أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 12

الموضوع: المرآة

  1. #1
    الصورة الرمزية ابن الدين علي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2006
    الدولة : الجزائر
    المشاركات : 557
    المواضيع : 112
    الردود : 557
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي المرآة

    ها أنا أعرض بين أيديكم موضوعا جديدا أتمنى أن يرقى إلى مستوى المحاولة الأدبية الجادة كما أتمنى أن يتسع صدركم كما عودتمونا للصبر على قراءته ..رمضان كريم و كل عام و أنتم بخير.
    المـــــــــرآة
    لم يعرف أهالي ذلك الحي البسيط استقرارا أو راحة بال منذ عهد بعيد كهذه الليلة. الليالي السابقة كانت مملوءة بالخوف و الفزع: حيث بكاء اليتامى, نواح الأرامل, أنين المرضى و طلقات الرصاص تسيطر على الجو فتملأه رعبا و ذعرا...في هذه الليلة الهادئة المطمئنة منت جالسا مع والدي على سفح ربوة نتأمل تلك المصابيح الكهربائية الملونة و الأعلام التي كانت تزين شوارع المدينة المبتهجة و ضجة السيارات المزدحمة بالراكبين و الراكبات يحملون الأعلام الوطنية ملوحين بها ذات اليمين و ذات الشمال و أفواههم تصرخ بغبطة وابتهاج : "نحيا الجزائر".
    لكن...والدي كان صامتا, لست أدري فيما كان يفكر و بما ذا كان مشغولا لم أعرف ذلك الشيء الذي شغله عني و ربما حتى عن نفسه, أما أنا ...كانت عيناي مسحورتين بالأضواء الجميلة المختلفة الألوان, و أذناي مشدودتين إلى الزغاريد العذبة... كل هذه الهتافات و الأنوار و والدي باقيا على صمته و لعل صمته تلك الليلة كان عبارة عن حزن عميق هادئ... كان مريضا, عمري وقتئذ لم يتجاوز بعد أربع سنوات, نعم أذكر جيدا أن بصره كان متجها صوب المدينة المتلألئة, لكن عقله كان سارحا لست أدري أين...لم يبق له ما يقضيه من العمر في هذه الدنيا سوى شهر و ثلاثة و عشرين يوما و يلقى ربه...ربما صمته تلك الليلة كان حزنا على مفارقته النهائية لهذه الحياة التي ولدت من جديد, في هذه الليلة, ليلة الخامس من شهر جويلية من سنة ألف و تسعمائة و اثنين و ستين: احتفلت الجزائر بعيدها الذي كدحت و ذاقت المر في صنعه و إخراجه للوجود علما يرفرف في أجواء سمائها: أحمر بدم نفوس غالية, أخضر بجمال طبيعتها الفتان, أبيض بصفاء قلوب أبنائها, نعم في هذه الليلة, خلقت الجزائر من جديد و أغلق كتاب سود صفحاته التقتيل و التعذيب و التنكيل.
    خرج والدي يحتفل بالعيد, لكن مرضه سرعان ما ألزمه القعود و الصمت, هذا السكون الذي قد يكون نتيجة تردد بين الاستجابة لآلام المرض و بين التجاوب مع فرحة العيد, على كل حال صمته كان يعبر عن حزن عمقه المرض و هدأه عيد الاستقلال. كان في جلسته تلك قاعدا على الصخرة طاويا رجليه معانقا ساقيه بذراعيه واضعا ذقنه على إحدى الركبتين و وجهه مصوب نحو المدينة الزاهية لا يلتفت و لا يتكلم, الجفنان فقط هما اللذان كانا نشيطين في حركتهما المستمرة بين غلق و فتح, و أنا الطفل كنت جالسا نفس الجلسة على نفس الهيئة رأسي متجه صوب المدينة البهية, لعل سحر الأنوار الجميلة هو الذي شد انتباهي و شغلني عن نفسي و عن والدي الذي بعد أن ملأ عينيه بأنوار الفرح و أذنيه بأصوات البهجة, نهض محدقا في مصابيح المدينة كأنه لم يشبع منها و ينظر إليها ليودعها ثم يلتفت إلي بعينيه المعبرتين ربما كان يريد أن يقول لي كلاما و لكنه لما رآه في من حداثة سن و سذاجة عقل امتنع...لعله كان يريد أن يقول لي:"حافظوا على هذه المصابيح, لا تقذفوها بالحجارة لا تلطخوا ه الأعلام".
