الاتجاه الوطني في ديوان "بين نهرين يمشي"
للشاعر أحمد فضل شبلول
ـ الجزء الثاني والأخير ـ


بقلم: د .إيمان الجمل

* بين نهرين يمشي
وفي قصيدة "بين نهرين يمشي" التي سمَّي بها الديوان، يظهر الأب / الوطن الذي افتقده الشاعر، فبات يحلم به بين نهرين يمشي.
هذه البينية تعنى غاية الارتواء والعطاء والخصب وغاية الجمال والسكينة وأشياء وأشياء:
هناكَ ..
على ساحةِ الرُّوحِ
حطَّتْ طيورُ الربيعِ ،
وغنَّتْ زهورُ البنفسجْ ،
وفرَّتْ من الحقلِ
سنبلةٌ من هجيرٍ ،
فأطعمتُها من رحيق الشروقِ ،
وقمتُ أردِّدُ شِعريَ ،
ذاك الذي لم أقلهُ
لغيرِ الأحبَّة
القصيدة حلم يبدؤه بوصف المكان، وهو ساحة الروح، وكيف أنه بعيد المنال.
"هناك"، جاءت لتعمق الإحساس بالبعد، وهذه الساحة امتلأت ازدهارا وزهورا وسلاما. الروح الصافية النقية حطت عليها طيور الربيع المهاجرة، فربيعها ستحياه هنا.
إنه الأب: ازدهار وتفتح وإقبال على الحياة وتجدد ممتزج كبرياءً وثقة.
هذه البداية تحمل بُعدا خاصا لملامح الأب والابن معا.
وتستوقفنا مفردة "الصبي" في المقطع التالي:
وجاءت شموس الصباح
تلف الحروف
وتبعث دفء الحياة بقلب الصبي
إنه مازال يتمسك بتلك المرحلة التي يكون فيها الإنسان أحوج ما يكون إلى أبيه، يستقي منه معاني الرجولة، حتى لا نراه إلا وقد اكتملت له أدواتها وملامحها، لكنه يفجع برحيل الأب، وتتضافر التراكيب معبرة عن حالة الضياع التي أصابته، فقد افتقد الحنان الذي كان يكسبه اطمئنانا وقوة وثباتا:
وكانت تُباعدُ بيني وبين حنان يديه
طيور الظنون
ووهم الصحارى
وفي موضع آخر:
وبين امتداد الطريق
وعمق السؤال
تدور العيون
تعود إليَّ بغير اليقين
فهل ضاعتِ الأرض تحت الخطى ..؟
وهل تاهت الموجة الخالدة ..؟
وتأتي جملة "رأيت أبي" كجملة تعتبر مركزا للقصيدة الحلم، وبؤرتها.
"رأيت أبي"، تتكرر حاملة معها كما هائلا من الشوق والأسى والالتياع على هذا الفراق.
"رأيت أبي"، دائما ما يتبعها استدراك حزين:
رأيت أبي
لكنه لم يشاهد خطاي إليه
فناديته
ولكنه كان يمضي إلى نهره
رأيت أبي
ولم يلتفت للنداء الجريح
فناديته
ولكنه كان يمضي بعيدا
إلى نهره
* صورة أخيرة للنيل
وإذا كان الوطن عند شاعرنا أحمد فضل شبلول، يمثل كل ما مضى، ويقع في روحه وعقله مثل هذا الموقع الكبير الأهمية العميق الأثر، فإنه يكون من المقبول لدينا أن نتلقى قصيدته "صورة أخيرة للنيل" هذا التلقي الواعي المدرك لمقدار أسفه عندما يضطر إلى الرحيل عنه، فنراه وقد ظلَّل استفهاماته ونداءاته بظلال كئيبة، ورمى عليها رداءً حزينا، ونراه أيضا وقد امتزجت صوره التي أبدعها بدموع فطرت قلب الجوامد فرقَّت:
مسافر ؟!
كلمة يعقبها علامتان: استفهام وتعجب، تستطيع الإجابة عليها بقية القصيدة:
مسافر ؟!
لماذا تسافر؟ أمن المعقول أن تسافر؟ أأنت مسافر؟ كيف تسافر؟ وتترك وطنك، وتترك مدينتك؟ فأنت إن سافرت فإن ذلك يعني أنك تارك وراءك النهار، فلا أمامك إلا الليل، تارك وراءك البحار، فلا أمامك إلا التيه، تارك وراءك الطريق، فلا أمامك إلا التيه، تارك وراءك النسمة والبسمة، حتى الدمعة الحبيبة، فهل هذا معقول؟ وهل استطعت أن تُقدم على هذا الرحيل؟
مسافر ؟!
