أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: العلاقات السيميائية في النص القرآني دراسة في دلالة الحسي المشاهد على المجرد الغائب

  1. #1
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي العلاقات السيميائية في النص القرآني دراسة في دلالة الحسي المشاهد على المجرد الغائب

    العلاقات السيميائية في النص القرآني دراسة في دلالة الحسي المشاهد على المجرد الغائب
    سليمان بن علي - الجزائر
    (ليس باستطاعتي أن أدرس أيّ شيء في هذا الكون.... إلا على أنه نظام سيميولوجي)‏
    [تشارلز بيرس(1)]‏
    يعتبر النظام الكوني، بكل ما فيه من إشارات وعلامات ورموز، نظاماً ذا دلالة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق(. وبما أن السيميولوجيا هي العلم الذي يدرس الإشارات الدالة- مهما كان نوعها وأصلها- في بنيتها وعلائقها في هذا الكون، فقد ارتأيتُ أن تكون هذه الدراسة البسيطة قائمة على إيجاد الصلات الدلالية الدقيقة، التي عبّر عنها القرآن الكريم وأمرنا بتدّبرها والتأمّل فيها، بين المحسوسات والمجرّدات (عالم الحس وعالم الغيب) قصد فهمها وتمثّلها روحيّاً وعقلياً باعتبارها من سنن الكون، وأن نستدل بالأولى على الثانية؛ لأن الدلالة هنا تعبّر تماماً على ما قصده القدماء من أهل المنطق والأصول والعربية وعلم الكلام في قولهم "أن يكون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر... والمراد بالشيئين ما يعمّ اللفظ وغيره"(2).‏
    وينطلق موضوع هذه الدراسة من معيار (القصد) الذي تبنّاه مونان ومارتيني وغيرهما من علماء سيميائيات التواصل، في مقابل مبدأ (التأويل) الذي تبناه اتجاه سيميائيات الدلالة لرولان بارت.‏
    وهو معيار اشترطه علماء العربية قديماً في الدلالة، فرأوا أن ما يُفهم من غير قصد من المتكلم لا يكون مدلولاً للفظ أو غيره عندهم، بخلاف المناطقة فإنها عندهم –أي الدلالة- فهم المعنى مطلقاً(3).‏
    إنّ ما سنقدمه بين يدي القارئ الكريم يعتبر تصوراً جديداً لفهم بعض الحقائق عن عالم المجردات والغيبيات، التي أُمرنا أن نتعرف إليها ونؤمن بها، بمعطيات من عالم الحس والإدراك. وكلّ ذلك في ضوء ما تقدّمه السيمياء والدلالة من نظريات وأفكار منهجية، نتوخى من خلالها أن نقف على البنية السيميائية للمشهد أو الصورة من حيث هي مدرك حسّي يعود إلى حقيقة مجرّدة ويحيل إليها، مع بيان ما في ذلك من أسرار وعجائب قد تذهل عقولنا وعقول علماء السيميائيات من الغربيين؛ لأنها تستمد طبيعتها من صانع هذه العلامات والإشارات والرموز.‏
    إن النمط الذي يحكم العلاقات بين الأنظمة السيميائية التي سنتحدث عنها هو علاقة التماثل التي تؤسس علاقة متبادلة بين أجزاء- أو كليات- لنظامين سيميائيين، ولا تستقرأ هذه العلاقة من النظام نفسه، ولكنها تسقط عليه من خلال الصلات التي تكتشف أو تقام بين نظامين مختلفين(4). وما دامت العلامة في بعض تعريفاتها هي ذلك الشيء القابل للإدراك الدال على معنى لا يتحقق إلا به، فإننا نجد الإنسان منذ أن كان وهو يجهد نفسه للوصول إلى اللا مدرك انطلاقاً مما هو ظاهر، ويبحث عن الوسائل التي يحول بها الخفي من خفائه إلى حالة ظهور(5).‏
    ويكاد جميع الباحثين يجمعون على التمثيل للإشارة –وهي نوع من أنواع العلامة- بالدخان الذي يدرك بحاسة البصر فينبئ عن وجود نار لا يطالها الإدراك، ومعنى ذلك أن الدخان لا يكون إشارة إلا حيث لا تظهر النار للعيان؛ لأنها حين تظهر معه في نفس الوقت لا يكون الدخان إشارة(6) وهذا المثال كثيراً ما يساق عند تعريفهم للإشارة.‏
    إن كل ما سبق يعطي لهذه الدراسة للعلاقات السيميولوجية بين عالمي الحس والغيب في النص القرآني شرعيتها، خاصة إذا علمنا –من جهة أخرى-أن هذه العلاقات شبيهة إلى حد ما بالأعمال المتخيّلة، رسماً كانت أو مسرحاً أو سينما، والتي تعمل بالقياس إلى المعروف، إذ نجد المتلقي أو المشاهد يستسلم إلى تأثير ما يُعرض أمامه، لأن المماثلات الجزئية –أو الكاملة- الحاصلة بين ما يعرفه وبين ما يعرض أمامه تجعله يقبل إمكان مشابهة ما يعرفه بما يجهله فيُكشف له(7).‏
    وقد حصرت الكلام عن علاقة عالم الحس بعالم الغيب، ودلالة الأول على الثاني، على ظاهرة القَسَم في النص القرآني، وأعني بذلك قَسم الله سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته كالفجر والضحى والتين والزيتون.. وغيرها، ذلك لأن القسَم بهذه المخلوقات –التي هي آيات إلهية يُشاهدها الإنسان ويدركها يوماً بعد يوم يحمل في ثناياه بياناً وتوكيداً للحقائق الغيبية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يؤكدها لعباده؛ ومن ثَمّ فإن هذا النوع من القَسَم لم يخرج عن إفادة التوكيد والتحقيق الذي يُستفاد من أيّ قسَم في اللغة العربية، إلا أنّ هناك فرقاً دقيقاً بينهما –أي بين هذا النوع من القسم والقسم المعروف- وهو أنّ هذا الضرب من القسم بالمخلوقات (المرئية عادةً) فيه بيان لحقيقة غيبية وتأكيد عليها بحقيقة مرئية، وهذا ما لا نجده في القَسَم العادي.‏
