يجسد المشهد الشعري والتقاطه بأدواته الفنية المتآزرة ملمحا بارزا من ملامح عالم الشاعر العراقي المتميز عبد الكريم كاصد ، فالمشهد هو الوسيلة الأثيرة لديه لبناء قصيدته بناءً.
وليس المشهد عند عبد الكريم لوحة مرسومة للتأمل والفرجة ، بل هو مشهد حيوي نابض بالحياة ، إنه مسرح حيٌّ تتجلى فيه عناصر الزمان والمكان ، وتبدو فيه أدوات اللون بدرجاته والضوء بمستوياته ، والصوت بإيقاعاته، وفي هذا المسرح تتصارع الأفكار والمشاعر والكائنات الحية.
إن قصيدة عبد الكريم تنبع لديه من حسٍّ مسرحي متمكن من ادواته.
وهذه السمة المشهدية قارَّةٌ في رحلة عبد الكريم لا تكاد تغيب منذ بدأ وحتى الآن كما تتجلى في آخر قصيدة نشرت حتى الآن وهي قصيدة ولائم الحداد : المنشورة بـ"إيلاف"(2) ، وتلك مقاطع منها توضح سيطرة المشهد على تجربة هذا الشاعر:
ولائم الحداد
الدفن
تطلعُ الشمس /أو تغربُ الشمس /أو...
وسْط أزهارِ مَنْ شيّعوك /وأزهارِ منْ ودّعوك
وأشجارِ منْ قدموا من بعيدٍ إليك
وتبقى.. / أبداً/فوق قبرك تثلجُ بيضاء
تلك السماء
أنقطعها/سائرين إلى القطب
نحمل نعشك أبيض..؟!
.............................
بعد قليلٍ/ستأتي ملائكةٌ/قد تضل الطريق
صوت أوّل
ثلاثون عاماً/وأنتَ تعدّ الخُطى..
وتقول : " غداً "/و" غداً " /لن يجئ
وخلفك تلك البلادُ البعيدةُ/تلك البلاد
- ثلاثون عاماً -
" سأبلغُها /- قلتَ - /حتّى وإنْ.. / ضلّني النجمُ
حتّى وإنْ "
ثمّ ألفيتَ ظلّك مستوحشاً/يسأل النجم :/" أين الطريقُ؟ "
طريقك ذاك /الطريقُ البعيد/ البعيد/البعيد/الذي لم يكنْ
البيوتُ محدّبةٌ /- قال - /واطئةٌ/تبلغ الركبتين
أ أ دخلها؟/كيف؟
- ياللمدينة بعد ثلاثين عاماً –
أ أجتازُ أوحالها شبحاً/وأصافحُ أمواتَها/يلتقون بأحيائهم؟
أينَ أبصرتُهم قبل؟
……………..
……………..
- من أنتَ؟
يسألني عابرٌ/يتطلّعُ فيّ بعينين ميّتتين
ويمضي /وأمضي /وأعبرها شبحاً يتجوّل
وسط مدافنَ واطئةٍ/وبيوت محدّبةٍ
ركدتْ في المياه
هكذا يرسم أولا المشهد بالمزج بين عنصري المكان والزمان مستخدما الوظائف النحوية الدالة على الزمان في مستوياته المتعددة، مثل:
الفعل المضارع المستمر :(تطلع الشمس - تغرب الشمس)
المضارع المستقبل:( تبقى أبدا - غدا - لن يجيء)
المضارع الدال على المضي: (لم يكن)
والوظائف الدالة على المكان مثل:(وسط أزهار – فوق قبرك – أين الطريق – خلفك تلك البلاد )
والمزج بين العنصرين بارز كما في قوله:" فوق قبرك تثلجُ بيضاء تلك السماء"
كما يستعين بتعدد الأصوات داخل المشهد
وبعد أن يطمئن الشاعر إلى اكتمال خلفية المشهد نراه يحرك الشخوص والأفكار والمشاعر حركتها المتفاعلة مع المشهد تأثيرا وتأثرا".
