لا تـــــودعنــــــــــ ــــــي!!!
خَفِّفْ عنك يا طائري فلستَ وحدَكَ الحبيس هنا ولستَ الأكثر حزناً بيننا
فهنا قلبٌ حبيسُ أضلاعٍ تضيقُ عليه حتى يكاد يموت خنقاً، وكذا روحٌ حبيسةُ جسَدٍ أَسَرَها قَسْراً........
وما حَبْسُكَ بِأَقْسى مِنْ حبسي ولا سجنُكَ أضيقَ من سجني , كلانا يتألم والفرق فقط في مغالاتك بصراخ لا يجدي نفعا ولا أظنُّ حريتَكَ الآنَ ذاتَ معنىً بعد أن سار الرّكْبُ وَجَرَتِ السّنواتُ
تناسينا فيها شقائَنا وجراحاتنا حتى صدَّقْنا أُكْذوبةَ أنّنا لازلنا نَحْيا , لا تطلبْ مني أن أهَبَكَ حُرِّيَّةً تكونُ وبالاً عليك وعليَّ. فبعد أن اعتدناعلى أسرنا معا لم يعد يجدي الإنعتاق بعدما نسيت شدوك في سنوات العويل ونسيت أنا الكلام في سنوات الصمت.
طلبك يذكرني يوم طلبت حريتي من جسد ضاق على روح لم تعد تحتمل الضيق علّها تلحق بمن غدرها وسار دون إعلامِها، ركبٌ سار دون توديعها.
كل ما أرادته أن تُقَبِّلَهُ بهدوءٍ وتُوَدِّعَهُ بدموعِ أسىً عَلّهُ يعود عن قراره،
ولكن ويحَ الجسدِ ما أظلمَهَ تَمَسّكَ بها رغم رجائِها , رغم بكائِها , حَبَسها وغَلّقَ الأبوابَ في ليلةٍ ارتسمتْ أحداثُها كخيوطِ العنكبوت.
أتعلم يا طائري ما هي بَلِيَّتُنا الكبرى نحن البشر؟ إنها هبات القدر .
فَقَدَرُنا يَهَبُنا الحياةَ مِنْ آباء لم نختارهم، وآباؤنا يهبونا أسماءَ ليستْ لنا وأفكارا ليست تعنينا وحبا ليس لهم.
ها هو يجلس في مكانه المعهود ... و كعادته وبكل وقار....طلب مني أن أقترب منه
خفته للحظاتٍ، فقد كان مختلفا بعض الشيء....أنيقا في جلسته إلى حدٍّ مُلْفِتٍ، نظراته غريبةٌ غامضةٌ، ابتسامَتُهُ ساحرةٌ ...رهيب الهدوءِ وكأنّهُ تَدَرَّبَ عليه منذ سنواتٍ، يبدو لي وكأنه كان يخفي شيئا ما..
و الحقيقة أنه لم يكن وحده الغريب في تلك الليلة الخرساء , يبدو بيتُنا غريباً، فالزوايا باهِتَهٌ على غيرِ عادَتِها وكذا الأثاثُ يبدو رثّاً كئيباً، كل ما حولي يشعرني بالرعب والخوف من شيء مهول أحسه ولا أعرفه.
أَنْظُرُ إليه عَلّني أكتشفُ ما يخفيه فيبتسمُ لي وتظهَرُ لي وسامَتُهُ هادئةً صافيةً كليلةً مُقْمِرَةً لا تستطيعُ معها إلا أن تهدئ من روعك.
جذبني لصدره برفق من يحمل أوراق الورد بفيض من الحنان احتواني .... مرّ زمن على آخر ضمة .. هل تذكر أخيراً أنني بحاجة لها ؟
سَرَتْ قشعريرةٌ تَسَلّلَتْني، اجتاحت أطرافي ثم جسدي كلَّهُ، هزمت صمودي وسرعان ما وَصَلَتْ لِعَرْشِ العيونِ لِتُعْلِنَ النّصْرَ وَلْتُسْقِطَ راياتِ صمودي دموعا.