    والذي أريده من خلال هذه الدراسة ليس تتبّع ما قدّمته الدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله في تفسيرها البياني للقرآن من علاقات بين المقسم به (الذي يكون حسياً في الغالب) والمقسم عليه (الذي يكون غيبياً ومجرداً في الغالب أيضاً) بالنقد والتعقيب، بل ما أريده هو المُضيّ في تحقيق ما وصلتْ إليه من خلال منهجها السياقي الذي أخذته عن أستاذها أمين الخولي رحمه الله وتأكيده تأكيداً لا يدع للشك مجالاً في أنّه منهج قرآنيّ فريد يستطيع الباحثون من خلاله أن يكشفوا عن مقاصد القرآن الكريم من غير أن يداخلهم شكُّ خطئهم في فهم معاني آياته. و سيكون تأكيدي لهذا المنهج الخطير الذي لم يُغفله حتى القدماء في تفسيرهم(8)- بما فتح الله به عليّ من كشف عن مقاصد بعض هذه الأقسام (جمع قَسَم)، والوقوف على ما يؤيده من القرآن الكريم نفسه، وذلك حتى نكون قد احتججنا لتفسير هذا النوع من القسم في القرآن بالقرآن، ونحن نعلم أن أعظم طرق تفسير القرآن وأصحها على الإطلاق هو أن يُفسَّر القرآن بالقرآن، لأن ما أشيرَ إليه في مكان منه فإنه قد بُسط فيه القول وفُصِّل في موضع آخر، وبذلك تطمئن نفوسنا إلى صحّة هذا المنهج وهذا التفسير الذي سنرتضيه للقَسَم، وأننا لم ننخدع بفكرة أملاها علينا السراب أو الخيال فجعلتنا لا نخشى التهجم على كتاب الله والقول فيه بالظن.‏
    وأوّلُ ما وقفتُ عليه من ذلك تفسيرُ القَسَم في قولـه تعالى: (والسّماء ذاتِ الرَّجْعِ والأَرْضِ ذات الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وما هُوَ بِالهَزْلِ( [الطارق 11-14]، إذ نجد أنّ أغلب المفسرين ذكروا أن الرجع هو المطر أو الغيث، بل وذهب بعضُهم إلى بيان سرّ تسميته بالرجع فقال الشوكاني مثلاً: "إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يُرجعه إلى الأرض"(9)، ومنه قال ابن عباس: "هو السحاب يُرجع المطر"(10). أما الصدع ففيه إشارة إلى تصدع الأرض وتشققها عند خروج النبات منها ولذلك نجد بعض المفسرين يفسره بالنّبات، إذ نجد في روح المعاني أن "الصدع هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سُمّي به النبات مجازاً"(11) لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وكأنه قيل والأرض ذات النبات الصادع للأرض(12). وإذا كان هذا كذلك في معنى الرجع وفي معنى الصدع فإن المناسبة واضحة جدّاً بين القسَم والمقسَم عليه وهو الضمير في (إنه) من قوله تعالى: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل( العائد –حسب ما يقتضيه السياق العام للسورة على البعث والنشور، لا على القرآن كما نجده في جميع التفاسير تقريباً، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد من خلال هذه السورة الكريمة أن يحقق على الكفار وأن يؤكد لهم أمر المعاد الذي سجّل القرآن نفسه في عدة مواضع إنكارهم لـه كقولـه تعالى على لسان بعضهم: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون( [المؤمنون 35] وقولـه:(قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون( [المؤمنون 82] وقوله: (وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون( [النمل 67] وغير ذلك من الآيات البيّنات التي بَدَا إنكار الكافرين لأمر البعث والنشور فيها واضحاً، فلجأ القرآن الكريم إلى هذا الأسلوب البياني الدقيق وهو القَسَم بآيات الله التي تتجسد فيها ظواهر مشاكلة للبعث والمعاد، وهي ظواهر تمر بالإنسان حيناً بعد حين ولا يشك في أمرها لأنها تحدث وتتجسد أمامه، فكأنّ القرآن أراد أن يَلْفِتَ أنظارهم بهذا القَسَم الذي تَضمّن السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إلى أنه كما أنّكم تَرَوْنَ كيف تحمل السماء الماء من بحار الأرض وأنهارها.. ثم تُعيده وترجعه على شكل أمطار، وكما أنكم ترون كيف أن الأرض تكون قاحلة ميتة فيبعث الله فيها الحياة من جديد فتتشقّق وتتصدع عن النبات رمز حياتها فكذلك أنتم بعد موتكم ستُعاد لكم الحياة وتُبعثون بعد موتكم من جديد.‏
    ولعل ما يؤكد هذا المعنى الذي فهمناه ويزيد النفس طمأنينة إليه أن القرآن الكريم قد سجّل هذا التناسق العجيب بين الظاهرتين بعث الحياة في الأرض بعد موتها وبعث الحياة في الأموات ودلالة إحداهما على الأخرى بوضوح، وذلك في قوله تعالى: (ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبَاركَاً فَأَنبَتْنا بِهِ جَناتٍ وحَبَّ الحَصيدِ، والنَّخْلَ باسِقاتٍ لهَا طَلْعٌ نَضيدٌ، رِزْقاً لِلْعبادِ وأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الخُروجُ( [ق9-11]، أي كما أنبتنا بهذا الماء هذه الأرض الميتة فأحييناها به فأخرجنا نباتها وزرعها كذلك نخرجكم يوم القيامة أحياء من قبوركم(13)، كما يظهر هذا المعنى بوضوح لا يدع مجالاً للشك في أمر المشاكلة بين إحياء الأرض (المقسم به) وإحياء الموتى وإخراجهم يوم البعث (المقسم عليه) قوله تعالى في موضع آخر: (وهو الذي يرسل الرياح بُشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سُقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون( [الأعراف 57]، ولا شك أن في التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تحقيقٌ للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس –أي قياس الغائب على الشاهد- وتقريبه إلى إفهام الناس(14) ولبيان صدق هذه الحقيقة الغيبية (البعث) بحقيقة مماثلة ولكنها مرئية (إحياء الأرض بعد موتها) للذين يكفرون بها؛ ومن أجل شدّة سطوع هذه الحجة وبيانها عن الغرض الذي سيقتْ من أجله ذَكر القرآن أن إنكارهم للبعث بعد أن بُيّن لهم في قوله: (وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها( وقوله: (والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآية لقوم يسمعون((15) [النحل 65] وقوله: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزتْ ورَبَتْ إن الذي أحياها لَمُحْيِ الموتى( [فصلت 39] وقوله في معرض الاحتجاج للبعث وتأكيد أمره، وبعد أن قال: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث):‏
    (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير( [الحج 6-5] يدعو إلى العَجب حقَّاً فقال سبحانه: (وإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنّا تُراباً أَئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَديدٍ( [الرعد 5].‏
    كما نجد القرآن الكريم يصف الأرض عند إحيائها بإخراج نباتها بنفس الوصف عند خروج العباد يوم البعث منها إذ قال تعالى: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسيرٌ( [ق 44]، ويصف بالمقابل إحياء الأرض بنفس الوصف الذي وصف به إحياء العباد (النشور) فقال: (والَّذي نَزَّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخرَجونَ( [الزخرف11]، بل ويُسمِّي إحياء العباد وبعثهم في يوم النشر بـ (الرجْع)(16) الذي وصف به المطر لأن كلاًّ منهما رجَع إلى حالته التي كان عليها، فالناس عادوا كما كانوا والمطرُ عاد ماء كما كان من قبل أن يرتفع إلى السماء في هيئة بُخار؛ مما يؤكد المناسبة بين هذه الظواهر لاتحّادها في الألفاظ الدالة عليها والمعبِّرة عنها.‏
    ويؤكد هذا المعنى الدقيق الرابط بين المقسم به (السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع) والمقسم عليه (إنه لقول فصل: أي الرجع أو البعث) أيضاً ما ورد في سنة نبينا المصطفى محمد ( في شأن يوم القيامة فقد روى الإمام مسلم في صحيحه –باب ما بين النفختين- عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قالَ رَسُولُ الله (، "مَا بَيْنَ النّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ" قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْماً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالُوا: أَرْبَعُون شَهْراً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. "ثُمّ يُنْزلُ اللهُ منَ السَّمَاء مَاءً فَيَنْبُتُون كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ. قالَ: "وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيءٌ إِلاّ يَبْلَىَ. إلاّ عَظْماً وَاحِداً وَهُوَ عَجْبُ الذّنَبِ. وَمِنْهُ يُرَكّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القيامَةِ، وهو ما رواه الإمام البخاري كذلك في باب: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً) [النبأ: 18]. وعجب الذنب هو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب(17). كما جاء في مسند الإمام أحمد: (حدّثنا عبد الله حدّثني أبي قال: ثنا بهز قال: ثنا حماد بن سلمة قال: أنا يعلى بن عطاء بن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله، أكلنا يرى ربه عزّ وجلّ يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله (: أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قال: بلى، قال: فالله أعظم، قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي أهلك محلاً قال بلى، قال: أما مررت به يهتز خضراً قال: قلت بلى، قال: ثم مررت به محلاً؟ قال: بلى، قال: فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه".‏

    يتبع
    اللهم يا من تعلم السِّرَّ منّا لا تكشف السترَ عنّا وكن معنا حيث كنّا ورضِّنا وارضَ عنّا وعافنا واعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا

