نَوْة عشق ..!
أمسكتُ بها ، أنظر إليه ، يتملقني بعينيه المفتوحتين ، التي دُفنتْ داخلهما حياة ، كانت تلهو بحلبة جفنيه منذ ساعة ..
كنت أراه من نافذتي ، يتحرك ببطء ، أكاد أجزم ، أن الضوء ينتحر داخل عينيه من فرط خوفه ، دموعه تترقرق ، لعلها تذيب الحزن المتجمد داخلهما ..
يشعر بأن نهايته أصبحت وشيكة ، ينظر هنا وهناك ، باحثاً عن بقعة أمن تنقذه من خضم خوفه ، عيناه تدوران كالأعمى ، قدماه تُقبِلان وتدبران ، حريته مقيدة ؛ مفاتيحها بيد الموت ..
أشفقتُ عليه ، هذا الصارخ بصمتٍ له ضجيج ، يجره ، يضربه على ظهره ، يرتعش ، تتراقص ثيابه الوثيرة من فوق جسده ، يريد نزعها ليفر بجلده ، رافضاً الذهاب إلى غرفة إعدامه ...
أخيراً ينام مستسلماً لأمر الله ، تلك النظرة الأخيرة التي لم تخرج مع روحه ؛ بقيتْ تحمل بين طياتها خوفاً – حزناً – رهبة ..
بين يديَّ رأسه ، يتدلى منها لسانه ، كأنه كان يريد أن يبوح بشيء قبل أن يُدفن صوته داخله ..
بجواري وعاء مملوء بالماء الساخن ، بخاره يتراقص فرحاً ، أُغَطِّسهُا فيه وأخرجها ، أنتزع شعرها ، أكرر العمل ، حتى يختفي الشعر ..
لا زال لسانه يتدلى من بين أسنانه ، أنظر لعينيه ، المبيضتين من الماء الساخن ، لقد محت المياه الساخنة ،نظراته التي كانت تحتل جبال إشفاقي عليه ..
فجأة .. أرى رأس أخي بين يدي ، لسانه يتدلى وهو يبتسم ، ألقيها أرضاً صارخة ، ثم يعود وجهه يحتل قسمات أخي مرة أخرى ، أضحكُ من سخافتي .....
إن الله لطيفٌ بكم أيها الرجال ، كان يمكن أن يكون أخي هو الضحية وقد فداه الله ..!!
لكن السؤال الذي فرض نفسه ، هل كان سيوافق الأبناء في هذا العصر العجيب ، على ذبحهم كما فعل سيدنا إسماعيل ، عليه السلام ..؟
نظفتُ الرأس تماماً ، لتأتي أمي ، تجلس بها أرضاً ، فوق ( القرمة ) بالساطور تشج رأسه نصفين ، ليظهر مخه ، تُقَطِّعُ باقي رأسه قطعَ لحمٍ صغيرة ..
- أحلام .. نظفي معدته ( الكرشة ) ..
- كلا .. رائحتها كريهة جداً ، نظفيها أنتِ ..
أتركُ أمي ، تقوم بتجهيز الإفطار ( الفتة ) ببعض اللحم الذي أرسله لنا الحاج ( علي ) مع رأس الخروف وأقدامه و أحشائه ..
أجلسُ وأخي ، إلى ( الطبلية ) سعداء بطعم اللحم ، الذي تزيد فرحة عيدنا بتذوقه ، أذهب والفرح ينقلني بجناح البراءة لفستاني وحذائي ، الذين أحضرهما الحاج علي ، بعدما أعطى لأمي نقوداً لتشتريهما لي ..
ارتديتُ ملابسي الجديدة ، أنظرُ لنفسي في المرآة ....
كَبُرتُ ، تغيرتْ معالمي ، صارت لافتة على جسدي تصرخ بأن هناك - أنثى– تسكن هذا الجسد ، سني أطلَّتْ على الثامنة عشر ، دقيقةُ الملامح ، شَعَري أسود لا تُشرق شمسه أبداً يسيلُ فوق ظهري كقصيدة لم يكتبها شاعر على طهر ورقة ، جسدٌ ممشوق ، تتوارى الزهور من حُسنه ...
أخرجُ بملابسي الجديدة ، يراني سُكان حيّنا ، يلقون عليَّ تحية العيد ، يناديني الحاج علي ، يُسقِطُ بيديَّ جنيهات ( عيديه ) أفرح جداً لأن أمي لا تملكُ أن تعطيني عيديتي ...
