[c]
العازف
كما يكون لطم الحصاة في صفحة من حديد صدئ . كان ذلك أقصى حد بلغه التصفيق لصعود المايسترو العظيم لمنصة القيادة . والتي ربت عن سطح المكان بمقدار بسيط عن الفرقة . وعند استوائه على تلك المنصة ظللته برهة عالية كثرت فيها بعض الحمحمة وشئ من شموخ وكبرياء بترتيب الأوراق أمامه ،التي تحبل بطلاسم لا يعرفها إلا هو . وبنصف نظرة استل من جيب سترتـه الـطويلة إلى حد ركبتـيه عصـاه المطـلية بومـيض صـارخ… …وليكف أكمامه في ارتفاع يديه بعصا سحره ،حيث سادة القاعة فترة من هدوء قاتل ،للعقلاء المنصتين .. اهتز قليلاً ثم أعلنت يداه صـوب الفـرقة إشارة الـبدء في المقطع الأول :
(( أنشودة التكوين ))
وقع الخطى الأولى لعلة إنسان ضعيف إنفتق عنه العدم لكي يخرج من لجة القرار ، كان يهيم بخطواته تلك مضرجا ًبالقلق والدرك ، فهو لا يعرف لنفسه مستقرا أو أي انتماء ليتشبث إليه . سوى نغمات الناي ، فكل ما يعرفه أنه سائر تحت سقف السماء وفوق كتلة الأرض التي تبدو لنعليه هامدة مثل صفحة من جليد زجاجي .. لا يعـرف شيئا ًسـوى أنه محـاط بعظـمة الله وأنه إلى ربه راجع وأنه الحر المتراجع !!
عن تلك الخطى اهتز المايسترو لينقطع ذلك المقطع حين أشار بعصاه إلى صدر الأوركسترا ثم أستقبل العقلاء المنصتين ، منحنياً لمـوجة من التـصـفيـق ……
في صمت اهتز مرة أخرى ،بعدما غيب صفحته الأولى جهة اليسـار مشيرا إلى الأوركسترا بعصاه لينفجر من صـدرها منبع لمقـطعه الثــاني :
(( الانتماء ))
تبلورت الأوركسترا بقبضة القائد ، ثم عصرهم بلحن حريري وكأنه لحظه إعلان النبأ .. إذ لم يكن الإنسان الذي صاغته نغمات الناي في الخروج وحيداً بمحيط هذا الفراغ الكبير حتى أدرك أخيرا أنه ذبابة في خلية صغيرة لشعب من الذباب !! حيث لم يكن بد من سعيه في هذا المقطع بحثاً عن حقيقة أمره بالتجانس خاصة وأنه شبيه بأفراد شعبه في خلية الذباب !!
ففي عرض تلك المقطوعة عرج بالمسكين فوق السلم الثالث ليحشر نفسه في طلاسم النوتات ذات الوعورة الحادة والقاتلة ، بنتوءاتها على صفحات المايسترو .. ليبصر ما أبصره الأولون ، كانوا أفراد اً من البؤساء في أطراف الشوارع .. وأقاليم البلاد يطمرون وجوههم بأحواض الجراح النتنة وكأسراب النمل يخوضون ،هم لا يبتغون وجهة ،سوى وجه الله الكبير ..إذ هم لا يدركون إلا حقيقة واضحة أنهم لله وأنهم إليه راجعون ، آخرون منهم لم يدركوا فستائت وجوههم ليجوسوا خلال المزا بل يحاولون النـقر فلا يستطيعون . بل من حاول فعل غيّ فله المـوت والإقتار .. آنئذ تشبث المسكين بحافة السلم ، ليرهقه المايسترو صعوداً صوب أعلى المناطق . فحين وصوله كاد أن يباغته الضر ،إذ أحيط بإطار من الدبابير حالما لمعت ومضة من عصا القائد هزها صوب ضابط الاقاع حقـلاً .. حـقلا .. في نفـس اللحظة اهتز المايسترو مشيرا إلى الأوركسترا بعصاه ليرتبوا أنغاما من مفاصل الكمانات المتجهمة خارجين به نعشاً صوب مقطعه الأخير :
(( استشهاد المغامر ))
خطوات المسكين ملتوية في أقاصي المقاطع ،على منحدر النوتات مغسولاً بالعثرات إلحاده التي أدمت له قدميه .كان الهم قد صاغه فغناه مزقه مقاطع من حلم فقير كوجهه المسروق ،ولأنه المكسور ضرير قلبه فهو لم يبصر الحقيقة بعد ..إذ يمشي مكبا على وجهه ولن يكون أهدى على زيّغ الصراط ، سائر فوق جلود الرمل الحامية وفي حلقه غصة من بكاء لا تشبه أكثر من غصة ( ابن ذريح )يحش بالرمل أوردته ، ويمص السراب ولن يعيه أحد . في هذا المقطع اكتوى المسكين بالعذاب ، حبلت به المسكنة لقد حمل البائسين في الأبعاد على حفر قلبه ليمتلئ بالغياب مستظلاً نخلةً في حدود ذلك المقطع ، ثم نام نوم الكلاب .. هنا هز المايسترو العظيم عصاه معلنا نهاية جرح كبير ..ليتوقف عن العزف !!
لكن عازف القانون تمرد في العزف ، واصل تقاسيمه خارج رسم القائد للنوتات . رغم أوامر المايسترو العظيم المصدرة بعصاه ، إلا أن عازف القانون ما زال مستمر التـقسيم ، مستدرجا النائم بظل النخلة حتى حاد عن الظل ، إذ جعل في عنقه أغلالاً من التقاسيم ثم جره بطول الرمض وعرضه وزج به في غيهب الأرض حتى أفقده أنفاسه إلى أن مات المسكين !! رغم موته إلا أن العازف ؟ضل مسافرا في تقاسيمه .. إحمر وجه المايسترو من الغيظ ليتجه صوب العازف بعصاه ، ودون أن ينبس بكلمة واحدة توقف أمامه علـه يدرك هذا الخروج والسفه السافر ، عن بيانات القائد المصدرة بعصاه ، ودون أن ينبـس بكلمة واحدة إقترب إلى العازف وتوقف أمـامه علّه يدرك هذا الخروج السافر والسفه أمام العقلاء المنصتين !! لكن شيئا من ذلك لم يحدث .. حتى أن عينيه لم ترد لنفسها طرفا ، رغم وقوف القائد أمامه . ظن القائد أن العازف قد حل به لمم ،أو به شئ . فمرر يده أمام نظرات العازف الثابتة والذي استهلك موت ذلك الشهيد بتقاسيمه الحادة ..ليكتشف القائد أخيرا أن العازف قد أصيب .. بالعمى !!
[/C]
1993