    توجهنا نحو بيتنا العتيق في منحدر... حتى هذا البيت لم يكن يعلم أن ربه سيفارقه بعد حين إلى غير عودة, دخلناه, وجدت والدتي و إخوتي. لا أذكر ماذا كانوا يصنعون, أمي كانت تجهل أنها ستترمل و تقضي العمر وحيدة بدون مسند, و إخوتي لم يكونوا يعلموا أن القدر جعل من نصيبهم التيتم... حمل والدي كتابا و صوب نظراته نحوي و كأنه يريد أن يقول أشياء, غير أن صغر سني و قصر عقلي منعاني من إدراك ما كان يصبو إلى تبليغه لي, ثم توجه به نحو صندوق و وضعه بداخله.
    مضت أيام و تلتها أخر فوجدت نفسي مع أمي داخل إحدى قاعات المستشفى واقفين قدام والدي الممتد بطوله على سرير و وجهه قد اختفى من كثرة الحبوب التي ازدحمت و تراكمت على فمه لتمنعه من طعم الأكل إن كانت له شهية في الطعام...تناولت أمي إناء به ماء و اتجهت به نحو فمه محاولة بدون جدوى إرواء ظمئه و عيناها تدمعان لوعة و حسرة. ولعل حمل أمي للماء لم يكن سوى شعورا منها بظمأ والدي الطويل من الحياة التي لم يذق لها طعما, و لما حان وقت الارتواء بعد العطش المرير, أبى القدر إلا أن يناوله كأس المنية و يشربه إياه قطرة قطرة. و لقد تم للقدر ما شاء, إذ هاجمه شبح الموت واحتضنه بين مخالبه و سد عنه كل فجوة يتسرب منها قبس من نور الحياة...ها أنا داخل الحوش أمام باب تلك الحجرة التي كنت أقضي فيها أسعد اللحظات تارة بين أحضان أمي و تارة أخرى بين أحضان أبي يداعبني و يساعدني على الصعود فوق ذلك الصندوق, ها هو اليوم يعج بأناس صعب عليهم ما حل بنا و جاؤوا يشاركون الزوجة و الأولاد حزنهم و أساهم و يخففون عنهم وطأة الحدث.
    منذ هاته الفترة بدأت المسؤولية تتعاظم و تتضاعف على كاهل الأم وحدها ناحية أولادها الذين ضاعفت من احتضانهم مدرة عليهم من عطفها و حنانها بكل ما في وسعها.
    مرت السنون متداولة و مع تداولها تقدمت بي السن شيئا ما و أنا لا أزال في ذلك البيت مع الأم الأرملة و الإخوة الأيتام صابرين لصفعات الدهر و مرارة الأيام. وقتها كان يتوجه إلينا من حين لآخر بعض الأقارب فيملأ ون جونا فرحا و مرحا و من بين هؤلاء زارنا إحدى المرات "خالي" جاء قادما من القرية قاصدا السوق فقد تلقيناه أحسن لقاء, كانت أمي غريبة و حيدة في تلك المدينة لا تجد إلا أبناءها فشرعت تطرح على الخال مجموعة أسئلة مبعثرة كدستها شهور الغربة الطويلة, فكانت تصبها عليه كوابل, فيجيب عن هذا السؤال بابتسامة و عن الآخر بدمعة و عن ذلك بيأس و ألم:"شفيت خالتي حياة من مرضها؟ .. و عمتي عيشة..هل تزوجت..كانت تقول أنها لن تتزوج إلا بعد الاستقلال..؟ و زوج جارتكم حورية..أما زال جنديا.؟..." و هكذا كانت الأسئلة تندفع بزحمة من فمها, هذه التساؤلات كانت تشغلها دائما و عندما يأتي أخوها من القرية تجد لديه كل الأجوبة. كان هذا الحوار الشيق يمتعني و أجد فيه ما يشبع فضولي إذ من خلاله عرفت ما هي القرية و كيف كان يعيش أهلها و ما كان يحدث عندهم في تلك الأيام الكدرة المثقلة بالهموم الموروثة عن عهد الدمار. أمي كانت قد وضعت بين يديه مائدة عليها الشاي و الخبز أغلى ما كانت تملكه تلك الأسرة آنذاك, أما أنا فكنت أكره أن يمد لي الضيف شيئا مما يأكل و حتى لا أقع في هذا الحرج أخذت "قميلة"Gamelle"" بقية من بقايا الدمار, ملأتها بالتراب وانزويت بها في أحد أركان البيت و جلست على ذلك الصندوق أتظاهر بالأكل كنت أمد يدي داخلها و