ويح العيون لما البكاء ؟ اصمدي على الأقل أمامه انها اسعد لحظاتي
لما الآن ؟... لم أشغل نفسي بالسؤال فقد حاولت أّلا يُلاحِظَ ماجرى
وبالرغم من كل محاولاتي إلا أني لم استطع إخفاء لؤلؤةٍ سقَطَتْ مِنْ مُقْلَتَيَّ رَغْماً عَنّي في كوب شايٍ وُضِعَ أمامَهُ وفوجئتُ بسؤالهِ وكأنّهُ لم يَعْجَبْ مِنْ بكائي : هل مازلتِ تعرفين المستقبل وتتنبئينَ بما سيحدث؟
ضحكتُ ببراءةٍ وخجَلٍ وتذكرتُ قصةَ التّنبؤِ حين طلبتُ من أمي ذات يوم أن تطهو السمك لأبي فَظَنّتَ أنني مَسَّني خَلَلٌ، فقد كان لا يزال مسافراً
ولكنها طَهَتْ ما طلبْتُ ويومها وكعادَتِهِ عادَ فجأةً في ذات اليوم. فقد كان رجل المفاجآت دوما، يسافر فجأةً ويعودُ فجأةً ومن يومها صرت أنا كاهِنَتَهُمْ.. أغلقتُ باب ذكرياتي وعدتُ و عدت لأُكْمِلَ ضحكاتي البريئة وسألته ممازحةً: أَتَوَدُّ أنْ أَتَنَبّأَ عن شيءٍ ما ؟ سأسألُ السماءَ فإنها تخبرني دوما عن المستقبل وضحكتُ مِنْ جديدٍ حينها تذكرتُ مقولةَ أُمّي حين نكثر من الضحك "اللهم اجعله خير" لماذا دائما نحن خائفون من شيءٍ ما من سبق من؟ من خلق قبل من؟ أخلقنا قبل الخوف ؟ أم خُلِقَ قبلنا وَانْتَظَرَ مجيئَنا ليعيشَ داخلنا وَيُنَغِّصَ علينا اطمئناننا؟
رد عليّ بشيءٍ من الألم : آه يا صغيرتي يا سمائي الصافية لكم سأفتقدك وأفتقد كلماتك!....
ها قد جاء شبح الخوف وَمَثُلَ أمامي من جديد من وقع كلمات تخفي في طياتها الحريريةِ أشواكاً حادّة .
سألته بمزيجِ حزنٍ و خوفٍ: أتنوي السفر ؟ , أجابني: ربما!
واضطرب من سؤال لم يتوقعه وحين بدا عليه الارتباك طلب من أمي أن تخرجني من الغرفة بحجة أنه يريد أن يكلمها في شأن خاص ‘شعرتُ أنّ هناك خَطْباً ما , ولكني لا أهوى التجسس.
واخترتُ الإنتظار والمراقبة من بعيد بهواجسَ لا تهدأ وقلبٍ متسارعِ النبضات .
انتظرت في غرفتي وحيدة بهدوء في الظاهر وبركان في الباطن لا أعي ما يدور خارج قوقعتي ولا يصلني سوى وقع خطوات تكاد لا تلمس الأرض من سرعتها وأصوات تتداخل لا أفهم منها شيء غير ضجيج مزعج
ثم سمعت صوت صرخة هزت أرضي وشممت رائحة تشبه رائحة احتراق الأشجار وأمطارا من الدموع تجتاح المكان ‘ فزعت... خفت.... ارتجفت‘ ركضت نحو باب أعرف أن جحيمي خلفه ورحت اركض هاربة لا أعرف إلى أين فقدت اتجاهاتي وربما صوابي وأثناء حيرتي وضياعي التقطني شيء ما ولفني بسواد وكأني فقدت البصر وشممت رائحة تشبه رائحة أعرفها أحبها ضمتني بعنف فسمعت صوت نبض يقرع كقرع الطبول استعداداً للحرب قاتلت السواد وفوجئت بوجه يشبه وجه أمي وعيون تشبه عيونها ولكنها مهزومة مكسورة غارقة في دم أم دمع لا أعرف ؟
وضعت يدي على صدرها علني اكتشف سرها فإذا بصرخات ألم تخرج من قلب طعن غدرا لا تسمع ولكن تحس تيقنت أنها هي وقتها خطر ببالي أي شيء ... أي شيء ‘ إلا رحيلك
نزلت بفزع لم يهدأ إلى أرض لم تعد أرضي حاولت السير بخطوات هادئة باتجاه باب أغلق عليك علني أكتشف سر الحدث .