  2. #2
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    هذا، ولعل القدماء من المفسرين لم ينتبهوا إلى هذه المناسبة الواضحة بين القَسَم والمقسَم عليه في هذه الآيات من سورة الطارق ولم يُنبِّهوا عليها في موضعها(18)، على الرغم مما وجدناه من إشارة منهم إليها في تفسيرهم للآيات 9-10-11 من سورة (ق) التي تناولناها سابقاً، وقول ابن كثير في تفسير قولـه تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور( [فاطر 09]: "كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها"(19)، وقوله في تفسير: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير( [الحج 06]: "هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة... (وأنه يحي الموتى) أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع إن الذي أحياها لمحيي الموتى"(20)، إذ نجد ابن القيم مثلاً في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) الذي خصّصه لدراسة جميع ما جاء في القرآن من أقسام وإماطة اللثام عن أسرارها يعقد العزم منذ البداية على أنّ في قسم الله سبحانه ببعض المخلوقات دليلاً على أنه من عظيم آياته(21) الدالة على ربُوبيّته. وهذا يؤكد ما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله من أن القدماء انْساقوا كثيراً وراء فكرة العظمة يُفسّرون بها هذا النوع من الأقسام في القرآن، ولذلك نجد ابن القيم يُفسِّر القَسَم الذي نحن بصدده بقوله: "فأَقْسَمَ سبحانه بالسماء ذات المطر والأرض ذات النبات وكلٌّ من ذلك آية من آيات الله تعالى الدالة على ربُوبيّته"(22)، بل وذهب بعضهم إلى جعل هذه الفكرة مُطّرداً وذلك كالذي جاء عن الألوسي بعد أن ذكر عدة أقسام أقسم الله فيها بمخلوقاته-: "إِذْ لا يُقسَم بالشيء إلا إعظاماً له"(23).‏
    والغريب بعد هذا أن هناك من العلماء من خرَّج أقسام الله ببعض مخلوقاته على حذف مضافٍ هو المقسَم به، أي أن التقدير: وخالق السماء ذات الرجع وخالق الأرض ذات الصدع، وجعَلَ ذلك قياساً مطّرداً في جميع ما جاء في القرآن من هذا النوع من القسَم(24). ولعل ذلك راجع إلى أن كثيراً من العلماء كرهوا أن يُقسَم بغير الله سبحانه لِما جاء من أحاديث صحيحة. وهذا الذي ذهبوا إليه من جعل القسَم مكروهاً صحيح في حق العباد فليس لهم أن يُقسموا بغيره، أمّا هو سبحانه وتعالى فَيُقسِم بما شاء من مخلوقاته(25) (لا يسْأَلَ عَمّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلونَ( [الأنبياء 23]، وقد ذكر عطية محمد سالم أن المفسرين مجمعون على ذلك، وأضاف: "أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع، يكون بين المقسم به والمقسم عليه مناسبة وارتباط، وقد يظهر ذلك جلياً وقد يكون خفياً، وهذا فعلاً ما تقتضيه الحكمة والإعجاز القرآني، وإن كنتُ لم أقف على بحث فيه(26)" (27).‏
    أضِفْ إلى ذلك أن القول بالإضافة في مثل هذه الأقسام سيمنعنا من الوقوف على مثل هذه الإشارات والنّكت اللطيفة المعبّرة عن دقّة التعبير القرآني وأسلوبه في إقناع خصومه والاحتجاج عليهم بمثل هذه الإيماءات الدقيقة.‏
    من خلال ما سبق نجد أن المفسرين قد أشاروا بوضوح إلى المشاكلة الواقعة بين إحياء الأرض بعد موتها وبين حشر العباد وبعثهم من مرقدهم يوم القيامة، ولكن ذلك لم يكن في القسَم الذي تناولناه من سورة الطارق، بل في تفسيرهم للآيات التي عرضناها من سورة (ق)، وهذا يعني أنهم قد تنبّهوا لتلك المناسبة أو المشاكلة في هذه السورة لِنَصِّ القرآن على ذلك صراحةً، ولم ينتبهوا لها في سورة الطارق لدقّة الإشارة إليها، وفَرْقٌ بين الإشارة والتصريح.‏
    ومما يؤكد أيضاً أنّ القسم من الله سبحانه بمخلوقاته المُدْركَة حِسَّاً فيه بيانٌ لحقيقة من حقائق الغيب غير المُدركَة حسَّاً ما وقفتُ عليه من مناسبة بين القسَم والمقسَم عليه في قوله تعالى: (فلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجومِ وإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ في كِتابٍ مَكْنونٍ لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرونَ( [الواقعة75-79]. وقبل أن نسترسل في بيان المناسبة بين المقسَم به والمقسَم عليه في هذه الآيات نحب أن نشير إلى بعض دلالاتها، من ذلك أن قوله عز وجل: (فلا أقسم بمواقع النجوم) معناه كما نصّ على ذلك قدماء المفسرين-: أقسم بمواقع النجوم، واستدلوا على صحة ذلك بقراءة بعضهم: لأقسم(28)، ولكنهم اختلفوا في تفسير (لا) فرأى بعضهم أنها زائدة ورأى بعضهم الآخر أنها ردٌّ على كلام سابق فكأنه قيل: لا ليس الأمر كما ذَكرْتُم، ثم استأنف بـ: أقسم ورأى بعض ثالث أنها لنفي ما يُنبئ عنه القسَم من تعظيم المقسَم به وتفخيمه