أخرجها فارغة نحو فمي كي يظن كل من أمي و خاصة خالي أني آكل و حتى أعفيه من التفكير في أمري و إعطائي شيئا مما يأكل, بهذه الحيلة بقيت استمتع بأحاديث أهل القرية بكل اطمئنان و بدون إحراج:" هذا سي سليمان عازم على تزويج ابنه , وذاك محمد العربي لم يرغب في التخلي عن الجيش قضى أعواما في الجبل فترة تواجد المخربين و هو الآن في صفوف الجيش الوطني الشعبي ". كل هذه الحكايات كانت تشد انتباهي, أذناي تسمعان و خيالي يطبع لي ذلك الكلام في صور جميلة.أمي تنبهت إلى تصرفي الغريب فنهرتني بلطف و طلبت مني الكف عن هذا العمل, لقد خجلت و تضاعف خجلي لما التفت إلي خالي و علم بما كان يجري و ربما فهم سر هذا العمل المريب فدعاني إليه و أجلسني قربه حول المائدة و ناولني قطعة خبز أخذتها و واصل حديثه و عيناه مشدودتين إلى ذلك الصندوق تتأملانه من جميع زواياه يلتفت إلى أمي حين تسأله ثم يعيد نظره إلى الصندوق, لعله كان يريد أن يعرف ما بداخله أو أراد طلبه من والدتي, لكن بؤس حالنا و شقاوة أيامنا صرفاه عن البوح برغبته في الصندوق.
    تعاقبت الأعوام تلو الأعوام, و ها أنا بأحد شوارع مدينتي الرحبة أتجول مع صديقي تتجاذب أطراف الحديث و كنا إذا تعرضنا لمسألة الغنى و الفقر ذكرت له أن والدي لم يترك لي بعد وفاته سوى صندوقا يحوي كتابا.و رغم مرور أكثر من عشرين سنة لم أفتحه و لم أطالع ذلك الكتاب فيتعجب الصديق و يلومني على هذا التفريط بل على هذا التكاسل, فأعده أني سأقرأ ه و إن وجدته مفيدا أطلعته عليه ونحن نتحاور شاهدنا تجمعا بشريا أمام جدار قاعة الحفلات, اقتربنا نحوه فرأينا لافتة تعلن للجمهور عن عرض مسرحية شهيرة رسم عليها كرسي تقوست أرجله الأربعة من شدة ثقل رجل أوشك قميصه أن يتقطع من جهة الصدر نتيجة سمنته المفرطة. سارع صديقي نحو الشباك واقتطع تذكرتين.. ها نحن داخل القاعة و ما هي إلا لحظات حتى رفع الستار و ظهر على الخشبة رجلا سمينا بدينا جالسا على نحيف جاعلا من ظهره كرسيا مريحا و من كتفيه مائدة عليها طعامه المفضل و لم يكتف بهذا إذ جعل من رأسه أريكة أجلس عليها حبيبته التي لم يحل له البقاء بدونها فانتزعها من مملكتها و غرها بالعطاء و زوق لها المكان الذي أراده له مجلسا, انجرفت وراءه فجرفت معها سخط الأرض و غضب السماء...لهذا المشهد المثير صفق الجمهور طويلا, و لما عاد الهدوء إلى القاعة بعد أن كف الجمهور عن التصفيقات الحارة و التصفيرات الحادة, واصل الممثلون أدوارهم بحماس. كان كلما تحرك ذلك النحيف أو أن من وطأة ثقل ذلك السمين رماه واستبدله بنحيف آخر و إن صبر و تصابر فهذا توفير لتعب التغيير, يحادث السمين عشيقته عن أخلاقه الفاضلة و بطولاته و عن كرمه و الدليل على ذلك أنه أجلسها إلى جانبه و شاركها المائدة, أما محبوبته المغلوبة على أمرها لا تسمع م فمها إلا:"نعم","طبعا","هذا صحيح"... و ربما في قرارة نفسها تقول له:" أين أنت من الأخلاق و الشجاعة يا فرعوني الطباع؟". سمعت أنين الرجل الذي يتألم من شدة الثقل المحمول عليه, بادرت تدفع صاحب الأخلاق و الكرم لكن ذراعيها إصطدمتا بالجسم الخشن فردتهما إلى صدرها تضمدهما, شعر صاحبنا بمحاولتها, تظاهر بالتغافل و التجاهل و زادها أكلا و قربها أكثر من مجلسه مغدقا عليها بالعطاء, فتلاشى صوت الألم و الآهات المنبعث من فم ذلك المسكين في السماء و لم يجد أذنا صاغية بعد أن صمت عنه أذن السيدة بملئ البطن و الجلسة المريحة, مل النحيف و تعب من الحمل الثقيل, فبدأ يتأرجح من اليمين إلى الشمال شعر القوي باهتزاز الكرسي و أدرك أن الكرسي سيهوى به و يطرحه أرضا فتهوى معه الأطباق الفاخرة و العشيقة... حمل عصا وانهال ضربا على سواعده التي بدأت تتقوس فأدرك أنها انهارت و لم تعد تقوى على مواصلة تشكيل الكرسي, فزاده ضربا عله يتمكن قسرا من البقاء مدة أطول و إلا فاستبداله بآخر يكون هو الحل, أما نحن المتفرجون نشاهد كل هذا فبعضنا بهره دور ذلك السمين القوي و تمنى لو أنه هو الذي قام بهذا الدور و بعضنا الآخر تمنى لو كانت له القدرة أو الحظ في مشاركة أولئك الممثلين في مسرحيتهم, لقد سحروه بلباسهم المخصص للدور و لكنه لا يملك موهبة التمثيل, فعاد خائبا يجر أذيال الهزيمة و سلى نفسه بالتفرج و يقول بين الحين و الآخر هامسا في أذن صاحبه: ه المسرحية ليست في المستوى و أحيانا يلتفت لآخر قائلا:لم لا نقوم نحن بنفس العمل؟ .. كان صديقي الذي يجلس بجانبي يطلب مني و بإلحاح : هيا نغادر القاعة المسرحية لم تعجبني لقد آلمني دور ذلك النحيف هيا نخرج. قلت له: و لكنه مجرد تمثيل لا أكثر. قال لي: أحس بالذنب نحوه .أجبته: تحس بالذنب نحوه لو كنت أنت ذلك السمين الفرعوني... أنا كذلك أزعجني ا المنظر البشع. نحن نتفرج فقط. سكت برهة و كأنه اقتنع..لكنه أردف قائلا:حسنا سنبقى داخل القاعة و لنغمض أعيننا حتى لا نؤلمها بهذه المناظر المحزنة.قلت له :لا تنسى أنك دفعت ثمن هذين المقعدين.. سيكون جنونا منا أن أغمضنا الأعين... حتى لو أغمضنا الأعين فإن الأصوات المؤلمة ستلتقطها أذاننا. قال: إذن لنغمض الأعين و لنضع الأصابع على الأذان. قلت: سيكون الذنب أعظم لأنك ترى شقاء و تتجاهل و تسمع آهات و تتغافل. بقينا في حيرة من أمرنا, أنمكث في القاعة أم نخرج و لكن قد يكون المشهد الموالي من المسرحية المعروضة اليوم خيرا بكثير, لا أعتقد ذلك, موضوعها واضح و نهايتها معروفة, يبدو أن المشهد الآتي سيظهر فيه السمين أكثر قوة بدانة و بالتالي سيتزايد ثقله على الضعيف الذي يزداد ضعفا, أما العشيقة فلا يمكنني التكهن بأي وجه ستظهر ربما ستصحو من غفوتها و تعود من حيث أخرجت أم ستبقى على ه الحال.. أم تحل محل القوي.
    أما الآخرون فكانوا يستبشرون بالمقطع الموالي خيرا, يعتقدون أنه سيكون أكثر حماسة و متعة و بينما أنا أفكر إذا بي أشاهد ممثلا رابعا يتوسط الخشبة منفعلا يخاطب السمين قائلا: أيها الوقح لقد تماديت في استغلال دورك, دورك هو أن تجلس معه على نفس المائدة و تحمله كما حملك, أنت ضعيف و بتصرفك هذا ازددت ضعفا.قام السمين مرتعدا: "نعم. نعم سيدي سأجلس معه, بل سأحمله أنا ه المرة بعدما حملني طويلا, لقد تعب كثيرا..."
    قام النحيف متعجبا و كأنه لم يصدق ما سمعه فقال بغبطة وابتهاج:" الحمد لله ما زالت الدنيا بخير". ولكن بمجرد خروج الممثل الرابع عاد ذلك الوقح لممارسة دوره الأول, فعاد إلي قنوطي و ضيقي و بلغا بي درجة التشاؤم. فحدثت نفسي: أنا لست راض عن ذلك الشخص هذا ليس معناه حتما أنني أفضل منه.. لماذا لا أكتب موضوعا أفضل و أقدمه لأولئك المخرجين.. لكن كيف و درايتي بالمسرح غير كافية.. بقيت هذه الأفكار تجول بخاطري بينما كان خاطر الخروج يراودني, فبقيت أتردد بين مواصلة التفرج و بين الخروج, إلى أن بلغ بي الضيق أشده و القنوط أوجه فغادرنا القاعة و عدت إلى البيت منهكا أبحث عن الراحة حيث استلقيت متكئا. و بينما كانت عيناي تداعبان الجدران و بعض الأثاث , وقع بصري فجأة على ذلك الصندوق الذي دس فيه والدي كتابا تلك الليلة قبيل احتضاره, فسارعت إلى فتحه و إخراج الكتاب منه وانكببت أطالعه متمعنا في كل سدر و في كل كلمة.