وصلت أخيرا أمام الغموض وما هي الا لحظات حتى أعرف كل شيء ؛ حاولت أن أتظاهر بالشجاعة لأزيل الستار ليتكشف لي عذابي لأمعن النظر في أول مشهد من مسرحية الشقاء وبالفعل لمست القبضة الملتهبة وغامرت بيدي وأنزلتها بصعوبة
أخيرا وصلت ... ها هو يرقد بهدوء وكأن شيئاً لم يحدث ... اقتربت منه ... اقتربت أكثر لامست كفه بهدوء حتى لا أزعجه فلم يتنبه ‘ أمسكت كفه ورفعته لأستفزه أن يستيقظ وليربت على رأسي .. فلم يفعل ‘ قربت خدي بضجر من تجاهله لي عله يشم رائحتي فيقبلني فلم يفعل ‘ انه بارد الملمس صعقت وكان لابد من الوقوف أمام الواقع والمواجهة برد جسدي فجأة وتجمدت أوصالي
أيقنت أنه اختار الفراق ‘ اختار شقائي وشقاءها بلا رحمة ‘ اقتربت منه وسألته بكلمات تختفي قبل أن تخرج ... هل مت ؟
قد مت إذا ... هكذا بكل بساطة ... كيف تجرؤ ؟ هل أتعبك البقاء لهذا الحد ؟ ابتعدت عنه ورفعت صوتي الخافت : كيف تريد أن أودعك هذه المرة ؟ أبالقبل كعادتنا أم بالدموع كعادتهم ... أم بالصمت؟
اخترت الفراق حسنا‘ امضي إذا بهدوء دون أن تقتلنا ... ولا تقبل إلا أن تغتسل بدموعهم
ولكن عذرا لن أسمح لدموعي أن تشارك في مهزلة كهذه فلن أختار فراق الدموع وسئمت أيضا فراق القبل .. سأختار خيارك أنت‘ خيارك الوحيد خيار الصمت
الصمت هو الأكثر كبرياءاً لكلينا ولن تجد مني بعد اليوم غيره ‘ سأختار دور الأخرس في مسرحيتك التي جلبت إليها أبطالاً أشراراً دون أن تدري ‘ سأصمت فيها بكبرياء
لن تطلب مني أن ادمي مقلتي على رحيل لا أريده , رحيل لم أختره , رحيل شرذم ما تبقى من قلوبنا وها هو يلقيها أرضا ويطؤها بحذائه القذر بكل فخر كمن يفخر بتمثيله في جسد فقد الحياة ليثبت انتصارا رخيصا ‘ يطأ قلوبنا أمام أعيننا بوقاحة في أرض السموم.
عدت واقتربت منه قليلا عله يتراجع ؛ نظرت تمعنته كمن يحفظ آخر مشهد في حياته ولكني لازلت بين شك الحياة ويقين الموت نظرت بجواره فإذا بكوب الشاي فارغا حاضرا معي بحزن شعرت بشيء من الارتياح ربما لأني أعطيته تذكارا مني قبل الرحيل نظرت إليه وابتسمت هويء إلي أنه حياني بابتسامة شبيهة ‘ قد كان وهم الأمل يهديني شموعا وورودا تهيء لي أنه سيقوم من مرقده ليقبلني ويعتذر .
أدرت للأمل وشموعه ظهري فشعرت بنظراته تشيعني ولكني لم ألتفت وأغلقت الباب وتعمدت ألا أنظر ... وبهدوء وقفت بجوار الباب أنتظر ندائه ‘ أنتظر تراجعا عن قراره الأخير...
كان المارة كثيرون لا أعرف من أين أتوا وكلهم يمرون بذات الخطوات ويربتون على رأسي بالطريقة ذاتها وبالكلمات ذاتها وكأنهم تدربوا عند ذات المعلم " الله يرحمه كلنا أهلك"
حقا يالا جهلكم ؟ لا يهمني كثيرا ما تقولون هناك خطب أهم وهو هذا الراقد في الجوار يتحداني بسكونه ولا بد أن انتصر عليه .
أفق باسم حبنا أفق ..... أخبرهم أنهم جميعاً على خطأ وأني الوحيدة التي على صواب ... أرجوك أفق ولا تدع قلبا بحبك خفق .