صديقاتي ينتظرنَني ، نركب الترام ، وسط تراقص الملابس الجديدة ، فتياتٌ وفتيان ، يلهون فرحين بالعيد ، الفتيات ، قُمن بفرد شعرهن عند ( الكوافير ) تكاد تكون المرة الأولى لهنْ ، حتى إن أياديهنَّ تسمرت فوق رؤوسهنَّ ، لضبط خصلاتهنَّ اللاتي لم تطر أبداً ...
نذهبُ إلى محطة الرمل ، الميدان يتزينُ بألوان ملابسنا ، تختفي ملامحه الهادئة إلي صخبٍ شديد ، دور السينما ، تكتظ بالفتيان والفتيات ، محلات الطعام ، الزحام شديد كأنهم لم يأكلوا منذ أعوام ، محل الفيشار ، يقبلون على شراء الألعاب ، النظارات ، يلبسها الأولاد فرحين كنجوم السينما ، قبل العيد كانوا سجناء رغباتهم ، فتحرروا ...
حديقة سعد زغلول ، تمتلئ بالأطفال السعداء بالعيد ، رُشقوا فيها كأنهم زهورٌ ملونةً ...!!
سعد زغلول يقف شامخاً سعيداً بزواره ، يمد يده للكبير كأنه يحدثه :
- إلى متى سنظل ننتظر عيدنا نحن ..؟
أذهبُ إلى عاشقي ، الذي ينتظرني هناك منذ بدء الخليقة ، يرى مايراه صامتاً ، مرت وتمر أمامه الدنيا ، مرةً ترتدي جميل ثيابها ، ومرةً ترتدي ثياباً باليةً ، مرة فرحة ، مرات حزينة ممزقة مشاعرها ..!!
أجلسُ على حافته ، أنظر لموجه ، أحدثه ، أستمع لأمواجه تحدثني ، بهمسٍ مرة و هديرٍ مرات - تريد أن تصرخ - تخبرني بما تكنه في صدرها عمراً ..
هناك يخوت كبيرة ، تشق صدره ، لم تسأله مرة إن كانت تؤلمه بثقلها أو أن محركاتها تُقَطِّعُ قلب أعماقه ..!!
أبتسم ، كَمْ من نعيمٍ يعيشه من يمتطي ظهرها ، لعلهم ينظرون إليَّ الآن يحسدونني .. ! لأني أمتطي ظهر يخت الدنيا ولاخوفَ من الغرق فيها ...
نشتري ( الترمس ) ، نأكل ( البطاطا ) ، (الذرة المشوي ) ، نشاهد الناس تستمتع بهذا العملاق ، الذي لم يختفِ يوماً منهم ، لم يهرب من أجسادهم ، يلقون فيه همومهم ، لم يبخل عليهم باللهو بين جنبات صدره ، يلهون برمله وشمسه ومياهه ، لديه الخبرة الإنسانية التي تجعله على يقين بأننا ، فقراء العيد ..!!
أتركُ صديقاتي ، أرحل له وحده ، أُغلق غرفة الدنيا علينا - أنا و هو - فقط ، أحدثه ، أشكو له ، أرى بناته يُرّوِحنَ عني ، يبتسم لي بكبرياء كبير العائلة ، بأن الحياة ستبتسم لي يوماً ...
أعود خفيفة المشاعر ، بعدما ألقيتُ على أذن صديقي الكبير ، بعضاً من همومي ..
في طريق عودتي ، ألقي التحية على الحاج علي ، ينظرُ إليَّ بعينيهِ ، جفنيه كأنهما أسنان ، تلوك جسدي ، والشهوة تستعر داخل ويلَ روحه ..
أجمعُ ثياب سذاجتي ، أواري بها جسدي الذي انكمش داخل كياني ، ليتفادى تلك النظرات النهمة ..
أدخلْ ، ما زالت نظراته تلاحقني مفترسة ، لم ترحمني منها سوى أحضان أمي ، التي اختفيت خلف أسوار أمنها ..
أخرجُ للشرفة ، أراه مبتسماً ، تتساقط زخات حُبه على أرض قلبي ، فاهتزت وربت ، أنبتتْ حباً ، يكبر به - معه - له ، نظراته العاشقة ، تُغير فصولي ، لتتفتت جمود نظرات الحاج علي ، التي كانت كالأعاصير السوداء ، تجتاح كل ما يقابلها في طريقها ، حبه الصامت كان له ضجيج يضرب زوايا روحي ضرباً مبرحاً ..
زادت عطايا الحاج علي ، أمي يكاد ينفطر قلبها فرحاً باهتمامه ، فلا مورد رزق لنا ؛ سوى بعض الجنيهات القليلة ، التي تأتينا من قريبة لنا تعطف علينا ، فكان الجوع أحيانا ، يكاد يهلكنا ليمر يوم أو يومان ، لا نأكل سوى كسرة ماء ..!!