وراءك النهار والبحار والطريق
ونسمة كانت تداعب النوارس المهاجرة
وبسمة تسابق الأحضان للحبيب والصديق
ودمعة بالأفق تلتحم
وإذا كان الحزن يكلله الكبرياء، فلا أجمل من اختيار "زهور البنفسج" كدال على شخصه المعاند:
أوَ كنت تدري ..
أن زهرات البنفسج المكابرة
بكين تحت أسقف الحنين
وفوق خدِّ الياسمين
فرقَّ قلب الطائرة
وأشفق المحرك الحزين
أن يدور
وحين يصور المطار ساعة الرحيل، فإنه ينقل إلينا صورة إغارة، فيها المنتصر وفيها المهزوم، بعد حركة حية من المقاومة، اختزلها في جملة:
وهاجم المطار سرب من وجوم
وما توحي به بنية "هاجم"، وهي دال من دوال المفاعلة التي تنقل ذلك الصراع بين الوجوم والفرح. إن الرحيل لا يأتي بفرح، والنتيجة غلبة الوجوم، وسيطرته على كل شيء:
وهاجم المطارَ سربٌ من وجوم
فأصبحت وجوهنا بلا ملامح
أكفنا بلا أصابع
أقدامنا بلا خطى
فمن إذن يصافح ..؟
إن الرحيل عن الوطن، يفقد الوجوه ملامحها، يفقد الأكف أصابعها، والأقدام خطواتها، فلا تعرف من هي، وماذا يمكن أن تقدم، وبأي شيء، وعلى أي شيء سوف تُقدم؟.
إن هذا ليس كل النتائج، فالمهاجمة لم تنسحب على وجوهنا وجوارحنا فحسب، إنما على كل شيء في المطار، فقد علا الشحوب الحقائب، وارتجفت المقاعد بالجالسين، ولم يعد هناك من حديث، إلا حديث الأختام تدق أوراق السفر.
لقد بدت صور القصيدة الجزئية في شكل كل متحد عضويا اتحادا متآزرا مبهرا، وحين يمتد الإحساس بالوطن وهموم الوطن، فإنه يتعدى كل الحدود الوهمية.
* فلسطين
وتأتي فلسطين لتقع في فكر الشاعر ووجدانه، موقع القلب من الجسد، وهو في ذلك لا يصرح بلفظة "فلسطين" إنما يعتمد الاتجاه الرمزي لمعالجة القضية. ويبرز عنصر التشخيص، لتجسيد الصورة البشعة للصهيونية ولإسرائيل، فيصورها مرة في صورة إبليس، ومرة في صورة امرأة غانية، وكلاهما لا ينفك عن الآخر.
ففي قصيدته "إبليس والأحجار" يستدعي الشاعر شخصية إبليس، بما خلقت منه، وما لها من صفات، فإبليس وموقفه من آدم كرافض للسجود، وشاعر بالتفوق، فقد خلق من نار، وآدم من طين، وهذه هي النظرة التي انطلق منها الشاعر أحمد فضل شبلول في رؤيته لمفهوم الصهيونية، وزعمها بأنها الأمة المختارة، والأفضل على سائر الأمم، فتصور إبليس أنه إلاه الكون، أو أنه نبي أحاط ذاته بهالة من القداسة التي لا يجوز لأحد أن يتعدى حرمتها، ومن هذا المنطلق، فهي تتعامل مع الآخرين، وتظهر بنية التفضيل في أسلوب تكراري لتؤكد هذا المفهوم:
أنا الآن
الأقوى من كل قوي
الأعلى من أي علي
لم يدر المتعوسون ..
بأني كنت نبيا
وتقدست بذاتي
ليس كمثلي شيء
عرشي .. فوق الماء
ومائي .. كان دخان
ولا يخفى ما يشير إليه ظرف الزمان "الآن" ـ "أنا الآن" ـ إلى ما وصلت إليه إسرائيل من مكانة، وتمكن في الزمن الحالي، صنعناه بأيدينا نحن، واستطاعت به الاستخفاف بنا.
ويصور موقفها المستهتر بالآخرين، من منطلق هذا الموقع:
وضعت أنا الميزان
فليغضب مني من شاء
ولكن في المقابل، فإننا نجد الشاعر قد استدعى الصورة الأخرى لإبليس. إن إبليس رجيم مرجوم مطرود من الرحمة والحب، يتوجه المسلمون إلى رمزه في الحج من كل عام لرجمه بالحجارة، كما أنهم يرجمونه في كل صلاة ومع كل قراءة قرآن. وهذا هو ما توصل إليه أطفال وشباب فلسطين. إنهم يرجمون إبليس بالحجارة.
