الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) [الكهف (1)] أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخشى الناس لربه، وأتقاهم لمولاه، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد
أخواتى وإخوانى فى الله اليوم هو موعدنا مع أسباب قسوة القلب وطرق تليينه
قسوة القلب وأسبابها
العين تتبع القلب ، فإذا رق القلب دمعت العين ، وإذا قسى قحطت ، قال ابن القيّم - رحمه الله – في كتاب " بدائع الفوائد " ( 3 / 743 ) - : " ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب ، وأبعد القلوب من الله : القلب القاسي "
وكان كثير من السلف يحب أن يكون من البكائين ، ويفضلونه على بعض من الطاعات ، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار " .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع فيقول (( ... اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها )) . [رواه مسلم ( 2722 )]
ولقسوة القلوب أسبابها ، ولرقتها أسبابها - كذلك - فمن أسباب قسوة القلوب :
§ كثرة الكلام .
§ نقض العهد مع الله تعالى بفعل المعاصي وترك الواجبات .
§ كثرة الضحك .
(( كثرة الضحك تميت القلب )) [رواه أحمد ( 8034 ) ، والترمذي ( 2305 ) ، وابن ماجه ( 4217 ) ، وصححه الشيخ الألباني في " الصحيحة " ( 506 و 927 و 2046 )] .
مرَّ الحسن البصري بشاب وهو مستغرق في ضحكه ، وهو جالس مع قوم في مجلس .
فقال له الحسن : يا فتى هل مررت بالصراط ؟!
قال : لا !
قال : فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلا النار ؟!
قال : لا !
قال : فما هذا الضحك ؟!
فما رؤُي الفتى بعدها ضاحكاً .
وكان الحسن يقول : يحق لمن يعلم : أن الموتَ موردُه ، وأن الساعةَ موعدُه ، والقيام بين يدي الله تعالى مشهدُه : يحق له أن يطول حزنُه .
§ كثرة الأكل .
قال بشر بن الحارث : خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل .
§ كثرة الذنوب .
قال تعالى كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) [المطففين (14)] ، وقال صلى الله عليه وسلم (( إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) [المطففين (14)] )) [رواه أحمد ( 7892 ) ، والترمذي ( 3334 ) ، وابن ماجه ( 4244 ) ، وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح ابن ماجه " ( 3422 )] .
وقال بعض السلف البدن إذا عُرِّي رقَّ ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته .
عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله : ما النجاة ؟ ما النجاة ؟ قال صلى الله عليه وسلم (( أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك )) [أخرجه الترمذي (2406) ، وقال: حديث حسن ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " ( 2741 )] .
§ صحبة السوء .
وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بنافخ الكير- [البخاري ( 1995 ) ، ومسلم ( 2628 )] - .
بل حتى كثرة المخالطة تقسِّي القلب ، قال بعض السلف : وقسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة : الأكل ، والنوم ، والكلام ، والمخالطة .
وقد قيل " الصاحب ساحب " ، و " الطبع يسرق من الطبع " ، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } [الفرقان (27 – 29)] .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل )) [رواه أحمد ( 8212 ) ، والترمذي ( 2378 ) ، وأبو داود ( 4833 ) ، وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 927 )] .
قال ابن حبان - رحمه الله - :
العاقل لا يصاحب الأشرار لأن صحبة السوء قطعة من النار ، تُعقب الضغائن ، لا يستقيم ودُّه ، ولا يفي بعهدِه .
وقال ابن القيم :
ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس به إلى الأنس بالخلق ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار فاعلم أنك لا تصلح له . " بدائع الفوائد " ( 3 / 743 ) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - :
وبالجملة : فمصاحبة الأشرار مُضرة من جميع الوجوه على مَن صاحبهم وشرٌّ على من خالطهم ، فكم هلك بسببهم أقوام ، وكم أقادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون " .
وقال أبو الأسود الدؤلي - رحمه الله - : " ما خلق الله خلقاً أضر من الصاحب السوء " .
أسباب وطرق تليين القلوب والبكاء من خشية الله
ويستطيع المسلم أن يليِّن قلبه ويدمع عينه بما يسمع ويقرأ ويرى ؛ وذلك - بعد توفيق الله تعالى – بالبحث عن الأسباب الموصلة لذلك ، وبقراءة سير السلف الصالح ومعرفة أحوالهم في هذا الأمر ، وسنذكر ما تيسر من الأمرين – الأسباب والأحوال - لعلَّ الله أن ينفع بها ، ومن ذلك :
· معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله .
فمن عرف الله خافه ورجاه ، ومن خافه ورجاه رق قلبه ودمعت عينه ، ومن جهل ربه قسى قلبه وقحطت عينه .
ومقامات الإيمان : الحب ، والخوف ، والرجاء ، وكل أولئك تدعو المسلم للبكاء .
