأ ، وأتعجب كثيراً ... أعجب كيف لها أن تنام ويزداد شخيرها بجوارى دون أن تس ببرودة هذه الليلة - بل وحبات من العرق تتلألأ وتزين جبينها .
- أنا الآن بخير .
نهضت بفتح باب الشرفة ، وأخذت أمعن النظر فى البيوت القريبة منى ... فأجد أحبال غسيلٍ خالية من المتعلقات الشخصية ، وأشم روائح لطبيخٍ منبعثة من عند جارتى مدرسة الاقتصاد المنزلى .
تركت امرأتى تغط فى ثباتها العميق ، أطبقت على أذرع الوحدة داخل الغرفة الرطبة ، وجدتنى بعد طول تفكير قد تهيأت للخروج ... فتحت الباب وتسللت فى هدوء ... وإلى الشارع قد خرجت .
أرانى أخوض فى دروب المدينة وقدماى لا أعرف لها مدى ... أين النهاية ... فلا أعرف ... فالليل سواد قاتم وخيفة موحشة .
يتراءى لى الطريق كثعبان يتلوى ... خفت انتابتنى لحظات خوفٍ وفزع ... أبحث عن صديق أقضى معه ليلتى ... رجل أكلمه ويكلمنى ... أغنى له " الليل لما خلى " ، ويغنى لى " أقبل الليل " ... أفضفض له عن أيام عزوبيتى ... ويفضفض لى عن أيام ميلاد طفله الوحيد .
الآن ... بينى وبين الطريق ثأر ... وأرق ... ووجع .
دفعنى غرق البيوت والبنايات فى بحور النوم العميق إلى الغناء ، فتعالى صوتى عالياً ، ماراً بكشك الجرائد ... ومكتب البريد ... وحلقة السمك ... وسوق الخضار ... والسنترال ... وكبائن ميناتل ... وغمرنى إحساس بالسعادة ... وارتفعت نبرات الصوت تدريجياً ... فلا أحد يسمع غناءى ... لا أحد ينصت لموسيقى حنجرتى ... ويتفرج على وأنا نجم يتلألأ على رصيف المحطة .
حتى سمعت عواء كلاب ... ظهرت فجأة ... تسمرت أمامى ... تسمرت أمامها وشللت خائفاً ... شاحباً ... ارتجف ... أهتز بعنفس ... رحت أهز رأسى آسفاص - لعلهم يفهمون إشارتى وإمائاتى - على خروجى فى هذا الوقت المخصص لحياتهم .
صرت كطفلٍ خائف ... فما الذى دعانى للخروج فى هذه الليلة الممطرة .
فدارت حولى تتشمم رائحتى ... سكتت عن النباح المستباح ... وقررت فى هذه اللحظة الاشتباك معهم فى معركة لا أدرى عواقبها ... فهممت بالاقتراب منهم ... إلا أنهم سبقونى ... واقتربوا رويداً ... رويدا ... واشتبك بنطالى بأسنان أربعة كلاب ... تتراوح أعمارهم ما بين ( 3 - 5 ) سنوات ... وتختلف ألوانهم بدرجات متفاوتة ... وهم كلب منهم بالانصراف - أظن أنه أكبرهم - فتبعته بقية الكلاب فى استسلام وخنوع .
فى الطريق ... عاوت الانطلاق بخطىً مغلفة بالخوف والحذر ، تدور عينى فى كل الأمكنة ... مهيئاً نفسى لأى كلبٍ يحاول الاقتراب من البنطال ... أمسكت بقطعة جريد خضراء أهش بها الناموس الذى لازمنى ولا يكاد يفارق جسدى .
انعطفت إلى اليمين ... وكان نباح الكلاب يصلنى متموجاً متقطعاً ... ومضيت أتجول بين الأزقة المظلمة ... أدخل يميناً وأنعطف يساراً ... حتى كدت أن أتيه فى هذه المدينة .
- غريبة عنى هذه الأزقة والشوارع .
غادرت الزقاق ... وانعطفت مع أول شارع بدا لى فى المدى .
- شارع التحرير .
أروقة الليل تتلقفنى ... فوجدت قدماى تقودانى إلى حيث بعض الرفقاء فى السهر ... يقضون ليلهم فى قهوة الشعيرى ... ذلك المكان الذى يتسامرون فيه ويفضون لبعض ما جرى فى يومهم ... ويلقون على كاهل كل منهم هم الآخر .
أسمع ضحكاتهم ... فقد دنوت منهم ... وانجذبت إليهم .
فى ذلك المكان أدهشتنى تلك الوجوه الساهرة فى هذا الوقت المتأخر ... حاولت الاندماج مع أحدهم فى أى كلام أو الضحك معه على أية نكتة أو " إفيه " ماسخ ... فلم أجد لذلك مدخلاً ... فران الصمت على المجلس للحظات ... رأيت خلالها كثير من علامات الاستفهام الفضولية ... يبرق فى عينى أحدهم سؤال محير عن سبب تشريفى لهم هذه الليلة ... خاصةً أنهم كثير ما ألحوا على بالسهر معهم ... فأوهمتهم أنه الأرق والسهاد .
تبادلوا النظرات ... تبادلوا التحية ... احتفى بعضهم ببعض وخاصةً الاحتفاء المغالى فيه الذى يبدونه لى .
