ولا يمكن الفصل في هذا المستوى بين منهجه ومنهج "ابن رشد" فكلاهما اعتقد بأنه في الامكان الاستدلال على وجود الله بواسطة البرهان العقلي..
لكن ابن رشد قياسه كان ينطلق من تأمل الوجود المادي إذ اعتبر الوجود المادي معلولا لعلة ..وبما ان العقل من بين مبادئه، مبدأ السببية فقد جعل نقطة بدء العالم هي وجود علة له ..لا يمكن ان تكون مادية بل من طبيعة مفارقة للمادة..
فلننطلق من مبدإ العلية والسببية..المبرمج العقل عليها..
سيدرك العقل أن العالم المادي له مدبر..لأنه منظم وتتجلى فيه قدرة المدبر الخلاقة التي لا يمكن أن يكون فعل الصناعة إلا صورة مصغرة لها، صورة مصغرة للعقل الكوني العظيم اللامحدود..
فمن منهما أعظم؟ فعل الصناعة أو فعل الطبيعة؟
ربما من هنا انطلق "ديكارت" لإحداث تلك المقابلة بين الكائن الرحيم والكامل والحامل لكل صفات الكمال وبين كائن آخر لا يملك الحقيقة ولكنه بجهده المتواصل يطمح إلى امتلاكها.. إن هذا الكائن الأخير يتميز بانه كائن يشك..وشكه صفة فطرية.. الشك لن يستمر إذ أنه يمكن الانسان من امتلاك آلية اليقظة الفلسفية .. وعند حدوث هذه اليقظة لدى الفرد يتمكن من التعرف على ذاته..ويتمكن من إدراك عالم مادي يمتد فيه..وكذلك يتمكن من اعتبار ذاته والعالم المادي فعل من أفعال كائن أسمى هو مصدر الفكر والمادة ..
إن هذا الكائن الكامل الذي خلق في داخل الإنسان الأفكار وخلق القدرة الفاعلة للأفكار، لا يمكن أن يجعل المخلوق العاقل يعيش في الضلال والجهل ..لا يمكن أن يكون مضللا ومعتما على عقل الإنسان وعلى أفكاره التي استطاع البرهنة عليها بواسطة وسائل البرهان التي هي ذاتها من منتجات العقل ..لو كان مصدر تضليل لانتفت عنه صفة الكمال التي وصف بها .. وهذا مستحيل في حق الكائن الكامل..
إن صفات الكمال التي لدي عن كائن ليس مادي .. لايمكن أن تكون مكتسبة بل هي فطرية لأنني لست انا مصدرها بل مصدرها هو الله الذي من صفاته أنه لايخدع الإنسان ..فإذن لا يمكن أن أشك في وجود تلك الصفات ولا يمكن أن أشك في وجود الله ..فالله يوجد كما أنني موجود وكذلك العالم المادي ..وبالتالي لا يمكن ان أشك في اني أشك..فهذه حقيقة بديهية ..بسيطة ..مثلها مثل فكرة الله ..وفكرة العالم المادي..
أخي "جو" يبدو أننا نشتغل الآن في حقل ميتافيزيقي ..والبحث فيه كما يرى الفلاسفة اللاحقون والسابقون لا يجدي ولذلك دعوا إلى وضعه بين قوسين..
فهل يجوز لنا نحن الذين لم نمرن عقولنا على تأمل هذا الحقل والاشتغال به، ان ننصرف عنه ونتركه لتاريخ الفلسفة تضعه فوق
الرف؟