ثم يأتي مجاز الطريق ، ولكنْ في سياق جديد مشحون بالحيرة والتساؤل
أما البيوت فهي كما يتصورها عبد الكريم (وكما يصورها لنا دائما) محدبة واطئة ،
إن البيوت والغرف لدى شاعرنا تجسد المعادل الموضوعي لعلاقته بالوطن ،
يقول عبد الكريم بعنوان :"انخطاف يضيء القصيدة":( 25- إبريل- 2005م)
"في قصيدةٍ لي بعنوان (الغرف)، أردتُ أن أكتب عن عودةٍ لي من غربةٍ أولى فكتبتُ وكتبتُ دون أن أعرف بداية للقصيدة أو نهاية حتى تخليت عنها، لكن فجأة وبلحظة خاطفة رأيت الغرف التي سكنتها يوماً أو هجرتها وهي تصطفّ لتعلن ولادة القصيدة.
فكانت الغرف مجازا فنيا لغرض الشاعر(العودة إلى الوطن بعد غربة)
المجاز الغائر:
و هذا المجاز غائر في أعماق الشاعر كما يبدو من قصيدته: "هنا تحتمي السماء بالجبل"
كردستان
هنا تتطلّع الأبديّة /بعينين هائلتين /إلى السماء /وتحتمي السماء بالجبل
هنا يحتفي الجبل بالشجرهْ /والشجرة بالإنسان
ويصدح الفرح /بإنشودة العزاء.
حلبجة
في حلبجة /البيوت أخفض من قامة البشر /والجبال أعلى من السماء
ولا أثر هناك لطفل
المسافر
تحت شجرة بلوط /رأيت‘ المسافر يتوسد قبره
قلتُ لهُ/: "حتام تظلّ هنالك متكئاً /تتوسّد قبركَ؟"
قال:/ "وهل سفر بعد القبرْ؟
طفل
الطفل البائع /الجالس وسط ثمارهِ /في سوقٍ في أربيل
تتوّجه الأغصان /أينهض ثانيةً
وسط ثماره؟ /أم يقطع دامي القدمين
يتوّجه الشوك /طريق الآلام؟
يقوم الشاعر منذ العنوان ، بالإلحاح على تأكيد عنصر المكان باستخدام اسم الإشارة : هنا كما يتجلى مجاز البيوت الوطيئة ، والطريق الذي هو هنا طريق الشوك والآلام،الذي يقتبسه الشاعر من التراث المسيحي.
والعناية برمز البيت والدار قديمة في التراث العربي ، كما تتجلى في كتاب المنازل والديار : الذي كتبه أسامة بن منقذ بعد حدوث زلزال عام (552هـ – 1157م) وهدم شيزر حيث فني جميع أقربائه نتيجة لذلك , فأراد المؤلف أن يبقي ذكراهم في قلبه وفي قلوبنا من خلال حديثه عن منازلهما وديارهم. وهو "يرجع الدافع الرئيس لتأليف( المنازل والديار) الي شهر رجب عام552 عندما ضرب زلزال رهيب شمال الشام وأتي علي شيزر موطن الشاعر ومرتع صباه وفيها كل أهله وعشيرته وأحبائه, فانسكبت دموع البطل ، الذي باشر الحرب منذ أن كان في الخامسة عشرة وهو يردد:
|
يقول صحابي: قد أطلت وقوفنا |
علي الدارِ مسلوبَ الأسَى والتماسُكِ |
أفي كلِّ دارٍ قد عفتْ أنت واقفٌ |
تروِّي ثراها بالدموع السَّــوافِكِ |
فقلت : نعمْ هذي ديارٌ عهدتُــها |
قفارًا وهم ما بين نــاءٍ وهالكِ |
أصابهمُو ريبُ الزمان فأصبـحتْ |
بها معشري مثلَ النُّجومِ الشرائكِ |
|
|
وبمثل هذا التكثيف في اللفظ والمعني مضي الشاعر يوظف حسه المرهف معبرا عن مأساته التي فجرت في أعماقه ينابيع شعره فنجده يقول (3) :
|
إذا أنا شارفتُ الديـــارَ تحدثتْ |
بمكنونِ أسْراري الدموعُ الذوارفُ |
وماذا انتفاعي بالديار وقربهــا |
إذا أقفرتْ من كلِّ من أنا آلفُ |
|
|
أليست هذه التجربة الإنسانية على المستويين الواقعي والفني (الحقيقة والمجاز) قريبة – بوجه من الوجوه – من تجربة عبد الكريم؟
نستطيع أن نقول إن البيت في شعر عبد الكريم رمز للوطن .