أفاقنى الأستاذ سعد من شرودى بسؤاله عن نسبة الزيادة فى الأجر الذى اتفقنا عليه مع صاحب العمل ... تاهت الإجابة من لسانى ... وهل أصارحه بأن هذه الزيادة لا قيمة لها بسبب تلك الزيادة فى السعار التى أعلنتها محلات البقالة والمطاعم والأقمشة ... أم أغضبه وأصارحه بأنى منذ جلوسى بينهم لم أنصت إلى أحاديثهم ... وأنى طوال الوقت مشغول بتلك المرأة القابعة فى المنزل تنتظر عودتى حتى تحيل على الدنيا حطاماً وركاما .
دون مقدمات قررت الانسحاب ... تركت الجميع فى ذهول ... تبعنى صياح الأستاذ على " انتظر يا رجل " ... لم أعره أى اهتمام ، ومضيت ... وها أنا بعد اجدنى ضالاً فى متاهات الليل ... آه ... إنها بانتظارى الآن أمام عتبة البيت ... تقف وبيدها نابوت زان طويل استعداداً لاستجواب قد يطول حتى عصر الغد ... وقد تطردنى من المنزل ... وربما أبيت فى العناية المركزة ... ليتها نائمة الآن ... كم أتوسل إليك إلهى ... هل اكتشفت أمرى ... هل علمت أنى فككت قيودها وأنى طوال ذلك الوقت خارج البيت ... آه ... ستقوم قيامتى إذن ... ستنطبق على السماء .
فوجئت بقدماى تتوقفان فجأة أمام بيتٍ ألقى الظلام ردائه عليه ... بدأ جسدى يرتعش وقد غمره فيضان العرق المتدفق مختلطاً بقطرات المطر ... ولولا أنى أخشى المبيت بين جدران قسم شرطة البرلس ما كنت فكرت فى الدنو من هذا البيت .
تعثرت قدماى بعتبة البيت ... الريح جأرت من خلفى ... كأن إعصاراً سوف يدك الدنيا هذه الليلة ... هل سأنجو من هذا الإعصار الكاسح ... أدعوك إلهى .
أخرجت المفتاح ... أدخلته المزلاج ... دار فى ضجر ... أأسحبه قبل أن يتم دورته ... سمعت تكة المزلاج تنطق ... فى هدوء وحذر ولجت إلى الداخل .
استدرت ... يأتينى صوت موتور لتوليد الطاقة من تلك المرأة البدينة ... انتابنى خوف ... أغلقت الباب ... تقدمت خلال الردهة الضيقة ... الغرفة معتمة ... لك الحمد يارب ... اطمأنت سريرتى ... عاود قلبى نبضه الطبيعى ... دلفت إلى الغرفة ... ربما توك متيقظة تصطنع النوم ... الغرفة تبدوا قفراً كصحراء القلب الجافة ... شخيرها يمزق رداء السكون ... ليتها لا تقوم .
فى لحظات كنت مستوياً بجوارها ... السرير يأن تحت وطأة ثقلها ... النافذة أمامى ترقبنى بزجاجها المشروخ ... بعض التموجات الضوئية تتسلل منها إلى الداخل ... انعكس على محتويات الغرفة الواقعة كأشباح ترصدنى ... يأخذنى الشخير إلى وجهها المكتنز - مازال يرطبه قطرات العرق - والشامات السوداء الصغيرة المتناثرة على جلد وجهها ورقبتها - أقصد لغدها - أدهشنى وجهها وتابعت النظر إليها ... إلى الجثة الهامدة بجوارى ... أظافرها التى كانت تلتمع بطبقة من قشر الطماطم .
عيناها مغمضتين ... ولكنها يبعثان شرراً يذيب جبالاً ... وجدتنى أذوب بسرعة تحت الغطاء فى اضطرابٍ وخوف ... خوف طفل يخيل إليه أن عفريتاً يتبدى له فى الظلمة ... اصطكت أسنانى فى عنف ... أكاد أبكى ... تتقافز فجأة إلى مسامعى بعض الوشوشات والهمس صادرةً من الصالة ... يزداد انكماش فى صدرى ... أنكمش ... يجف حلقى ... هيئة رجل ما تتمثل أمامى ... يقف جوارى ... يدنو منى ... يمسك برقبتى ... يعتصرها فى جنون وغل .
أرفع الغطاء عن وجهى ... كدت أغرق فى لججٍ عميقةٍ لا قرار لها ... تنفست شهيقاً طويلا ... خيال ما تحرك على عتبة باب الغرفة ... تأخذنى عيناى إلى حيث تحرك الخيال ... حركة خفيفة متسارعة تشدنى مرةً أخرى للحياة ... إنه الفأر الذى لم أقدر على ملاحقته فى الصباح ... يتسلل فى خفية داخل الغرفة ... تغوص أسنانه فى أحد ساقى السرير ... آهـ ... لقد صار ضخماً عما تركته فى الصباح ... آهـ ... الدور سيأتى على إما عاجلاً أو آجلاً .
الفأر استقر فى مكانٍ ما تحت الدولاب ... أراه يرمقنى بنظراتٍ قوية تحيلنى إلى عالم الموتى ... كأنه يتحدانى إن إستطعت حتى إطلاق صيحة أخيفه بها .
أسمع خرير الدماء فى عروقى ينساب إلى وجهى ... صار جمرةً متقدة ... تصلبت نظراتى فجأة على الفأر ... لا أكاد أحس بدقات قلبى ... معذرةً فقد توقف النبض من فرط سرعة الدقات ... أرجوا الهدوء ... فقد رحلت إلى العالم الآخر .