وجدت عجبا.. جمادات تتكلم ..إنسان يكلم جمادات. فهو تارة وسط عاصفة هوجاء يسأل شجرة تتمايل أغصانها قائلا: "أيتها الشجرة من أين جاءك كل هذا الثبات و الصبر و التحمل,غمرتك السماء بمائها, عرتك الريح من أوراقك, لعبت بك العواصف يميا و شمالا .. كل هذا لم يثبط من عزيمتك و أبيت إلا أن تبقي صامدة شامخة .. لا شئ أفلح في الحد من عزيمتك, لقد صبرت و صبرت و ما صبرك إلا لعلمك أن الربيع سيعود يوما حاملا معه نسيمه العليل ليعيد إليك أوراقك و ليجعل من فوقك السماء زرقاء و الأرض من حواليك خضراء و يملأ لك الجو دفئا و يومها ستعود غليك الطيور التي هجرتك وامتنعت عن التغريد. فتجيبه الشجرة : لا أحزن إن بللتني الأمطار لأنها تعدني للربيع, لا أحزن إن نزعت العواصف أوراقي لأنها ستمنحني ثوبا جديدا, لا أحزن إن عبثت الرياح بأغصاني لأنها تعلمني كيف أصمد أكثر, الربيع لا بد أن يسبقه شتاء, بقدر ما يكون شتائي قاسيا بقدر ما يكون ربيعي أجمل و أبهى, أنا بذرة الشتاء و ثمرة الربيع.
    و تارة أخرى يتوجه نحو واد فيجد صخرة قد جرفتها الأمطار و العواصف من بعيد لتستقر أخيرا عند مرتفع, اقترب منها و لمسها بيديه فوجدها ملساء, ليس عليها نتوءات تجرح و لا قمم مسننة تخدش. سألها: " لماذا أيتها الصخرة لست كباقي الصخور . سطحك لم يفسد رغم ما فعلته بك الانحدارات من قمم الجبال و الإنجراف مع المياه و العواصف العاتية؟ فتجيبه الصخرة: بالعكس إنحداراتي من الجبال و إنجرافاتي مع المياه هي التي صنعتني واعطتني هذه المرونة, لأنني أثناء تحركاتي إصطدمت واحتككت عبر طريقي بصخور أصلب مني و ببقايا الأخشاب و التراب و كنت في كل صدمة و في كل احتكاك أفقد نتوءا و تزول من سطحي الخدوش حتى أصبحت على هاته الحال التي تراني عليها.
    و في الأخير يتوجه هذا الرجل نحو الجبل ليحاوره: أيها الجبل لقد خلقت منذ ملايين السنين, بدأت حياتك مع بداية الأرض و ستموت مع موتها, كم من حضارة احتفلت بميلادها و كم بكيت لإندثارها, كنت منذ آلاف السنين زاهيا مخضرا .. فما بالك منذ مئات السنين قاحلا مقفرا ؟ وئد فيك العشب و الحشيش و احرقت أشجارك و جفت وديانك الفياضة, فهجرتك الغزلان و البلابل الشادية و هجرتك الأسود التي أضعف زئيرها الجوع و العطش, فاتخذتك الذئاب مأوى و الثعالب ملجأ, و الأفاعي خلاء, و جاءت الخفافيش لتحل محل البلابل, حدث لك كل هذا و لم تتصدع. فيجيبه الجبل: ليال طوال قضيتها أناجي نجوم السماء انتظر إبنتي المفقودة منذ آلاف السنين. فتشت عنها بين قممي دون العثور عليها و لما يئست من البحث عنها بين قممي فتشت عنها في أسفلي بين الوديان و الحفر فوجدتها جاثمة في واد لا تتحرك ناديتها فلم ترفع رأسها, قد يكون خجلا منها على المكان الوضيع الذي أصبح لها مقرا جديدا بعد أن ألفت القمة التي كانت لها مولدا و منشأ, حيرني اختيارها هذا المكان, أتراها تأبى صعود الجبال ففضلت العيش بين الأودية و الحفر ..هناك سر غامض. كيف لجميلة الجميلات التي لم يكن حديثها إلا مع السماء و نجومها تصادق اليوم الحفر و الوديان؟ قد يكون عجزها عن الصعود إلى القمم هو الذي أقنعها بالبقاء في الأسفل.
    يا له من كتاب عجيب , ليتني طالعته قبل هذا اليوم و جعلت من مضمونه أروع مسرحية عوض تلك التي زيفت صورتنا و جعلتنا عبارة عن قوي يستغل ضعيفا.