خرجت من بيتنا الذي بات غريبا عني وبت غريبة عنه وذهبت إلى مكاني المعتاد الذي كنا نذهب إليه معاً ‘ فهو المفضل لكلينا آه كم اشتقته ... اخترت بعض أزهار الياسمين من شجرتنا التي زرعناها سويا ورحت أشتمها .
جلست في أحد الأركان الهادئة التي أظن أن الزمان نسيها وأخذت أسترجع كلماته حين سألته لماذا تحب الياسمين؟
فأخبرني بأن الأزهار كالألوان هناك أزهار تتحدانا وأخرى نزرعها لتزرع فينا الكبرياء وغيرها نزرعها لتذكرنا بموتانا وهزائمنا وهناك أزهار تعلمنا كيف نعشق والياسمين سيدة الأزهار والملكة المتوجة على عرش الجمال والأنوثة ‘ لا نستطيع أن نقاوم حب الحياة ولو غرقنا في بحر الموت وحينها سألته ببراءة ماذا تعني بالموت؟ قال : الموت .. يقول جبران "تتنفس الأرض فنولد ثم تستريح أنفاسها فنموت" لقد استراحت أنفاس أرضك إذا ولكن كيف تموت وأنا لدي الدواء الشافي من الموت .
أخذت أجمع أكبر قدر تتسع إليه راحتي الصغيرتين من أزهار الحياة ورحت أركض باتجاه البيت ووصلت أخيرا ...
وحين دخلت المنزل فوجئت بجمع من الرجال يحملون صندوقا كبيرا عرفت فورا أنه قبر متحرك نظرت إليهم بفزع أردت أن أصرخ فيهم : دعوه !!.. إلى أين ?! فلم يخرج صوتي لقد نسيت أنني اخترت الصمت للوداع ‘ رفعت يدي علهم يدركون ما أعني ‘ ولكنهم فاقدو الأبصار يسيرون دون أن يعوا ‘ لم يروني ومروا من خلالي وكأنني كائن دخاني اجتازوني وذهبوا ... حاولت اللحاق بهم ولكن يدان التقطتاني كسابق عهدهما حاولت أن أصرخ لأخبر أمي بأني سأعيده إلينا من جديد ؛ ولكن ويح القدر الذي أخرسني ونسيت مأساتي بضمها ... ومضت أيام لا أعرف كيف مضت ‘ هل نمت ?.. أم مت ?.. أم فقدت وعيي?.. وحين فقت لم أجد سوى قبر نعيش فيه تكوم فيه الحداد في كافة أنحاءه وأركانه ومرت أيام الأسى يوما بعد يوم وأنا لا أزال أحتفظ بأزهار ادعى هو أنها تجلب الحياة ولم تجلب غير المرارة والألم .
كل لحظة تمر علي وأنا أنتظر عودته من جديد أتخيله يبتسم إلي ويلوح من بعيد ‘ في كل ليلة أرسم وجهه في السماء ألف مرة وأرسل إليه مع كل نجمة جملة من جمله ورجاء وأعود لصمتي ‘ كل مرة أزور فيها زهرتنا أذهب وأنا أبني بخطواتي جسور الأمل في لقاءه فأعود بخطوات تهدمني ‘ أضم وسادة ارتسم عليها وجهه أشتم فراشا فيه رائحته, أستحضره, أستجدي عطفه, ألمس أشياءه عله يعود ... فلا يأتي ولا ينفع رجائي ولا استجدائي ...
ومرت الأعوام وإلى اليوم أنتظره بعدما انتحرت كل المعجزات... وعدت من ذكرياتي وآلامي لطائري الحزين الذي أثقلت عليه مرتين , مرة بحبسه ومرة بمأساتي ورأيت في عينيه رجاء يشبه رجائي في الحرية وطلبي للإنعتاق, ورغم يقيني أنني إن منحته الحرية من سجنه أنني أهبه كفنا يحمله على جناحيه إلا أنني لم أشعر بنفسي إلا وأنا أفتح بابه المنغلق منذ جلبته , وطار .... طار بعيداً ربما غبطته على قدرته على الطيران فلقد صرت وحدي حبيسة هنا
ليس لدي سوى شبح الذكرى ووهم الأمل .
.
.