ولكن أي وطن؟
إنه الوطن الذكرى ، والوطن الأمل، وليس الوطن الرومانسي الذي يتغنى به الشعراء ، بل الوطن الواقعي.
ليس الوطن المجرد المتصور في الخيال بل الوطن المجسد الذي يفترش الطريق.
ولهذا يقدم لنا عبد الكريم الوطن من خلال مشهد حي، نطالعه حجرا حجرا ، ونحياه معه ونتجول في حجراته منحنين ، ونحتمي بسقفه الذي ربما خذلنا وسرب المطر على رءوسنا معه. ولكن لا ضيرَ فإنه في النهاية : الوطن!
وهذا المشهد بما يزخر من مكان وزمان وحركة لون وصوت – مفتاح مهم من مفاتيح الولوج إلى عالم عبد الكريم الشعري ، وهذا ما سأتناوله بالدرس من خلال ديوانه وردة البيكاجي الذي جسد ذروة المشهد الشعري- من وجهة نظري –
ولا تنفصل تجربة البيكاجي عن المجازين البارزين في تجربته : البيت والطريق ، بل هي امتداد لهما ، فالبيكاجي كما عرفه الشاعر :"مبنى قديم في عدن كان يسكنه الشاعر مع غيره من المهجرين العراقيين ، وقبلا كان يسكنه الهنود".
افتتاحية المشاهد:
يفتتح شاعرنا ديوانه بحديث عن البيت ، فالبيت في الديوان محوره الذي تجتمع فيه بقية العناصر ، فيقول:
"ذلك البيت /كنت أطالع في سقفه حفرة
وأرى مطرا لا يبللني/ونوافذ مشرعة لرجال الضرائب والمشترين".
يأخذنا الشاعر إلى عالمه منذ الوهلة الأولى بتجسيد مشهده من خلال المزج بين عنصري المكان والزمان(ذلك البيت) و (كنت أطالع)
فاسم الإشارة (ذلك ) يشير إلى بعد البيت ، ولك أن تراه بعدا مكانيا أو زمانيا أو الاثنين معا.
والفعل (كنت) يدل على زمن مضى، ويطلعنا المشهد على طبيعة ذلك البيت القديم المتهالك الذي في سقفه حفرة لكنه لا يمنع قاطنيه من التأمل عبر نوافذ مشرعة
ولا يستغرق الشاعر كثيرا في الوقوف عند المكان والزمان إذ نكتشف أن هذا مجرد تمهيد لدخول الشخوص (رجال الضرائب والمشترين) بما يتسق مع بيت قديم ،
وها نحن نراهم في المشهد يتحركون حركة دائبة :
"يقيسون حجراته، ويجيئون بالرمل فوق الحديقة، يقتلعون السياجَ وأشجاره ويزيلون فوق الحصى أثري)
يجتهد الشاعر في رسم الشخوص - من خلال الأفعال التي تفقدنا التعاطف معهم كأن همهم أن يقتلوا الحياة(الأشجار) ويميتوا الذكرى( ويزيلون فوق الحصى أثري)
وهنا يمتزج عنصرا المكان والزمان مع عنصر جديد في المشهد هو عنصر الحركة.
