كنت أحلم دوما ، أن أستقل القطار ، فأرحل عن هذه القرية العفنة بكل ما فيها من فقر وشظف عيش وجهل ، كنت أحلم بالمدينة ، وكيف أني سأكون سيدة إحدى بيوتها الفارهات أو قصورها ، فلا ينقصني الجمال ولا الذكاء ، وفي كل يوم كنت أذهب لمحطة القطار لأرقب المسافرين بامتعتهم وانفعالاتهم ، وأحلم بأن يأتي ذلك اليوم ، يوم الرحيل ، كنت أنظر إلى سكة القطار ويحدوني الأمل والحلم يكبر معي في كل يوم ، وكأن امتدادها سيوصلني إلى ما خلف المدى حيث العالم السحري الجميل .
وفي ذات يوم ، جاء ذلك الشخص الجميل ، الذي حقق حلمي ، أخذني بعيدا حيث كنت أحلم ، لم يترك مكانا راودني في أحلامي أو لم يراودني إلا وزرته معه .
كعادتي .. ساقتني أحلامي وقدماي إلى محطة القطار ، حيث التقينا صدفة ، غريب يترجل من القطار القادم من بعيد ، يتلفت لا يلوي على شيء ولا يدري إلى أين تأخذه نهاية رحلته في قريتنا هذه ، حيث لا فنادق ولا حتى نزل يستقبل الغرباء في القرية ، فما اعتادت قريتنا استقبال الغرباء .
تحرك القطار بعد أن نزل منه من نزل من أهل القرية ، وصعد إليه من صعد فارا من حياة حالكة إلى المجهول ، كادت تكون المحطة فارغة لا أحد فيها إلا بعض العمال ممن يعملون في المحطة ، يحاولون بكسل تنظيف المكان مما خلفه المسافرون من قذارات .
رأيته وهو يتقدم الخطى نحوي ، كان قلبي ينتفض كما عصفور صغير يحاول الطيران فلا يقوى عليه ، وكلما اقترب خطوة ، كانت تزيد سرعة خفقان قلبي ، وتتسارع أنفاسي وكأنني أركض من شيء يلاحقني أو خلف شيء ألحق به .
ولم أكن أدري أن هذا اللقاء كان أولى خطواتي في امتداد السكة ، إلى ما بعد المدى في مخيلتي وحلمي .
كان وسيما جميلا في كل شيء ، عشت معه أجمل اللحظات ، وحققت معه الحلم البعيد في ماض كان يوما .
فجأة ، لم يكن هنا ، رحل .. بصمت وعلى حين غرة كما جاء ، وكان لا بد أن أتدبر أموري في لحظة أحسست فيها الغربة ، لم يمر بخاطري منذ غادرت قريتي أنني سوف أحس الحنين إليها يوما ، وأن أتمنى لو أني لا زلت فيها أحلم حلما من أحلامي القديمة ، فأستيقظ منه وأجدني لا زلت في محطة القطار . فجأة أحسست غربتي ، وحنيني لتلك القرية التي باتت بعيدة عني ، والتي انمحت زمنا طويلا من ذاكرتي ، ولعلها هي أيضا نسيتني .
مرت أيام أصابني فيها الذهول والضياع ، ولكن يجب أن أواجه مصيري ، بعد أن رحل عني ولم يترك لي شيئا ، كما أخذني تركني ، وكأني أنتقل من محطة إلى أخرى ، ومن قرية عفنة إلى عالم أوسع أكثر عفونة .
جمالي كان محط نظر وطمع الكثيرين ، وقد كان هناك من يمنع هذه العيون وهذه الأيدي من أن تمتد أو تصل إلى ، أما الآن وقد بت وحيدة ،غريبة في ديار لا أعرفها ولا تعرفني ، بت لقمة سائغة ، وبات يحوم حولي الكثيرون ليعرضو خدماتهم التي ما كنت أملك ثمنا لها إلا ......
تحول بيتي مركزا للمتعة المحرمة ، يرده من يرده ، وبات لدي كثيرات مثلي ، سقطن من سماء الحلم إلى حضيض الواقع بقذارته .
لا أدري كيف حملت حقيبة صغيرة حوت بعض متاع ، وتركت كل شيء أركض نحو سكة الحديد ، علّي أعود من حلمي إلى قريتي ، فأستيقظ على وقع خطوات آخر مغادر في المحطة .
في طريق عودتي ، كنت أرى شريط السكة كأن الطريق والعمر يمضيان في اتجاه عكسي ، لأعود من الحاضر إلى الماضي ، حين كنت تلك الشابة ، التي تحلم بأن ترحل يوما ، مع هذا الشريط المدود ، إلى المجهول .