سألني صديقي الجالس أمامي في الطائرة وقد بداً لي أن الملل قد بدأ ينال منه ، فقد مضت ساعات طويلة ومازلنا فوق السحاب ، سألني قائلاً هل لنا أن نتحدث لنسري عن بعضنا بدلا من انشغالك بهذا بالكتاب الذي تقرأه منذ بدأت الرحلة ؟ ابتسمت له وقلت لو عرفت العالم الذي يأخذني إليه هذا الكتاب لتمنيت مثلي ألا يقطع علي أحد استغراقي فيه. قال وأنا لم أسألك عن الكتاب الذي يبدو قديماً منذ أقلعنا محترماً استغراقك فيه الذي جعلك وكأنك انفصلت عن عالمنا إلى عالم مجهول ، غير أني لم أتبين عنواناً له فغلافه صفحة بيضاء لا كتابة عليها سوى بعض خطوط ورسوم باهتة بخط اليد لا تحمل لي معني أدركه ، فما عنوانه ؟
لم أجب وران الصمت علينا لدقائق لم يقطعه إلا صوت صديقي الهامس: أعتذر لك فلابد أن سؤالي عن الكتاب أثار داخلك ما جعل تلك الدمعة تنساب من عينك.
انتبهت وامتدت يدي لمنديل مسحت به ما ابتل من وجهي وقلت له: لا عليك ،إنما تذكرت عندما كنت شاباً لا أملك ثمناً لكتاب فكنت أذهب للمكتبات العامة أنهل ما أنهل من كتب فيها أروي بها ظمأ لا يعرف ارتواء للعلم والمعرفة والثقافة ، وكنت أقوم بنسخ ما يعجبني من تلك الكتب والمعارف بخط يدي ومن بينها هذا الكتاب الذي بين يدي الآن ، لم يكن التصوير متاحاً في تلك الأيام ولو كان ما كنت فعلت فلم يكن في مقدوري أن أصور نفسي حتى أصور ورقة في كتاب.
عنوان هذا الكتاب ياصديقي هو (مختارات للمستقبل) وكتبته على الغلاف برسم يعبر عن ذلك كما كانت هي عادتي دائماً وحتى الآن ، وذلك لحبي للفنون والإبداع في شتى المجالات. ترى هنا على الغلاف الذي صنعته بيدي مجموعة من الزهور وأمامها سهم يتجه رأسه لأعلى، ذلك هو ما تخيلته ليعبر عن العنوان. جمعت في هذا الكتاب مجموعة كبيرة من شعر العرب القدماء والتي كانت لي عليها مآخذ حيث كان يراودني دائماً حلم التجديد في الشعر وهو ذلك الفن الذي توارثناه ومازال هو هو لم يتغير له شكل ولا مضمون وكأنه خاتم من الذهب يتوارثه الخلف عن السلف ، يقدسون فيه أنه كان من صنع الجد الأكبر والذي لا يمكن التفريط فيه بأي حال. كنت أحلم دائماً بيوم يرسله الغد أستطيع فيه الوصول لشكل جديد لذلك الفن البديع بما يناسب تغير الزمن والمكان والفكر والآلة التي لا تهدأ فيها طباع التغير والتحول والترقي.
سأل مبتسماً: وهل فعلت بعد أن غادرت أحلام الشباب مع شمس الشباب ؟
أجبت: لا، لم تغادر الأحلام وإن كان الشباب قد ولي للمغيب. لقد اكتمل تصوري للتجديد وبدأت في نشره لعلني أفلح في ذلك.
قال: تعلم أنه ليس لي في الشعر والأدب ولكني اعرف أن هناك ما يعرف بالشعر الجديد وأشياء من هذا القبيل، غيرك قام بهذا، عن أي تجديد تتحدث إذن ؟
ابتسمت وقلت: هذا موضوع كبير ليس لك فيه، ولكن كل محاولات التجديد على مر تاريخ الأدب والشعر لم تفلح في تغيير لأنها لم تكن منطقية أو بعيدة عن النية السليمة الخالصة وكانت تبعد عن الأسس كثيراً وتتنكر للمبادئ الثابتة ، بعضها كان معول هدم ، وبعضها كان جهلاَ أو عجزاً ، والآخر كان تافهاً. لم أقتنع بأي منها، ولكن ما توصلت إليه منذ سنوات قليلة شيء آخر.
قال: ولماذا تفعل ذلك ؟ ليس هذا مجالك ، وهل تضيع وقتك الثمين في قضية خاسرة لا محالة ؟
قلت: أما لماذا أفعل ذلك فأقول لكي لا أشبه من ولد وأكل وشرب ومات ولا يبق له أثر ، الواجب على كل مسلم مفكر أن يترك علماً ينتفع به في الدنيا وأن يسعي لذلك كيفما أتيح له ذلك ، وأما عن إضاعة الوقت فأنت تعرف أن أبنائي يحملون معظم الأعباء منذ تقاعدت ، وأما عن القضية فلست أرى أني سأخسرها بعون الله.