  2. #2
    أديب وناقد
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    الدولة : بعلبك
    المشاركات : 1,043
    المواضيع : 80
    الردود : 1043
    المعدل اليومي : 0.16

    افتراضي

    نص معجون بمرارة الفقد و بفرحة الاستقلال يتهادى على وقع مشاعر فياضة و قلم رشيق لولا بعض الهنات اللغوية .
    دمت في خير و عطاء

  3. #3
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    الأخ الفاضل الأديب /ابن الدين علي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    قرأت لك من قبل " البحث عن ظل " وظهرت فيها قدرتك العالية على السرد الشيق ، والتمكن من أدواتك بشكل رائع ؛ فقد كان شكل العمل واضحاً كقصة قصيرة إضافة إلى المغزى الذكي الذي رميت إليه ..
    اليوم وفي " المرآة " و مع سلاستك المعهودة في الحكي ، وموضوعك الشيق ، ومع كل ما تتميز به كقاص إلا أنني ـ ولتسمح لي ـ وجدت أن العمل من حيث الحجم فهو قصة قصيرة ، ولكن من حيث الفترة الزمنية للحدث وتسلسلها فهي رواية لذا جاء العمل في النهاية وكأنه رواية صغيرة ، وانتم تعرفون ما للرواية من خواص أخرى لا تتوفر هنا ،.. كنت أتمنى أن تكثف الحدث أكثر مع مراعاة زمن الحكي حتى يقترب العمل من القصة القصيرة أكثر .
    أخي الفاضل هناك مقدمة أوردتها قبل القصة ، وهذه قد تخرج القصة من جنسها إلى موضوع ،أو حكاية .. دع قصتك تقدم نفسها بنفسها .