فكأنّ المعنى لا أقسم بكذا لا أُعظّمُه بإقسامي به حقّ إعظامه فإنه حقيق بأكثر من ذلك، وهناك رأي رابع يقول أنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر(29). ولعل أقرب تفسير لـ (لا) هو ما ذكرته الدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله من أنها لإفادة التوكيد مع عدم القول بزيادتها كما فعل بعض القدماء الذين أثبتوا لها هذا المعنى، وقد احتجت لهذا الرأي بما نستعمله في مخاطباتنا حتى الآن ليس في الفصحى وحسب بل وفي لهجاتنا العامية عندما نريد أن نؤكد على أحد ما وصيّة مُعيّنة فنقول: لا أوصيك بكذا، كأنْ أوصيه على شخصٍ بأن يرعاه فأقول مؤكّداً على ذلك: لا أوصيك بفلان. فلا شك أن هذا آكد لأمر الوصيّة من القول: أوصيك بفلان؛ ومن هنا فإن معنى (لا أقسم) هو (أقسم) كما قال القدماء ولكن مع إفادة التوكيد، ومعنى ذلك كله أن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بمواقع النجوم حقّاً في هذه الآية. ومما يَدُلّ على ذلك أيضاً أنّه جاء بعدها مباشرة (وإنه لقَسَمٌ لو تعلمون عظيم) فدلَّ هذا على أنه قَسَمٌ لا نفيٌّ له، ويؤكده كذلك قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد( فـ (لا) هنا ليست لنفي القسم بل لتأكيده، بدليل أن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر وهو قوله سبحانه: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين(.‏
    وحتى نقف على علاقة المقسَم به مع المقسَم عليه يجب أن ننظر في تفسير قوله تعالى: (إنّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرونَ( إذ رأى بعض المفسرين أن المراد بالمطهَّرين (المطهَّرون) عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر، بِحَمْلِ الطهارة على الشّرْعِيّة، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس(30). وهذا التفسير غريب حقاً، ذلك لأنه لا يتماشى مع روح هذه الآيات البتّة، وذلك للأسباب التالية(31):‏
    -أن السورة التي وردت فيها هذه الآيات مكيّة، والاعتناء في السُّورِ المكيّة إنما هو بأصول الدِّين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة، وأما تقرير الأحكام والشرائع وافْعَلْ ولا تفعلْ فمن خصائص السور المدنية.‏
    -أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية ولا في حياة رسول الله ( وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر.‏
    -أن (المكنون) في قولـه: (في كتاب مكنون) معناه المصون المستور كما قال تعالى في وصف حور العين: (كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مَكْنونٌ)[ الصافات 49].‏
    -أن قولـه: (لا يمسُّه إلا المطهرون) جاء بالرفع، مما يدل على أنه خبرٌ لفظاً ومعنى، ولو كان نهياً لكان مفتوحاً (لا يمسَّه)، ومَن حمَل الآية على النهي أحتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حَمْلُ كلٍّ منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.‏
    -أنه لو أراد منع المحدِث لقال (إلا المتطهرون) كما قال في موضع آخر: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين( [البقرة 222] لأن المتطهر فاعل التطهير – والمتوضئ متطهر والمطهر الذي طهره غيرُه.‏
    ولسنا نريد أن يصل القارئ بكلامنا هذا إلى نتيجة ننفيها نفياً قاطعاً هي أن مسّ المصحف لا يحرم على المحدِث، لأن ذلك منفيٌّ بما ورد في الأثر أنه جاء في الكتاب الذي كتبه النبيّ إلى أهل اليمن (لا يمس القرآن إلا طاهر)، بل الذي نريده هو أنه لا دليل في هذه الآيات على هذه الحرمة كما يعتقد كل من يراها مثبتة دائماً على المصاحف، فكأنّ مَن وضعها هناك يريد أن ينبِّه مَن قد ينسى فيحمل المصحف وهو محدِث حدثاً أكبر أو أصغر؛ فوَضْعُ هذه الآيات من قِبَل القائمين على طباعة المصاحف ونشرها وإن كان ذلك بِحُسن نيّة وتذكيراً منهم للمسلمين يُسيء أَيَّمَا إساءة إلى المعنى المقصود منها(32). وليس يشفع لهم في ذلك أن بعض العلماء كابن تيمية قد استدل بها على حرمة مس المصحف على المحدِث، لأنه استدل بها على ذلك بوجه آخر غير معناها وهو وجه يتعلق بباب التنبيه والإشارة كما قال، أي إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهرون فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسَّها إلا طاهر(33)، وهو استدلال طريف كما ترى.‏