كانت يد أمي ، عُليا ، يحسبنا جيراننا أغنياء من التعفف ، صارت حياتنا الآن أكثر رغداً ، الطعام يشبعنا ويفيض ، الفاكهة التي كنا نصبر على حرماننا منها ، بأننا نعيش في غير فصول نضوجها ، صرنا نتأفف من أكلها ونلقيها ..!!
خفتُ على أمي وأخي من حالة الشبع المفاجئ ، بعدما اعتدنا على الجوع ، الذي بات كالقمر يسطع بسماء ليالينا ، أخاف من أفوله فتظلم دنيتي ..
بالرغم من حالة القلق التي تتأبط عمري ، إلا أن نظرات الحاج علي ، تبقى المُدَّية التي تطعنني في مقتلٍ ، لأنزف أمني وأماني
خرجتُ من منزلي ، أذهب إلى الكبير ، الرابض هناك يحتضن عشيقته ، بذراعيه بمنتهى الحب ، يجمع أطرافها بين أضلعه ، يداعب وجنتيها بأهدابه ، جلست عند شفتيه ، أتأمل ، لأرى ، السماء جفن حب ، والأرض جفن ود ، وهو دمعة فرح تترقرق بينهما..!!
يبتسم لي ، يداعبني ، ينثر بعض وده على وجهي ، يمسح به حرارة واقع ، بمجرد التفكير فيه يُرعبني ، أهمس له : ..
- هل تتخيل أن يُباع عمري لقاء كسرة خبز ...؟ شبابي يكون ثمنه ملء معدة ..؟
أشعر به يفيض دمع موجه ، يضع يده على كتفيَّ يربت علىّ لينسيني همومي ..
يقول لي :
- أنتِ هنا ..؟
أفيق لأجده العاشق الصامت ....
أرتبك – أنتفض – أرتعش – أبتسم – أخجل - أهدأ – أثور ، أجمع تلابيب مشاعري التي تناثرت خوفاً ورهبةً وعشقاً ..
- نعم ..
- ماذا تفعلين ..؟
- أحدث صديقي ، أبثه همي ، لا أجد من يسمعني غيره ، لم يلفظني يوماً حضنه ، يحتويني بكل الحب ..
- هل لي أن أقاسمه سماعكِ ..؟
تتساقط أوراق خريف خجلي جافةً ، على أرصفة كياني..!! ينثرها بجملة عشق واحدة تدفعها رياح نبضه الرابض على دروب نظراته مبتسماً..
- لن أسمعكِ مثلهُ فقط ، بل سأكتبُ على سطور روحكِ بأبجدية جديدة ، أبجدية عشقٍ لا يعرفها هو ، لم يحدثكِ يوماً بها ، أحمل بين صفحات صدري قلباً يشعر ، وهو قلبه لا يعشق سوى عشيقته ، حبيبة عمره ، عروسه ، هل ترين كم يشد وثاقه على خصرها ، يعانقها ، يداعب بأطرافه شعرها الناعم ، يستيقظ على قُبلتها التي تُشعل فيه نشوة العشق ..!؟
هي تبكي ، تفرح أمامه - تخلع أثواب ربيعها دون خجل منه - تستحم بقسوة نَوْاتها فيُهدِئ من روعها ..!! هل تتخيلين كم من العمر ظلَّ بجوارها ، لم تبرح صدره ..؟ وكم في قلبه من حكايتها على مر الأزمان ..؟ هي شهرزادهُ ، التي تنفض عن كاهلها حزن وقسوة رجالٍ مروا بها فكتبوا بمدادٍ من الدم صفحات تاريخها ..!!
هل تقبلين أن تكوني حبيبة عمري ..؟ أُسيجكِ بسياج عشقي طول العمر ، لا أبرح شواطئكِ أبداً ، يُداعبكِ موج نبضي ، يستلقي قلبكِ على رمالي ، عينايَ يجري بهما جداول حب ترويكِ ، تهزين إليك بأشجار حناني ، فتُساقط فوق عمرك عشقاً جنياً ..
أسمعه ، بعدما فتحت له أبواب أذنيَّ ، حجرات قلبي الأربع ، لأرى نبضاته تقف على مداخل شراييني ، أستعد لغزو جميل ، يحرر دمي من مستعمر تذكره ، يذيقه الخوف والرهبة ..
نظرتُ له بعين الخجل السعيد ، أنفاسي تتصاعد بزفير يصرخ ، إني أحبكَ ، لكَ عمري ، لكَ أضوائي ، فناري ، قلعتي ، أسواري ...........