قال: وكيف تنشر فكرك الجديد هذا ؟
قلت: عقدت له عدة لقاءات مع أدباء معظمهم اقتنع به وأقوم حالياً بمناقشته مع شعراء الشعر القديم في البلاد العربية لهم مواقع على الشبكة.
قال مستنكراً: شعراء الشعر القديم ؟؟! وعلى الشيكة !! كيف ستقنع هؤلاء ؟ أراك ذهبت للمكان الخطأ.
قلت: وماذا في ذلك ؟ وأي خطأ فيه ؟
قال: أراك بذلك وكأنك ذهبت إلى مسجد تدعو فيه المصلين إلى تغيير قبلتهم أو أن يغيروا عدد ركعات الصلاة !
قلت: هذا تشبيه غير صحيح.
قال: ياصديقي هذا واقع للأسف ، لعلك نسيت الفكر الذي يسيطر على عقول الشعوب العربية والذي فرض عليها لكي تخرج من أطر الزمن وتتركه للشعوب الأخرى.
بدا على وجهي الاهتمام وقلت: ماذا تقصد ؟ أفصح.
قال: منذ أكثر من نصف قرن بدأ حكام تلك الشعوب في تنفيذ الخطط التي تكفل استمرار أنظمتهم ، تلك الخطط التي لم تأخذ في حسابها مصلحة الشعوب من الأساس بل صالح الحاكم وما يبقيه في كرسيه مهما كان ثمن ذلك ، وكان من ضمن سبل هؤلاء الحكام سبيل سلب عقول تلك الشعوب وتجميدها وشل قدرتها على الابتكار والإبداع وشغلها دائماً بسراب لا يتحقق أبداً. وكانت أكبر جريمة اقترفوها في حق شعوبهم هي رسم السياسة التعليمية في المدارس والإعلام على أسلوب التلقي لا التفكير والتحليل ، فما يطرح عليك هو الصحيح وهو الحقيقة عليك الأخذ به وبها كما يلقى عليك وإلا الرسوب نهاية العام. إن سأل طالب لماذا هذا قيل له هو هكذا قم بحفظه ولا تسأل ولا تفكر ، وإن تجرأ على رفض معلومة أجابته العصا، كانت النصوص الأدبية تطرح للحفظ ويتم تحليلها وعليهم الإيمان بهذا التحليل كما هو فذلك هو الصحيح وليس هناك تدبر أو تغذية للإدراك. خرجت الأجيال مجبولة على التلقي وأخذ المعلومة من يد الإدارة كما هي ولم تتعود على التفكير أو التغيير أو التبديل. وكان نتيجة ذلك أن افتقروا افتقاراً جسيماً للإبداع والابتكار وصار ما درسوه مثل الكتاب المنزل، ويكون هو الصحيح وأي رأي غيره لا يستحق مناقشته من الأساس. إنه جمود الفكر القانع المقتنع بما هو فيه فذلك هو المثالي وليس هناك فكر غيره. من هنا تجد أن الشعوب الأخرى والتي تربت على الإبداع منذ الصغر أبدعت وتقدمت في الأرض وفي السماء والكواكب وصاروا يصدرون علومهم ونتاج إبداعهم للشعوب العربية الفاقدة للإبداع بالثمن الباهظ كما شاء لهم. أتقول لي إذن أنك ذاهب لهؤلاء تقنعهم بتغيير أو تعديل في أسس راسخة عندهم.
قلت: وماذا ترى إن فعلت ؟
قال: سيسخرون منك ويرفضونك ويفعلون بك الأفاعيل، أو يحاولون إقناعك بما في رأسهم هم ويستخفون بأي جديد تعرضه بل ويكرهونك كأنك جئت تهدم عليم بيوتهم.
قلت: وما الحل إذن ، كيف يكون إصلاح ذلك ؟
قال : إصلاح ! أي إصلاح ؟ لا إصلاح للأجيال الحالية التي تربت في كنف هذه التربة التعليمية. الأمل سيكون فقط إذا أتيح لأجيال جديدة أن تتعلم وفق خطط دراسية جديدة بوسائل تعليمية تحث على استعمال الفكر وتنمي القدرة على الابتكار والإبداع وإبداء الرأي، عندها فقط سيتاح المجال للتجديد والتغيير والتطوير والتقدم ، ولكن أنى لها ذلك ؟ إنها قضية سياسية في المقام الأول وليست قضية أدبية.
نظرت من خلال نافذة بجواري فوجدت الظلام يلف كل شيء خارجها ، فعدت بهدوء وعبوس لا أخفيه إلى الكتاب الذي كنت أقرأه ، ورحت أقلب صفحاته وأنا أنظر للاشيء، وتمتمت شفتاي: بل سيسمعون ، ألست أنا مثلهم أنتمي للأجيال القديمة؟! لم فكرت في التجديد والتطوير إذن ؟!