    وإذا كان الأمر كلُّه كما بيَّنّا فإلى أيّ معنى صرف القدماء لفظ (المطهرون)؟ لقد صرفوه كما جاء في أغلب تفاسيرهم إلى الملائكة، والمعنى: لا يمسُّ الكتاب الذي في السماء (أي في اللوح المحفوظ) إلا الملائكة، وقد استدلوا على هذا المعنى بقوله تعالى في موضع آخر من كتابه العزيز: (في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفوعة مُطهّرة بِأَيْدي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس 13-16]. ولكننا إذا ربطنا المقسَم به بالمقسَم عليه نجد لفظ (المطهّرون) يُحِيلُنا على معنى آخر غير الملائكة، وهو معنى قد أشار إليه بعض القدماء، إنه معنى ارتباط هذا القرآن بالعلم والمعرفة والبحث في هذا الكون الواسع الذي أمرنا الله عز وجلّ بتدبر آياته فيه والبحث في أسرارها وما يمكن أن توحي إليه من معان عجيبة، قال في فتح القدير:‏
    "والعرب تعد المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجَلّ العلوم ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب"(34).‏
    وبهذا المعنى لا يكون المقصود من المَسّ في هذه الآية المسّ المادي الذي يكون بالجوارح وإنما يكون مسّاً معنوياً فكرياً على ما نص عليه الراغب الأصفهاني عند تعرضه لهذه الآية بقوله: "أي لا يبلغ حقائق معرفته إلا مَن طهّر نفسه وننقّى مِن درن الفساد"(35) وعلى ما نص عليه غيره من المفسرين كقول بعضهم: "وقال الفراء: لا يجدّ طعمه ونفعه وبركته إلا المطهّرون وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهّره الله من الشرك والنفاق"(36) وقول بعضهم الآخر: "إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس.. أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم وقيل أيضاً يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدنى حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات"(37)؛ فكأنه قيل: كما أن النجوم ومواقعها والوقوف على جميع ما يحيط بها من أسرار لا يتأتى إلا بتدبُّرٍ وتَفكُّرٍ وصفاء ذهن فكذلك دقائق هذا القرآن وأسراره لا يقف عليها إلا من زكيتْ نفسُه ووفّقه الله إلى تدبّره أحسن تدبّر كما قال سبحانه: (سأصرفُ عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق( [الأعراف 146)، إذ جاء عن قتادة أن معنى ذلك: سأمنعهم فهم كتابي(38) وهو نفس التفسير الذي ارتضاه ابن كثير بقوله: "أي سأمنعهم فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي وأحكامي"(39).‏
    ولكن يُستَشَفّ من كلامه أنه قد صرف معنى الآيات هنا إلى معناها العام الذي يعني الآيات الكونية –الدالة على عظمة الله كما ذكر- والآيات القرآنية الدالة على شريعته وأحكامه، وهو ما ارتضاه الطبري أيضاًَ بعد أن ذكر الخِلاف في ذلك –بقوله: "وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أَمر به عبَاده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله وغير ذلك من فرائضه، والسمواتُ والأرض وكل موجود من خلقه فمن آياته والقرآن أيضاً من آياته"(40)، والصرف هنا كما ذكر ابن تيمية هو منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها(41). وقد أقرّ ابن تيمية في (الفتاوى) صحة الرأيين معاً عن طريق الإشارة والقياس فقال: "فمن سمع قول الله تعالى لا يمسه إلا المطهرون وقال إنه اللوح المحفوظ أو المصحف فقال كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة وهي قلوب المتقين كان هذا معنى صحيحاً واعتباراً صحيحاً ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف قال تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين( وقال: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) وقال: (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام( وأمثال ذلك"(42).‏
    وبهذا المعنى تكون مواقع النجوم المقسَم بها هنا هي مساقطها ومغايبها لا ما رجّحه بعضهم من أنها مواقع تنجيم القرآن (أي مواقع نزولـه منجّماً شيئاً بعد شيء)، وهذا المعنى هو الذي ارتضاه الطبري في تفسيره فقال: "وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك فلا أقسم بمساقط النجوم ومغايبها في السماء وذلك أن المواقع جمع موقع والموقع المفعل من وقع يقع موقعاً فالأغلب من معانيه والأظهر من تأويله ما قلنا في ذلك، ولذلك قلنا هو أولى معانيه به"(43) وابن القيم معتمداً على ملاحظة جميع سياقات هذا اللفظ –في تبيانه بقوله: "ومن حُجّة من قال هي مساقطها عند الغروب أن الربّ تعالى يُقسِم بالنجوم وطلوعها وجريانها وغروبها، إذْ فيها وفي أحوالها الثَلاث آية وعبرة ودلالة ويُرجّح هذا الرأي أيضاً أن النجوم حيث وقعت فالمراد منها الكواكب(44)" (45).‏
    والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن ابن القيم قد تنبّه إلى وجود علاقة بين المقسَم به والمقسَم عليه، لا تكمن في المسّ الذي ذكرنا أنه مسّ فكري، بل في القرآن في حد ذاته، إذ يقول رحمه الله: "المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه: أحدُها أن النجوم جعلها الله يُهتدَى بها في ظلمات البر والبحر وآيات القرآن يُهتدَى بها في ظلمات الجهل والغيّ، فتلك هداية في الظلمات الحسيّة وآيات القرآن في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين"(46). وهذا الرأي حسن جداً في بيان المماثلة بين النجوم والقرآن الكريم، وهو أحسن وألطف من الانسياق وراء فكرة العظمة وتفخيم المُقسَم به التي ذكرها بعض المفسرين في هذه الآية بالذات.‏
