كان والدي من أشدِّ المؤمنين " بنظرية المؤامرة " فبالتالي لم يودع ما جمعه من الأموال لدى أي بنكٍ , بل دأبَ على الاحتفاظ برأس ماله في صندوق تحت تينة حمقاء كانت تحملقُ في وجوهنا بغباء وهي مشرئبة بقامتها في فناء البيت , وحمقها يكمن في عدمِ اكتراثها بتقلبات " البورصة " أثناء تقلبِ الفصول الاربعة ..كنتُ أراه ليلا وهو يضع أو يأخذ بعض النقود من الصندوق ثم يعيده في الحفرة .. ولما توفي - رحمه الله – تركَ لي أمي وثلاث أخوات وأربعة أخوة .. فلم أبلغهم بأمر والدي , وفي أثناء مراسم الدَّفن اختلستُ نفسي من بين المعزين والمشيعين وعدتُ للبيت وحفرت تحت التينة ونقلتُ الصندوق لمكان آخر .. ثم عدتُ لاستكمال مراسم الدفن فوجدتُ القوم قافلين – من المقبرة , فاستغفرتُ لوالدي وشكرته !! ..
فكرتُ في هذه الثروة والتي لم تكن كبيرة لو قسِّمت على ورثتها ومستحقيها , ولكنها كبيرة جدا إن استحوذَ عليها فردٌ واحد مثلي !! .. وبعد تفكيرٍ وتدبر اهتديتُ إلى فكرة أكثر حضارية – فقد كان أبي ساذجا وعلى نيته حين عاش ومات وهو يؤمن بخرافة " نـــظرية المؤامـــــرة " فقررتُ أن أضع هذه الثروة في أحد البنوك ..
وفي اليوم التالي – توكلتُ على الله - وذهبت لأقرب بنك وتقابلت مع المدير وطلبتُ منه أن يفتح لي حسابا لأضع فيه هذه الثروة .. فقام المدير بعد الثروة وما إن فرغ , فإذا به ينادي بأعلى صوته على رئيس مكتبه قائلا :
يا استاذ محيسن .. إحضر للاخ العميل فنجالا من القهوة .. !!
ما أن سمعت كلمة " عميل " حتَّى ترحَّمتُ على والدي الذي أفنى عمره دون أن يحظى بشرف العمالة وحرَمَ نفسه من الكثير من القهوة والإبتسامات والترحيبات..
وما هي إلا لحظات حتى وُضِعَتِ القهوةُ أمامي ورافقها انحناءةٌ وابتسامةٌ من قِبَلِ السيد محيسن .. وتمَّ الأمر , ومن بعدها صرتُ أتردد على البنك يوميا وكل مرة يخاطبوني بلقب ( السَّــيِّـد العميل ) والابتسامات والقهوة والترحيب ..
وفجأة , كنت أشاهدُ نشرة الأخبار , فإذا بالمذيع يقول ( القبض على عميلٍ يعمل لدى جهات أجنبية ) ! فما أن سمعت بالخبر حتى شعرت بارتفاع ضغط في الدم وتقلصات في القولون والمصران الأعور ( كإنه ناقصه عوّر !) وذهبتُ للبنك وتقابلت مع المدير وسألته .. هل البنكِ الذي تديره يعمل لمصلحة جهة أجنبية .. فابتسم المدير وقال لي .. أعوووووووووووووذ بالله !!... اســتغفر ربك يا رجل !!,, فإسم بنكنا هو " فرانس أنترناسيونال ليمتد " وهو بنكٌ وطنيٌ 100% بدليل أن كل عملائنا هم من كبار رجال الأعمال الوطنيين ولكي أزيل ما في قلبكَ من شكٍّ فإن ( طويل العمر .. طوَّلَ الله عمره أكثر وأكثر ) هو أكبرُ عميلٍ لدينا ..
لعنتُ إبليسا وإخوانه لأنهم يشبهون إن واخواتها اللائي يُنَصِّبنَ الأميرَ ويرفعنَ خبره وقدره .. فعلى عهدة مدرس النحو وملحقاته أذكر أنه أعرب لنا جملة ..
إنَّ الأميرَ عميلٌ
هكــــــــــــذا ..
إن = أداةُ نصبٍ واحتيال وسرها باتع !
الأميرَ = نصَّابٌ في محل احترام وتقدير وعلامة التقدير هي الكسرة المقدرة المتخفية بسبب رصيده البنكي .
عميلٌ : حاله مرضية مزمنة تتوارث في عائلة الأمير من مقبورٍ لقابر ..
فرحمَ الله والدي .. فلا زلتُ أرثي لحالته وسذاجته التي حرمته من ألقابٍ كثيرة .. لعلَّ من أقلها شرفا ورفعة أن يقال له ( السيِّد العميل ) !
وعطــر الله أنفاســكم !
جمال حمدان