ومن الطريف أن تتخذ القصيدة الحكي أسلوبا لها، فتعمل على التشويق والإثارة. لقد ترك شاعرنا إبليس يحكي عن نفسه ليبلغ منه الغرور مبلغه.
* من قلعة قايتباي وحتى القدس
وقصيدة "من قلعة وحتى القدس" تشخص إسرائيل في صورة نارية لاهبة، إنها غانية ملتهبة دورها إغراء وغواية المحمومين والمحرومين من العشق، ولها أدواتها في ذلك. تتسلل إلى تاريخ العروبة دون أن يفطن إليها أحد. لقد دخلت تاريخنا في زمن انحلَّ فيه الخيط، ولم نر له جامعا، فداس عليه الكل:
سيدةٌ لاهبةٌ خلعتْ نعليها ..
دخلتْ زمني
وبرفقٍ أمسكتِ الخيطَ الممتدَّ
من القلعةِ حتى القدس
قدماها البيضاوانِ الحمراوانِ اللامعتانِ
تقولانِ: تعالَ ..
وخُذْ خيطَكَ منِّي ..
فأنا أربطُه في الخصرِ
أدورُ به حولَ العشَّاقِ
المحمومينَ .. المحرومينَ من العشقِِ
انظرْ للخصرِ ..
أليس طريًّا ونحيلا .. ؟
أُعصرْه يصبحْ نهرًا من عسلٍ ..
من لبنٍ ..
من خمرٍ ..
وتقدَّمْ نحوي ..
إن الخيط من قلعة قايتباي كرمز الانتصارات والتاريخ المجيد، والمدينة العريقة التي نحتضنها، وحتى القدس التي تمثل ريادة المدن الإسلامية وإمامتها بعد المدينتين: المكرمة والمنورة. إن الخيط سيعود منتظما، ولأجل ذلك انفلقت أحجار الكورنيش، والكورنيش هو الخيط الجامع لكل المدن، وحين تتزلزل بواطنه فتنفلق أحجاره، فإن الخيط سيعود منتظما، فقد أخذ الأطفال ـ رمز المستقبل ـ الحجارة المنلفقة الرافضة للواقع، ورموا بها الغانية الغاوية، فاندحرت وذوت وعاد الخيط جميلا منسابا يقطر شوقا وغناء، وهذا الموضع من المواضع التي يضيء فيها الديوان بالأمل:
انفلقتْ أحجارُ الكورنيشِ
اتَّقَدَّ صبيٌّ يحملُ حجرا
هربتْ سيدةُ العشقِِ اللاهبةُ إلى الأسمنتِ
وعاد الخيطُ إليَّ جميلا منسابا
يقطرُ شوقًا وغناءً ..
من قلعةِ قايتبايِ
وحتى القدس.
* جمال العروبة
ويمثل الصبية والأحجار أسلوبا للرفض المؤثر الذي عجزت عنه جميع المؤتمرات بتوصياتها عربية ودولية.
ففي قصيدة "جمال العروبة" المهداة إلى "الطفل الشهيد محمد جمال الدرة، وكل أطفال فلسطين المحتلة" استهلال خبري تقريري:
جمال العروبة لا ينتهي
واستخدام التركيب الإضافي ليكون معادلا للعروبة. وهذه الجملة رسالة يبعث بها الشاعر إلى إسرائيل، وإلى المنهزمين من العرب.
"جمال العروبة لا ينتهي" هي مطلع القصيدة، وهي أيضا خاتمتها:
فلم يبقَ إلا جمال العروبة
في المعركة.
إنه باق ومستمر ولا وجود إلا له كرمز للمناضلين.
جمال العروبة لا ينتهي، تعني العروبة لا تنتهي.
يبقى محمد الدرة وكل الشهداء من أطفال فلسطين، فيبقى بهم معنى العروبة.
ومع كون القصيدة قد خالطها الأسلوب الخطابي، وعلت أصواتها في بعض المواضع:
فيا أيهذا الصبي
فتنبت من نارهم
ألف ألف شرارة
ويعلو على حقدهم
صهيل الحجارة
إلا أنها مع ذلك تبقى منتظمة في عقد الوطنية الهادئة، وطنية الرومانسي أو رومانسية الوطن.
فيا أيهذا الصبي
أعد للحياة ينابيعها
للورود ابتهاجاتها
* خاتمة
وبعد فإني لأرجو أن أكون قد أحطت بشكل مقبول، ذلك الهم الوطني الذي حملته قصائد الديوان في أغلبها، على أن هذا الديوان "بين نهرين يمشي" للشاعر أحمد فضل شبلول من حقه علينا أن نفرد له دراسات ولقاءات أخرى، لنفيه حقه بحثا دقيقا لجملة تفاصيل نقدية عديدة.

د. إيمان الجمل