    هوامش الدراسة:‏
    (1) C. Peirce, Iettre to welby, ed. I. Clieb, New haven, 1953, p 32.‏
    (2) التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1. 1998. 2/119.‏
    (3) انظر: نفس المصدر 2/126.‏
    (4) انظر: د. رشيد بن مالك، السيميائية أصولها وقواعدها. منشورات الاختلاف، الجزائر. 2002. ص39-40.‏
    (5)د. محمد السرغيني، محاضرات في السيميولوجيا. دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء. ط1. 1987. ص 35.‏
    (6) انظر: نفس المرجع ص 37.‏
    (7) نفس المرجع ص42-43.‏
    (8) إلا أنهم لم يطبّقوه بنفس الكيفية التي طبّقَتْه بها الدكتورة بنت الشاطئ، أي أنهم لم يتناولوا به هذا الضرب المهم من القسَم في القرآن.‏
    (9) الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فنّيْ الرواية والدراية في علم التفسير. دار الفكر، بيروت. 5/420.‏
    (10) البغوي، معالم التنزيل، ت: خالد العك ومروان سوار. دار المعرفة. بيروت. ط2، 1987. 4/474.‏
    (11) الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. دار إحياء التراث العربي، بيروت. 30/100.‏
    (12) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. ت: أحمد عبد العليم البردوني. دار الشعب، القاهرة. ط2. 1972. 20/11.‏
    (13) الطبري، جامع البيان عن تأويل أي القرآن. دار الفكر، بيروت. 26/154.‏
    (14) روح المعاني 26/177.‏
    (15) جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: (.. لتبين لهم الذي اختلفوا فيه..)، وقد ذكر الزمخشري أن بعض الذي اختلفوا فيه البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به كمعبد المطلب. (الكشاف. ج2 ص 416).‏
    (16) وذلك في قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد( [ق3].‏
    (17) روح المعاني ج 26 ص 174.‏
    (18) إلا ما ذكره الألوسي رحمه الله من فهم دقيق عن بعض العلماء الذين اعترضوا على مَن قال أن تشقق الأرض بالعيون لا بالنبات، حيث قال: (وقيل تشققها بالعيون وتُعقّب بأنّ وصف السماء والأرض عند الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون) (روح المعاني ج: 30 ص: 100).‏
    (19) تفسير ابن كثير ج3 ص549.‏
    (20) نفس المصدر ج3 ص209.‏
    (21) ابن قيّم الجوزية، التبيان في أقسام القرآن. دار الفكر. ص 3.‏
    (22) نفس المصدر. ص 67.‏
    (23) روح المعاني 5/71.‏
    (24) انظر: فتح القدير. 3/138.‏
    (25) ذكر ابن كثير أن هذا هو مذهب الجمهور.‏
    (26) ولكنه حين بحث في المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه انساق كثيراً إلا في بعض المواضع على الرغم من تفطنه لوجود المناسبة بينهما- وراء فكرة العظمة ودلالة الآيات المقسم بها على قدرة خالقها. انظر مثلاً ج9 ص 24-130-157-163-237-253-330. ومن دلائل تفطنه للمناسبة الجامعة واطرادها بين المقسم به والمقسم عليه في القرآن الكريم قوله في موضع آخر: .. لا سيما وأني لم أقف على بحث فيه، ولا توجيه يشير إليه، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة، وجدير بأن يُفرَد برسالة (أضواء البيان 9/73)، والملاحظ على عمله في هذا الصدد وإن كان لـه فضل السبق أنه لم يكن دقيقاً دقة العمل الذي قدمته بنت الشاطئ مستمدةً دلالاته من روح القرآن وما يكتنف آياته من قرائن مقالية ومقامية.‏
    (27) محمد الأمين الشنقيطي وعطية محمد سالم، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. عالم الكتب، بيروت، دون ط. 9/69.‏
    (28) انظر: الجامع لأحكام القرآن17/ 223-224 وفتح القدير 5/335 والبيضاوي، تفسير البيضاوي. ت: عبد القادر عرفات العشا حسونة. دار الفكر، بيروت. 1996. 5/419.‏
    (29) فتح القدير 5/335.‏
    (30) روح المعاني 27/154.‏
    (31) التبيان في أقسام القرآن 142-143 بتصرف.‏