قال أبو سليمان الداراني - كما ذكر عنه ابن كثير في ترجمته في " البداية والنهاية " ( 10 / 256 ) : لكل شيء علَم وعلَم الخُذلان : ترك البكاء من خشية الله .
فإذا خذل الله العبد : سلبه هذه الخصلة المباركة ، وصار شقيّاً قاسي القلب وجامد العين .
فالمحب يبكي شوقاً لمحبوبه والخائف يبكي من فراقه وخشيت فراقه والراجي يبكي لحصول مطلوبه فإذا أحببت الله دعاك حبُّه للبكاء شوقاً له ، وإذا خفت منه دعاك خوفُه للبكاء من خشيته وعقابه ، وإذا رجوته دعاك رجاؤه للبكاء طمعاً في رضوانه وثوابه .
وإلى هذه الأمور الثلاثة - الحب ، والخوف ، والرجاء - أشار نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )) [رواه البخاري ( 629 ) ، ومسلم ( 1031 )] .
ومعنى " ذكر الله " خائفاً أو محبّاً أو راجياً ، فإذا اتصف المسلم بهذا فهو سعيد وإلا فهو مخذول .
· قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته .
قال الله تعالى - في وصف عباده العلماء الصالحين إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً . وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء (107- 109)] .
قال الطبري عند الكلام على هذه الآية : يقول تعالى ذكره : ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين ، من قبل نزول الفرقان ، إذا يتلى عليه القرآن لأذقانهم يبكون ، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا ،يعني خضوعا لأمر الله وطاعته استكانة له . [تفسير الطبري ( 15 / 181 )] .
وقال القرطبي هذا مدح لهم ، وحق لكل من توسم بالعلم ، وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة ، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل .[تفسير القرطبي ( 10 / 341 )] .
{ من قبله } أي : من قَبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبكون عند سماع ما نزل عليهم .
وقيل : من قَبل القرآن ، وهم اليهود والنصارى ، وهي بشرى للمتقين منهم أنهم يسلمون ، وهو الذي حصل كما في قوله تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَق [المائدة (83)] .
والآيات الأوَل - في الإسراء - مكية ، ومما نزل في مكة :
قولُه تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم (58)] .
وآية " النجم " :
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى . أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم (56 – 62)] .
وهذا لتربية الصحابة على رقة القلب وصدق الإيمان ، وأن الضحك الحق لا يكون إلا في الآخرة.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ . فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ . هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين (29 – 36)] وهي سورة مكية .
وهذا هو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع القرآن .
عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اقرأ عليَّ القرآن )) ،قال : قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( إني أشتهي أن أسمعه من غيري )) ،قال : فقرأت النساء حتى إذا بلغت فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً (41) [النساء (41)] رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرأيت دموعه تسيل .[رواه البخاري ( 4306 ) ومسلم ( 800 )] .
وهذا هو حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن .
عن أبي صالح قال : لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر : هكذا كنا ثم قست القلوب !!
وحال أبي بكر تصفه عائشة فتقول .
لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يوذنه بالصلاة فقال : مروا أبا بكر فليصل قلت : إن أبا بكر رجل أسيف - وفي رواية : لا يملك دمعه ، وفي روايةٍ : كان أبو بكر رجلا بكّاءً ؛ لا يملكُ عينيه إذا قرأ القرآن – إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة … . [البخاري ( 633 ) ، ومسلم ( 418 )] .
وعن عبد الله بن شداد أنه قال : سمعتُ نشيج أى رفع الصوت بالبكاء عمر وأنا في آخر الصف وهو يقرأ سورة يوسف إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف (86)] . [رواه البخاري معلقاً ، انظر : " فتح الباري " لابن حجر ( 2 / 206 )] .
وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قرأ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية – [البقرة (284)] - ; فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن ،لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ،فنسختها الآية التي بعدها لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ – [البقرة (286)] - .
وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية (21)] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .
وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما : وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [المطففين (1)] فلما بلغ : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين ] بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده .

وأمانا من العذاب .. ونصيبا من الجنة ... وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم
اللهم ارحم موتانا وموتا المسلمين واشفي مرضانا ومرضا المسلمين
اللهم انس وحشتنا في القبور .. وأمنا يوم العرض والنشور .. يا عزيز يا غفور
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
اللهم ارزقني قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة
اللهم ارزقنا حسن الخاتمة
اللهم ارزقنا الموت ونحن ساجدين لك يا ارحم الراحمين
اللهم ثبتنا عند سؤال الملكين
اللهم إنا نعوذ بك من فتن الدنيا
اللهم قوي إيماننا ووحد كلمتنا وانصرنا على أعدائك أعداء الدين .. اللهم شتت شملهم واجعل الدائرة عليهم
اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان
اللهم ارحم آبائنا وأمهاتنا واغفر لهما وتجاوز عن سيئاتهما وأدخلهم فسيح جناتك وألحقنا بهما يا رب العالمين