    وفي النهاية أرجو أن يتسع صدرك لوجهة نظري المتواضعة .
    دمت بكل الخير .
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  4. #4
    الصورة الرمزية مجذوب العيد المشراوي شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2004
    المشاركات : 4,730
    المواضيع : 234
    الردود : 4730
    المعدل اليومي : 0.66

    افتراضي

    أخي ابن الدين هنا أنت قاص جيد متمرس ليس إلا ..

    نصك هذا جدير بالمتابعة والإستقراء ، وجدانك مليىء بكل شيق وجميل

    أراهن أنك ستكون أسطورة في القصة الكلاسكية إن أنت شمرت عن ساعدك وتركت القهوة بين قوسين فانظر ما أنت فاعل ..

  5. #5
    الصورة الرمزية مجذوب العيد المشراوي شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2004
    المشاركات : 4,730
    المواضيع : 234
    الردود : 4730
    المعدل اليومي : 0.66

    افتراضي

    قرأتها مرات هذه ..ولا أدري أي شاطئ سأرسو فيه ؟؟

    جمالك هنا جد طاغ ٍٍٍ

    شكرا

  6. #6
    الصورة الرمزية ابن الدين علي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2006
    الدولة : الجزائر
    المشاركات : 557
    المواضيع : 112
    الردود : 557
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مجذوب العيد المشراوي مشاهدة المشاركة
    قرأتها مرات هذه ..ولا أدري أي شاطئ سأرسو فيه ؟؟
    جمالك هنا جد طاغ ٍٍٍ
    شكرا
    ممتن جد أنا باهتمامك و توجيهاتك لي المفيدة جدا

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    ابن الدين...
    هي مثل اغلب اعمالي..التي ارصدها في حانة القصة القصيرة..لكنها بلاشك هي اقرب الى الرواية القصيرة كما يطيب لأدباء المغرب العربي ان يسمونها..لان المساحة الزمينة هنا كانت اكبر من تلك التي يشغلها القصة القصيرة التي تتسم باللمحة والالتفاتة السريعة..وقصر الزمنية واتحاد كلي بالمكانية..دون سبر اغوار الزمن..والغوص في المكان والازقة..ونصك المرآة هذا ليس ببعيد عن الرواية القصيرة . من حيث المساحة الزمنية والمكانية..ومن ثم من حيث مدلولاتها ايضا وحجم المطروح فيها..والعنوان هنا بارز بلاشك ويوضح لنا اهمية المرآة كرمز ودلالة لانعكاس الذات الداخلية واسقاطها على الواقع المروي..السرد يسير وفق نظام متكامل تقريبا .. بحيث هناك انضباط كبير في ايقاع السرد وفي تحمله لمعاناة الاستدراجات والتلاعب الكبير بعنصري الزمان والمكان مما حقق نوعا من التكامل المتميز داخل اللحمة العامة للنص ..ايضا هناك اختراقات هائلة من خلال التنويع الجميل على مستوى المروي له داخل فضاء النص بحيث لا يوجه الراوي حديثه الى القارىء في اغلب الاحيان.. لانه وببساطة ليس مرويا له بل يتعامل مع الحدث الاساسي والشخصيات كمروي لهم من خلال التحليل الدقيق والغني الذي يحاول تجاوز كل المنظومات والهياكل الجاهزة..ولقد ابرزت من خلال اسرد قدرتك على السيطرة التامة على مجريات الزمن..من خلال وصف دقيق لكيفي سير ومضيء الزمن والعمر..والاحداث التي ترافق الذاكرة الانسانية..من اجواء ذاتية داخلية واخرى خارجية..هي ايضا تبقى ترافق الانسان في حياته..وفي اعتمادك الرمزية ادخلت القصة في اجواء الاستفزاز العقلي والفكري لدى المتلقي بحيث يعيش حالة الاحتمالية.
    اجمالا النص دقيق وذا بناء ادبي رائع
    محبتي لك
    جوتيار