    (32) ونظير هذا الصنيع الذي يذهب بمقاصد بعض آيات القرآن الكريم أن تُضرَب الأمثال بالآيات، فيشيع ذلك المعنى المقصود من المثل على أنه هو المعنى المراد في تلك الآية التي ضُرب بها المثل فيغطي على الدلالة الحقيقية لها، ومثال ذلك ما لمستُه عند العامة –وكثير من الخاصة- عندما كنت أسألهم عن المقصود من قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون( فيجيبون بأن المعنى فاسألوا العلماء فهُم قد فهِموا أن أهل الذكر هم العلماء من خلال تردد هذه الآية كمثل سائر في الردّ على كل من لا يعرف شيئاً فيُطلب منه أن يعود إلى أهله (أي المتخصصين فيه) فيسألهم عنه، وهذا بلا شك يُذهبهم عن القصد من أهل الذكر الذين هم في هذه الآية أهل الكتاب من اليهود والنصارى كما جاء في كتب التفسير وكما يدل عليه سياقا الآية المقامي والمقالي، فالأول يتمثل في سبب النزول الذي ذُكر فيه أن مشركي مكة أنكروا نبوة محمد ( وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فهلاّ بعث إلينا مَلكاً (أسباب النزول للواحدي ص 229) فأنزل سبحانه: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون( أي أن هذه سُنّة من سُنن الله التي لا تبديل لها، وهي أن لا يبعث إلى عباده رسلاً إلا من جنسهم، و ما دام أن العرب لم يعرفوا كتباً سماوية من قبلُ فقد طالبهم القرآن بأن يعودوا فيسألوا من عرفوا ذلك كاليهود والنصارى. أما الثاني –وهو السياق اللغوي- فيتمثل فيما جاء بعد هذه الآية مباشرة من قوله: (بالبيّنات والزبر( في سورة النحل الآية 44 وقوله: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين(. وبهذا المعنى يكون قطع هذه الآية عن سياقها الحالي أو المقامي الذي وردت فيه وربطها –في أذهان أكثر الناس بسياق المثل الذي يُضرب بها، وكذا قطعها عما جاء قبلها وبعدها في السياق اللغوي- كالذي يحدث لو قلنا: (فويل للمصلين) ولم نأت بما بعده من كلام- قد أبْعَداها تماماً عن المعنى الذي يريده الشارع سبحانه وتعالى.‏
    ولعل هذا ما جعل بعض العلماء يُكَرّهون ضرب الأمثال بالقرآن، أو أن تُتلى الآية عند شيء يعرض من أمور الدنيا، بل وجعله بعضهم من الاستخفاف بالقرآن الكريم. ومن ذلك قول ابن شهاب: لا تناظر بكتاب الله ولا بسنة رسول الله، قال عبيد شارحاً-: يقول لا تجعل لهما نظيراً من القول أو الفعل. (انظر: البرهان في علوم القرآن 1/483).‏
    (33) التبيان في أقسام القرآن 143-144.‏
    (34) 3/125.‏
    (35) الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن. ت: نديم مَرعشلي، دار الكتاب العربي ومطبعة التقدم العربي. 1972. مادة (طهر).‏
    (36) فتح القدير 5/160 والجامع لأحكام القرآن 17/226.‏
    (37) روح المعاني 27/162-163.‏
    (38) الجامع لأحكام القرآن 7/283.‏
    (39) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم. دار الفكر، بيروت، 1981. 2/248.‏
    (40) جامع البيان 9/60.‏
    (41) روح المعاني 9/60.‏
    (42) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في التفسير. مكتبة ابن تيمية ج: 13ص: 242.‏
    (43) جامع البيان 27/204.‏
    (44) ولعل ما يؤكد هذا المعنى أيضاً تفسير بعضهم للبروج بأنها (في اللغة القصور والمنازل والمراد بها هنا- يعني في قوله تعالى: (ولقد جعلنا في السماء بروجاً( [الحجر 16]- منازل الشمس والقمر والنجوم السيّارة وهي الاثنا عشر المشهورة كما تدل على ذلك التجربة).‏
    (45) التبيان في أقسام القرآن 137.‏
    (46) نفس المصدر 1/138.‏

  3. #3
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الاخ الفاضل الاديب والمربي الكبير الاستاذ عطية العمري

    لابد لي ان اعبّر لك عن مدى سعادتي بالاطلاع على هذه الدراسة , التي جاءت بعنوان : "العلاقات السيميائية في النص القرآني دراسة في دلالة الحسي المشاهد على المجرد الغائب " للكاتب سليمان بن علي - الجزائر , لاشك بانها دراسة قيّمة , وقد بذل في انجازها جهد كبير , وكتبت بشكل حريص مدعمّة بالشواهد والمراجع والاعادات .
    ولابد لي أن اشكرك ايها الاخ الفاضل على تقديم هذه الدراسة لنا للاطلاع , فهي تستحق القراءة والتدقيق .
    تقبل محبتي وتقديري

    اخوكم
    السمان

  4. #4
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    بارك الله فيك أخي الدكتور محمد حسن السمان على اهتمامك
    وأرجو الاهتمام من الجميع بمثل هذه الدراسات التي تفتح أمامنا آفاقاً جديدة في الدراسة النقدية
    ودمت بألف خير

المواضيع المتشابهه

  1. علم النص ونحو النص والقرائية
    بواسطة فريد البيدق في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 21-10-2016, 07:45 AM
  2. الحق المجرد ...
    بواسطة ياسر سالم في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 12-09-2016, 05:40 PM
  3. التعبير القرآني:المستشار الأدبي:حسين علي القرآني
    بواسطة حسين علي الهنداوي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-05-2016, 05:44 PM
  4. الحداثيون وقراءة النص القرآني
    بواسطة هيام ضمره في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-09-2012, 09:40 PM
  5. التصوير الحسّي من أساليب التربية النبوية
    بواسطة د عثمان قدري مكانسي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 14-03-2010, 01:08 PM