ثم يعود الشاعر إلى عالمه هو :
"ذلك البيت كنت أطالعه حجرا حجرا واعود إليه كطفل
وأبصره قادمًا من بعيد إليَّ..
مرةً أخرى يعود الشاعر إلى الإشارة إلى البيت البعيد ولكن الإشارة هذه المرة معنوية في عالم الذكرى الخاص به ، والبيت هذه المرة لم يعد خلفية المشهد بل صار شخصا من شخوصه "أبصره قادما من بعيد"
ولا يبقى للشاعر ولنا إلى أن ينقل المشهد إلى الزمن المستقبل:
ترى أين أبصره ذلك البيت؟
مفترشا رمله وحصاه بلا كلل في الطريق".
وهكذا يلتقي مجازا البيت والطريق
إن البيت لا يكون بيتا بلا طريق يؤدي إليه ، وكذلك الطريق لا مغزى له بغير بيت يؤوي العابر إليه ، بعد مشقة المسير في الهجير.
ولذلك يؤكد لنا الشاعر كتابةً بالمسمار (كيلا ننسى منذ البداية) أنه:
"كان يحزنه أن يقول/دمه ضيعته الطريق"
فالطريق لدى شاعرنا ليس طريقا ممهدا بل هو طريق المشقة والشقاء..
وفي "قصائد الحرب" أولى قصائد الديوان : يبدأ الشاعر أيضا كعادته برسم المشهد :
فالمكان : مقهى طيني يتوقف فيه الأعراب وسيارات الأجرة"
وفي هذا المكان يُدخل الشاعر الشخص الأول :
"يعبر طفل محشور في باصٍ خشبي بين الأغنام/ويمد إلى المارّة عنقا ويغادر"
إنه دخول سريع وخروج أسرع ، لكنه يثري مشهد المقهى ببيان طبيعته ، وسياقه المكاني والاجتماعي.
ثم يحين دور الشخصيات الرئيسة ، ولكن الشاعر يقدمهم لنا عن طريق ملابسهم قبل أن نطالعهم إدراكا منه – بحسه المسرحي - بدور الأزياء في رسم الشخصيات:
"كانوا كوفياتٍ حمراء /أسمالا بقعها الزيت ورائحة البنزين المحروق
جنودا يستمعون إلى المذياع ".
تأمل معي ثراء المشهد باللون، والرائحة ، والصوت "
أضف إلى ذلك عنصر التشويق في دخول الشخصية إلى المشهد حيث بدأ بكونهم كوفيات ثم أسمالا ثم جنودًا.
ولاحظ أيضا المفارقة التي تجعل هؤلاء الجنود أسرى للزمان (الماضي والمستقبل) (حدودا كانوا – وحدودا سيموتون) كما هم أسرى للمكان (وحدودا سيعودون إلى مقهى طيني)
وهو المكان ذاته الذي كان في بداية المشهد!
ولا ينسى المشهدُ الطفلَ الذي دخل أوَّلا، بل يلتفتُ إليه بعد أن نما دراميا (من حالة الصمت إلى حالة البوْح)
هنا قال الطفل عبرت/وكان النجم غريبا / بين خرائب غادرها الناس ونيران القصف
:مَن القادم في الليل؟/الخبز رماد، والحزن عراقي جائعْ
ثم يرتقي المشهد أفقا جديدا ، تشارك فيه الطبيعة (القمر، والنجم ، والنهر ) ، والحرب، والجوع، والنباح والوحوش الكاسرة.
ويبقى مجاز البيت هنا مجسدا في "كوخ قصبي"
ويبقى الطريق متخذا شكلا جديدا (في أقصى النهر).
أما الزمن فيتجه به الشاعر جهة المستقبل:
في المقاهي الطينية لن تعبر الجثث/سيوقفها الريفيون كالضباع
ولن يتعرفوا على أحدْ.
سيجيئون حفاة، عارين بلا أثر."