  8. #8
    الصورة الرمزية ابن الدين علي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2006
    الدولة : الجزائر
    المشاركات : 557
    المواضيع : 112
    الردود : 557
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جوتيار تمر مشاهدة المشاركة
    ابن الدين...
    هي مثل اغلب اعمالي..التي ارصدها في حانة القصة القصيرة..لكنها بلاشك هي اقرب الى الرواية القصيرة كما يطيب لأدباء المغرب العربي ان يسمونها..لان المساحة الزمينة هنا كانت اكبر من تلك التي يشغلها القصة القصيرة التي تتسم باللمحة والالتفاتة السريعة..وقصر الزمنية واتحاد كلي بالمكانية..دون سبر اغوار الزمن..والغوص في المكان والازقة..ونصك المرآة هذا ليس ببعيد عن الرواية القصيرة . من حيث المساحة الزمنية والمكانية..ومن ثم من حيث مدلولاتها ايضا وحجم المطروح فيها..والعنوان هنا بارز بلاشك ويوضح لنا اهمية المرآة كرمز ودلالة لانعكاس الذات الداخلية واسقاطها على الواقع المروي..السرد يسير وفق نظام متكامل تقريبا .. بحيث هناك انضباط كبير في ايقاع السرد وفي تحمله لمعاناة الاستدراجات والتلاعب الكبير بعنصري الزمان والمكان مما حقق نوعا من التكامل المتميز داخل اللحمة العامة للنص ..ايضا هناك اختراقات هائلة من خلال التنويع الجميل على مستوى المروي له داخل فضاء النص بحيث لا يوجه الراوي حديثه الى القارىء في اغلب الاحيان.. لانه وببساطة ليس مرويا له بل يتعامل مع الحدث الاساسي والشخصيات كمروي لهم من خلال التحليل الدقيق والغني الذي يحاول تجاوز كل المنظومات والهياكل الجاهزة..ولقد ابرزت من خلال اسرد قدرتك على السيطرة التامة على مجريات الزمن..من خلال وصف دقيق لكيفي سير ومضيء الزمن والعمر..والاحداث التي ترافق الذاكرة
    الانسانية..من اجواء ذاتية داخلية واخرى خارجية..هي ايضا تبقى ترافق الانسان في حياته..وفي اعتمادك الرمزية ادخلت القصة في اجواء الاستفزاز العقلي والفكري لدى المتلقي بحيث يعيش حالة الاحتمالية.
    اجمالا النص دقيق وذا بناء ادبي رائع
    محبتي لك
    جوتيار
    كما عودتني استاذي دائما اجدك تتعمق في الافكار لتستخرج ما غمض منها احيانا حتى على الكاتب نفسه
    و اجد ضالتي في تحليلك النفسي و الاجتماعي ... لك مني اطيب التحايا و جزيل الشكر

  9. #9

  10. #10
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    بن علي


    قاص من العيار الثقيل .... والجميل
    الإنسان : موقف

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. وجه في المرآة
    بواسطة مليكة العربي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 52
    آخر مشاركة: 10-11-2020, 10:12 PM
  2. المرآة ....
    بواسطة وفاء شوكت خضر في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 15-03-2017, 10:43 AM
  3. أمام الرسالة / المرآة ..!
    بواسطة يوسف الحربي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 07-09-2007, 09:07 PM
  4. المرآة .. الدراما في سوريا ؟ مقالة للكاتبة الجوهرة القويضي - القبس
    بواسطة مصطفى بطحيش في المنتدى أَنْشِطَةُ وَإِصْدَارَاتُ الأَعْضَاءِ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-01-2007, 08:32 AM
  5. نظرة في المرآة - بدمي كتبت على الورق -
    بواسطة إبراهيم محمد في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 10-10-2003, 11:51 PM